تفسير الثعالبي - ج ١

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ١

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

تفسير فاتحة الكتاب

بِحَوْلِ اللَّه تَعالى‏ وَقُوَّتِهِ

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

قال ابن عبّاس وغيره : إنها مكية (١) ؛ ويؤيد هذا أن في سورة الحجر : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [الحجر : ٨٧] ، والحجر مكية بإجماع ، وفي حديث أبي بن كعب أنّها السبع المثاني (٢).

ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وروي عن عطاء بن يسار (٣) وغيره ؛ ........

__________________

(١) ذكره السمرقندي في «تفسيره» (١ / ٧٨) ، وابن كثير (١ / ٨) عن ابن عباس ، وقتادة ، وأبي العالية. والسيوطي في «الدر» (١ / ١٩ ـ ٢٠) عن علي وقتادة. وقال الحافظ في «الفتح» (٨ / ٩) : إن الفاتحة مكية ، وهو قول الجمهور.

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩٧) ، كتاب «تفسير القرآن» ، باب سورة الحجر ، حديث (٣١٢٥) ، (٥ / ١٥٥) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب ، حديث (٢٨٧٥) ، والنسائي (٢ / ١٣٩) ، كتاب «الافتتاح» ، باب تأويل قول الله (عزوجل) : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ، حديث (٩١٤) ، وفي «التفسير» (١ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤) ، رقم (٢٢٥) ، والطبري في «تفسيره» (٩ / ١٤٢) ، وأحمد (٢ / ٤١٢ ـ ٤١٣) ، والدارمي (٢ / ٤٤٦) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (٥ / ١١٤) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص ٨٦) ، رقم (١٦٥) ، وأبو يعلى (١١ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨) ، رقم (٦٤٨٢) ، وابن خزيمة (١ / ٢٥٢) ، رقم (٥٠٠ ، ٥٠١) ، وابن حبان (٣ / ٥٣) ، رقم (٧٧٥ ـ الإحسان) ، والحاكم (١ / ٥٥٧) ، والبيهقي (٢ / ٣٧٥ ـ ٣٧٦) ، كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بن كعب به.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢١) وزاد نسبته إلى أبي عبيد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبي ذر الهروي في «فضائل القرآن».

(٣) عطاء بن يسار الهلالي ، أبو محمد المدني ، أحد الأعلام. عن مولاته ميمونة ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وأبي ذرّ وخلق. وعنه أبو سلمة ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأبو جعفر الباقر ، وعمرو بن دينار ، وخلق. قال النسائي : ثقة. قال الهيثم بن عديّ : توفي سنة سبع وتسعين. وقال عمرو بن علي : سنة.

١٦١

أنها مدنية (١) ، وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب ، واختلف ، هل يقال لها أم الكتاب؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن ، وأجازه ابن عبّاس وغيره (٢).

وفي تسميتها ب «أمّ الكتاب» حديث رواه أبو هريرة (٣) ، واختلف هل يقال لها : «أمّ القرآن»؟ فكره ذلك ابن سيرين (٤) ، وجوزه جمهور العلماء.

وسميت «المثاني» ؛ لأنها تثنّى في كل ركعة (٥) ؛ وقيل : لأنها استثنيت لهذه الأمة.

وأما فضل هذه السورة ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبيّ بن كعب ؛ أنّها لم ينزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الفرقان مثلها (٦) ، وروي أنها تعدل ثلثي القرآن ، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني ، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل ؛ وكذلك يجيء عدل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وعدل : (إِذا زُلْزِلَتِ) [الزلزلة : ١] وغيره.

__________________

ـ ثلاث ومائة.

ينظر : «تهذيب الكمال» (٢ / ٩٣٨) ، و «تهذيب التهذيب» (٧ / ٣١٧) ، و «تقريب التهذيب» (٢ / ٢٣) ، و «سير الأعلام» (٤ / ٤٤٨)

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٣٧) ، والماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٥) ، والسيوطي في «الدر» (١ / ٢٠) ، وعزاه لوكيع في «تفسيره». كلهم عن مجاهد. وابن كثير (١ / ٨) عن أبي هريرة ، ومجاهد ، وعطاء بن يسار ، والزهري. وقال ابن كثير : والأولى أشبه «أي أنها مكية» ، لقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) والله تعالى أعلم.

(٢) أخرجه البخاري معلقا (٨ / ٦). وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٦) ، وابن كثير (١ / ٨). وقال الحافظ في «الفتح» (٨ / ٦) : ويأتي في تفسير «الحجر» حديث أبي هريرة مرفوعا : «أم القرآن هي السبع المثاني» ولا فرق بين تسميتها بأم القرآن ، وأم الكتاب ، ولعل الذي كره ذلك وقف عند لفظ «الأم».

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩٧) ، كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة الحجر ، حديث (٣١٢٤) ، وأبو داود (١ / ٤٦١) ، كتاب «الصلاة» ، باب فاتحة الكتاب ، حديث (١٤٥٧) من طريق ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله أم القرآن ، وأم الكتاب والسبع المثاني». وأخرجه البخاري (٨ / ٢٣٢) بلفظ : «أم القرآن هي السبع ، والقرآن العظيم».

وأخرجه البغوي في «شرح السنة» (٣ / ١٣ ـ بتحقيقنا) ، وقال : هذا حديث صحيح ، وأراد بأم القرآن فاتحة الكتاب ، وسميت بأم القرآن ؛ لأنها أصل القرآن ، وأم كل شيء أصله ، وسميت مكة أم القرى كأنها أصلها ومعظمها ، وقيل : سميت أم القرآن ، لأنها تتقدم القرآن ، وكل من تقدم شيئا فقد أمه».

(٤) ينظر : الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤٦) ، وابن كثير (١ / ٨) ، والحافظ في «الفتح» (٨ / ٦) ، والسيوطي في «الدر» (١ / ٢٠) ، وعزاه لابن ضريس في «فضائل القرآن».

(٥) ينظر : «تفسير الطبري» (١ / ١٠٣) طبعة أحمد شاكر.

(٦) تقدم تخريجه قريبا.

١٦٢

* ت* : ونحو حديث أبيّ حديث أبي سعيد بن المعلّى (١) ؛ إذ قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ هي السّبع المثاني ، والقرآن العظيم الّذي أوتيته». رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائيّ ، وابن ماجة. انتهى من «سلاح المؤمن» تأليف الشيخ المحدّث أبي الفتح تقي الدّين محمّد بن علي بن همام (٢) ـ رحمه‌الله ـ.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣)

الحمد : معناه الثناء الكامل ، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد ، وهو أعم من الشكر ؛ لأنّ الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر ، والحمد المجرّد هو ثناء بصفات المحمود.

قال* ص (٣) * : وهل الحمد بمعنى الشكر أو الحمد أعمّ ، أو الشكر ثناء على الله بأفعاله ، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثة أقوال. انتهى.

قال الطبريّ (٤) : الحمد لله : ثناء أثنى به على نفسه تعالى ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ؛ فكأنه قال : قولوا : الحمد لله / ، وعلى هذا يجيء : قولوا : (إِيَّاكَ) ، و (اهْدِنَا).

__________________

(١) أبو سعيد بن المعلّى بن لوذان بن حبيب بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن مالك بن زيد مناة الأنصاري ، اسمه رافع ، له أحاديث ، انفرد له البخاري بحديث. وعنه حفص بن عاصم. قال الزيادي : مات سنة ثلاث وسبعين.

ينظر : «الخلاصة» (٣ / ٢١٩) ، و «تهذيب التهذيب» (١٢ / ١٠٧) ، و «التاريخ الكبير» (٩ / ٣٤)

(٢) «سلاح المؤمن» لتقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن علي بن همام ، المصري ، الشافعي ، المتوفى سنة خمس وأربعين وسبعمائة. اشتهر في حياته بالغرناطي. أوله : الحمد لله المنعم على خلقه بجميع آلائه. إلخ ، بوبه على واحد وعشرين بابا ، وقد اختصره الذهبي محمد بن أحمد الحافظ المتوفى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ينظر : «كشف الظنون» (٢ / ٩٩٤ ، ٩٩٥)

(٣) «المجيد» ص ٥٠.

(٤) «تفسير الطبري» (١ / ١٣٩ ـ ١٤٠) ، وقد استدل أبو جعفر على حذف ما تعرفه العرب في أحاديثها بقول الشاعر : [الوافر]

واعلم أنني سأكون رمسا

إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم؟

فقال المخبرون لهم : وزير

ثم قال : يريد بذلك ، فقال المخبرون لهم : الميت وزير ، فأسقط الميت ؛ إذ كان قد أتى من الكلام بما دل على ذلك ...».

١٦٣

قال : وهذا من حذف العرب ما يدلّ ظاهر الكلام عليه ، وهو كثير.

والرب ؛ في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها ، فالرب على الإطلاق هو ربّ الأرباب على كل جهة ، وهو الله تعالى.

والعالمون : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، يقال لجملته : عالم ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم ، عالم ، وبحسب ذلك يجمع على العالمين ، ومن حيث عالم الزمان متبدّل في زمان آخر ، حسن جمعها ، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه ، وهو مأخوذ من العلم والعلامة ؛ لأنه يدل على موجده ؛ كذا قال الزّجّاج (١) ، قال أبو حيّان (٢) : الألف واللام في العالمين للاستغراق ، وهو جمع سلامة ، مفرده عالم ، اسم جمع ، وقياسه ألا يجمع ، وشذّ جمعه أيضا جمع سلامة ؛ لأنه ليس بعلم ولا صفة.

* م* : وذهب ابن مالك (٣) في «شرح التّسهيل» إلى أن «عالمين» اسم جمع لمن يعقل ، وليس جمع عالم ؛ لأن العالم عامّ ، و «عالمين» خاصّ ، قلت : وفيه نظر. انتهى.

وقد تقدّم القول في الرحمن الرحيم.

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٥)

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : الدّين في كلام العرب على أنحاء ، وهو هنا الجزاء يوم الدين ، أي : يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها ؛ قاله ابن عباس (٤) وغيره ؛ مدينين : محاسبين (٥) ، وحكى أهل اللغة : دنته بفعله دينا ؛ بفتح الدال ، ودينا ؛ بكسرها : جزيته ؛

__________________

(١) «معاني القرآن وإعرابه» لأبي إسحاق الزجاج (١ / ٤٦)

(٢) «البحر المحيط» (١ / ١٣٢) ، وينظر «المجيد» ص (٥٣)

(٣) محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجيّاني ، أبو عبد الله ، جمال الدين ، أحد الأئمة في علوم العربية. ولد في حيان ب «الأندلس» سنة ٦٠٠ ه‍. وانتقل إلى دمشق ، فتوفي فيها سنة (٦٧٢) ه. من كتبه : «الألفية» وهو أشهرها في النحو ، و «تسهيل الفوائد» في النحو أيضا ، وكذلك «الكافية الشافية» أرجوزة في نحو ثلاثة آلاف بيت ، و «إيجاز التعريف» في الصرف ، و «العروض».

ينظر : «الأعلام» (٦ / ٢٣٣) ، «بغية الوعاة» (٥٣) ، «آداب اللغة» (٣ / ١٤٠) ، و «طبقات السبكي» (٥ / ٢٨)

(٤) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٩٢) (٢٥٨٨٩) ، وذكره السيوطي في «الدر» (٥ / ٦٥) عن ابن عباس ، والقرطبي (١ / ١٢٥)

(٥) أخرجه ابن جرير (١٠ / ٤٩١) برقم (٢٩٣٨٣) ، عن قتادة ، و (١٠ / ٤٩١) رقم (٢٩٣٨٤) ، عن السدي.

وذكره السيوطي في «الدر» (٥ / ٥١٩) ، والقرطبي (١ / ١٢٥)

١٦٤

ومنه قول الشاعر : [الكامل]

واعلم يقينا أنّ ملكك زائل

واعلم بأنّ كما تدين تدان (١)

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : نطق المؤمن به إقرار بالربوبية ، وتذلّل وتحقيق لعبادة الله ؛ وقدّم «إيّاك» على الفعل اهتماما ، وشأن العرب تقديم الأهمّ ، واختلف النحويّون في «إياك» (٢) ، فقال الخليل (٣) : «إيّا» : اسم مضمر أضيف إلى ما بعده ؛ للبيان لا للتعريف ، وحكى عن العرب : «إذا بلغ الرّجل السّتّين ، فإيّاه وإيّا الشّوابّ» ، وقال المبرّد : إيّا : اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، وحكى ابن كيسان (٤) عن بعض الكوفيّين أنّ «إيّاك» بكماله اسم

__________________

(١) ينظر : «مجاز القرآن» (١ / ٢٣) ، «الكامل» (١ / ٤٢٦) ، «إعراب ثلاثين سورة» لابن خالويه (٢٤١) ، «الجمهرة» (٢ / ٣٠٦) ، «الخزانة» (٤ / ٢٣٠) ، «جمهرة الأمثال» للعسكري (١٦٩) ، «المخصص» (١٧ / ١٥٥) ، «تفسير الطبري» (١ / ١٥٥) ، «القرطبي» (١ / ١٠١) ، «الدر المصون» (١ / ٧٢) ، «اللسان والتاج» (دين).

(٢) اختلف النحويون في «ايا» هل هو من قبيل الأسماء الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهور على أنه مضمر ، وقال الزجاج : هو اسم ظاهر. وقال ابن درستويه. إنه بين الظاهر والمضمر. وقال الكوفيون : مجموع «ايا» ولواحقها هو الضمير. والقائلون بأنه ضمير اختلفوا فيه على أربعة أقوال :

أحدها : أنه كله ضمير.

والثاني : أن «ايا» وحده ضميره ، وما بعده اسم مضاف إليه يبين ما يراد به من تكلم ، وغيبة ، وخطاب.

والثالث : أن «ايا» عماد ، وما بعده هو الضمير ، وشذت إضافته إلى الظاهر في قولهم : «إذا بلغ الرجل الستين ، فإياه وايا الشواب» بإضافة «ايا» إلى الشواب. وهذا يؤيد قول من جعل الكاف والهاء والياء في محل جر إذا قلت : إياك ، إياه ، إياي.

ينظر : «الدر المصون» (١ / ٧٣) ، و «همع الهوامع» (١ / ٦١) ، و «الكتاب» (٢ / ٣٥٥) ، و «شرح الكافية» (٢ / ١٢) ، و «سر صناعة الإعراب» (١ / ٣١١) ، و «شرح المفصل» (٣ / ٩٨) ، و «الإنصاف» (٢ / ٦٩٥)

(٣) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم ، الفراهيدي ، الأزدي ، اليحمدي ، أبو عبد الرحمن ، ولد سنة (١٠٠) ه. في البصرة. من أئمة اللغة والأدب ، وواضع علم العروض ، وهو أستاذ سيبويه النحوي ، عاش فقيرا صابرا. قال النضر بن شميل : ما رأى الراءون مثل الخليل ، ولا رأى الخليل مثل نفسه. فكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة ؛ فدخل المسجد وهو يعمل فكره ؛ فصدمته سارية وهو غافل ، فكانت سبب موته سنة (١٧٠) ه. ب «البصرة». من كتبه «العين» ، و «معاني الحروف» ، و «العروض» ، و «النغم».

ينظر : «وفيات الأعيان» (١ / ١٧٢) ، «إنباه الرواة» (١ / ٣٤١) ، «نزهة الجليس» (١ / ٨٠) ، «الأعلام» (٢ / ٣١٤)

(٤) محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أبو الحسن المعروف ب «ابن كيسان» : عالم بالعربية من أهل «بغداد» ، أخذ عن المبرد وثعلب ، من كتبه «المهذب» في النحو ، «غريب الحديث» ، «معاني القرآن» ، «المختار في علل النحو» توفي من (٢٩٩) ه.

ينظر : «إرشاد الأريب» (٦ / ٢٨٠) ، «معجم المطبوعات» (٢٢٩). «نزهة الألباء» (٣٠١) ، «شذرات الذهب» (٢ / ٢٣٢) ، «كشف الظنون» (١٧٠٣) ، «مصابيح الكتاب» ، «الأعلام» (٥ / ٣٠٨)

١٦٥

مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغيّر آخره غيره ، وحكي عن بعضهم أنه قال : الكاف والهاء والياء هو الاسم المضمر ، لكنها لا تقوم بأنفسها ، ولا تكون إلا متصلات ، فإذا تقدّمت الأفعال جعل «إيّا» عمادا لها ، فيقال : إيّاك ، وإيّاه ، وإيّاي ، فإذا تأخرت ، اتصلت بالأفعال ، واستغني عن «إيّا».

و (نَعْبُدُ) : معناه : نقيم الشرع والأوامر مع تذلّل واستكانة ، والطريق المذلّل يقال له معبّد ، وكذلك البعير.

و (نَسْتَعِينُ) ؛ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا ، وهذا كله تبرّ من الأصنام.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)(٧)

وقوله تعالى : (اهْدِنَا) : رغبة ؛ لأنها من المربوب إلى الرب ، وهكذا صيغ الأمر كلها ، فإذا كانت من الأعلى ، فهي أمر.

والهداية ؛ في اللغة : الإرشاد ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسّرون بغير لفظ الإرشاد وكلها إذا تأملت راجعة إلى الإرشاد ، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] و (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النور : ٤٦] ، و (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦](فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) [الأنعام : ١٢٥] الآية ، قال أبو المعالي (١) : فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب ، وهو محض الإرشاد (٢).

٨ أوقد جاء الهدى بمعنى الدعاء ؛ كقوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] أي : داع / (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢].

__________________

(١) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد ، العلامة إمام الحرمين ، أبو المعالي بن أبي محمد الجويني ، ولد سنة (٤١٩) ، وتفقه على والده ، وقعد للتدريس بعده ، وحصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الأسفراييني الإسكاف ، وصار إماما ، حضر درسه الأكابر ، وتفقه به جماعة من الأئمة. قال السمعاني : كان إمام الأئمة على الإطلاق ، ومن تصانيفه : النهاية والغياثي والإرشاد ، وغيرهما. مات سنة (٤٧٨).

انظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ٢٥٥) ، «طبقات السبكي» (٣ / ٢٤٩) ، «وفيات الأعيان» (٢ / ٣٤١) ، و «الأنساب» (٣ / ٤٣٠) ، «شذرات الذهب» (٣ / ٣٥٨) ، «النجوم الزاهرة» (٥ / ١٢١) ، و «معجم البلدان» (٢ / ١٩٣)

(٢) ينظر : ص ٤٨٦.

١٦٦

وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام ؛ من ذلك قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

قال المفسّرون : ألهم الحيوانات كلّها إلى منافعها.

وقد جاء الهدى بمعنى البيان ؛ من ذلك قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت : ١٧] قال المفسّرون : معناه : بيّنّا لهم.

قال أبو المعالي (١) : معناه : دعوناهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [الليل : ١٢] ، أي : علينا أن نبيّن.

وفي هذا كله معنى الإرشاد.

قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية ، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ؛ كقوله تعالى في صفة المجاهدين : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٤ ـ ٥] ومنه قوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] ، معناه : فاسلكوهم إليها.

قال* ع (٢) * : وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا ، وهي ضدّ الضلال ، وهي الواقعة في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ؛ على صحيح التأويلات ، وذلك بيّن من لفظ «الصّراط» والصراط ؛ في اللغة : الطريق الواضح ؛ ومن ذلك قول جرير (٣) : [الوافر]

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم (٤)

__________________

(١) ينظر : «الإرشاد» ص (١٩٠) ، و «المحرر الوجيز» (١ / ٧٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٧٣).

(٣) جرير بن عطية بن حذيفة الخطفى بن بدر الكلبي ، اليربوعي ، من تميم أشعر أهل عصره ، ولد سنة (٢٨) ه. ومات سنة ١١٠ ه‍. في «اليمامة». وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم ، وكان هجاءا مرّا ، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل ، وكان عفيفا ، وهو من أغزل الناس شعرا.

ينظر : «الأعلام» (٢ / ١٩) ، «وفيات الأعيان» (١ / ١٠٢) ، «الشعر والشعراء» (١٧٩) ، و «خزانة الأدب» (١ / ٣٦).

(٤) البيت في مدح هشام بن عبد الملك ، ينظر : ديوانه (٥٠٧) ، «شرح الديوان» لمحمد بن حبيب (١ / ٢١٨) ، «المحتسب» (١ / ٤٣) ، «مجاز القرآن» (١ / ٢٤) ، «تفسير الطبري» (١ / ٥٦) ، «تفسير القرطبي» (١ / ١٠٣) ، «اللسان» (سرط) ، «الجمهرة» (٢ / ٣٣٠) ، «الدر المصون» (١ / ٧٨).

والموارد : الطرق ، واحدها موردة.

١٦٧

واختلف المفسّرون في المعنى الذي استعير له «الصّراط» في هذا الموضع : فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصراط المستقيم هنا القرآن (١) ، وقال جابر : هو الإسلام ، يعني الحنيفيّة (٢).

وقال محمّد بن الحنفيّة (٣) : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره (٤).

وقال أبو العالية : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر ، أي : الصراط المستقيم طريق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر (٥) ، وهذا قويّ في المعنى ، إلّا أنّ تسمية أشخاصهم طريقا فيه تجوّز ، ويجتمع من هذه الأقوال كلّها أنّ الدعوة هي أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته ، وفي التزامه لأحكام شرعه ، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام ؛ وهو حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه.

وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون ، وعندهم المعتقدات ، وعند كل واحد بعض الأعمال ، فمعنى قوله : (اهْدِنَا) فيما هو حاصل عندهم : التثبيت والدوام ، وفيما ليس بحاصل ، إما من جهة الجهل به ، أو التقصير في المحافظة عليه : طلب الإرشاد إليه ، فكلّ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (١ / ١٧٣) (١٧٦) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٥٩) ، والبغوي في «تفسيره» (١ / ٤١) ، عن علي مرفوعا ، وابن كثير (١ / ٢٧) ، عن علي موقوفا عليه.

وقال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري : والإسناد إلى علي بن أبي طالب فيه انهيار.

(٢) أخرجه ابن جرير (١٧٨) ، وصححه الحاكم (٢ / ٢٥٩) ، ووافقه الذهبي. وذكره الماوردي في تفسيره (١ / ٥٩) ، والبغوي (١ / ٤١) ، وابن كثير (١ / ٢٧) ، قال : صحيح ، وذكره السيوطي في «الدر» (١ / ٤٠) وعزاه لوكيع ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن جرير ، والمحاملي في «أماليه» ، والحاكم. وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح.

(٣) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو محمد ، الإمام المعروف ب «ابن الحنفية» أمه خولة بنت جعفر الحنفية ، نسب إليها. عن أبيه ، وعثمان ، وغيرهما. وعنه بنوه : إبراهيم ، وعبد الله ، والحسن ، وعمرو بن دينار ، وخلق. قال إبراهيم بن الجنيد : لا نعلم أحدا أسند عن علي أكثر ولا أصح مما أسند محمد بن الحنفية. قال أبو نعيم : مات سنة ثمانين.

ينظر : «الخلاصة» (٢ / ٤٤٠) ، و «تهذيب التهذيب» (٩ / ٣٥٤) ، و «الكاشف» (٣ / ٨٠) ، و «الثقات» (٥ / ٣٤٧)

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (ص ٥٩) ، وابن كثير (ص ٢٧) ، وقال : صحيح.

(٥) أخرجه ابن جرير (١ / ١٠٥) برقم (١٨٤) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٥٩) ، والبغوي (١ / ٤١) ، وابن كثير (١ / ص ٢٧ ، ٢٨) ، وقال : صحيح. وذكره السيوطي في «الدر» (١ / ٤١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جريج ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن عساكر. ورواه الحاكم في «المستدرك» ، عن ابن عباس ، وقال : صحيح. ووافقه الذهبي.

١٦٨

داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله ، وأفعاله ، ومعتقداته ؛ واختلف في المشار إليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم ، وقول ابن عبّاس ، وجمهور من المفسّرين : أنه أراد صراط النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ...) الآية [النساء : ٦٦] إلى قوله : (رَفِيقاً) (١).

وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، اعلم أنّ حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكّرت «غير» و «مثل» (٢) مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، وذلك إذا قلت : رأيت غيرك ، فكلّ شيء سوى المخاطب ، فهو غيره ؛ وكذلك إن قلت : رأيت مثلك ، فما هو مثله لا يحصى ؛ لكثرة وجوه المماثلة.

و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) : اليهود ، والضالّون : النصارى ؛ قاله ابن مسعود ، وابن عبّاس ، مجاهد ، والسّدّيّ ، وابن زيد (٣).

وروى ذلك عديّ بن حاتم (٤) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) ، وذلك بيّن من كتاب الله ؛ لأنّ ذكر

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (١ / ١٠٦) برقم (١٨٨) ، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري (١ / ١٧٨) (١٨٨) : في إسناده ضعف. وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١ / ٧٥) ، والسيوطي في «الدر» (١ / ٤٢).

(٢) هذا يكون في الإضافة المحضة المعنوية لا الإضافة غير المحضة اللفظية.

(٣) أخرجه الطبري (١ / ١١١ ـ ١١٤) بأرقام (٢٠٠ ـ ٢٠١ ـ ٢٠٢ ـ ٢٠٥ ـ ٢١٤ ـ ٢١٩) عن ابن زيد ، ومجاهد ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (١ / ٧٧) ، والسيوطي في «الدر» (١ / ٤٢ ـ ٤٣).

وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني روى عن أبيه ، وعن وكيع وابن وهب ، وقتيبة ، وخلق. ضعّفه أحمد ، وابن المديني ، والنسائي ، وغيرهم. توفي سنة (١٨٢) ه.

ينظر : «الخلاصة» (٢ / ١٣٣) (٤٠٩٤) ، «الجرح والتعديل» (٢ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣) ، و «المغني» (٢ / ٣٨٠)

(٤) هو : عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعلب بن عمرو بن عوث بن طيّ ... وقيل في نسبه غير ذلك ، أبو الطريف. وقيل : أبو وهب ، الطائي.

وهو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بكرمه وجوده المثل ، وكان هو أيضا كريما جوادا ، وقد أسلم بعد أن كان نصرانيا. وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث كثيرة ، وثبت هو وقومه بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردت كثير من العرب ، فجاء إلى أبي بكر بصدقة قومه. وأخباره في الكلام كثيرة ، وسيرته بين الصحابة شهيرة. توفي سنة (٦٧) وقيل غير ذلك.

ينظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٤ / ٨) ، «الإصابة» (٤ / ٢٢٨) ، «الثقات» (١ / ٣١٦) ، «الاستيعاب» (١٠٥٧) ، «تجريد أسماء الصحابة» (١ / ٣٧٦) ، «الطبقات الكبرى» (١ / ٣٢٢) ، «التاريخ الكبير» (٧ / ٤٣) ، «التاريخ الصغير» (١ / ١٤٨) ، «الجرح والتعديل» (٧ / ٢)

(٥) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٠٤) ، كتاب «تفسير القرآن» ، باب ومن سورة فاتحة الكتاب ، حديث (٢٩٥٤). ـ

١٦٩

٨ ب غضب الله على اليهود متكرّر فيه ؛ كقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ / مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١١٢](قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ...) الآية [المائدة : ٦٠] وغضب الله تعالى ، عبارة عن إظهاره عليهم محنا وعقوبات وذلّة ، ونحو ذلك ممّا يدلّ على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكّدا مبالغا فيه ، والنصارى كان محقّقوهم على شرعة قبل ورود شرع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ورد ، ضلّوا ، وأما غير متحقّقيهم ، فضلالتهم متقرّرة منذ تفرّقت أقوالهم في عيسى عليه‌السلام ، وقد قال الله تعالى فيهم : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧].

وأجمع الناس على أنّ عدد آي سورة الحمد سبع آيات ؛ العالمين آية ، الرحيم آية ، الدين آية ، نستعين آية ، المستقيم آية ، أنعمت عليهم آية ، ولا الضالين آية ، وقد ذكرنا عند تفسير (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ؛ أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيف.

(القول في «آمين»)

روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا قال الإمام : (وَلَا الضَّالِّينَ) ؛ فقولوا «آمين» ، فإنّ الملائكة في السّماء تقول : «آمين» ، فمن وافق قوله قول الملائكة ، غفر له ما تقدّم من ذنبه» (١).

__________________

ـ وأحمد (٤ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩) ، وابن حبان (١٧١٥ ـ موارد) ، والطبراني في «الكبير» (١٧ / ٩٩ ـ ١٠٠) ، رقم (٢٣٧) ، والطبري في «تفسيره» (١ / ١٩٣ ـ شاكر) ، رقم (٢٠٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٣٤٠) ، كلهم من طريق سماك بن حرب ، عن عباد بن حبيش ، عن عدي بن حاتم به مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب ، وروى شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن عباد بن حبيش ، عن عدي بن حاتم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث بطوله.

وصححه ابن حبان.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم. وقد ورد هذا الحديث مرسلا.

أخرجه سعيد بن منصور (١٧٩) ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعدي بن حاتم : «المغضوب عليهم : اليهود ، والنصارى هم الضالون».

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣) ، وزاد نسبته إلى سفيان بن عيينة في «تفسيره». وللحديث طرق أخرى ضعيفة أخرجها الطبري في «تفسيره» (١ / ١٩٣).

وللحديث أيضا شاهد من حديث أبي ذر ، أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (١ / ٣٠). وحسنه الحافظ في «الفتح» (٨ / ٩) فقال : وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر.

(١) أخرجه مالك (١ / ٨٨) ، كتاب «الصلاة» ، باب التأمين خلف الإمام ، الحديث (٤٧) ، وأحمد (٢ / ٤٤٠) ، والبخاري (٢ / ٢٦٦) ، كتاب «الأذان» ، باب جهر المأموم بالتأمين ، الحديث (٧٨٢) ، ومسلم ـ

١٧٠

* ت* : وخرج مسلم وأبو داود والنسائيّ من طريق أبي موسى رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا صلّيتم فأقيموا صفوفكم ، ثمّ ليؤمّكم أحدكم ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقولوا : «آمين» ، يجبكم الله ...» الحديث (١). انتهى.

ومعنى «آمين» ؛ عند أكثر أهل العلم : اللهمّ ، استجب ، أو أجب (٢) يا ربّ.

ومقتضى الآثار أنّ كل داع ينبغي له في آخر دعائه أن يقول : «آمين» ، وكذلك كل

__________________

ـ (١ / ٣١٠) ، كتاب «الصلاة» ، باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير ، الحديث (٨٧ / ٤١٥) ، وأبو داود (١ / ٥٧٥) ، كتاب «الصلاة» ، باب التأمين وراء الإمام ، الحديث (٩٣٥) ، والنسائي (٢ / ١٤٤) ، كتاب «الافتتاح» ، باب الأمر بالتأمين خلف الإمام ، من حديث أبي صالح ، عن أبي هريرة به بزيادة : «فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».

وأخرجه عبد الرزاق (٢ / ٩٧) ، كتاب «الصلاة» ، باب آمين ، الحديث (٢٦٤٤) بزيادة ، فقال : ثنا معمر ، عن الزهري ، عن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قال الإمام : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، فقولوا : آمين ، فإن الملائكة يقولون : آمين ، وإن الإمام يقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».

وأخرجه أحمد (٢ / ٢٣٣) ، والنسائي (٢ / ١٤٤) ، كتاب «الافتتاح» ، باب جهر الإمام بآمين ، من طريق معمر به.

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٢٨٣ : ٢٨٦ ـ الأبي) ، كتاب «الصلاة» ، باب التشهد في الصلاة ، حديث (٦٢ / ٤٠٤) ، وأبو داود (١ / ٣١٩ ـ ٣٢٠) ، كتاب «الصلاة» ، باب التشهد ، حديث (٩٧٢) ، والنسائي (٢ / ١٩٦) ، كتاب «التطبيق» ، باب قوله ، ربنا لك الحمد ، حديث (١٠٦٤). وابن ماجة (١ / ٢٧٦) ، كتاب «الصلاة» ، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا ، حديث (٨٤٧) ، وأحمد (٤ / ٣٩٣ ، ٣٩٤ ، ٤٠١ ، ٤٠٥ ، ٤١٥) ، وابن خزيمة (١٥٨٤ ، ١٥٩٣) ، والبيهقي (٢ / ٩٦) ، كلهم من طريق حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا.

(٢) «آمين» ليست من القرآن إجماعا ، ومعناها : استجب ، فهي اسم فعل مبني على الفتح. وقيل : ليس اسم فعل ، بل هو من أسماء الباري تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وقد ضعف أبو البقاء هذا القول بوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبنى على الضم ؛ لأنه منادى مفرد معرفة.

والثاني : أن أسماء الله تعالى توقيفية.

وفي «آمين» لغتان : المد والقصر ، تقول العرب : آمين ، وأمين ، قال الشاعر : [الطويل]

تباعد عنّي فطحلّ إذ دعوته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وقال المجنون : [البسيط]

يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا

ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (١ / ٥٤) ، و «الوسيط» (١ / ٧٠) ، و «الدر المصون» (١ / ٨٦) ، و «الزاهر» (١ / ١٦١) ، و «غرائب النيسابوري» (١ / ٧٥) ، وابن كثير (١ / ٣١)

١٧١

قارئ للحمد في غير صلاة ، وأما في الصلاة ، فيقولها المأموم والفذّ ، وفي الإمام في الجهر اختلاف (١).

واختلف في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» ، فقيل : في الإجابة ، وقيل : في خلوص النية ، وقيل : في الوقت ، والذي يترجّح أنّ المعنى : فمن وافق في الوقت مع خلوص النية والإقبال على الرغبة إلى الله بقلب سليم فالإجابة تتبع حينئذ ؛ لأنّ من هذه حاله ، فهو على الصراط المستقيم.

وفي «صحيح مسلم» وغيره عن أبي هريرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله عزوجل : قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله ربّ العالمين ، قال الله ؛ حمدني عبدي ، فإذا قال : الرّحمن الرّحيم ، قال الله : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدّين ، قال : مجّدني عبدي ، فإذا قال : إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (٢) انتهى ، وعند مالك : «فهؤلاء لعبدي».

وأسند أبو بكر بن الخطيب (٣) عن نافع (٤) عن ابن عمر (٥) قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من

__________________

(١) ذهب جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الجهر بالتأمين ، وبه يقول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، قال عطاء : كنت أسمع الأئمة ـ وذكر ابن الزّبير ومن بعده ـ يقولون : آمين ، ويقول من خلفه : آمين ، حتى إنّ للمسجد للجّة.

ينظر : «شرح السنة» (٢ / ٢٠٨)

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي ، الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ، أحد حفاظ الحديث وضابطيه المتقنين. ولد سنة (٣٩٢) ، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري ، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر ابن الصباغ ، وشهرته في الحديث تغني عن الإطناب. قال ابن ماكولا : ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله. وقال الشيرازي : كان أبو بكر يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. مات (٤٦٣).

انظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ٢٤٠) ، «طبقات السبكي» (٣ / ١٢) ، «وفيات الأعيان» (١ / ٧٦)

(٤) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، أبو سهيل المدني عن ابن عمر ، وأنس. وعنه ابن أخيه مالك بن أنس ، والزهري. وثقه أبو حاتم وغيره. قال الواقدي : هلك في إمارة أبي العباس.

ينظر : «تاريخ الإسلام» (٥ / ٣٠٧) ، «الثقات» (٥ / ٤٧١) ، «تراجم الأحبار» (٤ / ١٣٩) ، «تاريخ أسماء الثقات» (١٤٧٣) ، «سير الأعلام» (٥ / ٢٨٣) ، «تهذيب الكمال» (٣ / ١٤٠٤) ، «تهذيب التهذيب» (١٠ / ٤٠٩) (٧٣٧) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (٣ / ٨٩) ، «الكاشف» (٣ / ١٩٧)

(٥) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن ـ

١٧٢

كان له إمام ، فقراءة الإمام له قراءة» انتهى من «تاريخ بغداد» ولم يذكر في سنده مطعنا.

وقال ابن العربيّ (١) في «أحكامه» (٢) : والصحيح عندي وجوب قراءتها على المأموم فيما أسر فيه ، وتحريمها فيما جهر فيه ، إذا سمع / الإمام لما عليه من وجوب الإنصات ٩ أوالاستماع ، فإن بعد عن الإمام ، فهو بمنزلة صلاة السرّ. انتهى.

نجز تفسير سورة الحمد ، والحمد لله بجميع محامده كلّها ؛ ما علمت منها ، وما لم أعلم.

__________________

ـ عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. أبو عبد الرحمن. القرشي ، العدوي. ولد سنة : (٣) من البعثة النبوية توفي سنة : (٨٤).

ينظر ترجمته في : «الإصابة» (٤ / ١٠٧) ، «أسد الغابة» (٣ / ٣٤٠) ، «الثقات» (٣ / ٢٠٩) ، «شذرات الذهب» (٢ / ١٥) ، «الجرح والتعديل» (٥ / ١٠٧) ، «سير أعلام النبلاء» (٣ / ٢٠٣) ، «تجريد أسماء الصحابة» (١ / ٣٢٥) ، «تقريب التهذيب» (١ / ٤٣٥) ، «تهذيب التهذيب» (٥ / ٣٢٨)

(١) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي ، أبو بكر بن العربي ، ولد (٤٦٨) ه. ، من حفاظ الحديث بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين ، صنف كتبا في الحديث ، والفقه ، والأصول ، والتفسير ، والأدب ، والتاريخ ، وولي قضاء إشبيلية ، من مؤلفاته «أحكام القرآن» و «المحصول» ، و «الناسخ والمنسوخ» ، وغيرها كثير ، توفي (٥٤٣) ه.

ينظر : «طبقات الحفاظ» للسيوطي ، «وفيات» (١ / ٤٨٩) ، «نفح الطيب» (١ / ٣٤٠) ، «قضاة الأندلس» (١٠٥) ، «جذوة الاقتباس» (٢١٦٠) ، «الأعلام» (٦ / ٢٣٠)

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (١ / ٥)

١٧٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

تفسير سورة البقرة (١)

هذه السورة مدنيّة نزلت في مدد شتّى ، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) هذه السورة مترامية أطرافها ، وأساليبها ذات أفنان ، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسان. وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها ، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها. وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام ، وسدى متين من فصاحة الكلمات. ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين : قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس ، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.

وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية وأساليب الكتب التشريعية وأساليب التذكير والموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين ، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده ، وانتظارهم لبيان مقصده ، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن ، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقعا على نفوسهم ، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] الآيات.

فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه ، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة ، وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي ، وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ـ ابتدئ بذكرهم ، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء ، والمنافقين ، لف الفريقان لفا واحدا ، فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ، ورد مطاعنهم ، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة ، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم ، فكان ذلك من رد العجز على الصدر ، فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا ، وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان ؛ فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم ، ومنّه على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى ، وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها ، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن ، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب ؛ لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل ـ

١٧٤

وهي : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

__________________

ـ العلم ، ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠] الآيات ، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم ، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر ، وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل وبيان أخطائهم ؛ لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم في تعلق الحياة (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] ومحاولة العمل بالسحر (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] إلخ ، وأذى النبي بموجبة الكلام (لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤].

ثم قرن اليهود والنصارى والمشركين في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ـ إلى قوله ـ (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١٠٥ ـ ١١٢] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى ، وادعاء كل فريق أنه هو المحق (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ـ إلى ـ (يَخْتَلِفُونَ) [البقرة : ١١٢] ثم خص المشركين بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة ؛ لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام ، وسمحوا بذلك في خرابه ، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.

والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم ، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد ، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم ، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ، ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية ، وذكر شعائر الله بمكة ، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة ، وإن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم ، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما. ثم عاد إلى محاجة المشركين بآثار صنعة الله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ) [البقرة : ١٦٤] إلخ ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم ، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل ، وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [البقرة : ٢٠٤].

ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧] ثم تفصيلا : القصاص ، الوصية ، الصيام ، الاعتكاف ، الحج ، الجهاد ، ونظام المعاشرة والعائلة والمعاملات المالية ، والإنفاق في سبيل الله والصدقات ، والمسكرات ، واليتامى ، والمواريث ، والبيوع ، والربا ، والديون ، والإشهاد ، والرهن ، والنكاح ، وأحكام النساء والعدة والطلاق ، والرضاع ، والنفقات ، والأيمان.

وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية ، وذلك من جوامع الكلم ؛ فكان هذا الختام تذليلا وفذلكة : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) [البقرة : ٢٨٤] الآيات.

وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سيقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات ؛ تجديدا ـ

١٧٥

[البقرة : ٢٨١] ، ويقال لسورة البقرة : «فسطاط القرآن» ، وذلك لعظمها وبهائها ، وما تضمّنت من الأحكام والمواعظ ، وفيها خمسمائة حكم ، وخمسة عشر مثلا ، وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل ، وأعطيت طه والطّواسين (١) من ألواح موسى (٢) ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش» (٣).

* ت* : وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحديث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد العظيمة.

خرّج الحاكم أبو عبد الله (٤) في «المستدرك على الصحيحين»

__________________

ـ لنشاط القارئ والسامع كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع ، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع ـ من تمجيد الله وصفاته (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥] ورحمته ، وسماحة الإسلام ، وضرب أمثال (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] واستحضار نظائر (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) [البقرة : ٧٤](أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] ، وعلم ، وحكمة ، ومعاني الإيمان والإسلام ، وتثبيت المسلمين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) [البقرة : ١٥٣] والكمالات الأصلية ، والمزايا التحسينية ، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها ، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩](لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) [البقرة : ١٧٧](وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] والنظر والاستدلال ، ونظام المحاجة ، وأخبار الأمم الماضية والرسل وتفاضلهم ، واختلاف الشرائع.

ينظر : «التحرير» (١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٦)

(١) وهي السور المبدوءة ب «طس» أو «طسم».

(٢) «موسى» اسم عبراني معرب عن «موشى» ، «مو» بالعبرانية : الماء ، و «شى» الشجر ، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر. وهو اسم نبي بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام ، وهو علم أعجمي لا يقضى عليه بالاشتقاق ، وإنما يشتق «موسى الحديد». ينظر : «التبيان» (١ / ٦٣).

وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل.

«الكامل» لابن الأثير (١ / ١٦٩)

(٣) أخرجه الحاكم (١ / ٥٦١) ، (٢ / ٢٥٩) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٨٥) ، رقم (٢٤٧٨) ، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد ، عن أبي المليح ، عن معقل بن يسار به مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وتعقبه الذهبي فقال : عبيد الله ، قال أحمد : تركوا حديثه.

(٤) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم ، الضبي ، الطهماني ، الحافظ أبو عبد الله ، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع ، صاحب «المستدرك» ، وغيره من الكتب المشهورة ، كان مولده سنة (٣٢١) ، ورحل في طلب الحديث ، وسمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين ، وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة وأبي الوليد النيسابوري وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم ، أخذ عنه أبو بكر البيهقي وصنف المصنفات الكثيرة. مات سنة (٤٠٥). انظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ١٩٣) ، «لسان الميزان» (٥ / ٢٣٢)

١٧٦

عن معقل بن يسار (١) رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعملوا بالقرآن أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، واقتدوا به ، ولا تكفروا بشيء منه ، وما تشابه عليكم منه فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كي ما يخبرونكم ، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور وما أوتي النّبيّون من ربّهم ، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان ، فإنّه شافع مشفّع ، وما حل (٢) مصدّق ، وإنّي أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل وأعطيت طه والطّواسين والحواميم (٣) من الواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش» (٤) ، ما حل ؛ بالمهملة ، أي : ساع ، وقيل : خصم. انتهى من «السّلاح».

وفي الحديث الصحيح ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة ؛ كأنّهما غيايتان (٥) ، بينهما شرق ، أو غمامتان سوداوان ، أو كأنّهما ظلّة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما» (٦).

* ت* : أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهليّ (٧) رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اقرءوا القرآن ؛ فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ؛

__________________

(١) معقل بن يسار المزني ، أبو علي ، بايع تحت الشجرة. له أربعة وثلاثون حديثا ، اتفقا على حديث ، وانفرد البخاري بآخر ، ومسلم بحديثين وعنه عمران بن حصين. مات في خلافة معاوية.

ينظر : «الخلاصة» (٣ / ٤٥) ، و «تهذيب التهذيب» (١٠ / ٢٣٥) ، و «الثقات» (٣ / ٣٩٢)

(٢) أي : خصم مجادل مصدق. وقيل : ساع مصدق ، من قولهم : محل بفلان ، إذا سعي به إلى السلطان ، يعني أن من اتبعه وعمل بما فيه ، فإنه شافع له مقبول الشفاعة ، ومصدق عليه فيما يرفع من مساويه إذا ترك العمل به.

ينظر : «النهاية» (٤ / ٣٠٣)

(٣) يعني السور المبدوءة ب «حم».

(٤) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٣ / ٥٧٨) كتاب «معرفة الصحابة» باب معقل بن يسار وسكت عنه هو والذهبي.

(٥) الغياية : السحابة المنفردة ، أو هي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. ينظر : «النهاية» (٣ / ٤٠٣) ، و «لسان العرب» (٣٣٣٢)

(٦) سيأتي تخريجه.

(٧) هو : صدي بن عجلان بن الحارث وقيل : عجلان بن وهب ... أبو أمامة. الباهلي. السهمي. سكن «مصر» ثم انتقل منها فسكن «حمص» من الشام ، ومات بها ، وكان من المكثرين في الرواية ، وأكثر حديثه عند الشاميين. وقال ابن الأثير في موضع آخر. روى عنه سليم بن عامر الجنائزي ، والقاسم أبو عبد الرحمن ، وأبو غالب حزور ، وشرحبيل بن مسلم ، ومحمد بن زياد ، وغيرهم. توفي سنة (٨١). ينظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٣ / ١٦) ، (٦ / ١٦) ، «الإصابة» (٧ / ٩) ، «الاستيعاب» (٤ / ١٦٠٢) «تجريد أسماء الصحابة» (٢ / ١٤٨) ، «بقي بن مخلد» (١٧) ، «الطبقات الكبرى» (١ / ٤١٥)

١٧٧

اقرءوا الزّهراوين البقرة وآل عمران ؛ فإنّهما يأتيان كأنّهما غمامتان ، أو كأنّهما غيايتان ، أو كأنّهما فرقان (١) من طير صوّاف يحاجّان عن أصحابهما ، اقرءوا سورة البقرة ؛ فإنّ أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة» ، قال معاوية (٢) : بلغني أنّ البطلة : السّحرة (٣) ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غمامتان» ، يعني : سحابتين بيضاوين ، والغيايتان ؛ بالغين المعجمة.

أبو عبيد : الغياية كلّ شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه ، وهو مثل السحابة ، وفرقان ؛ بكسر الفاء ، أي : جماعتان. انتهى من «السلاح».

وروى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لكلّ شيء سنام ، وسنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيّدة آي القرآن ، هي آية الكرسيّ» (٤) ، وفي «البخاريّ» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ

__________________

(١) الفرقان : القطعتان. ينظر : «النهاية» (٣ / ٤٤٠)

(٢) هو : معاوية بن صخر (أبي سفيان) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن. القرشي. الأموي. أمه : هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، قيل : ولد قبل البعثة بخمس سنين ، وقيل : بسبع ، وقيل : بثلاث عشرة ، والقول الأول أشهر على الصحيح من الأقوال. وهو خال المؤمنين ، وكاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الذي طالب بدم عثمان ، فكان من الحروب بينه وبين عليّ ما كان ، وإسلامه وحروبه وإمارته شهيرة جدّا ، ولا يتسع المقام للحديث عنه. توفي في رجب سنة (٦٠) ه.

ينظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٥ / ٢٠٩) ، «الإصابة» (٦ / ١١٢) ، «الاستيعاب» (٣ / ١٤١٦) ، «الاستبصار» (٤٠ ، ٦٧) ، «الكاشف» (٣ / ١٥٧) ، «الأعلام» (٧ / ٢٦١) ، «شذرات الذهب» (١ / ٤١٨) ، «العبر» (١ / ٥٤٩) ، «العقد الثمين» (٧ / ٢٢٧) ، «تهذيب التهذيب» (١٠ / ٢٠٧) ، «تهذيب الكمال» (٣ / ١٣٤٤) ، «التاريخ الكبير» (٧ / ٣٢٦)

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٥٥٣) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ، حديث (٢٥٢) ، وأحمد (٥ / ٢٤٩) ، والطبراني في «الكبير» (٨ / ١٣٩) ، رقم (٧٥٤٤) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٢ / ٣٩٥) ، كتاب «الصلاة» ، باب المعاهدة على قراءة القرآن ، وفي «شعب الإيمان» (٢ / ٤٥١) ، رقم (٢٣٧٢) ، والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ١٩ ـ بتحقيقنا) ، كلهم من طريق معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ؛ أنه سمع أبا سلام ؛ أنه سمع أبا أمامة ، فذكره.

وللحديث شاهد من حديث النواس بن سمعان الكلابي : أخرجه مسلم (١ / ٥٥٣) كتاب «صلاة المسافرين» ، باب فضل قراءة القرآن ، وسورة البقرة ، حديث (٢٥٣) ، والترمذي (٥ / ١٦٠) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في سورة آل عمران ، حديث (٢٨٨٣). والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢٣٧٣) ، عن النواس بن سمعان بنحو حديث أبي أمامة.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ١٥٧) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي ، حديث (٢٨٧٨) ، وعبد الرزاق (٣ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧) ، رقم (٦٠١٩) ، والحميدي (٢ / ٤٣٧) ، رقم (٩٩٤) ، والحاكم (١ / ٥٦٠ ـ ٥٦١) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٥٢) ، رقم (٢٣٧٥) ، وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٦٣٧). كلهم من طريق حكيم بن جبير ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا. ـ

١٧٨

بالآيتين من آخر سورة البقرة / في ليلة ، كفتاه» (١) وروى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : ٩ ب

__________________

ـ وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير ، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه اه.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ؛ والشيخان لم يخرجا عن حكيم لوهن في رواياته ، وإنما تركاه لغلوه في التشيع. ووافقه الذهبي.

قلت : والشيخان لم يتركا حكيم لتشيعه فقط ، إنما لضعفه أيضا.

فقال الحافظ في «التقريب» (١٤٦٨) : ضعيف ، رمي بالتشيع ، ولأول الحديث شاهد من حديث سهل بن سعد : أخرجه أبو يعلى (١٣ / ٥٤٧) ، رقم (٧٥٥٤) ، وابن حبان (١٧٢٧ ـ موارد) ، والعقيلي في «الضعفاء» (٢ / ٦) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (١ / ١٠١) ، والطبراني في «الكبير» (٦ / ١٦٣) ، رقم (٥٨٦٤) كلهم من طريق خالد بن سعيد المدني ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد به.

وخالد بن سعيد ، قال العقيلي : لا يتابع على حديثه.

وقال : وفي فضل سورة البقرة رواية أحسن من هذا الإسناد وأصلح.

والنسائي في «الكبرى» (٥ / ١٤) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب الآيتان من سورة البقرة ، حديث (٨٠٢٠) ، والحميدي (١ / ٢١٥) ، رقم (٤٥٢) ، وعبد الرزاق (٣ / ٣٧٧) ، رقم (٦٠٢١) ، وابن خزيمة (٢ / ١٨٠) ، رقم (١١٤١) ، كلهم من طريق سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن علقمة ، عن أبي مسعود به مرفوعا. وعند بعضهم : قال عبد الرحمن : ثم لقيت أبا مسعود في الطواف فسألته عنه ، فحدثني ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ، وذكر الحديث وللحديث طرق أخرى واختلاف فيها تكلم عليها الحافظ علي بن عمر الدارقطني في كتابه القيم «العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (٦ / ١٧١ ـ ١٧٤)

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٦٧٢) ، كتاب «فضائل القرآن» : باب فضل سورة البقرة ، حديث (٥٠٠٩) ، ومسلم (١ / ٥٥٥) ، كتاب «صلاة المسافرين» : باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (٢٥٥ / ٨٠٧) ، وأبو داود (١ / ٤٤٤) ، كتاب «الصلاة» ، باب تحزيب القرآن ، حديث (١٣٩٧) ، والترمذي (٥ / ١٥٩) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب ما جاء في آخر سورة البقرة ، حديث (٢٨٨١) ، والنسائي في «الكبرى» ، (٥ / ٩) كتاب «فضائل القرآن» ، باب سورة كذا وسورة كذا ، حديث (٨٠٠٣) ، و (٥ / ١٤) ، باب الآيتان من آخر سورة البقرة ، حديث (٨٠١٨) ، وأحمد (٤ / ١٢١ ، ١٢٢) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص ١٠٥ ـ ١٠٦) ، رقم (٢٣٣) ، وعبد الرزاق (٣ / ٣٧٧) ، رقم (٦٠٢٠) ، والدارمي (١ / ٢٨٨) ، وسعيد بن منصور (٤٧٥) ، وابن الضريس في «فضائل القرآن» (ص ـ ٨٣) ، رقم (١٦١) ، والطبراني في «الكبير» (١٧ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥) رقم (٥٥٠ ، ٥٥٢) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» ، (٣ / ٢٠) ، كتاب «الصلاة» ، باب كم يكفي الرجل قراءة القرآن في ليله ، وفي «شعب الأيمان» (٢ / ٤٦٢) ، رقم (٢٤٠٥ ، ٢٤٠٦) ، كلهم من طريق منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنت أحدّث عن أبي مسعود حديثا فلقيته وهو يطوف بالبيت ، فسألته ، فحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه».

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

قلت : والذي حدث عبد الرحمن بن يزيد بهذا الحديث هو علقمة بلا شك ؛ فأخرجه البخاري (٨ / ٧١٢) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب في كم يقرأ القرآن ، حديث (٥٠٥١)

١٧٩

«البيت الّذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان» (١).

* ت* : وعن ابن عبّاس قال : بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع نقيضا من فوقه ، فقال له : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبيّ قبلك ؛ فاتحة الكتاب ، وخواتم سورة البقرة ؛ لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته» رواه مسلم ، والنسائيّ (٢) ، والنقيض ؛ بالنون والقاف : هو الصوت انتهى من «السلاح».

وعدد آي سورة البقرة مائتان ، وخمس وثمانون آية ، وقيل : وستّ وثمانون آية ، وقيل : وسبع وثمانون.

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣)

قوله تعالى : (الم) : اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين (٣) ؛ فقال

__________________

(١) الحديث بهذا اللفظ عن عبد الله بن المغفل ذكره الهيثمي في «معجم الزوائد» (٦ / ٣١٥) ، وقال : رواه الطبراني ، وفيه عدي بن الفضل ، وهو ضعيف.

أما الحديث الذي ورد عن أبي هريرة في هذا المعنى ، فأخرجه مسلم (١ / ٥٣٩) من طريق سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ؛ فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة».

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٥٥٤) ، كتاب : «الإيمان» ، باب : في ذكر سدرة المنتهى ، حديث (٢٥٤ / ٨٠٦) ، والنسائي في «الكبرى» (٥ / ١٥) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب «الآيتان من آخر سورة البقرة» ، حديث (٨٠٢١) ، والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٢٣ ـ بتحقيقنا) ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به.

(٣) إنه مما علم باستقراء كتاب الله تعالى أن تسعا وعشرين سورة من القرآن الكريم قد افتتحت بحروف مقطعة ، من جنس كلام العرب.

وبداية ، فإن هذه الحروف لم ينقل عن العرب دلالات لها ، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها ، ولنقل ذلك علماء الصحابة وأئمتهم ، وهذا الأمر ـ أعني افتتاح السور بها ـ لهو في حد ذاته نوع من التحدي للقيام بالكشف عن أسرارها والتفكر فيها.

ولما لم يذكر عن الغرب لها دلالات فقد كان للعلماء بشأنها موقفان : أولهما : ذهب الشعبي وسفيان الثوري ، وجماعة من أهل الحديث إلى أنها سر الله في القرآن ، وهي من المتشابه. وثانيهما : وهو ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم : أنه يجب أن يتكلم فيها ، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.

وقد كان لابن عباس ترجمان القرآن النصيب الأوفر من الأقوال في هذه الأحرف.

وجاء المفسرون من بعده ، فاتسعوا في تحديد معاني هذه الفواتح ، فقد ذكروا منها : أنها : ـ

١٨٠