تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦)

وقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ...) الآية ، تحتمل «حتى» في هذه الآية أن تتعلّق ب (يَرْجِعُونَ) ، وتحتمل أن تكون حرف ابتداء ، وهو الأظهر بسبب «إذا» ؛ لأنها تقتضي جوابا ، واختلف هنا في الجواب ، والذي أقول به : أنّ الجواب [في قوله] (١) (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره.

قال ص : قال أبو البقاء : (حَتَّى إِذا) متعلّقة في المعنى ب (حَرامٌ) أي : يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ، ولا عمل لها في «إذا». انتهى.

وقرأ الجمهور : «فتحت» بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عامر (٢) وحده «فتّحت» بالتشديد ، وروي أنّ يأجوج ومأجوج يشرفون في كلّ يوم على الفتح ، فيقولون : غدا نفتح ، ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى ، فإذا كان غد وجدوا الردم كأوّله حتى إذا أذن الله تعالى في فتحه ، قال قائلهم : غدا نفتحه إن شاء الله تعالى ، فيجدونه كما تركوه قريب الانفتاح فيفتحونه حينئذ.

ت وقد تقدم في «سورة الكهف» كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن إعادته ، وهذه عادتنا في هذا المختصر أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإيّاكم به ، ويجعله لنا نورا بين أيدينا ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ، والحدب : كل مسنّم من الأرض ، كالجبل والظرب (٣) والكدية (٤) ، والقبر ونحوه.

وقالت فرقة : المراد بقوله : (وَهُمْ) يأجوج ومأجوج ، يعني أنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويملؤون الأرض من كثرتهم.

وقالت فرقة : المراد بقوله : «وهم» جميع العالم ، وإنّما هو تعريف بالبعث من القبور.

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) ينظر : «السبعة» (٤٣١) ، و «الحجة» (٥ / ٢٦٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٦٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٧٢) ، و «العنوان» (١٣٢) ، و «حجة القراءات» (٤٧٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٦٧)

(٣) الظرب : كل ما نتأ من الحجارة ، وحدّ طرفه ، وقيل : هو الجبل المنبسط ، وقيل : هو الجبل الصغير ، وقيل : الروابي الصغار ، والجمع : ظراب.

ينظر : «لسان العرب» (٢٧٤٥)

(٤) الكدية : الأرض المرتفعة ، وقيل : هو شيء صلب من الحجارة والطين ، وهي أيضا الأرض الغليظة ، وقيل : الأرض الصلبة.

ينظر : «لسان العرب» (٣٨٣٨)

١٠١

وقرأ ابن مسعود (١) : «وهم من كلّ جدث» بالجيم والثاء المثلثة ، وهذه القراءة تؤيّد هذا التأويل ، و (يَنْسِلُونَ) : معناه : يسرعون في تطامن ، وأسند الطبريّ عن أبي سعيد قال : «يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلّا قتلوه ، إلّا أهل الحصون ، فيمرّون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول : كان هنا مرة ماء ، قال فيبعث الله عليهم النغف حتى تكسر أعناقهم ، فيقول أهل الحصون : لقد هلك أعداء الله ، فيدلون رجلا ينظر ، فيجدهم قد هلكوا ، قال : فينزل الله من السماء ماء فيقذف بهم في البحر ، فيطهر الله الأرض منهم» (٢) وفي حديث حذيفة نحو هذا ، وفي آخره قال : وعند ذلك طلوع الشمس من مغربها.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١٠١)

وقوله سبحانه : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) يريد يوم القيامة.

وقوله : (فَإِذا (٣) هِيَ) : مذهب سيبويه أنها ضمير القصّة ، وجوّز الفرّاء أن تكون ضمير الإبصار ، تقدمت ؛ لدلالة الكلام ، ومجيء ما يفسرها ، والشخوص بالبصر إحداد النظر دون أن يطرف ، وذلك يعتري من الخوف المفرط ونحوه ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ...) الآية : هذه الآية مخاطبة لكفّار مكّة ، أي : إنكم وأصنامكم حصب جهنم ، والحصب : ما توقد به النّار ؛ إمّا

__________________

(١) وقرأ بها ابن عباس ، والكلبي ، والضحاك.

قال أبو الفتح : هو القبر بلغة أهل الحجاز.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٦٦) ، و «مختصر الشواذ» (٩٥) ، و «الكشاف» (٣ / ١٣٥) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ١٠٠) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٣١٤) ، و «الدر المصون» (٥ / ١١١)

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٦٣ ـ ١٣٦٤) كتاب الفتن : باب فتنة الدجال ، حديث (٤٠٧٩) ، وأحمد (٣ / ٧٧) ، وأبو يعلى (٢ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨) رقم (١١٤٤) ، وابن حبان (١٩٠٩ ـ موارد) ، والحاكم (٤ / ٤٨٩) ، والطبريّ في «تفسيره» (٩ / ٨٦) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري.

وصححه ابن حبان ، والحاكم ، ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٠٣) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن مردويه.

(٣) سقط في ج.

١٠٢

لأنها تحصب به ، أي : ترمى ، وإمّا أن يكون لغة في الحطب إذا رمي ، وأمّا قبل أن يرمى فلا يسمّى حصبا إلّا بتجوز ، وحرق الأصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها ، ومن حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع ، اعترض في هذه الآية عبد الله بن الزبعرى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ عيسى وعزيرا ونحوهما قد عبدا من دون الله ، فيلزم أن يكونوا حصبا لجهنم ؛ فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية. والورود في هذه الآية : ورود الدخول ، والزفير : صوت المعذّب ، وهو كنهيق الحمير وشبهه إلّا أنه من الصدر.

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥)

وقوله سبحانه : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى ، وذلك بعد دخولهم الجنة ؛ لأنّ الحديث يقتضي أنّ في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبيّ ولا ملك إلّا جثا على ركبتيه ، قال البخاريّ (١) : الحسيس والحس : واحد ، وهو الصوت الخفيّ ، انتهى. والفزع الأكبر عامّ في كلّ هول يكون يوم القيامة ، فكأنّ يوم القيامة بجملته هو الفزع الأكبر.

وقوله سبحانه : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يريد : بالسلام عليهم والتبشير لهم ، أي : هذا يومكم الذي وعدتهم فيه الثواب والنعيم ، و (السِّجِلِ) في قول فرقة : هو الصحيفة التي يكتب فيها ، والمعنى : كما يطوى السجلّ من أجل الكتاب الذي فيه ، فالمصدر مضاف إلى المفعول ؛ وهكذا قال البخاري (٢) : السجل : الصحيفة ، انتهى ، وما خرّجه أبو داود في «مراسيله» من أنّ السجل : اسم رجل من كتّاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣). قال السهيليّ فيه : هذا غير معروف. انتهى.

__________________

(١) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٢٨٩) كتاب التفسير : باب سورة الأنبياء.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ١٤٧) كتاب الخراج والفيء والإمارة : باب في اتخاذ الكاتب ، حديث (٢٩٣٥) ، والنسائي في التفسير (٢ / ٧٤) رقم (٣٥٥) ، والطبريّ (٩ / ٩٤) رقم (٢٤٨٤٩) ، وابن عدي في «الكامل» (٧ / ٢٦٦٢) ، والبيهقي (١٠ / ١٢٦) ، والطبراني في «الكبير» (١٢ / ١٧٠) رقم (١٢٧٩٠) من حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦١١) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن منده في «المعرفة» ، وابن مردويه ، وابن عساكر.

١٠٣

وقوله سبحانه : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يحتمل معنيين : أحدهما : أن يكون خبرا عن البعث ، أي كما اخترعنا الخلق أوّلا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى ، فنبعثهم من القبور.

والثاني أن يكون خبرا عن أنّ كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ، ويؤيد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر / النّاس يوم القيامة حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)» (١).

وقوله : (كَما بَدَأْنا) الكاف متعلّقة بقوله : (نُعِيدُهُ) ، وقالت فرقة : (الزَّبُورِ) هنا يعم جميع الكتب المنزّلة ؛ لأنه مأخوذ من : زبرت الكتاب إذا كتبته ، و (الذِّكْرِ) أراد به اللّوح المحفوظ ، وقالت فرقة : (الزَّبُورِ) هو زبور داود عليه‌السلام ، و (الذِّكْرِ) : التوراة.

وقالت فرقة : (الزَّبُورِ) : ما بعد التوراة من الكتب ، و (الذِّكْرِ) : التوراة.

وقالت فرقة : (الْأَرْضَ) هنا : أرض الدنيا ، أي : كل ما يناله المؤمنون من الأرض ، وقالت فرقة : أراد أرض الجنة ، واستشهدوا بقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤].

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢)

وقوله سبحانه : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً) : الإشارة ب «هذا» إلى هذ الآيات المتقدمة في قول فرقة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٤٤٥) كتاب أحاديث الأنبياء : باب قول الله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) حديث (٣٣٤٩) ، وأطرافه في (٣٤٤٧ ، ٤٦٢٥ ، ٤٦٢٦ ، ٤٧٤٠ ، ٦٥٢٤ ، ٦٥٢٥ ، ٦٥٢٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٩٤ ـ ٢١٩٥) كتاب الجنة وصفة نعيمها : باب فناء الدنيا ، حديث (٥٠٨ / ٢٨٦٠) ، والترمذي (٤ / ٦١٥ ـ ٦١٦) كتاب صفة القيامة : باب ما جاء في شأن الحشر ، حديث (٢٤٢٣) ، والنسائي (٤ / ١١٤) كتاب الجنائز : باب البعث ، حديث (٢٠٨٢) من حديث ابن عباس وقال الترمذي : حسن صحيح.

١٠٤

وقالت فرقة : الإشارة إلى القرآن بجملته ، والعبادة تتضمن الإيمان.

وقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) : قالت فرقة : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين عموما ، أمّا للمؤمنين فواضح ، وأمّا للكافرين فلأنّ الله تعالى رفع عنهم ما كان يصيب الأمم والقرون السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة ؛ كالطوفان وغيره.

وقوله (آذَنْتُكُمْ) معناه : عرّفتكم بنذراتي ، وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى ، وقال البخاري : (آذَنْتُكُمْ) : أعلمتكم ، فإذا أعلمتهم فأنت وهم على سواء ، انتهى ، ثم أخبر أنه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم ، هل هو قريب أم بعيد؟ وهذا أهول وأخوف.

قال ص : (وَإِنْ أَدْرِي) بمعنى : ما أدري ، انتهى. والضمير في قوله : (لَعَلَّهُ) عائد على الإملاء لهم ، و (فِتْنَةٌ) معناه : إمتحان وابتلاء ، والمتاع : ما يستمتع به مدّة الحياة الدنيا ، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) وهذا دعاء فيه توعّد ، ثم توكل في آخر الآية واستعان بالله تعالى ؛ قال الداوديّ : وعن قتادة : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا شهد قتالا قال : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) (١). انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩ / ١٠٢) رقم (٢٤٨٩٧) عن قتادة مرسلا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦١٥) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

١٠٥

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الحجّ

[وهي] (١) مكّيّة

سوى ثلاث آيات وهي (٢) : (هذانِ خَصْمانِ) إلى تمام ثلاث آيات ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد (٣).

وقال الجمهور : السورة مختلطة ، منها مكّيّ ومنها مدنيّ ، وهذا هو الأصحّ ؛ لأنّ الآيات تقتضي ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢)

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الزلزلة : التحريك العنيف ، وذلك مع نفخة الفزع ، ومع نفخة الصعق ؛ حسبما تضمنه حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات ، والجمهور على أنّ «زلزلة الساعة» هي كالمعهودة في الدنيا إلّا أنّها في غاية الشدّة ، واختلف المفسرون في الزلزلة المذكورة ، هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة ، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور : [هي في الدنيا ، والضمير في (تَرَوْنَها) عائد عندهم على الزلزلة ، وقوى قولهم أنّ الرضاع] (٤) والحمل إنما هو في الدنيا ، وقالت فرقة : الزلزلة في يوم القيامة ، والضمير عندهم عائد على الساعة ، والذهول : الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من همّ أو وجع أو غيره ؛ قال

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) في ج : قوله.

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ١٠٥)

(٤) سقط في ج.

١٠٦

ابن زيد : المعنى : تترك ولدها للكرب الذي نزل بها (١).

/ قلت : وخرّج البخاريّ وغيره عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبّيك ربّنا وسعديك ، فيقول : أخرج بعث النّار ، قال : يا ربّ ، وما بعث النّار؟ قال : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار ، وواحدا إلى الجنّة ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، وترى النّاس سكارى ، وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد» (٢) الحديث. انتهى.

وهذا الحديث نصّ صريح في أنه يوم القيامة ، وانظر قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمل : ١٧] ، وقوله : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) [التكوير : ٤] تجده موافقا للحديث ، وجاء في حديث أبي هريرة فيما ذكره علي بن معبد : «أنّ نفخة الفزع تمتدّ ، وأنّ ذلك يوم الجمعة في النّصف من شهر رمضان ، فيسيّر الله الجبال ، فتمرّ مرّ السحاب ، ثمّ تكون سرابا ، ثمّ ترتجّ الأرض بأهلها رجّا ، وتضع الحوامل ما في بطونها ، ويشيب الولدان ، ويولّي النّاس مدبرين ، ثمّ ينظرون إلى السماء ، فإذا هي كالمهل ، ثمّ انشقّت» ، ثمّ قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والموتى لا يعلمون شيئا من ذلك ، قلت : يا رسول الله ، فمن استثنى الله عزوجل حين يقول : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)؟ قال : أولئك هم الشهداء» (٣). انتهى مختصرا ، وهذا الحديث ذكره (٤) الطبريّ ، والثعلبي ، وصححه ابن العربي في «سراج المريدين».

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٠٨) رقم (٢٤٩١٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٠٦)

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٤٤٠) كتاب أحاديث الأنبياء : باب قصة يأجوج ومأجوج ، حديث (٣٣٤٨) ، وفي (٨ / ٢٩٥) كتاب التفسير : باب (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) حديث (٤٧٤١) وفي (١١ / ٣٩٦) كتاب الرقاق : باب قوله عزوجل : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، حديث (٦٥٣٠) ، وفي (١٣ / ٤٦٢) كتاب التوحيد ، حديث (٧٤٨٣) ، ومسلم كتاب الإيمان : باب قوله : يقول الله لآدم : «أخرج بعث النار» ، حديث (٢٢٢ / ٣٧٩) ، وأحمد (٣ / ٣٢ ـ ٣٣) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» رقم (٩١٧) والطبريّ (٩ / ١٠٦) رقم (٢٤٩٠٧) ، والنسائي في «التفسير» (٣٥٩) من حديث أبي سعيد ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦١٨) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٣٤) مطولا ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وعلي بن سعيد في كتاب «الطاعة والعصيان» ، وأبي يعلى ، وأبي الحسن القطان في «المطولات» ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي موسى المديني كلاهما في «المطولات» ، وأبي الشيخ في «العظمة» ، والبيهقي في «البعث والنشور».

(٤) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ١٠٥)

١٠٧

وقال عبد الحق : بل هو حديث منقطع ، لا يصحّ ، والذي عليه المحققون أنّ هذه الأهوال هي بعد البعث ، قاله صاحب «التذكرة» وغيره ، انتهى.

والحمل : ـ بفتح الحاء ـ ما كان في بطن أو على رأس شجرة.

وقوله سبحانه : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) تشبيها لهم ، أي : من الهم ، ثم نفى عنهم السكر الحقيقيّ الذي هو من الخمر ، قاله الحسن (١) وغيره ، وقرأ حمزة والكسائيّ : «سكرى» في الموضعين (٢).

قال سيبويه (٣) : وقوم يقولون : سكرى جعلوه مثل مرضى ، ثم جعلوا : روبى مثل سكرى ، وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤)

وقوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ).

قال ابن جريج : هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وأبيّ بن خلف ، وقيل في أبي جهل بن هشام (٤) ، ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة ، ومجادلتهم في أنّ الله تعالى لا يبعث من يموت ، والشيطان هنا هو مغويهم من الجن ، ويحتمل من الأنس ، والمريد : المتجرّد من الخير للشّرّ ، ومنه الأمرد ، وشجرة مرداء ، أي : عارية من الورق ، وصرح ممرّد ، أي : مملس ، والضمير في (عَلَيْهِ) عائد على الشيطان ؛ قاله قتادة (٥) ، ويحتمل أن يعود على المجادل ، وأنه في موضع رفع على المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، و «أنّه» الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها ، وقيل : هي مكرّرة للتأكيد فقط ، وهذا معترض بأنّ الشيء لا يؤكّد إلّا بعد تمامه ، وتمام «أنّ» الأولى إنما هو بصلتها في قوله :

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ١٠٦)

(٢) ينظر : «السبعة» (٤٣٤) ، و «الحجة» (٥ / ٢٦٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٧٢) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٧٥) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٦٣) ، و «العنوان» (١٣٤) ، و «حجة القراءات» (٤٧٢) ، و «شرح شعلة» (٥٠٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٧٠)

(٣) ينظر : «الكتاب» (٢ / ٢١٢ ـ ٢١٤)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٠٩) برقم (٢٤٩١٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٠٧) ، وابن كثير (٣ / ٢٠٦) ، والسيوطي (٤ / ٦١٩) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج.

(٥) ذكره ابن عطية (٤ / ١٠٧) ، والسيوطي (٤ / ٦٢٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

١٠٨

(السَّعِيرِ) وكذلك لا يعطف عليه ، ولسيبويه في مثل هذا : أنه بدل ، وقيل : «أنه» الثانية خبر مبتدإ محذوف تقديره : فشأنه أنه يضلّه.

قال ع (١) : ويظهر لي أنّ الضمير في (أَنَّهُ) الأولى للشيطان ، وفي الثانية لمن الذي هو المتولي ، وقرأ أبو عمرو (٢) : «فإنّه» بالكسر فيهما.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧)

وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ...) الآية : هذا احتجاج على العالم بالبدأة الأولى ، وضرب سبحانه وتعالى في هذه الآية مثلين ، إذا اعتبرهما الناظر جوّز في العقل البعثة / من القبور ، ثم ورد الشرع بوقوع ذلك. ٢٢ أوقوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد آدمعليه‌السلام.

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يريد : المنيّ ، والنطفة : تقع على قليل الماء وكثيره.

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) يريد : من الدم الذي تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة ، والعلق الدم الغليظ ، وقيل : العلق الشديد الحمرة.

(ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) يريد مضغة لحم على قدر ما يمضغ.

وقوله : (مُخَلَّقَةٍ) معناه : متمّمة ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) غير متممة ، أي : التي تسقط ، قاله مجاهد (٣) وغيره ، فاللفظة بناء مبالغة من خلق ، ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة ، وكل واحد منها مختصّ بخلق ـ حسن في جملته تضعيف الفعل ؛ لأن فيه خلقا كثيرا.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٠٧)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٠٧) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٣٢٦) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش. وينظر : «الشواذ» ص ٩٦ ، و «الدر المصون» (٥ / ١٢٤)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١١) برقم (٢٤٩٢٦) و (٢٤٩٢٧) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٢٧٥) ، وابن عطية (٤ / ١٠٨) ، وابن كثير (٣ / ٢٠٦) بنحوه ، والسيوطي (٤ / ٦٢١) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

١٠٩

وقوله سبحانه : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) قالت فرقة : معناه أمر البعث ، (وَنُقِرُّ) أي : ونحن نقرّ في الأرحام ، والأجل المسمّى مختلف بحسب حين حين ، فثمّ من يسقط ، وثم من يكمل أمره ويخرج حيّا.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) قد تقدّم بيان هذه المعاني ، والردّ إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانة ، واختلال العقل والقوة ، فهذا مثال واحد يقتضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل ، المتقن لها ـ قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل ، إلى حالها الأولى.

وقوله عزوجل : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعث الأجساد ؛ وذلك أنّ إحياء الأرض بعد موتها بيّن ؛ فكذلك الأجساد ، و (هامِدَةً) : معناه : ساكنة دارسة بالية ، واهتزاز الأرض : هو حركتها بالنبات وغير ذلك ممّا يعتريها بالماء ، (وَرَبَتْ) : معناه : نشزت وارتفعت ؛ ومنه الربوة وهي المكان المرتفع ، والزوج : النوع ، والبهيج : من البهجة ، وهي الحسن ؛ قاله قتادة (١) وغيره.

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى كل ما تقدم ذكره ، وباقي الآية بين.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠)

وقوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) الآية ، الإشارة بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ) إلى القوم الذين تقدّم ذكرهم ، وكرّر هذه الآية ؛ على جهة التوبيخ فكأنه يقول : فهذه الأمثال في غاية الوضوح ، ومن الناس مع ذلك من يجادل ، و (ثانِيَ) : حال من الضمير في (يُجادِلُ).

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١٣) برقم (٢٤٩٣٧ ، ٢٤٩٣٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٠٩) ، والسيوطي (٤ / ٦٢٢) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

١١٠

وقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) : عبارة عن المتكبّر المعرض ؛ قاله ابن عباس (١) وغيره ؛ وذلك أنّ صاحب الكبر يردّ وجهه عمّن يتكبر عنه ، فهو يردّ وجهه يصعّر خدّه ، ويولي صفحته ، ويلوي عنقه ، ويثني عطفه ، وهذه هي عبارات المفسرين ، والعطف : الجانب.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي : يقال له ذلك ، واختلف في الوقف على : (يَداكَ) فقيل : لا يجوز : لأنّ التقدير : وبأنّ الله ، أي : أنّ هذا هو العدل فيك بجرائمك.

وقيل : يجوز بمعنى : والأمر أنّ الله ليس بظلّام للعبيد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨)

وقوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) الآية نزلت في أعراب ، وقوم لا يقين لهم ؛ كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان : من نموّ مال ، وولد يرزقه ، وغير ذلك ـ قال : هذا دين جيّد ، وتمسك به لهذه المعاني ، وإن كان الأمر بخلاف ذلك ، تشاءم به ، وارتد ؛ كما فعل العرنيون ، قال هذا المعنى ابن عباس (٢) وغيره.

وقوله : (عَلى حَرْفٍ) معناه : على انحراف منه عن العقيدة البيضاء ، وقال البخاريّ (٣) : (عَلى حَرْفٍ) : على شكّ ، ثم أسند عن ابن عباس ما تقدم من حال الأعراب ، انتهى. وقوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ) يريد الأوثان ، ومعنى (يَدْعُوا) : يعبد ، ويدعو أيضا في ملمّاته ، واللام في قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) : لام مؤذنة بمجيء القسم ، والثانية في (لَبِئْسَ) : لام القسم ، و (الْعَشِيرُ) : القريب المعاشر في الأمور.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١٤) برقم (٢٤٩٤٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٠٩) ، والسيوطي (٤ / ٦٢٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١٥) رقم (٢٤٩٤٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١٠) ، وابن كثير (٣ / ٢٠٩) بنحوه ، والسيوطي (٤ / ٦٢٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس.

(٣) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٢٩٦) كتاب التفسير باب (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ).

١١١

ت وفي الحديث في شأن النساء : «ويكفرن العشير» يعني الزوج.

قال أبو عمر بن عبد البر (١) : قال أهل اللغة : العشير : الخليط من المعاشرة والمخالطة ، ومنه قوله عزوجل : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) انتهى من «التمهيد» ، والذي يظهر : أنّ المراد بالمولى والعشير هو الوثن الذي ضرّه أقرب من نفعه ، وهو قول مجاهد (٢) ، ثم عقّب سبحانه بذكر حالة أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به فقال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) الآية ، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول : هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق ، وظنّوا أنّ الله تعالى لن ينصر محمدا وأتباعه ، ونحن إنّما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا ، فمن ظنّ غير ذلك فليمدد بسبب ، وهو الحبل وليختنق هل يذهب بذلك غيظه؟ قال هذا المعنى قتادة (٣) ، وهذا على جهة المثل السائر في قولهم : «دونك الحبل فاختنق» ، و (السَّماءِ) على هذا القول : الهواء علوّا ، فكأنه أراد سقفا أو شجرة ، ولفظ البخاري : وقال ابن عباس : «بسبب إلى سقف البيت» (٤) ، انتهى ، والجمهور على أنّ القطع هنا هو الاختناق.

قال الخليل : وقطع الرجل : إذا اختنق بحبل ونحوه ، ثم ذكر الآية ، ويحتمل المعنى من ظنّ أنّ محمدا لا ينصر فليمت كمدا ؛ هو منصور لا محالة ، فليختنق هذا الظانّ غيظا وكمدا ، ويؤيد هذا : أنّ الطبريّ والنقاش قالا : ويقال : نزلت في نفر من بني أسد وغطفان ، قالوا : نخاف ألّا ينصر محمد ؛ فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع (٥) ، والمعنى الأوّل الذي قيل للعابدين على حرف ـ ليس بهذا ؛ ولكنه بمعنى : من قلق واستبطأ النصر ، وظنّ أن محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة ؛ إذ تعدّى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله ، وقال مجاهد : الضمير في (يَنْصُرَهُ) عائد على (مَنْ) والمعنى : من كان من المتقلّقين من المؤمنين (٦) ، وما في قوله : (ما يَغِيظُ) بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفا ؛ فلا عائد عليها ، وأبين الوجوه في الآية : التأويل الأوّل وباقي الآية بيّن.

وقوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، أي : ساجدون مرحومون بسجودهم ، وقوله : (وَكَثِيرٌ

__________________

(١) ينظر «التمهيد» (٣ / ٣٢٤)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١٨) برقم (٢٤٩٥٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١١) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٢١٠)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١٨) برقم (٢٤٩٥٩ ، ٢٤٩٦٠) نحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١١) ، وابن كثير (٣ / ٢١٠) نحوه ، والسيوطي (٤ / ٦٢٣) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ١١٩) برقم (٢٤٩٦٦) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٢١٠) نحوه ، وذكره السيوطي (٤ / ٦٢٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٥) ذكره ابن عطية (٤ / ١١١)

(٦) ذكره البغوي (٣ / ٢٧٨) ، وابن عطية (٤ / ١١١ ، ١١٢).

١١٢

حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) معادل له ، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد هذا : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) الآية.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢)

وقوله سبحانه : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ...) الآية ، نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر ، وهم ستّة نفر : حمزة ، وعليّ ، وعبيدة بن الحارث (رضي الله عنهم) برزوا لعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وشيبة بن ربيعة ، قال علي بن أبي طالب : أنا أوّل من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى ، وأقسم أبو ذرّ (١) على هذا القول ووقع في «صحيح البخاريّ» (رحمه‌الله تعالى) : أنّ الآية فيهم ، وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب (٢) ؛ وذلك أنّه وقع بينهم تخاصم ، فقالت اليهود : نحن أقدم دينا منكم ، ونحو هذا ؛ فنزلت الآية ، وقال مجاهد وجماعة (٣) : الإشارة إلى المؤمنين والكفّار على العموم.

قال ع (٤) : وهذا قول تعضده الآية ؛ وذلك أنه تقدّم قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) المعنى : هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال تعالى : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) / ، ثم أشار ٢٣ أإلى هذين الصنفين بقوله : (هذانِ خَصْمانِ) والمعنى : أن الإيمان وأهله ، والكفر وأهله ـ خصمان مذ كانا إلى يوم القيامة بالعداوة والجدال والحرب ، وخصم مصدر يوصف به الواحد والجمع ، ويدلّ على أنه أراد الجمع قوله : (اخْتَصَمُوا) ؛ فإنه قراءة الجمهور (٥) وقرأ ابن أبي (٦) عبلة : «اختصما».

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٢٩٧) كتاب «التفسير» : باب (هذانِ خَصْمانِ) حديث (٤٧٤٣) و «مسلم» (٤ / ٢٣٢٣) كتاب «التفسير» : باب قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ) حديث (٣٤ / ٣٠٣٣)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٢٤) برقم (٢٤٩٨٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٨٠) ، وابن عطية (٤ / ١١٣ ، ١١٤) ، وابن كثير (٣ / ٢١٢) ، والسيوطي (٤ / ٦٢٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٢٤) برقم (٢٤٩٨٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٨٠) ، وابن عطية (٤ / ١١٤) ، وابن كثير (٣ / ٢١٢) ، والسيوطي (٤ / ٦٢٨) ، وعزاه لابن جرير عن مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح والحسن.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١١٤)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١١٤)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١١٤) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٣٣٤) ، و «الدر المصون» (٥ / ١٣٤)

١١٣

ت : وهذه التأويلات متّفقات في المعنى ، وقد ورد أنّ أوّل ما يقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء ، ومن المعلوم أنّ أوّل مبارزة وقعت في الإسلام مبارزة عليّ وأصحابه ، فلا جرم كانت أوّل خصومة وحكومة يوم القيامة ؛ وفي «صحيح مسلم» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون من أهل الدّنيا ، والأوّلون يوم القيامة ؛ المقضيّ لهم قبل الخلائق» وفي رواية : «المقضيّ بينهم» (١).

وقوله : (فِي رَبِّهِمْ) أي : في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل في رضى ربهم وفي ذاته.

وقال ص : (فِي رَبِّهِمْ) أي : في دين ربهم ، انتهى ، ثم بيّن سبحانه حكم الفريقين ، فتوعّد تعالى الكفّار بعذابه الأليم ، و (قُطِّعَتْ) معناه جعلت لهم بتقدير كما يفصّل الثوب ، وروي : أنّها من نحاس ، و (يُصْهَرُ) معناه : يذاب ، وقيل : معناه : ينضج ؛ قيل : إن الحميم بحرارته يهبط كلّ ما في الجوف ويكشطه ، ويسلته ، وقد روى أبو هريرة نحوه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّه يسلته ، ويبلغ به قدميه ، ويذيبه ثمّ يعاد كما كان» (٢).

وقوله سبحانه : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) روي فيه : أنّ لهب النار إذا ارتفع رفعهم ؛ فيصلون إلى أبواب النار ، فيريدون الخروج ، فتردهم الزبانية بمقامع الحديد ، وهي المقارع (٣).

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤)

وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ ...) الآية معادلة لقوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج : ١٩] واللؤلؤ : الجوهر ، وأخبر سبحانه : بأنّ لباسهم فيها حرير ؛ لأنّه من أكمل حالات الدنيا ؛ قال ابن عباس (٤) : لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلّا في الأسماء فقط ، وأمّا الصفات فمتباينة ، والطيّب من القول : لا إله إلا الله وما

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم في سورة الكهف.

(٣) المقرعة : خشبة تضرب بها البغال والحمير. وقيل : كل ما قرع به فهو مقرعة.

ينظر : «لسان العرب» (٣٥٩٥)

(٤) ذكره ابن عطية (٤ / ١١٥)

١١٤

جرى معها من ذكر الله وتسبيحه ، وتقديسه ، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب ؛ فإنّها لا تسمع فيها لاغية ، و (صِراطِ الْحَمِيدِ) هو طريق الله الذي دعا عباده إليه ، ويحتمل أن يريد بالحميد نفس الطريق ، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله : دار الآخرة ، وقال البخاريّ (١) : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ) : أي : ألهموا إلى قراءة القرآن ، (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) : أي : إلى الإسلام ، انتهى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء (يَصُدُّونَ) مستقبلا ؛ إذ هو فعل يديمونه ، وخبر (إِنَ) محذوف مقدّر عند قوله : و (الْبادِ) : تقديره : خسروا أو هلكوا. و (الْعاكِفُ) : المقيم في البلد ، و «البادي» : القادم عليه من غيره.

وقوله : (بِإِلْحادٍ) قال أبو عبيدة (٢) : الباء فيه زائدة.

ت قال ابن العربيّ (٣) في «أحكامه» : وجعل الباء زائدة لا يحتاج إليه في سبيل العربية ؛ لأنّ حمل المعنى على القول أولى من حمله على الحروف ، فيقال : المعنى ومن يهمّ فيه بميل ، لأنّ الإلحاد هو الميل في اللغة ، إلّا أنّه قد صار في عرف الشرع ميلا مذموما ، فرفع الله الإشكال ، وبيّن سبحانه أنّ الميل بالظلم هو المراد هنا ، انتهى.

/ قال ع (٤) : والإلحاد الميل وهو يشمل جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه ، ومن نوى سيئة ولم يعملها ـ لم

__________________

(١) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٢٩٢) كتاب «التفسير» : باب سورة الحج.

(٢) ينظر : «مجاز القرآن» (٢ / ٤٨)

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٢٧٦)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١١٦)

١١٥

يحاسب بذلك إلّا في مكّة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة (١) وغيرهم.

قال ص : وقوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ) : أن : مفسّرة لقول مقدّر ، أي : قائلين له ، أو موحين له : لا تشرك ، وفي التقدير الأول نظر فانظره ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ ...) الآية : تطهير البيت عامّ في الكفر ، والبدع ، وجميع الأنجاس ، والدماء ، وغير ذلك ، (وَالْقائِمِينَ) : هم المصلون ، وخصّ سبحانه بالذكر من أركان الصلاة أعظمها ، وهو القيام والركوع والسجود ، وروي : «أنّ إبراهيم ـ عليه [الصلاة] (٢) والسلام ـ لمّا أمر بالأذان بالحج ـ قال : يا رب ، وإذا أذّنت ، فمن يسمعني؟ فقيل له : ناد يا إبراهيم ، فعليك النداء وعلينا البلاغ ؛ فصعد على أبي قبيس (٣) ، وقيل : على حجر المقام ، ونادى : أيّها الناس ، إنّ الله تعالى قد أمركم بحجّ هذا البيت ؛ فحجّوا ، فروي أنّ يوم نادى أسمع كلّ من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال ، وأجابه كل شيء في ذلك الوقت : من جماد ، وغيره : لبّيك اللهمّ لبيك ؛ فجرت التلبية على ذلك». قاله ابن عباس ، وابن جبير (٤) ، و (رِجالاً) : جمع راجل ، وال (ضامِرٍ) : قالت فرقة : أراد بها الناقة ؛ وذلك أنه يقال : ناقة ضامر ، وقالت فرقة : لفظ «ضامر» يشمل كلّ من اتصف بذلك من جمل ، أو ناقة ، وغير ذلك.

قال ع (٥) : وهذا هو الأظهر ، وفي تقديم (رِجالاً) تفضيل للمشاة في الحج ؛ وإليه نحا ابن عباس (٦).

قال ابن العربي في «أحكامه» (٧) : قوله تعالى : (يَأْتِينَ) ردّ الضمير إلى الإبل ؛ تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها ؛ كما قال تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) [العاديات : ١]. في خيل الجهاد ؛ تكرمة لها حين سعت في سبيل الله ، انتهى. والفجّ : الطريق الواسعة ، والعميق :

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ١١٦) والسيوطي (٤ / ٦٣٣) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، والطبراني عن ابن مسعود.

(٢) سقط في ج.

(٣) جبل مشرف على مكة ينظر : «المراصد» (٣ / ١٠٦٦)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٣٤) برقم (٢٥٠٣٩ ، ٢٥٠٤٠ ، ٢٥٠٤١) عن ابن عباس ، وبرقم (٢٥٠٤٣) عن سعيد بن جبير ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١٨) ، والسيوطي (٤ / ٦٣٨) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس ، وعزاه أيضا لابن جرير عن سعيد بن جبير.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١١٨)

(٦) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٣٥ ، ١٣٦) برقم (٢٥٠٥٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١٨) ، وابن كثير (٣ / ٢١٦) ، والسيوطي (٤ / ٦٣٩) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس.

(٧) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٢٧٩)

١١٦

معناه : البعيد ؛ قال الشاعر [الطويل] :

إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة

يمدّ بها في السير أشعث شاحب (١)

والمنافع في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ، ابن عباس (٢) وغيره ، وقال أبو جعفر محمد بن علي : أراد الأجر ومنافع الآخرة (٣) ، وقال مجاهد بعموم الوجهين (٤).

ت : وأظهرها عندي قول أبي جعفر ؛ يظهر ذلك من مقصد الآية ، والله أعلم.

وقال ابن العربيّ : الصحيح : القول بالعموم ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ذهب قوم إلى : أنّ المراد ذكر اسم الله على النّحر والذبح ، وقالوا : إنّ في ذكر الأيام دليلا على أنّ الذبح في الليل لا يجوز ، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي.

وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه : الأيام المعلومات : يوم النحر ويومان بعده.

وقوله : (فَكُلُوا) ندب ، واستحب أهل العلم أن يأكل الإنسان من هديه وأضحيّته ، وأن يتصدّق بالأكثر ، والبائس : الذي قد مسّه ضرّ الفاقة وبؤسها ، والمراد أهل الحاجة ، والتفث : ما يصنعه المحرم عند حلّه من تقصير شعر وحلقه ، وإزالة شعث ونحوه ، (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) : وهو ما معهم من هدي وغيره ، (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) : يعني : طواف الإفاضة الذي هو من واجبات (٥) الحج.

__________________

(١) لم أقف على قائله ، والفجاج جمع فج ، وهو الطريق الواسع في الجبل ، والعميق البعيد سفلا ، وهو محل الشاهد ، والأشعث المتلبد شعره المتغير ، والشاحب المتغير من هزال.

ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٢) ، و «الدر المصون» (٥ / ١٤٤)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٣٦) برقم (٢٥٠٦٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٨٤) ، وابن عطية (٤ / ١١٨) ، وابن كثير (٣ / ٢١٦) ، والسيوطي (٤ / ٦٤٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٣٧) برقم (٢٥٠٧٤) بلفظ العفو ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١٨)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٣٧) برقم (٢٥٠٧٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٨٤) ، وابن عطية (٤ / ١١٨) ، وابن كثير (٣ / ٢١٦) ، والسيوطي (٤ / ٦٤٠) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد.

(٥) من أركان الحج الطواف بالبيت ، لقوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، والمراد به : طواف الإفاضة ، لانعقاد الإجماع على ذلك ، ولهذا الطواف أسماء غير ذلك منها طواف الزيارة ، وطواف الفرض ، وقد يسمى طواف الصدر بفتح الدال : والأشهر أن طواف الصدر هو طواف الوداع. ـ

١١٧

قال الطبريّ / : ولا خلاف بين المتأوّلين في ذلك.

قال مالك : هو واجب ، ويرجع تاركه من وطنه إلّا أن يطوف طواف الوداع ؛ فإنّه يجزيه عنه ، ويحتمل أن تكون الإشارة بالآية إلى طواف الوداع ، وقد أسند (١) الطبريّ عن عمرو بن أبي سلمة قال : سألت زهيرا عن قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فقال : هو طواف الوداع ؛ وقاله مالك في «الموطإ» ، واختلف في وجه وصف البيت بالعتيق ، فقال مجاهد (٢) وغيره : عتيق ، أي : قديم.

وقال ابن الزبير (٣) : لأنّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة.

وقيل : أعتقه من غرق الطوفان ، وقيل غير هذا.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١)

وقوله : (ذلِكَ) يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير : فرضكم ذلك ، أو الواجب ذلك ، ويحتمل أن يكون في محلّ نصب بتقدير : امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار ، وأحسن الأشياء مضمرا أحسنها مظهرا ؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير : [البسيط]

هذا ، وليس كمن يعيا بخطبته

وسط النّديّ إذا ما ناطق نطقا (٤)

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج.

__________________

ـ ومحل طواف الإفاضة بعد الخروج من عرفة ولهذا سمي طواف الإفاضة. ويدخل وقته بنصف ليلة النحر لمن وقف قبله قياسا على رمي جمرة العقبة. ولا آخر لوقته إذ الأصل عدم التأقيت إلا إذا دلّ دليل على ذلك ولا دليل ثمّة. ويسن تأخيره إلى بعد طلوع الشمس للاتباع ، ويكره تأخيره عن يوم النحر وفي تأخيره عن أيام التشريق كراهة شديدة وعن خروجه من مكة كراهة أشد.

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٤٢) برقم (٢٥١٢٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١١٩)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ١١٩)

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٢٤) كتاب «التفسير» باب ومن سورة الحج حديث (٣١٧٠) ، والحاكم (٢ / ٣٨٩) من حديث عبد الله بن الزبير وقال الترمذي : حسن صحيح وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقال الذهبي : على شرط مسلم.

(٤) البيت في ديوانه (٤٢) ، و «البحر» (٦ / ٣٣٩) ، و «الدر المصون» (٥ / ١٤٥).

والندي : القوم المجتمعون ومنه النادي ، والشاهد في قوله «هذا» حيث أشير باسم الإشارة إلى ما سبق من وصف الهرم.

١١٨

وقال ابن العربي (١) في «أحكامه» : الحرمات : امتثال ما أمر الله تعالى به ، واجتناب ما نهى عنه ؛ فإنّ للقسم الأوّل حرمة المبادرة إلى الامتثال ، وللثاني حرمة الانكفاف والانزجار (٢). انتهى.

وقوله : (فَهُوَ خَيْرٌ) ظاهر أنها ليست للتفضيل ، وإنما هي عدة بخير ، ويحتمل أن يجعل (خَيْرٌ) للتفضيل على تجوز في هذا الموضع.

ص : (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي : فالتعظيم خير له ، [انتهى] (٣).

وقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) يحتمل معنيين.

أحدهما : أن تكون «من» لبيان الجنس أي : الرجس الذي هو الأوثان ؛ فيقع النهي عن رجس الأوثان فقط ، وتبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع.

والمعنى الثاني : أن تكون «من» لابتداء الغاية فكأنه نهاهم سبحانه عن الرجس عموما ، ثم عيّن لهم مبدأه الذي منه يلحقهم ؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا ممّا يتلى عليهم ، والمرويّ عن ابن عباس وابن جرير : أنّ الآية نهي عن عبادة الأوثان (٤) ، و (الزُّورِ) عامّ في الكذب والكفر ؛ وذلك أنّ كلّ ما عدا الحق فهو كذب وباطل.

وقال ابن مسعود وغيره : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عدلت شهادة الزور بالشّرك (٥) ،

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٢٨٤)

(٢) في ج : الازتجار.

(٣) سقط في ج.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٤٤) برقم (٢٥١٢٩) عن ابن عباس ، وبرقم (٢٥١٣٠) عن ابن جريج ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٢٠) ، والسيوطي (٤ / ٦٤٦) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(٥) أخرجه أبو داود (٢ / ٣٢٩) كتاب الأقضية : باب في شهادة الزور حديث (٣٥٩٩) والترمذي (٤ / ٥٤٧) كتاب الشهادات : باب ما جاء في شهادة الزور حديث (٢٣٠٠) وابن ماجه (٢ / ٧٩٤) كتاب الأحكام : باب شهادة الزور حديث (٢٣٧٢) وأحمد (٤ / ٣٢١ ، ٣٢٢) والطبراني (٤ / ٢٠٩) رقم (٤١٦٢) والبيهقي (١ / ١٢١) كلهم من طريق حبيب بن النعمان عن خريم بن فاتك الأسدي به وقال الترمذي : خريم بن فاتك له صحبة وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث وهو مشهور ا. ه.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٤٦) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

وأخرجه الترمذي (٤ / ٥٤٧) كتاب الشهادات : باب ما جاء في شهادة الزور حديث (٢٢٩٩) من طريق سفيان بن زياد الأسدي عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم مرفوعا وقال الترمذي : هذا حديث ـ

١١٩

وتلا هذه الآية» والزور : مشتقّ من الزور ، وهو الميل (١) ، ومنه في جانب فلان زور ،

__________________

ـ غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد واختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد ولا يعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد. وأخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩ / ١٤٤) رقم (٢٥١٣٤) عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٤٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والخرائطي في «مكارم الأخلاق».

(١) الزور : الكذب ، والتزوير : تزيين الكذب ، وزوّر الشيء حسّنه ، وقومه ، والزور مأخوذ من زور يزور ، بمعنى مال ، وانحرف ، فالشاهد الذي يشهد بخبر كاذب يسمى شاهد زور ، لأنه مائل عن الحق ، منحرف عن الصدق.

وشهادة الزور من أكبر الكبائر ، وقد قرن الله (تعالى) بينها وبين الشرك ، فقال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»؟! قلنا : بلى يا رسول الله ، قال «الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين» ، وكان متكئا ، فجلس وقال : «ألا وقول الزور ، وشهادة الزور» حتى قلنا : ليته سكت.

واختلف أهل العلم في كيفية ثبوت شهادة الزور ، فقال الحنفية إن شاهد الزور لا يثبت كونه شاهد زور ، إلا إذا أقر على نفسه ، ولم يدع سهوا ، أو غلطا.

واعترض على هذا صدر الشريعة ، بأنه قد يعلم بدونه ، كما إذا شهد بموت زيد ، أو بأن فلانا قتله ، ثم ظهر زيد حيا ، أو برؤية الهلال ، فمضى ثلاثون يوما ، وليس في السماء علة ، ولم ير الهلال.

وإنما لا تثبت شهادة الزور بالبينة ، لأنها ستكون بينة على النفي ، والبينة حجة للإثبات دون النفي.

وفي «المهذب» للشافعية : ويثبت أنه شاهد زور من ثلاثة أوجه : أحدها : أن يقر أنه شاهد زور.

الثاني : أن تقوم البينة على أنه شاهد زور.

الثالث : أن يشهد بما يقطع بكذبه ، بأن شهد على رجل أنه قتل ، أو زنى في وقت معين في موضع معين ، والمشهود عليه في ذلك الوقت كان في بلد آخر.

وأما إذا شهد بشيء أخطأ فيه ، لم يكن شاهد زور ، لأنه لم يقصد الكذب.

وإن شهد لرجل بشيء ، وشهد به آخر أنه لغيره ، لم يكن شاهد زور ، لأنه ليس تكذيب أحدهما بأولى من تكذيب الآخر ، فلم يقدح ذلك في عدالته.

وكذلك اختلفوا في عقوبة شاهد الزور ، فقال أبو حنيفة (رضي الله تعالى عنه) : شاهد الزور يعزر بتشهيره على الملأ في الأسواق ليس غير.

وقال الصاحبان : نوجعه ضربا ونحبسه ، وذكر شمس الأئمة السرخسي (رحمه‌الله تعالى) أنه يشهر عندهما أيضا ، والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي.

وقال بهذه الرواية مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى.

لهما ما روي عن عمر (رضي الله تعالى عنه) أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه ، ولا يقال : الاستدلال بهذا غير مستقيم على مذهبهما ، لأنهما لا يريان التسخيم ، لأنه يحمل التسخيم على أنه كان سياسة. ـ

١٢٠