تفسير الثعالبي - ج ١

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ١

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«توطئة»

نحمدك اللهم حمد الشاكرين ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، ملء السموات ، وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

وصلاة وسلاما دائمين متلازمين على نبينا محمد عبد الله ورسوله ، خير من قرأ كتاب الله ، وخير من فسره ، وخير من عمل به.

وبعد :

فإن علم التفسير من خير العلوم قاطبة ، وشرف العلم من شرف المعلوم ، وقدر المرء قدر ما يحسنه ، ولا شك أن الاشتغال بكتاب الله تعالى وتفسيره شرف عظيم ، ف «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧].

وهذا الشفاء لن يتحصل عليه إلا من التزم بشرطه ، وشرطه التدبر ، قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

ولما كانت حاجة الأمة ماسّة إلى معرفة تفسير كتاب ربها ، والوقوف على أسراره ـ قمنا بإخراج أحد هذه التفاسير المباركة ؛ ليكون تبصرة للمسلمين ، وعونا لهم على فهم كتاب الله العزيز.

وها نحن أولاء نقدم للأمة الإسلامية تفسير «الجواهر الحسان» للإمام العلامة أبي زيد الثعالبي ؛ رحمه‌الله تعالى.

وقد جاء هذا الكتاب في قسمين :

القسم الأول : الدراسة. وجاء في ثلاثة مباحث :

٥

* المبحث الأول : نبذة عن حياة أبي زيد الثعالبي.

ويشمل : اسمه ، كنيته ، لقبه ، مولده ، نشأته ، شيوخه ، تلاميذه ، مصنفاته ، ثناء الناس عليه ، ثم وفاته.

* المبحث الثّاني : في الحديث عن التفسير قبل أبي زيد الثعالبي.

وفيه ذكرنا معنى التفسير والتأويل ، والفرق بينهما ، ثم ذكرنا حاجة الناس إلى تفسير الكتاب العزيز ، ثم الحديث عن فهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن الكريم ، ثم ذكرنا أشهر مفسري القرآن من الصحابة فمن بعدهم ، وبيّنا كذلك قيمة التفسير بالمأثور.

ثم عرضنا لأهم مدارس التفسير ، وكانت كما يلي :

١ ـ مدرسة ابن عباس ب «مكّة» ، وكان أشهر تلاميذه من التابعين :

ـ سعيد بن جبير.

ـ مجاهد بن جبر.

ـ عكرمة.

ـ طاوس.

ـ عطاء بن أبي رباح.

٢ ـ مدرسة أبي بن كعب ب «المدينة النبوية» ، وأشهر تلاميذه :

ـ أبو العالية.

ـ محمد بن كعب القرظي.

ـ زيد بن أسلم.

٣ ـ مدرسة عبد الله بن مسعود ب «العراق» ، وأشهر تلاميذه :

ـ علقمة.

ـ مسروق.

ـ عامر الشعبي.

ـ الحسن البصري.

ـ قتادة.

٦

ثم تحدثنا عن قيمة التفسير المأثور عن التابعين ، واختلاف أهل العلم من بعدهم في الاحتجاج بأقوالهم.

وكذلك خضنا في ذكر سمات التفسير في تلك المرحلة من مثل : اعتماده على التّلقّي والرواية ، والخلاف المذهبي الناشئ ، وغير ذلك مما هو مسطور في موضعه.

وانتقل بنا الحديث إلى الكلام عن التفسير في عصر التدوين ، وتحديد هذا العصر تاريخيّا ، وكيف سار هذا التفسير سيره حتى بلغ تابعي التابعين. ثم تدرّجنا إلى تبيان اتجاهات التفسير الموجودة بين المفسرين ، وكانت :

ـ الاتجاه الأثري : وذكرنا من أعلامه «يحيى بن سلام» ، ثم «محمد بن جرير الطّبريّ».

ـ الاتجاه اللّغوي : وبيّنّا تاريخ بدايته ، وبعض أعلامه ، مثل «أبي عبيدة معمر بن المثنى».

ـ الاتجاه البيانيّ : وأوضحنا جذوره ، وبعض أمثلته.

* المبحث الثالث : الكلام على تفسير أبي زيد.

وتحدثنا فيه عن مصادر الشيخ الثعالبي في تفسيره ، والكتب التي استقى منها مادّته ، وبنى عليها مصنفه.

ثم تطرّقنا إلى بيان منهجه في بناء تفسيره من احتجاج بمأثور ، ورأي ، وكيف أنه مزج بينهما ، ففسر كتاب الله بعضه ببعض ، ثم بالسّنّة ، ثم بتفسير الصحابة والتابعين ، واحتجاجه باللغة والأصول ، وحديثه عن التوحيد ، والرقائق ، وعلوم الآخرة ، وغير ذلك.

وتحدثنا عن الإسرائيليات في تفسيره ، وكيف أنه أقلّ منها ، ولم يعتمد عليها.

ثم تحدثنا عن المنهج اللّغويّ في تفسير أبي زيد ، وكذلك المنهج البياني ، ثم علوم القرآن في تفسير «الجواهر الحسان» ، وهي :

ـ المكّي والمدني.

ـ القراءات المتواترة والشّاذّة.

ـ الناسخ والمنسوخ.

ـ الأحكام الفقهية المأخوذة من آيات الأحكام.

٧

القسم الثاني : وهو قسم تحقيق النّصّ :

وقد كان عملنا في الكتاب مرتبا على النحو التالي :

أولا : إخراج النّص سليما خاليا من الأخطاء النحوية والإملائية ، وقد اقتضى ذلك من الموازنة بين النسخ التي تحت أيدينا ، فآثرنا النص الأصوب والأرقّ دون اعتماد على نسخة بعينها.

ثانيا : إثبات فروق النّسخ ، وتركنا الكثير منها ؛ حيث لا جدوى من ذكرها.

ثالثا : تخريج الأحاديث الواردة في النص.

رابعا : عزو الآثار إلى مصادرها.

خامسا : توضيح الغريب من الألفاظ الواردة في النّصّ معتمدين في ذلك على المعاجم اللغوية والفقهية.

سادسا : ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في النص.

سابعا : عزو القراءات إلى مصادرها ، والتعليق على بعضها حسبما احتاج النص مع بيان كل قراءة.

ثامنا : توضيح بعض المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في النص.

تاسعا : التعليق على بعض الموضوعات التي أشار إليها المصنف.

عاشرا : وضع آيات القرآن الكريم ضمن هلالين مزهرين تيسيرا على القارئ ، وتخريج آيات الشواهد.

٨

المبحث الأول

نبذة عن حياة الثعالبي

اسمه ، وكنيته ، ولقبه :

هو عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف (١) ، يكنى أبا زيد ، ويلقب ب «الثعالبي» (٢). الجزائري (٣) ، المغربي ، المالكي.

مولده :

ذكر صاحبا «شجرة النور الزّكيّة» ، و «الأعلام» أنه ولد سنة ٧٨٦ ه‍ ـ جزما ، بينما حكى صاحب «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» الشك في سنة ميلاده بين ستا وثمانين ، وسبع وثمانين.

نشأته :

لم تذكر المصادر المترجمة لهذا الإمام شيئا عن نشأته ؛ إلا أن الظن بحال من حاله كالإمام يؤكد أن نشأته في بيت علم وفضل ، ولا يبعد وجود أهل صلاح في أسرته ، كما أن الظن بمثله أن يكون درج على طلب العلم ، كما يطلبه أهله من قراءة كتاب الله وحفظه في

__________________

(١) ينظر ترجمته في : «الضوء اللامع» (٤ / ١٥٢) ، و «شجرة النور الزكية» (٢٦٥) ت (٩٧٦) ، و «فهرس الفهارس» (٢ / ١٣١) ، و «هدية العارفين» (٥٣٢) ، و «ديوان الإسلام» (٢ / ٥٦) ت (٦٣٧) ، و «نيل الابتهاج» (٢٥٧) ت (٣٠٦) ، و «الأعلام» (٣ / ٣٣١). والملاحظ اتفاقها على ذكر اسمه وكنيته ولقبه ، بلا زيادة على ما تقدم.

(٢) هذه النسبة إلى خياطة جلود الثعالب ، وعمل الفراء. وفرق بينها وبين «الثعلبي» ؛ حيث إن الأخيرة نسبة إلى القبائل وإلى الموضع ، فأما المنتسب إلى القبائل ، فإلى ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، منهم أسامة بن شريك الثعلبي ، وابن أخيه زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي ، والنسبة إلى ثعلبة بن ثور بن هدبة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة ، بطن من «مزينة» ، وأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي. ويقال : الثعالبي ، المفسر المشهور النيسابوري. وثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، بطن كبير من تميم. وثعلبة بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء ، بطن مشهور من طيء ، منهم مسعود بن علبة بن حارثة بن ربيع بن عمرو بن عكوة بن ثعلبة الشاعر. ينظر : «الأنساب» (١ / ٥٠٥) ، و «اللباب» (١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩) ، و «الإكمال» (١ / ٥٢٩) و «لب الألباب» (١ / ١٨٥)

(٣) نسبة الى البلدة المعروفة ب «الجزائر» إحدى أقطار المغرب العربي.

٩

الصغر ، واطّلاعه على كتب التاريخ ، والتفسير ، والحديث ، والأصول ، والكلام ، والأدب ، واللغة ، والنحو ، والصرف ، والعروض ، وغيرها.

رحلاته وشيوخه :

مما لا شكّ فيه أن حاجة العلماء إلى الرحلة عظيمة جدّا ؛ سعيا في تحصيل العلم ، والسّماع من الأشياخ ؛ لأن في الرّحلة إليهم ، والالتقاء بهم تثقيفا للعقول ، وتنقيحا للعلوم ، وتمحيصا للمحفوظ. ولقد كانت الرّحلة سنّة العلماء من لدن سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى أن وقع النّاس فريسة للتخلّف والتكاسل ، فقعد بهم ذلك عن طلب العلم ، والسّعي في تحصيله.

ولقد كان بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تناءت به الدّار ، يركب إلى «المدينة» ، فيسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واستمر ذلك السّعي والتّرحال بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما اتسعت رقعة الدولة الإسلاميّة بعد الفتوحات العظيمة ، نجد أن الرّحلة شاعت ، وانتشر أمرها ، لتفرّق العلماء في شتّى بلدان الدولة الإسلامية.

ولقد ضحّى سلفنا الصّالح بكل غال ورخيص ، ودفعوا المال والجهد ، وتكبّدوا العناء والمشاقّ ، في سبيل طلب الحديث وجمعه ، والعناية بسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهذا الصّحابي الجليل أبو أيوب الأنصاريّ يرحل من «المدينة» قاصدا عقبة بن عامر ب «مصر» ليسأله عن حديث سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا وصل إلى منزل عقبة بن عامر ، خرج إليه عقبة فعانقه ، وقال : ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال : حديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق أحد سمعه منه غيري وغيرك ، في ستر المؤمن. قال عقبة : نعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من ستر مؤمنا في الدّنيا على خزية ، ستره الله يوم القيامة».

فقال أبو أيوب : صدقت.

ثم انصرف أبو أيوب من توّه إلى راحلته ، راجعا إلى «المدينة» ، متحمّلا مشقّة السفر ، ووعثاء الطريق ، وأخطار المفاوز والقفار.

ويقول سعيد بن المسيّب : إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد.

وذات مرّة قال عمرو بن أبي سلمة للأوزاعيّ : يا أبا عمرو أنا ألزمك منذ أربعة أيام ،

١٠

ولم أسمع منك إلّا ثلاثين حديثا! قال : وتستقلّ ثلاثين حديثا في أربعة أيّام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى «مصر» ، واشترى راحلة فركبها ، حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد ، وانصرف إلى «المدينة» ، وأنت تستقلّ ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ (١).

مما سبق يتبيّن أن للرحلة أثرا ملحوظا في تمحيص العلوم ، وتنقيحها ، وتثبيتها في أذهان العلماء ، وأن طلاب العلم نزحوا من قطر إلى قطر ، تحملهم ظهور الفيافي والقفار ، تنقيبا عن الحديث ، أو المسألة الفقهية ، أو السّماع من شيخ مشهور ، أو التّلمذة على يد عالم إمام.

ولم يكن الإمام الثعالبي بدعا في هذا الشّأن ، بل سار على درب أسلافه من العلماء ، وأقرانه من طلّاب العلم في السّعي والسّفر ؛ رغبة في تحصيل العلم ، وطلب مسائله وقضاياه.

وقد عرفنا الثعالبي نفسه أنه قد رحل في طلب العلم ، وسمع من أهل العلم في مختلف الأقطار ، فنراه يقول :

رحلت في طلب العلم من ناحية «الجزائر» في آخر القرن الثامن ، فدخلت «بجاية» عام اثنين وثمانمائة ، فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم في العلم والدين والورع ، أصحاب الفقيه الزاهد الورع عبد الرحمن الوغليسي ، وأصحاب الشيخ أبي العباس أحمد بن إدريس متوافرون يومئذ ، أصحاب ورع ووقوف مع الحد لا يعرفون الأمراء ، ولا يخالطونهم ، وسلك أتباعهم مسلكهم ، كشيخنا الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عثمان المكلاتي ، وشيخنا الولي الفقيه المحقّق أبي الربيع سليمان بن الحسن ، وأبي الحسن علي بن محمد البليليتي ، وعلي بن موسى ، والإمام العلامة أبي العباس النقاوسي ، حضرت مجالسهم ، وعمدتي على الأولين ، ثم دخلت «تونس» عام تسعة أوائل عشرة وأصحاب ابن عرفة متوافرون ، فأخذت عنهم ، كشيخنا واحد زمانه أبي مهدي عيسى الغبريني ، وشيخنا الجامع بين علمي المنقول والمعقول أبي عبد الله الأبي ، وأبي القاسم البرزلي ، وأبي يوسف يعقوب الزغبي ، وغيرهم ، وأكثر عمدتي على الأبي ، ثم رحلت للمشرق ، وسمعت «البخاري» ب «مصر» على البلالي ، وكثيرا من اختصار «الإحياء» له ، وحضرت مجلس شيخ المالكية بها أبي عبد الله البساطي ، وحضرت كثيرا عند شيخ المحدثين بها ولي الدين العراقي ، وأخذت عنه علوما جمّة ، معظمها علم الحديث ، وفتح لي فتحا عظيما وأجازني ،

__________________

(١) روى هذه الآثار الحاكم في «علوم الحديث» ص ٧ ، ٨.

١١

ثم رجعت ل «تونس» فإذا في موضع الغبريني الشيخ أبو عبد الله القلشاني خلفه فيه عند موته ، فلازمته ، وأخذت البخاري إلا يسيرا عن البرزلي ، ولم يكن ب «تونس» يومئذ من يفوقني في علم الحديث ، إذا تكلمت أنصتوا ، وقبلوا ما أرويه ، تواضعا منهم ، وإنصافا واعترافا لحق ، وكان بعض فضلاء المغاربة يقول لي لما قدمت من المشرق : كنت آية في علم الحديث ، وحضرت أيضا شيخنا الأبي وأجازني ، ثم قدم «تونس» شيخنا ابن مرزوق عام تسعة عشر ، فأقام بها نحو سنة ، فأخذت عنه كثيرا ، وسمعت عليه «الموطأ» بقراءة الفقيه أبي حفص عمر القلشاني ابن شيخنا أبي عبد الله وغير شيء ، وأجازني وأذن لي هو والأبي في الإقراء ، وأخذت عن غيرهم ـ ا ه ـ.

مما سبق يتضح أن الثعالبي قد ذكر أنه سمع في رحلته من شيوخ كثيرين ، سمى منهم أربعة عشر شيخا ، وسنوردهم فيما يلي مع ذكر البلد التي سمع فيها :

١ ـ محمد بن خلفة بن عمر التونسي الوشتاني (١) الشهير ب «الأبي» :

الإمام ، العلامة ، المحقق ، المدقق ، البارع ، الحافظ ، الحاج ، الرّحلة ، أخذ عن الإمام ابن عرفة ، ولازمه ، واشتهر في حياته بالمهارة والتقدم في الفنون ، وكان من أعيان أصحابه ومحققيهم ، «وأبة» (٢) ، بضم الهمزة ، قرية من «تونس».

قال السّخاويّ : كان سليم الصدر ، ذكر ذلك جماعة عنه مع مزيد تقدم في الفنون ، له «إكمال الإكمال» في شرح مسلم في ثلاثة مجلدات ، جمع فيه بين المازري ، وعياض ، والقرطبي ، والنووي مع زيادات مفيدة من كلام ابن عرفة شيخه وغيره.

وله «شرح المدوّنة» أيضا ، وله نظم ، وكثر انتقاده لشيخه مشافهة ، وربما رجع عليه سيما في تعريفه الطهارة. ووصفه ابن حجر في المثبتة بالأصولي ، عالم المغرب بالمعقول. وقال : إنه سكن «تونس» وسمّى والده خلفا.

وأما شرحه لمسلم ، ففي غاية الجودة ملأه بتحقيقات بارعة ، وزيادة حسنة نافعة سيما أوائله. قال الثعالبي : حضرت عليه قراءة بحث وتحقيق وتدقيق من أوله إلى «الطهارة» متواليا ، وكثيرا من «الطهارة» وأكثر «كتاب الصلاة» ، وكثيرا من أواخر مسلم أو كله ، ومن

__________________

(١) ينظر ترجمته في : «شجرة النور الزكية» (٢٤٤) ، و «نيل الابتهاج» (٤٨٧)

(٢) أبة : اسم مدينة بإفريقية ، بينها وبين القيروان ثلاثة أيام ، وهي من ناحية الأربس ، موصوفة بكثرة الفواكه وإنبات الزعفران. ينظر : «معجم البلدان» (١ / ١٠٨)

١٢

«المدونة» و «الرسالة» و «ابن الحاجب» كلها قراءة بحث وتحقيق ، وأكثر «إرشاد» أبي المعالي وتفسير القرآن ، وأذن لي في إقرائها كلها سنة تسعة عشر وثمانمائة ـ ا ه ـ ملخصا.

وسمعت والدي الفقيه أحمد ـ رحمه‌الله ـ يحدث عن بعض المشارقة أنه رأى له تفسير القرآن في ثمان مجلدات ـ ا ه.

قال التنبكي : قرأت بخط سيّدي يخلفتين حفيد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي أن وفاته سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ـ ا ه. ويذكر أن الإمام ابن عرفة ليم على كثرة الاجتهاد ، وتعبه نفسه في النظر ، فقال : كيف أنام وأنا بين أسدين الأبي بفهمه وعقله ، والبرزلي بحفظه ونقله ـ ا ه.

ووصفه أبو عبد الله المشذالي بالفقيه ، المحقق ، العالم. وأخذ عنه جماعة من الأئمة كالقاضي عمر القلشاني ، وأبي القاسم بن ناجي ، وعبد الرحمن الجدولي ، والثعالبي ، والشريف العجيسي ، وغيرهم ، وقال الثعالبي فيه : شيخنا ، مولاي ، الإمام ، الحجة ، الثقة ، إمام المحققين ، الجامع بين حقيقتي المنقول والمعقول ، ذو التصانيف الفائقة البارعة ، والحجج السّاطعة اللامعة ـ ا ه. توفي ، فيما قيل ، سنة سبع وعشرين ، و «خلفة» بكسر المعجمة وفتحها ثم لام ساكنة بعدها فاء.

وقد سمع الثعالبي من شيخه الأبي ببلدة «تونس».

٢ ـ وليّ الدين العراقي (١) :

وهو أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن ، الإمام الحافظ الفقيه ، المصنف ، قاضي القضاة وليّ الدين أبو زرعة ابن الإمام العلامة الحافظ زين الدين أبي الفضل ، العراقي الأصل ، المصري. ولد في ذي الحجة سنة اثنتين وستين وسبعمائة ، وبكر به أبوه ، فأحضره عند أبي الحرم القلانسي خاتمة المسندين بالقاهرة ، واستجاز له من أبي الحسن الفرضي ، ثم رحل به إلى «الشام» سنة خمس وستين ، فأحضره في الثالثة على جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري ، ثم رجع ، وأسمعه ب «القاهرة» من جماعة من المسندين ، ثم طلب بنفسه وهو شاب ، فقرأ الكثير ، ودأب على الشيوخ ، ثم رحل إلى «الشام» صحبه صهره الحافظ نور الدين الهيثمي بعد الثمانين ، فسمع الكثير ثم رجع ، وهو

__________________

(١) ينظر ترجمته في : «إنباء الغمر في أبناء العمر» (٨ / ٢١) ، و «البدر الطالع» (١ / ٧٢) ، و «طبقات ابن قاضي شهبة» (٤ / ٨٠)

١٣

مع ذلك ملازم للاشتغال بالفقه ، والعربية ، والفنون ، حتى مهر واشتهر ، ولازم الشيخ سراج الدين البلقيني ، وحفظ ، وكتب عنه الكثير ، وأخذ عن علماء عصره. قال الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين ابن حجر : ونشأ صيّنا ، ديّنا ، خيّرا ، مع جمال الصورة ، وطيب النعمة والتودّد إلى الناس ، وناب في الحكم ، ودرس في عدة أماكن ، ثم استقر في جهات والده بعد وفاته ، وعقد مجلس الإملاء بعده ، واشتهر صيته وصنف التصانيف ، وخرج التخاريج ، وولي مشيخة «الجمالية».

ومن تصانيفه : «تحرير الفتاوى» على التنبيه ، و «المنهاج» ، و «الحاوي» ، أخذ نكت النشائي ، والتوشيح ، ونكت ابن النقيب على المنهاج ، ونكت الحاوي لابن الملقن ، وشحن الكتاب بفوائد الشيخ سراج الدين البلقيني ، وبسبب ذلك اشتهر الكتاب ، واجتمع شمل فوائد الشيخ ، وجمع حواشي الشيخ على «الروضة» في مجلدين ، واختصر «المهمات» ، وجمع بينها وبين حواشي «الروضة» في مجلدين ، وشرح «بهجة» ابن الوردي في مجلدين ، وشرح «جمع الجوامع» للسبكي في مجلدة ، وله وفيّات ابتدأ فيها من سنة مولده ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر : وشرح منظومة أبيه في الأصول ، وشرع في شرح «سنن» أبي داود ، فكتب نحو السدس منه في سبع مجلدات.

مات في شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة وله ثلاث وستون سنة وثمانية أشهر.

وسمع منه الإمام الثعالبي ب «مصر».

٣ ـ محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق الحفيد العجيسي التلمساني (١) :

الإمام المشهور ، العلّامة ، الحجّة ، الحافظ ، المحقّق الكبير ، الثقة الثبت ، المطلع النظار ، المصنف ، التقي ، الصالح ، الزاهد ، الورع ، البركة ، الخاشي لله ، الخاشع الأوّاب ، القدوة النبيه ، الفقيه المجتهد ، الأبرع ، الأصوليّ المفسر المحدث ، الحافظ المسند الراوية ، الأستاذ المقرئ المجوّد ، النحوي اللغوي البياني العروضي ، الصوفي المسلك المتخلق ، الولي الصالح العارف بالله ، الآخذ من كل فنّ بأوفر نصيب.

أخذ العلم عن جماعة ، كالسّيد الشريف العلامة أبي محمد عبد الله بن الإمام العلم الشريف التلمساني ، والإمام عالم المغرب سعيد العقباني ، والولي الصالح أبي إسحاق

__________________

(١) ينظر ترجمته في : «البدر الطالع» (٢ / ١١٩) ، و «نيل الابتهاج» (٤٩٩)

١٤

المصمودي ، أفرد ترجمته بتأليف ، والعلامة أبي الحسن الأشهب العماري ، وعن أبيه وعمّه ابني الخطيب ابن مرزوق ، وبتونس عن الإمام ابن عرفة ، وأبي العباس القصار ، وبفأس عن الأستاذ النحوي ابن حياتي الإمام ، والشيخ الصالح أبي زيد المكودي ، والحافظ محمد بن مسعود الصنهاجي الفيلالي في جماعة ، وبمصر عن الأئمة السراج البلقيني ، والحافظ أبي الفضل العراقي ، والسراج ابن الملقن ، والشمس الغماري ، والمجد الفيروزآبادىّ صاحب «القاموس» ، والإمام محبّ الدين بن هشام ولد صاحب «المغني» ، والنور النويري ، والولي ابن خلدون ، والقاضي العلامة ناصر الدين التنسي ، وغيرهم.

وأجازه من «الأندلس» الأئمة كابن الخشّاب ، وأبي عبد الله القيجاطي ، والمحدث الحفار ، والحافظ ابن علاق ، وأبي محمد ابن جزي ، وغيرهم ، وأخذ عنه جماعة من السادات كالشيخ الثعالبي ، وقاضي الجماعة عمر القلشاني ، والإمام محمد بن العباس ، والعلامة نصر الزواوي ، وولي الله الحسن أبركان ، وأبي البركات الغماري ، والعلّامة أبي الفضل المشذالي ، والسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس بن أبي يحيى الشريف ، وأخيه أبي الفرج ، وإبراهيم بن فائد الزواوي ، وأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن الندرومي ، والعلّامة علي بن ثابت ، والشهاب ابن كحيل التجاني ، وولد العالم محمد بن محمد بن مرزوق الكفيف ، والعلامة أحمد بن يونس القسنطيني ، والعالم يحيى بن بدير ، وأبي الحسن القلصادي ، والشيخ عيسى بن سلامة البكري ، والعلامة يحيى المازوني ، والحافظ التنسي ، والإمام ابن زكري. في خلق كثيرين من الأجلّاء.

وقال الحافظ السّخاوي : هو أبو عبد الله حفيد ابن مرزوق ، ويقال له أيضا «ابن مرزوق» ، تلا بنافع على عثمان الزروالي ، وانتفع في الفقه بابن عرفة ، وأجازه ابن الخشّاب والحفار والقيجاطي. وحج قديما سنة تسعين وسبعمائة رفيقا لابن عرفة ، وسمع من البهاء الدماميني ، والنور العقيلي بمكة ، وقرأ بها البخاري على ابن صديق ، ولازم المحب ابن هشام في العربية ، ثم حج سنة تسعة عشر وثمانمائة ، ولقيه رضوان الزيني بمكة ، وكذا لقيه ابن حجر ـ ا ه.

وأما تآليفه ، فكثيرة منها : شروحه الثلاثة على «البردة» : الأكبر المسمى «إظهار صدق المودة في شرح البردة» استوفي فيه غاية الاستيفاء ، ضمنه سبعة فنون في كل بيت ، و «الأوسط» و «الأصغر» المسمى «بالاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب» و «المفاتيح القرطاسية في شرح الشقراطيسية» ، و «المفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية» ، ورجزان في علوم الحديث ، الكبير سماه «الروضة» جمع فيه بين ألفيتي ابن ليون والعراقي ،

١٥

و «مختصر الحديقة» اختصر فيه ألفية العراقي ، وأرجوزة في الميقات سماه «المقنع الشافي» في ألف وسبعمائة بيت ، وأرجوزة ألفية في محاداة «الشاطبية» ، وأرجوزة نظم «تلخيص المفتاح» ، وأرجوزة نظم «تلخيص ابن البنا» وأرجوزة نظم «جمل» الخونجي ، وأرجوزة في اختصار «ألفية ابن مالك» ، و «نهاية الأمل» في شرح جمل الخونجي ، و «اغتنام الفرصة في محادثة عالم قفصة» ، وهو أجوبة على مسائل في الفقه والتفسير وغيرهما ، وردت عليه من عالم قفصة أبي يحيى بن عقيبة فأجابه عنها ، و «المعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن سراج» أجاب فيه العالم قاضي الجماعة بغرناطة ابن سراج عن مسائل نحوية ومنطقية ، و «نور اليقين في شرح أولياء الله المتقين» تأليف ألفه في شأن البدلاء تكلم فيه على حديث في أول «الحلية» ، و «الدليل المؤمى في ترجيح طهارة الكاغذ الرومي» ، و «النصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل للناقص» في سبعة كراريس ، ألفه في الرد على عصريه وبلديه الإمام قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية في أشياء صوّب العقباني صنيعهم فيها ، فخالفه ابن مرزوق ، و «مختصر الحاوي في الفتاوى» لابن عبد النور التونسي ، و «الروض البهيج في مسألة الخليج» في أوراق نصف كراس ، و «أنوار الدراري في مكررات البخاري» ، وتأليف في مناقب شيخه الزاهد الولي إبراهيم المصمودي في مقدار كراس ، و «تفسير سورة الإخلاص على طريقة الحكماء» ، وهذه كلها تامة.

وأما ما لم يكمل من تآليفه ، «فالمتجر الربيح والسعي الرحب الفسيح في شرح الجامع الصحيح» صحيح البخاري ، و «روضة الأديب في شرح التهذيب» ، و «المنزع النبيل في شرح مختصر خليل» شرح منه الطهارة في مجلدين ، ومن الأقضية لآخره في سفرين في غاية الإتقان ، و «التحرير والاستيفاء والتنزيل لألفاظ الكتاب والنقول» لا نظير له أصلا ، لخصه العلامة الراعي ، و «إيضاح المسالك في ألفية ابن مالك» انتهى إلى اسم الإشارة والموصول ، مجلد في غاية الإتقان ، ومجلد في شرح شواهد شراحها إلى باب كان وأخواتها ، وله خطب عجيبة ، وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة ، فقد سارت بها الركبان شرقا وغربا ، بدوا وحضرا. ذكر المازوني والونشريسي منها جملة وافرة في كتابيهما ، وله أيضا عقيدته المسماة «عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد» ، وعلى منحاه بنى السنوسي عقيدته الصغرى ، و «الآيات الواضحات في وجه دلالة المعجزات» ، و «الدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم» ، و «إسماع الصّم في إثبات الشرف من قبل الأم».

وذكر السخاوي أن من تأليفه شرح فرعي ابن الحاجب ، وشرح التسهيل ، والله أعلم.

١٦

ومولده ، كما ذكره هو في شرحه على البردة ، ليلة الاثنين رابع عشر ربيع الأول عام ستة وستين وسبعمائة.

وقال تلميذه الإمام الثعالبي : وقدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله بن مرزوق ، فأقام بها وأخذت عنه كثيرا ، وسمعت عليه جميع «الموطأ» بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن شيخنا محمد القلشاني ، وختمت عليه «أربعينيات النووي» قراءة عليه في منزلة قراءة تفهم ، فكان كلما قرأت عليه حديثا يعلوه خشوع وخضوع ، ثم أخذ في البكاء ، فلم أزل أقرأ وهو يبكي حتى ختمت الكتاب ، وهو من أولياء الله تعالى الذين إذا رأوا ذكر الله.

وأجمع الناس على فضله من «المغرب» إلى الديار المصرية ، واشتهر فضله في البلاد ، فكان بذكره تطرز المجالس ، جعل الله حبه في قلوب العامة والخاصة ، فلا يذكر في مجلس إلا والنفوس متشوقة لما يحكى عنه ، وكان في التواضع والإنصاف والاعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية ، لا أعلم له نظيرا في ذلك في وقته فيما علمته.

وقال أيضا في موضع آخر : هو سيدي الشيخ الإمام ، الحبر الهمام ، حجة أهل الفضل في وقتنا وخاتمتهم ، ورحلة النقاد وخلاصتهم ، ورئيس المحققين.

توفي يوم الخميس عصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة ، وصلّى عليه بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة ، حضر جنازته السلطان فمن دونه ، لم أر مثله قبله ، وأسف الناس لفقده ، وآخر بيت سمع منه عند موته : [البسيط]

إن كان سفك دمي أقصى مرادكم

فما غلت نظرة منكم بسفك دمي

وقد سمع الثعالبي منه بعد عودته من رحلته إلى تونس.

٤ ـ أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي ، القيرواني ، ثم التونسي ، الشهير بالبرزلي ، الإمام المشهور (١) ، نزيل «تونس» :

مفتيها ، وفقيهها ، وحافظها ، العلّامة ، أحد الأئمة في المذهب المالكي صاحب «الديوان» في الفقه والنوازل ، من كتب المذهب الأجلة ، أجاد فيه ما شاء ، كان ـ رحمه‌الله ـ إماما علامة ، بارعا ، حافظا للفقه متفقها فيه ، بحاثا نظارا مستحضرا للفقه ، أخذ عن جماعة ، وفي بعض إجازاته ما ملخصه أنه قرأ على الفقيه المحدث الراوية الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق شيئا من الصحيحين ، والشاطبيتين ، وتكملة القيجاطي ، والدرر

__________________

(١) ينظر ترجمته في : «شجرة النور الزكية» (٢٤٥) ، و «نيل الابتهاج» (٣٦٨)

١٧

اللّوامع ، يرويهما عن مؤلفهما ، والعمدة وغيرها ، وعلى الفقيه المحدث الراوية المسن الصالح أبي الحسن البطروني القراءة السبعة ، وكتبا كثيرة ، وأحزاب الشاذلي عن الشيخ ماضي عنه ، وعلى الإمام المؤلف الفقيه الصّالح المتفنن العلم أبي عبد الله بن عرفة ، لازمه ما ينيف على ثلاثين سنة ، وقرأ عليه بعض مسلم ، وسمع جميعه عليه وجميع البخاري ، و «الموطأ» ، و «الشفاء» ، و «علوم الحديث» لابن الصلاح ، وجميع «التهذيب» مرارا ، وابن الحاجب الفرعي ، وكثيرا من الأصلي ، و «معالم» التلمساني الفقيه ، و «جمل» الخونجي ، وكثيرا من «المحصل» ، وإلقاء التفسير مرارا ، وقرأ عليه مختصره المنطقي وفي الأصلين وأكثر مختصره الفقهي ، وأجازه بالجميع وغيرها ، وكتب له بخطه مرارا ، وقرأ عليه الفقيه المقرئ الراوية أحمد بن مسعود البلنسي ، (عرف بابن الحاجة) القراءات السبعة وغيرها ، وعلى الفقيه الصالح الراوية المتفنن أبي محمد الشبيبي القراءات السبعة وغيرها ، و «التهذيب» ، و «الجلاب» ، و «الرسالة» وغيرها ، و «الموطأ» ، ومسلما ، وعلم النحو ، والحساب ، والفرائض ، والتنجيم ، ولازمه من حدود ستين وسبعمائة إلى عام سبعين ، وعلى الفقيه الصالح القاضي العدل الحافظ أحمد بن حيدرة التوزري ، لازمه كثيرا ، وأخذ عنه مسائل كثيرة ، وقرأ على الفقيه الصالح العدل أبي العباس المومناني الصحيحين ، و «الشفاء» ، وغيرها ، وكذا أخوه الفقيه الصالح القاضي العدل أبو زيد عبد الرحمن ، وقرأ عليه شيئا من أصلي ابن الحاجب ، وأذن له في إقرائه ، وعلى الفقيه المحدث الراوية برهان الدين الشامي ، قرأ عليه أبعاضا من البخاري ، والترمذي ، والشفاء ، والشاطبية ، وغيرها ، وناوله فهرسته ، وعلى الرواية المحدث المعمر أبي إسحاق بن صديق الرسام.

وذكر في فتاويه أنه لازم ابن عرفة نحو أربعين عاما ، فأخذ هديه وعلمه وطريقته ، وجالس غيره كثيرا في الفقه والرواية في الحديث وغيره ، وحصل بذلك علما كثيرا.

وقال السّخاويّ : كان البرزلي أحد أئمة المالكية ببلاده «المغرب» ، وصاحب الفتاوى المتداولة ، قدم «القاهرة» حاجا سنة ست وثمانمائة ، وأجاز لشيخنا (يعني : ابن حجر) أخذ عنه غير واحد ممن لقيناهم ، كأحمد بن يونس. توفي بتونس سنة أربع وأربعين ، على ما قيل ، أو سنة ثلاث ، عن مائة وثلاث سنين ، وحينئذ فهو آخر من في القسم الأول من معجم الحافظ ابن حجر ، وكان موصوفا بشيخ الإسلام ـ ا ه. وقد سمع الثعالبي منه ب «تونس».

وكانت وفاته سنة اثنين وأربعين ، ومولده (على ما قال السخاوي) في حدود أربعين وسبعمائة ، وممن أخذ عنه الشيخ أبو القاسم بن ناجي ، والرصاع ، والشيخ حلولو ،

١٨

وغيرهم.

٥ ـ علي بن عثمان المنجلاتي (١) ، الزواوي ، البجائي :

من علماء المالكية وفقهائها الجلة ، أخذ عن الشيخ عبد الرحمن الوغليسي وغيره ، وهو والد العلامة أبي منصور مفتي «بجاية» ، قال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في حقّه : شيخنا أبو الحسن ، الإمام الحافظ ، وعليه كانت عمدة قراءتي ببجاية ـ ا ه. وله فتاوى نقل بعضها في «المازونية» و «المعيار».

وقد سمع منه الثعالبي أثناء رحلته ب «بجاية».

٦ ـ أحمد النقاوسي البجاني (٢) ، العلامة :

قال تلميذه أبو زيد عبد الرحمن الثعالبي : هو شيخنا الإمام المحقق الجامع بين علمي المنقول والمعقول ، ذو الأخلاق المرضية ، والأحوال الصالحة السنية ـ ا ه.

وقد سمع منه الثعالبي ب «بجاية».

٧ ـ عيسى بن أحمد بن محمد بن محمد الغبريني ، أبو مهدي التونسي (٣) :

قاضي الجماعة ب «تونس» وعالمها وصالحها ، وحافظها وخطيبها ، قال الشيخ الثعالبي : شيخنا أوحد زمانه علما ودينا ـ ا ه.

ووصفه تلميذه أبو القاسم بن ناجي بأنه ممن يظن به حفظ المذهب بلا مطالعة ، وبالغ في الثناء عليه في غير موضع ، بل نقل عنه عصريه أبو القاسم البرزلي في ديوانه في غير موضع. قال السّخاويّ في «تاريخ أهل المائة التاسعة» فيه : قاضي «تونس» وعالمها ، أخذ عنه أحمد القلشاني ، والشرف العجيسي وغيرهما ، مات عام ستة عشر وثمانمائة ـ ا ه.

قال أحمد التنبكي في «نيل الابتهاج» : بل أخذ عنه غالب تلاميذ ابن عرفة المتأخرة وغيرهم ، كالبسيلي ، وأبي يحيى بن عقبة ، وعمر القلشاني ، وأبي القاسم القسنطيني ، وأبي الحسن علي بن عصفور ، وابن ناجي ، والزلديوي في خلق كثير ، قال ابن ناجي : ما رأيت أصح منه نقلا ، ولا أحسن منه ذهنا ، ولا أنصف منه ، مع كمال الرئاسة ، وشاهدت بعض

__________________

(١) وقع في «شجرة النور الزكية» هكذا : المنكلاتي. وفي غيره «المكلاتي». وهو هنا كما في «نيل الابتهاج» (٣٣٢)

(٢) ينظر ترجمته في : «نيل الابتهاج» (١١١)

(٣) ينظر ترجمته في : «شجرة النور الزكية» (٢٤٣) ، و «نيل الابتهاج» (٢٩٧)

١٩

جهّال الطلبة ، وكان مؤدبا تلقّاه لما قام في مجلسه ، وسجد بين يديه مشتكيا له بإنسان ، فصاح عليه وانتهره ، وهرب منه ، وغضب لمخالفته السنة ، وحلف له لا أسمع منه الآن كلمة واحدة ـ ا ه.

وقال تلميذه الأمير أبو عبد الله المدعو الحسن بن السلطان أبي العباس : شيخنا ابن عرفة وشيخنا الغبريني ممن يجتهد في المذهب ، ولا يحتاج للدليل على ذلك ؛ إذ العيان شاهد بتلك ـ ا ه.

وقال أبو العباس القلشاني : استناب ابن عرفة وقت سفره للحج تلميذه القاضي الجليل أبا مهدي الغبريني على إمامة جامع «الزيتونة» ، وهو المشار إليه في كلامه ، وتلميذه حينئذ قاضي الجماعة ، ثم استقل بالإمامة المذكورة بعد وفاته ، وبقي عليها حتى توفي ليلة السبت سابع عشرين من ربيع الثاني عام خمسة عشر وثمانمائة ـ ا ه.

وقد سمع منه الثعالبي ب «تونس».

٨ ـ سليمان بن الحسن البوزيدي ، الشريف التلمساني ، أبو الربيع (١) :

الإمام العالم ، المحصّل ، السيد ، قال الشيخ أبو البركات التالي : شيخنا الفقيه المحقق ، كان قائما على «المدونة» و «ابن الحاجب» ، مستحضرا لفقه ابن عبد السلام ، وأبحاثه نصب عينيه ـ ا ه.

قال القلصادي في رحلته : حضرت مجلس سيّدي سليمان البوزيدي ، وكان فقيها إماما عالما بمذهب مالك ـ ا ه.

وذكر ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياغلي ، أن من شيوخه صاحب الترجمة ، وأنه وصف بالشريف ، الحسيب النسيب ، الفقيه العالم ، المحقق الأفضل ـ ا ه.

قال الونشريسي : شيخ شيوخنا ، الفقيه المحصّل المحقّق ، له إشكالات وجهها لعالم تونس أبي عبد الله بن عقاب ، فأجابه عنها ـ ا ه.

وقال في وفياته : توفي شيخ شيوخنا ، الحافظ الذاكر ، شيخ الفروع أبو الربيع سليمان الشريف عام خمسة وأربعين وثمانمائة.

وسمع منه الثعالبي ب «بجاية».

__________________

(١) تنظر ترجمته في : «نيل الابتهاج» (١٨٥)

٢٠