تفسير الثعالبي - ج ١

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ١

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

يقول ابن الصّلاح (١) :

«ما قيل من أنّ تفسير الصحابيّ حديث مسند ، فإنما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول آية يخبر به الصّحابيّ ، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا مدخل للرأي فيه ؛ كقول جابر ـ رضي الله عنه ـ : كانت اليهود تقول :

من أتى امرأة من دبرها في قبلها ، جاء الولد أحول ؛ فأنزل الله عزوجل :

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...) [البقرة : ٢٢٣] الآية ، فأما سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعدودة في الموقوفات».

وذكروا أن تفسير الصحابيّ له حكم المرفوع إذا لم يكن للرأي فيه مجال ، وأما ما يكون للرأي فيه مجال ، فله حكم الموقوف.

وما حكم عليه بالوقف :

قال بعض العلماء : لا يجب الأخذ به ؛ لأنه مجتهد فيه ، وقد يصيب وقد يخطىء.

وقال بعضهم :

يجب الأخذ به ؛ لأنه : إما سمعه من الرسول ، وإما فسّره برأيه ، وهم أدرى النّاس بكتاب الله ، وهم أهل اللسان ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال ، ولا سيّما ما ورد عن الأئمّة الأربعة وابن مسعود وابن عبّاس وغيرهم (٢).

يقول الزركشيّ (٣) :

«اعلم أنّ القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنّقل ، وقسم لم يرد ، والأوّل : إما أن يرد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الصحابة ، أو رءوس التابعين ، فالأوّل : يبحث فيه عن صحّة السّند ، والثاني : ينظر فيه تفسير الصحابيّ : فإن فسّره من حيث اللغة ، فهم أهل اللسان ؛ فلا شكّ في اعتماده ، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شكّ فيه ...».

ويقول الحافظ ابن كثير (٤) :

«.. وحينئذ : إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السّنّة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصّحابة ؛ فإنّهم أدرى بذلك ؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصّوا بها ، ولما لهم

__________________

(١) مقدمة «ابن الصلاح» ص ٢٤.

(٢) «التفسير والمفسرون» ص ٩٥ (بتصرف)

(٣) «البرهان» ٢ / ١٨٣.

(٤) مقدمة «تفسير ابن كثير» / الجزء الأول.

٦١

من الفهم التامّ والعلم الصحيح والعمل الصالح ، ولا سيّما علماؤهم وكبراؤهم ؛ كالأئمّة الأربعة ، والخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديّين ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم».

مدرسة مكّة

تلاميذ ابن عبّاس

١ ـ سعيد بن جبير :

هو (١) : سعيد بن جبير بن هشام الأسديّ ، مولى بني والبة ، يكنى بأبي محمّد (٢) أو بأبي عبد الله (٣) ، كان حبشيّ الأصل ، أسود اللّون ، أبيض الخصال (٤).

هو أحد كبار التابعين ، وإمام من أئمّة الإسلام في التّفسير.

كان في أوّل أمره كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم لأبي بردة الأشعريّ ، ثم تفرّغ للعلم حتّى صار إماما علما (٥).

أخذ العلم عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن مغفّل المزنيّ وغيرهم ، وتخرّج من مدرسة ابن عبّاس (٦).

وكان ابن عباس يثق بعلمه ، ويحيل عليه من يستفتيه ، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء : أليس فيكم ابن أمّ الدّهماء؟! يعني : سعيد بن جبير (٧).

وكان يحبّ أن يسمع منه ، قال له مرّة : حدّث ، فقال : أحدّث ، وأنت هنا؟ فقال : أليس من نعمة الله عليك أن تحدّث ، وأنا شاهد ؛ فإن أصبت فذاك ، وإن أخطأت علّمتك (٨)؟!

__________________

(١) ترجمته في : «طبقات ابن سعد» ٦ / ٢٥٦ ، «تقريب التهذيب» ١ / ٢٩٢ ، و «فيات الأعيان» ١ / ٢٠٤ ، «تهذيب التهذيب» ٤ / ١١ ، «البداية والنهاية» ٩ / ١٠٣ ، «الأعلام» ٣ / ١٤٥.

(٢) «طبقات ابن سعد» ، و «البداية والنهاية» وغيرهما.

(٣) «طبقات ابن سعد» ، و «البداية والنهاية» وغيرهما.

(٤) «التفسير والمفسرون» ١ / ١٠٤.

(٥) «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٥.

(٦) «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٥.

(٧) «التفسير والمفسرون» ١ / ١٠٥.

(٨) «طبقات ابن سعد» ٦ / ٢٥٧ ، و «وفيات الأعيان» ١ / ٢٠٤.

٦٢

مكانته في التّفسير : كان ـ رضي الله عنه ـ من أعلم التابعين بالقراءات ؛ يقول إسماعيل بن عبد الملك (١) : «كان سعيد بن جبير يؤمّنا في شهر رمضان ، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود ، وليلة بقراءة زيد بن ثابت ، وليلة بقراءة غيره ، وهكذا أبدا».

وساعدته معرفته بالقراءات على معرفة معاني القرآن وأسراره ، ومع ذلك كان يتورّع من القول في التفسير برأيه.

يروي ابن خلّكان (٢) : «أن رجلا سأل سعيدا أن يكتب له تفسير القرآن ، فغضب ، وقال : لأن يسقط شقّي أحبّ إليّ من ذلك».

وقد شهد له التابعون بتفوّقه في العلم ، ولا سيّما التفسير ؛ قال قتادة (٣) : «وكان أعلم النّاس أربعة ، كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتّفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسّير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام».

وقال سفيان الثّوريّ (٤) : «خذوا التّفسير عن أربعة : سعيد بن جبير ، ومجاهد بن جبر ، وعكرمة ، والضّحّاك».

وقال خصيف (٥) : «كان من أعلم التابعين بالطّلاق سعيد بن المسيّب ، وبالحجّ عطاء ، وبالحلال والحرام طاوس ، وبالتّفسير أبو الحجّاج مجاهد بن جبر ، وأجمعهم لذلك كلّه سعيد بن جبير».

نموذج من تفسيره : قال سعيد بن جبير : السّبع المثاني هي : البقرة وآل عمران ، والنّساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ؛ قال : وسمّيت بذلك ؛ لأنها بينت فيها الفرائض والحدود (٦).

قتله :

قتل ـ رضي الله عنه ـ سنة أربع وتسعين من الهجرة ، قتله الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ

__________________

(١) «وفيات الأعيان» ١ / ٢٠٤.

(٢) «وفيات الأعيان» ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٣) «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٥.

(٤) «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٥.

(٥) «وفيات الأعيان» ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٦) «تفسير الطبري» ١ / ٣٣ ، ٣٤.

٦٣

صبرا ؛ وذلك : أن سعيد بن جبير خرج على الخليفة مع ابن الأشعث ، فلما قتل ابن الأشعث وانهزم أصحابه من دير الجماجم هرب سعيد ، فلحق بمكّة ، وكان واليها خالد بن عبد الله القسريّ ، فأخذه وبعث به إلى الحجّاج ، فقال له الحجّاج : ما أسمك؟ قال : سعيد بن جبير.

قال : بل أنت شقيّ بن كسير ، قال : بل أمّي كانت أعلم باسمي منك.

قال : شقيت أنت وشقيت أمّك ، قال : الغيب يعلمه غيرك.

قال : لأبدّلنّك بالدّنيا نارا تلظّى ، قال : لو علمت أن ذلك بيدك لاتّخذتك إلها.

قال : فما قولك في محمّد؟ قال : نبيّ الرحمة ، وإمام الهدى.

قال : فما قولك في عليّ؟ أهو في الجنّة أو هو في النار؟ قال : لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها (١).

قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل.

قال : فأيّهم أعجب إليك؟ قال : أرضاهم لخالقهم.

قال : وأيّهم أرضى للخالق؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرّهم ونجواهم.

قال : فما بالك لم تضحك؟ قال : وكيف يضحك مخلوق خلق من طين ، والطين تأكله النّار؟! قال : فما بالنا نضحك؟ قال : لم تستو القلوب.

ثم أمر الحجّاج باللّؤلؤ والزّبرجد والياقوت ، فجمعه بين يديه ، فقال سعيد :

إن كنت جمعت هذا لتتّقي به من فزع يوم القيامة ، فصالح ، وإلا ففزعة واحدة تذهل كلّ مرضعة عما أرضعت ، ولا خير في شيء جمع للدّنيا إلّا ما طاب وزكا ، ثمّ دعا الحجّاج بالعود والنّاي ، فلمّا ضرب بالعود ، ونفخ بالنّاي بكى سعيد.

فقال : ما يبكيك هو اللّعب؟

قال سعيد : هو الحزن : أما النفخ ، فذكّرني يوما عظيما ، يوم النّفخ في الصّور ، وأما

__________________

(١) هذه رواية المحاجّة بين سعيد والحجاج ، أمّا نحن فننزّه سعيدا عن هذا الرد ، ونجزم بكون عليّ من أهل الجنة.

٦٤

العود ، فشجرة قطعت من غير حقّ ، وأما الأوتار ، فمن الشّاء تبعث معها يوم القيامة.

قال الحجّاج : ويلك يا سعيد! قال : لا ويل لمن زحرح عن النّار وأدخل الجنّة! قال الحجاج : اختر يا سعيد أيّ قتلة أقتلك.

قال : اختر لنفسك يا حجّاج ؛ فو الله ، لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة! قال : أفتريد أن أعفو عنك؟ قال : إن كان العفو ، فمن الله ، وأما أنت ، فلا براءة لك ولا عذر.

قال الحجّاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلمّا خرج ، ضحك ، فأخبر الحجّاج بذلك فردّه ، وقال : ما أضحكك؟ قال : عجبت من جرأتك على الله ، وحلم الله عليك.

فأمر بالنّطع فبسط ، وقال : اقتلوه! فقال سعيد : وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض ، حنيفا وما أنا من المشركين.

قال : وجّهوا به لغير القبلة ، قال سعيد : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة ١١٥].

قال : كبّوه لوجهه ، قال سعيد : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٥٥].

قال الحجّاج : اذبحوه! قال سعيد : أما إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، خذها منّي حتّى تلقاني بها يوم القيامة ، ثمّ دعي سعيد فقال : اللهمّ لا تسلّطه على أحد يقتله بعدي.

وكان الحجّاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ، ويقول : يا عدوّ الله ، فيم قتلتني؟

فيقول الحجّاج : ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد بن جبير؟ (١).

ذكر عن الإمام أحمد أنه قال (٢) :

قتل سعيد بن جبير ، وما على وجه الأرض أحد إلّا وهو محتاج ـ أو قال : مفتقر ـ إلى علمه.

__________________

(١) انظر «وفيات الأعيان» ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، «تذكرة الحفاظ» ٧١ ـ ٧٣ ، «البداية والنهاية» ٩ / ١٠١ ـ ١٠٣.

(٢) «طبقات ابن سعد» ٦ / ٢٦٦ ، «وفيات الأعيان» ١ / ٢٠٦ ، «الأعلام» ٣ / ١٤٥.

٦٥

٢ ـ مجاهد بن جبر :

هو : مجاهد بن جبر ، أبو الحجّاج القرشيّ المخزوميّ ، مولى السّائب بن أبي السّائب المخزوميّ ، ولد سنة ٢١ ه‍ ـ في خلافة عمر بن الخطاب ، وتوفي سنة ١٠٣ ه‍ (١).

أحد أئمّة التابعين والمفسّرين ، وأحد أعلام القرّاء ، ومن خاصّة أصحاب ابن عبّاس ، اشتهر بقوّة حافظته ؛ حتى قال ابن عمر وهو آخذ بركابه :

«وددت أنّ ابني سالما وغلامي يحفظان حفظك» (٢).

كان مجاهد شغوفا بالعلم ، وخاصّة التفسير ، روى الفضل بن ميمون عن مجاهد قال (٣) : عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاثين مرّة.

ويقول أيضا (٤) : عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث عرضات ، أقف عند كلّ آية ، أسأله ، فيم نزلت ، وكيف كانت؟

ولا تعارض بين الرّوايتين ، فالأولى لتمام الضّبط والتجويد ، والثانية للعلم والتفسير.

أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم ، عن ابن عمر ، وابن عبّاس ، وأبي هريرة ، وابن عمرو ، وأبي سعيد ، ورافع بن خديج ... وروى عنه خلق من التابعين (٥).

مكانته في التّفسير : كان مجاهد أقلّ أصحاب ابن عبّاس رواية عنه في التفسير ، وكان أوثقهم.

قال سفيان الثّوريّ (٦) : «إذا جاءك التّفسير عن مجاهد ، فحسبك به».

وقال ابن تيميّة (٧) : «ولذا يعتمد على تفسيره الشافعيّ والبخاريّ وغيرهما من أهل العلم» غير أن بعض العلماء كان لا يأخذ بتفسيره ؛ يقول أبو بكر بن عيّاش : قلت للأعمش ، ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو : ما بالهم يتّقون تفسير مجاهد؟

__________________

(١) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٤٤٦ ، «تهذيب التهذيب» ١٠ / ٤٢ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٢٣٢.

(٢) «ميزان الاعتدال» ٣ / ٩.

(٣) «ميزان الاعتدال» ٣ / ٩.

(٤) «تهذيب التهذيب» ١٠ / ٤٢.

(٥) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٣٢.

(٦) «تفسير الطبري» ١ / ٣٠.

(٧) «مقدمة في أصول التفسير» ص ٧ لابن تيمية.

٦٦

قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (١).

لكن هذا لا يقدح في صدقه وعدالته ؛ فقد «أجمعت الأمّة على إمامته والاحتجاج به ، وقد أخرج له أصحاب الكتب السّتّة» (٢).

ثم إنّ سؤال أهل الكتاب أمر مباح ـ فيما لا يتعلّق بحكم تشريعيّ ـ أباحه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

كان مجاهد ـ رضي الله عنه ـ يعطي عقله حرّيّة واسعة في فهم بعض نصوص القرآن التي يبدو ظاهرها بعيدا ؛ فإذا ما مرّ بنصّ قرآنيّ من هذا القبيل ، وجدناه ينزّله بكلّ صراحة ووضوح على التشبيه والتمثيل ، وتلك الخطّة كانت فيما بعد مبدأ معترفا به ، ومقرّرا لدى المعتزلة في تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص» (٤).

نموذج من تفسير مجاهد : روى ابن كثير أن مجاهدا قال في قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [لقمان : ٢٠] ، قال : أما الظاهرة : فالإسلام والقرآن والرسول والرّزق ، وأما الباطنة : فما ستر من العيوب والذنوب (٥).

وقال في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ١١] قال : من لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى ، فهو من الظّالمين (٦).

٣ ـ عكرمة :

هو : عكرمة بن عبد الله البربريّ المدنيّ ، مولى عبد الله بن عبّاس ، يكنى بأبي عبد الله ، أصله من البربر بالمغرب (٧).

سمع من مولاه «ابن عبّاس» ، وعليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدريّ ، وغيرهم (٨).

__________________

(١) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٤٦٦.

(٢) «سير أعلام النبلاء» ٤ / ٣٢٤.

(٣) يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.

(٤) «التفسير والمفسرون» ١ / ١٠٨.

(٥) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٣٤.

(٦) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٣٤.

(٧) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٢٨٧ ، «وفيات الأعيان» ١ / ٣١٩ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٤ ، «الأعلام» ٥ / ٤٣.

(٨) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٢٨٧.

٦٧

تلمذ على يدي عبد الله بن عبّاس ، وكان ابن عبّاس لا يألو جهدا في تثقيفه وتعليمه ، بل إنّه كان يقسو عليه حتّى يعلّمه ، روى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال (١) :

«كان ابن عبّاس يجعل في رجليّ الكبل يعلّمني القرآن والسّنّة».

وروى البخاريّ في صحيحه عن عكرمة أن ابن عباس قال له (٢) :

«حدّث النّاس كلّ جمعة مرّة ، فإن أبيت فمرّتين ، فإن أكثرت فثلاث مرّات ، ولا تملّ النّاس هذا القرآن ، ولا ألفينّك تأتي القوم ، وهم في حديث من حديثهم ؛ فتقصّ عليهم ، فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم ، ولكن أنصت ، فإذا أمروك فحدّثهم ، وهم يشتهونه ، وانظر السّجع من الدّعاء فاجتنبه ؛ فإنّي عهدتّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك».

لقد اهتمّ ابن عبّاس بتلميذه هذا اهتماما كبيرا ؛ وكأنّه كان يعدّه ليكون خليفته في تفسير القرآن ، وكان يكافئه إذا ما أحسن فهم آية أشكلت على ابن عبّاس.

روى داود بن أبي هند عن عكرمة قال :

قرأ ابن عبّاس هذه الآية : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) [الأعراف : ١٦٤] قال ابن عبّاس : لم أدر أنجا القوم أم هلكوا؟ قال : فما زلت أبيّن له حتّى عرف أنهم نجوا ، فكساني حلّة (٣).

قال شهر بن حوشب : «عكرمة حبر هذه الأمّة» (٤).

وقد شهد له الأئمّة الأعلام بالثّقة والعدالة.

قال المروزيّ : قلت لأحمد : يحتجّ بحديث عكرمة؟ فقال : نعم ، يحتجّ به (٥).

وقال ابن معين : إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وفي حمّاد بن سلمة ، فاتهمه على الإسلام (٦).

__________________

(١) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٥ ، والكبل : القيد.

(٢) «ميزان الاعتدال» ٣ / ٩٣.

(٣) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٢٨٨.

(٤) «ميزان الاعتدال» ٣ / ٩٣ ، مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٥) «مقدمة فتح الباري» ص ٣٤٠.

(٦) «معجم الأدباء» ١٢ / ١٨٩.

٦٨

وقال البخاريّ : ليس أحد من أصحابنا إلّا وهو يحتجّ بعكرمة (١).

وقد أخرج له : البخاريّ ومسلم وأبو داود والنّسائيّ.

علمه ومكانته في التّفسير : كان عكرمة على درجة كبيرة من العلم ، فهو من أعلم النّاس بالسّير والمغازي.

قال سفيان عن عمرو قال (٢) :

كنت إذا سمعت عكرمة يحدّث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفّون ويقتتلون ، وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن.

أما التفسير ، فقد شهد له الأئمة بذلك ، يقول الشّعبيّ : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة (٣).

وقال حبيب بن أبي ثابت :

اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ؛ فأقبل مجاهد ، وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ، فلم يسألاه عن آية إلّا فسّرها لهما ، فلمّا نفذ ما عندهما جعل يقول :

أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا (٤).

نموذج من تفسير عكرمة : قال عكرمة في قوله تعالى : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : بالشهوات ، (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالتوبة ، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي : التّسويف ، (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) : الموت ، (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [الحديد : ١٤] : الشّيطان (٥).

وتوفّي عكرمة ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة سنة سبع ومائة للهجرة ، وقيل : سنة أربع ومائة (٦).

__________________

(١) «مقدمة فتح الباري» ص ٤٥٠.

(٢) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٥ ، «مقدمة فتح الباري» ص ٤٥٠.

(٣) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٥.

(٤) «مقدمة فتح الباري» ص ٤٥٠.

(٥) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٩.

(٦) «تهذيب التهذيب» ٧ / ٢٦٣ ـ ٢٧٣ ، «تذكرة الحفاظ» ١ / ٩٠ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٣.

٦٩

٤ ـ طاوس :

هو : طاوس بن كيسان الخولانيّ ، أبو عبد الرّحمن.

أوّل طبقة أهل اليمن من التابعين ، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن (١).

أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم ، وروايته عن ابن عبّاس أكثر ، وأخذه عنه في التفسير أكثر من غيره ؛ ولهذا عدّ من تلاميذ ابن عبّاس ، وجاء ذكره في مدرسته بمكّة (٢).

روى عنه خلق من التابعين ، منهم : مجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وغيرهم (٣) ، شهد له ابن عبّاس بالورع والتقوى ، فقال : «إنّي لأظنّ طاوسا من أهل الجنّة» (٤). وطاوس ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب السّتّة.

كان طاوس ـ رضي الله عنه ـ جريئا في الحقّ ، لا يخشى فيه لومة لائم.

روى الزّهريّ (٥) :

أنّ سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت ، له جمال وكمال ، فقال : من هذا يا زهريّ؟

فقلت : هذا طاوس ، وقد أدرك عدّة من الصحابة ، فأرسل إليه سليمان ، فأتاه ، فقال : لو ما حدّثتنا!! فقال : حدّثني أبو موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إنّ أهون الخلق على الله عزوجل من ولي من أمور المسلمين شيئا ؛ فلم يعدل فيهم» ، فتغيّر وجه سليمان ، فأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه إليه ، فقال : لو ما حدّثتنا!!

فقال : حدّثني رجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن شهاب : ظننت أنه أراد عليّا ـ قال : دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش ، ثم قال :

إنّ لكم على قريش حقّا ، ولهم على النّاس حقّ ، ما إذا استرحموا رحموا ، وإذا حكموا عدلوا ، وإذا ائتمنوا أدّوا ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ،

__________________

(١) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٤٤.

(٢) «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٤.

(٣) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٤٥.

(٤) «تهذيب التهذيب» ٥ / ٩.

(٥) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٤٧.

٧٠

لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

قال : فتغيّر وجه سليمان ، وأطرق طويلا ، ثم رفع رأسه إليه ، وقال : لو ما حدّثتنا!! فقال : حدّثني ابن عبّاس ؛ أنّ آخر آية نزلت من كتاب الله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨١].

علمه : بلغ طاوس من العلم مبلغا عظيما ، وكان واثقا من علمه هذا ...

أنكر عليه سعيد بن جبير قوله عن ابن عبّاس : «إنّ الخلع طلاق» ، فلقيه مرّة فقال له : «لقد قرأت القرآن قبل أن تولد ، ولقد سمعته وأنت إذ ذاك همّك لقم الثّريد».

وقال قيس بن سعد :

«كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم».

والتفسير المأثور عنه قليل جدّا ، ومعظمه يرويه عن ابن عباس ، ولقلّة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه قالوا عنه : إنّه فقيه لا مفسّر ، وعدّه علماء الفقه فقيها.

نموذج من تفسيره : قال في قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ...) [الروم : ٣٩] الآية : «هو الرّجل يعطي العطيّة ، ويهدي الهديّة ، ليثاب أفضل من ذلك ، ليس فيه أجر ولا وزر».

وقد توفّي طاوس ـ رضي الله عنه ـ يوم السابع من ذي الحجة سنة ١٠٦ ه‍ ، ووافته منيته وهو يحجّ بيت الله الحرام ، وصلّى عليه هشام بن عبد الملك ، وهو خليفة.

٥ ـ عطاء بن أبي رباح :

هو : عطاء بن أبي رباح ، وأبو رباح هو : أسلم بن صفوان ، مولى آل أبي ميسرة بن أبي حثيم الفهريّ (١).

سيّد التابعين علما وعملا وإتقانا في زمانه بمكّة (٢).

قال ابن سعد (٣) :

__________________

(١) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٤٦٧ ، «وفيات الأعيان» ١ / ٣١٨ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٣١٧ ، ٣١٨.

(٢) «ميزان الاعتدال» ٣ / ٧٠.

(٣) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٤٩٦ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٣١٨.

٧١

سمعت بعض أهل العلم يقول : كان عطاء أسود ، أعور ، أفطس ، أشلّ ، أعرج ، ثمّ عمي بعد ذلك ، وكان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثير الحديث.

قال أبو جعفر الباقر وغير واحد (١) :

ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه ، وزاد بعضهم : وكان قد حجّ سبعين حجّة ، وعمّر مائة سنة ، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضّعف ، ويفدي عن إفطاره.

روى عن عدد كثير من الصحابة ، منهم : ابن عمر ، وابن عمرو ، وعبد الله بن الزّبير ، وأبو هريرة ، وغيرهم.

وسمع من ابن عبّاس التفسير وغيره ، وروى عنه من التابعين عدّة ، منهم : الزّهري ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، والأعمش ، وغيرهم (٢).

مكانته في التّفسير : كان ابن عبّاس يقول لأهل مكّة إذا جلسوا إليه : تجتمعون إليّ يأهل مكّة ، وعندكم عطاء؟ (٣).

وقال قتادة (٤) :

كان أعلم التابعين أربعة : كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسّير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام.

لم يكن عطاء مكثرا من رواية التّفسير عن ابن عبّاس فضلا عن تفسيره هو ، ولعلّ إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرّجه من القول بالرّأي (٥).

قال عبد العزيز بن رفيع (٦) : سئل عطاء عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل له : ألا تقول فيها برأيك؟ قال : إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.

__________________

(١) «البداية والنهاية» ٩ / ٣١٨.

(٢) «البداية والنهاية» ٩ / ٣١٨.

(٣) «تذكرة الحفاظ» ١ / ٩١.

(٤) «طبقات ابن سعد» ٥ / ٤٩٦.

(٥) «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٥.

(٦) «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٥.

٧٢

لكنّه كان يدلي برأيه ـ أحيانا ـ في التفسير.

روى الطبرانيّ ـ بسنده ـ عن يحيى بن ربيعة الصّنعانيّ قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [النمل : ٤٨] قال : كانوا يقرضون الدّراهم ، قيل : كانوا يقصّون منها ويقطعونها (١).

وقيل لعطاء : إن هاهنا قوما يقولون : الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، فقال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] ، فما هذا الهدى الذي زادهم؟ قلت : ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله ، فقال : قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة : ٥] ؛ فجعل ذلك دينا (٢).

وتوفّي ـ رضي الله عنه ـ سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة (٣).

وبعد :

فهذه هي مدرسة التّفسير بمكّة ، تلك التي أسّسها حبر الأمّة عبد الله بن عبّاس ، وهؤلاء أشهر شيوخها الذين تخرّجوا فيها على يدي ابن عبّاس ، وفي نهاية مطافنا معها نرصد ما يلي :

* كان لهذه المدرسة دور ضخم في نشر التفسير ، وقد هيأ لها هذا الدّور : نبوغ شيوخها ، بالإضافة إلى موطن المدرسة «مكّة» حيث البيت الحرام الذي يأتيه الناس من كلّ فجّ عميق.

* لم يكتف شيوخ هذه المدرسة بنشر التفسير في مكّة ، وإنما كان لهم دور بالغ الأهمية خارج مكّة ؛ فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الرّيّ ؛ نشر فيها الكثير من العلم (٤) ، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكّة ، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عباس وتفسيره ، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلاميّة شرقا وغربا ؛ إذ رحل إلى خراسان ، واليمن ، والعراق ، والشّام ، ومصر ، والحرمين (٥).

__________________

(١ ، ٢) «البداية والنهاية» ٩ / ٣١٨ ، ٣١٩.

(٣) «المصدر نفسه» ٩ / ٣١٧.

(٤) راجع : «حبر الأمة عبد الله بن عباس» ص ١٤٥.

(٥) راجع : «وفيات الأعيان» ١ / ٣١٩ ، «معجم الأدباء» ١٢ / ١٨١ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٢٥٤.

٧٣

جزى الله هؤلاء الأعلام عن القرآن والمسلمين خير الجزاء.

مدرسة المدينة

تلاميذ أبيّ بن كعب

قامت مدرسة المدينة في التفسير على الصحابيّ الجليل أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ فهو أستاذها وأشهر مفسّريها.

وكان بالمدينة كثير من الصحابة ، أقاموا بها ، فجلسوا إلى أبيّ ؛ يعلمهم كتاب الله وسنّته ، ومن أشهر هؤلاء :

١ ـ أبو العالية :

هو : زياد ، وقيل : رفيع بن مهران الرّياحيّ ، مولاهم (١).

مخضرم ، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين.

روى عن : عليّ ، وابن مسعود ، وابن عبّاس. وابن عمر ، وأبيّ بن كعب ، وغيرهم.

كان من ثقات التابعين ، وقد أجمع عليه أصحاب الكتب السّتّة.

كان يحفظ القرآن ويتقنه ، قال :

«قرأت القرآن بعد وفاة نبيّكم بعشر سنين».

وقال : «قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرّات».

وقال فيه ابن أبي داود :

«ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية».

رويت عنه نسخة كبيرة في التفسير ، رواها أبو جعفر الرازيّ عن الرّبيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ ، وهو إسناد صحيح.

توفّي سنة تسعين من الهجرة ، على أرجح الأقوال.

__________________

(١) راجع : «تهذيب التهذيب» ٣ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ، و «مقدمة فتح الباري» ص ٤٢٢ ، وانظر : «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٦ ، ١١٧.

٧٤

٢ ـ محمّد بن كعب القرظيّ :

هو : محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظيّ ، المدنيّ ، أبو حمزة ، أو أبو عبد الله ، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم :

عليّ ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وغيرهم ، وروى عن أبيّ بن كعب بالواسطة (١).

قال فيه ابن سعد (٢) : كان ثقة ، عالما ، كثير الحديث ، ورعا ، وهو من رجال الكتب السّتّة.

قال فيه ابن عون (٣) :

ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظيّ :

نموذج من تفسيره (٤) : قال في قوله تعالى : (... اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ...) : اصبروا : على دينكم ، وصابروا : لوعدكم الذي وعدتم ، ورابطوا عدوّكم الظاهر والباطن ، (وَاتَّقُوا اللهَ) : فيما بيني وبينكم ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ٢٠٠] إذا لقيتموني.

توفي سنة مائة وثمان من الهجرة (٥) ، وقيل : بعد ذلك.

٣ ـ زيد بن أسلم :

هو (٦) : زيد بن أسلم العدويّ ، المدنيّ ، الفقيه ، المفسّر ، أبو أسامة ، أو أبو عبد الله.

كان أبوه مولى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.

وكان زيد من كبار التّابعين الذين عرفوا القول بالتفسير.

قال فيه الإمام أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنّسائيّ : «ثقة» ، وهو عند أصحاب الكتب السّتّة.

__________________

(١) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٦٨ وما بعدها.

(٢) راجع : «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٧ ، و «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٨.

(٣) راجع : «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٧ ، و «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٨.

(٤) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٦٨.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) «تهذيب التهذيب» ٣ / ٣٩٥ ـ ٣٩٧ ، وراجع : «التفسير والمفسرون» ١ / ١١٨ ، ١١٩.

٧٥

عرف بغزارة العلم ، كان يقرأ القرآن برأيه ، ولا يتحرّج من ذلك ، إذ يرى جواز التّفسير بالرّأي.

وأشهر من أخذ التّفسير عن زيد بن أسلم من علماء المدينة : ابنه عبد الرّحمن بن زيد ، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة.

وتوفّي سنة ستّ وثلاثين ومائة للهجرة ، وقيل غير ذلك.

مدرسة العراق

تلاميذ عبد الله بن مسعود

قامت هذه المدرسة على عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره ، إلا أنّ ابن مسعود هو أشهر أساتذتها أو هو أستاذها الأوّل لطول باعه في هذا الميدان ، بالإضافة إلى أنّ عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ حين ولّى عمّار بن ياسر على الكوفة ، سيّر معه عبد الله بن مسعود ، معلّما ووزيرا ، فجلس إليه أهل الكوفة وأخذوا عنه أكثر من غيره.

ومن أهمّ سمات هذه المدرسة : شيوع طريقة الاستدلال فيها : نظرا إلى أنّ أهل العراق عرفوا بأنهم أهل الرّأيّ ، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد الله بن مسعود (١).

ومن أشهر رجال هذه المدرسة :

١ ـ علقمة بن قيس :

هو : علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك ، أبو شبل ، النّخعيّ ، الكوفيّ.

كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم ، وكان يشبّه بابن مسعود ، وكان أعلم أصحابه بعلم ابن مسعود (٢).

قال عثمان بن سعيد : «قلت لابن معين : علقمة أحبّ إليك أم عبيدة؟ فلم يخيّر ، قال عثمان : كلاهما ثقة ، وعلقمة أعلم بعبد الله».

وروى عبد الرحمن بن يزيد قال : قال عبد الله : ما أقرأ شيئا ولا أعلمه إلّا علقمة

__________________

(١) «التفسير والمفسرون» ١ / ١٢٠ (بتصرف وإيجاز)

(٢) «تهذيب التهذيب» ٧ / ٢٧٦ ـ ٢٧٨ ، «البداية والنهاية» ٨ / ٢١٩.

٧٦

يقرؤه ويعلمه.

قال فيه الإمام أحمد : ثقة من أهل الخير ، وهو عند أصحاب الكتب الستّة.

مات سنة إحدى وستين ، وقيل : سنة اثنتين وستّين عن تسعين سنة (١).

٢ ـ مسروق :

هو : مسروق بن الأجدع بن مالك بن أميّة الهمدانيّ ، الكوفيّ ، العابد ، أبو عائشة.

سأله عمر يوما عن اسمه ، فقال له : اسمي مسروق بن الأجدع ، فقال عمر : الأجدع شيطان ، أنت مسروق بن عبد الرحمن (٢).

روى عن الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وغيرهم.

وكان أعلم أصحاب ابن مسعود ، وأكثرهم أخذا منه ، قال عليّ بن المدينيّ : ما أقدّم على مسروق أحدا من أصحاب عبد الله ، يعني : ابن مسعود.

وقال الشّعبيّ : ما رأيت أطلب للعلم منه.

وقد وثّقه علماء الجرح والتّعديل ؛ فقال ابن معين :

ثقة ، لا يسأل عن مثله ، وقال ابن سعد : «كان ثقة ، وله أحاديث صالحة» ، وقد أخرج له الستة.

توفّي ـ رضي الله عنه ـ سنة ثلاث وستّين من الهجرة ؛ على الأشهر (٣).

٣ ـ عامر الشّعبيّ :

هو : عامر بن شراحيل الشّعبيّ ، الحميريّ ، الكوفيّ ، التّابعيّ الجليل أبو عمرو.

قاضي الكوفة (٤).

__________________

(١) راجع المصدرين السابقين.

(٢) «تهذيب التهذيب» ١٠ / ١٠٩ ـ ١١١ ، «التفسير والمفسرون» ١ / ١٢١ ، ١٢٢ ، «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٩.

(٣) «تهذيب التهذيب» ١٠ / ١٠٩ ـ ١١١ ، «التفسير والمفسرون» ١ / ١٢١ ، ١٢٢ ، «الإسرائيليات والموضوعات» ٩٩.

(٤) «تهذيب التهذيب» ٥ / ٦٥ ـ ٦٩ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٧٧

كان علّامة أهل الكوفة ، إماما حافظا ، ذا فنون.

وقد أدرك خلقا من الصحابة وروى عنهم ، ومنهم : عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وإن لم يسمع منهم ، وروى عن أبي هريرة ، وعائشة ، وابن عبّاس ، وأبي موسى الأشعريّ ، وغيرهم.

قال الشّعبيّ : أدركت خمسمائة من الصحابة.

والشّعبيّ ثقة ، فهو عند أصحاب الكتب السّتّة ، وقال ابن حبّان في الثقات : كان فقيها شاعرا.

وعن سليمان بن أبي مجلز قال : ما رأيت أحدا أفقه من الشّعبيّ ، لا سعيد بن المسيّب ، ولا طاوس ، ولا عطاء ، ولا الحسن ، ولا ابن سيرين.

وقال ابن سيرين :

قدمت الكوفة ، وللشّعبيّ حلقة ، وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ كثير (١).

ومع أنه قد أوتي هذا الحظّ الوافر من العلم ، لم يكن جريئا على كتاب الله ؛ حتّى يقول فيه برأيه ؛ قال ابن عطية (٢) :

كان جلّة من السلف كسعيد بن المسيّب ، وعامر الشّعبيّ يعظّمون تفسير القرآن ، ويتوقّفون عنه ؛ تورّعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم وتقدّمهم.

توفّي سنة أربع ومائة من الهجرة (٣) ، وقيل : سنة تسع ومائة.

٤ ـ الحسن البصريّ :

هو : الحسن بن أبي الحسن يسار البصريّ ، أبو سعيد ، مولى الأنصار ، وأمّه خيرة مولاة أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ربّي في حجرها ، وأرضعته بلبانها ، فعادت عليه بركة النّبوّة (٤).

__________________

(١) راجع لهذه الأقوال : «تهذيب التهذيب» ، «البداية والنهاية» ، و «التفسير والمفسرون».

(٢) «مقدمة تفسير القرطبي» ١ / ٣٤.

(٣) «البداية والنهاية» ٩ / ٢٣٩.

(٤) «تهذيب التهذيب» ٢ / ٢٦٣ ـ ٢٧٠ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٢٨٠ ، «الحسن البصري» للإمام أبي الفرج بن الجوزي ـ هدية مجلة الأزهر / محرم ١٤٠٨ ه‍.

٧٨

ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطّاب.

وهو أحد كبار التابعين الأجلّاء علما وعملا وإخلاصا ، شهد له بالعلم خلق كثير.

قال أنس بن مالك :

«سلوا الحسن ؛ فإنّه حفظ ونسينا» ، وقال سليمان التّيميّ : «الحسن شيخ أهل البصرة» ، وروى أبو عوانة عن قتادة أنه قال :

«ما جالست فقيها قطّ إلّا رأيت فضل الحسن عليه».

وكان أبو جعفر الباقر يقول عنه : «ذلك الّذي يشبه كلامه كلام الأنبياء» (١).

وقد التزم الحسن البصريّ بمنهجه السّلفيّ في تفسير الآيات المتعلّقة بالله وصفاته ، ولم يمنعه هذا الالتزام من حرّيّة العقل حين تعرّض لغيرها ؛ يقول في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] ، قدّر الله لكلّ شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له ، وهذه هي عقيدة السّلف التي بنوها على ما تعلّق بالآية من سبب لنزولها ، فعن أبي هريرة قال :

جاءت مشركو قريش إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] (٢).

وكان الحسن يعمل عقله وفكره في فهم القرآن وتفسيره ؛ يقول في قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] :

«إنّ الله لم يجعل لأهل النّار مدّة ، بل قال : لابثين فيها أحقابا ، فو الله ، ما هو إلّا أنّه إذا مضى حقب دخل آخر ثمّ آخر إلى الأبد ، فليس للأحقاب عدّة إلّا الخلود» (٣).

وتوفّي ـ رحمه‌الله ـ سنة عشر ومائة من الهجرة عن ثمان وثمانين سنة.

٥ ـ قتادة :

هو : قتادة بن دعامة السّدوسيّ : الأكمه ، أبو الخطّاب ، عربيّ الأصل ، كان يسكن البصرة.

__________________

(١) «تهذيب التهذيب» ٢ / ٢٦٣.

(٢) «البغوي الفراء» ٢٢١.

(٣) «البغوي الفراء» ٢٢٢.

٧٩

أحد علماء التّابعين ، والأئمّة العاملين ، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين ، منهم : سعيد بن المسيّب ، وأبو العالية ، وزرارة بن أوفى ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن سيرين ، ومسروق ، وأبو مجلز ، وغيرهم (١).

وحدّث عنه جماعات من الكبار ؛ كالأعمش ، وشعبة ، والأوزاعيّ ، وغيرهم.

وكان قويّ الحافظة ، واسع الاطّلاع في الشّعر العربيّ ، بصيرا بأيّام العرب.

كان قتادة على مبلغ عظيم من العلم ، فضلا عما اشتهر به من معرفته لتفسير كتاب الله تعالى ، وقد شهد له بذلك كبار التّابعين والعلماء.

قال فيه سعيد بن المسيّب : «ما أتاني عراقيّ أحسن من قتادة».

وقد استخدم قتادة معرفته باللّغة العربية في التفسير ، وأعمل فكره في تفهّم الآيات ، بجانب روايته عن السّلف.

وقد توفّي ـ رضي الله عنه ـ سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة ، عن ستّ وخمسين سنة ؛ على المشهور ، وقيل : سنة خمس عشرة ومائة (٢).

وبعد :

فهذه هي مدارس التفسير المشهورة في عصر التابعين ، الذين تلقّوا غالب أقوالهم في التفسير عن الصحابة ، وبعضهم استعان بأهل الكتاب ، ثم اجتهدوا مستعينين على ذلك بما بلغوا من العلم ودقّة الفهم ، وقرب عهدهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعرب الخلّص ، فلم تفسد سليقتهم.

وهناك مدارس أخرى غير هذه المدارس الثّلاث ، ولكنّها لم ترق لشهرة هذه الثلاث ، ومن هذه : مدرسة مصر التي اشتهر من شيوخها :

يزيد بن حبيب الأزديّ ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله ، وغيرهما.

ومدرسة اليمن التي أرسى دعائمها طاوس بن كيسان ، وكان من أشهر شيوخها : وهب بن منبّه الصّنعانيّ.

__________________

(١) «وفيات الأعيان» ٢ / ١٧٩ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٣٢٦ ، «تهذيب التهذيب» ٨ / ٣٥١.

(٢) راجع : «تهذيب التهذيب» ٨ / ٣٥١ ـ ٣٥٦ ، «البداية والنهاية» ٩ / ٣٢٥ ، ٣٢٦.

٨٠