تفسير الثعالبي - ج ١

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ١

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

يعلمون. وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف ، إنما هو على جهة التقرير والتوقيف».

ثم عاد وذكر المسألة عينها عند تفسير قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ...) الآية (٢٨٦) من سورة البقرة ، وحكى مذهب أبي الحسن الأشعري.

ومنها أيضا : مسألة كلام الله تعالى ، فتحدث عن مذهب أهل السّنة فيه ، عند قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ ...) الآية [البقرة : ٣٣] ، فقال : «وهذا هو قول أهل السّنة ، والحق أن كلام الله (عزوجل) صفة من صفات ذاته يستحيل عليها النّقص ... إلخ».

ومنها : تعرّضه لمسألة الكسب عند تفسير قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ...) الآية [البقرة : ٩٥].

ومنها : مسألة رؤية الله تعالى ، وهذه قد تعرض لها الثعالبي بالذكر عند قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، فأشار إلى أن مذهب أهل السّنة امتناع ذلك في الدنيا ، وأنه من طريق السمع ورد ، ثم عاد فرد على الزمخشري ، عند تفسير الآية (١٤٣) من سورة «الأعراف».

ومنها : مسألة عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، وقد ذكرها عند تفسير قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا) [البقرة : ١٢٨] وحكى إجماع الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة ، وخلافهم في غير ذلك من الصغائر. وحكاية الإجماع إنما نقلها من مختصر الطبري.

ثالثا : مسائل أصول الفقه في تفسيره :

ولم يتوسّع الثعالبي في ذكر مصادر اعتمد عليها في المسائل الأصولية غير ما ذكره من مختصر ابن الحاجب.

ومن المسائل التي أوردها كلامه على «النسخ» لغة واصطلاحا ، وذلك عند قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ...) [البقرة : ١٠٦] ، فنقل كلام ابن الحاجب ، ثم قال : انتهى من مختصره الكبير ، ثم تعرض لجواز النسخ عقلا ، وأن البداء لا يجوز على الله تعالى ، وبين أن المنسوخ هو الحكم الثابت نفسه ، لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل.

كما أنه تعرض لمسألة التقبيح والتحسين ، وأنهما في الأحكام من جهة الشرع ، لا

١٠١

بصفة نفسية.

ومنها : كلامه على تخصيص العموم ، وأن العام المخصّص حجّة في غير محل التخصيص ، ونقل عن الرازي قوله : وقد ثبت في أصول الفقه ؛ أنه إذا وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص ، كان رفع الإجمال أولى ؛ لأن العام المخصص حجة في غير محلّ التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا. ثم قال الثعالبي : وهو حسن.

رابعا : تعرضه لآيات الأحكام ، وذكره للاختلافات الفقهية :

قدمنا أن الثعالبي ـ رحمه‌الله ـ نقل من أحكام القاضي ابن العربي ، ولم لا ؛ فالرجل مذهبه مالكي مثله ، ولا غرو ، فكان بدهيا أن ينقل ما يخص آيات الأحكام ، ويذكر خلاف أهل العلم فيها.

ومن ذلك : آية الوضوء والطهارة ، وهي الآية السادسة من سورة المائدة ، فنجد الثعالبي يقول : قال ابن العربي في أحكامه ... ثم حكى كلامه ، ونقل المسائل الفقهية منه ، ومنها : قوله : واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا ... واختلف في ردّ اليدين في مسح الرأس هل هو فرض أو سنة؟ ...

ومنها : آية قصر الصلاة ، في قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١].

فقال : قال مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن راهويه : تقصر الصلاة في أربعة برد ، وهي ثمانية وأربعون ميلا ، وحجتهم : أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس. وقال الحسن ، والزهري : تقصر في مسيرة يومين. وروي هذا أيضا عن مالك ، وروي عنه : تقصر في مسافة يوم وليلة.

ثم قال : وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى ، والجمهور على جواز القصر في السّفر المباح ... إلخ.

ومنها : تعرضه لشهادة القاذف إذا تاب ، وذلك في تفسير سورة النور ، عند قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [النور : ٤ ـ ٥]. وحكى عن الجمهور قبول شهادته إذا تاب. قال : ثم اختلفوا في صورة توبته : فقيل : بأن يكذب نفسه ، وإلا لم تقبل ، وقالت فرقة منها مالك : توبته أن يصلح وتحسن حاله ، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب. واختلف فقهاء المالكية متى تسقط شهادة القاذف ، فقال ابن الماجشون :

١٠٢

بنفس قذفه ، وقال ابن القاسم وغيره : لا تسقط حتى يجلد ، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته ، ... إلخ كلامه».

وفي اللّعان يقول : وتحريم اللعان أبدي باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك.

ويلاحظ على الثعالبي أنه لم يتوسّع في الاحتجاج للمسائل الفقهية ، كما صنع القرطبي ـ مثلا ـ ومن قبله ابن العربي ، ولعلّ السّبب في ذلك هو أنه لم يخصص تفسيره لنقل الأحكام ، وإلا لكان كتاب فقه لا تفسير ، وهو قد نص في مقدمته على أنه مختصر ، فقال : «فإني جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ... إلخ».

خامسا : احتجاجه باللّغة والمسائل النحوية ، والتصريفية وغيرها :

وقد ذكرنا آنفا أنه ينقل من الغريبين لأبي عبيد الهروي ، ويفسر الألفاظ التي ترد مشكلة ، فإذا كانت ذات دلالة شرعية نص عليها ، كما وجدناه ينقل المسائل النحوية معتمدا على كلام الصفاقسي في اختصاره من أبي حيان.

فمنها : تفسيره للفظ «القسيس» في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) [المائدة : ٨٢] ، فنراه يقول : قال الفخر : القس والقسيس : اسم رئيس النصارى ، والجمع : قسيسون ، وقال قطرب : القس والقسيس : العالم ، بلغة الروم ...».

ويقول في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ...) الآية [آل عمران : ١٥٦] قال ابن عطية : الرجس : كل مكروه ذميم ، وقد يقال للعذاب والرجز : العذاب لا غير ، والركس : العذرة لا غير ، والرجس يقال للأمرين.

ويقول في قوله تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧] قال أبو عبيد الهروي : أي : انبساطا وتوسّعا في العلم ، وطولا وتماما في الجسم ...

وفي قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) [البقرة : ٢٦٠] يقول : يقال : صرت الشيء أصوره ، بمعنى : قطعته ، ويقال أيضا : صرت الشيء ، بمعنى : أملته ... إلخ».

وأما ذكره للمسائل النحوية ، فكثير جدا ، فمثلا في قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً ...) [طه : ١٢٩] ينقل عن الصفاقسي قوله : «ولزاما» إما مصدر ، وإما بمعنى ملزم. وأجاز أبو البقاء أن يكون جمع لازم ، كقائم وقيام.

وفي قوله تعالى : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٥].

١٠٣

نقل عن الصفاقسي قوله : وقولهم : «لقد علمت» جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال ، أي : قائلين : لقد علمت.

وفي أصل الكلمة يقول عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ...) [الأعراف : ٣٨] : و «ادّاركوا» معناه : تلاحقوا. أصله : تداركوا أدغم ، فجلبت ألف الوصل.

ويذكر بعض لغات العرب ، فيقول عند تفسير قوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ...) [يوسف : ٣٦] : قيل فيه : إنه سمى العنب خمرا بالمئال. وقيل : هي لغة أزد عمان ، يسمون العنب خمرا.

سادسا : ذكره لأسباب النّزول ، ومكّيّ القرآن ومدنية :

وهذا الفنّ شريف عزيز ، فبه يستطيع المفسر أن يحسن الوصول إلى المعنى من الآية ، فيسهل فهمها بمعرفة الملابسات التي أحاطت بنزولها.

وقد ذكر الثعالبي أسباب نزول بعض الآيات ، فمثلا :

في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] يقول : «خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة ، ومن ابن عمه شيبة ، فطلبه العباس بن عبد المطلب ؛ ليضيف السّدانة إلى السّقاية ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة ، وكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج مقام إبراهيم ، ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب : فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه ، فدعا عثمان وشيبة ، فقال لهما : خذاها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ..».

وفي قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ...) [النساء : ١٢٨] يقول : واختلف في سبب نزول الآية ، فقال ابن عباس وجماعة : «نزلت في النبي ـ عليه‌السلام ـ وسودة بنت زمعة ...» ثم حكى أقوالا أخرى.

وفي قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) [الإسراء : ٨٥] يقول : روى ابن مسعود ؛ أن اليهود قال بعضهم لبعض : سلوا محمدا عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ... فسألوه ، فنزلت الآية. وقيل : إن الآية مكية ، والسائلون هم قريش بإشارة اليهود.

وأما ما ذكره لمكّي القرآن ومدنيّه ، فكان يذكر في أوائل السور كونها مكية أو مدنية ،

١٠٤

فمثلا في سورة الحجرات يقول : وهي مدنية بإجماع ، ويقول في «ق» : وهي مكية بإجماع ، وفي سورة الأنفال : مدنية كلها ، قال مجاهد : إلا آية واحدة ، وهي قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية.

وفي سورة هود : «مكية إلا نحو ثلاث آيات ...» وهكذا.

سابعا : ذكره للقراءات الواردة في الآية :

وبداية ؛ فإن للقراءات الواردة في كتاب الله (تعالى) أثرا كبيرا في إثراء التفاسير بالمعاني المختلفة المتنوعة ، مع اشتراط ما اشترطه أهل هذا الفنّ من ضوابط للقراءة المقبولة ، واختلاف هذه القراءات له فوائد جمّة :

منها : جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها ، وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم ، والذي انتظم كثيرا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحجّ ، وأسواق العرب المشهورة ، فكان القرشيون يستملحون ما شاءوا ، ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب وحدب ، ثم يصقلونه ويهذبونه ، ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة ، التي أذعن جميع العرب لها بالزعامة ، وعقدوا لها راية الإمامة.

وعلى هذه السياسة الرشيدة نزل القرآن على سبعة أحرف يصطفي ما شاء من لغات القبائل العربية ، على نمط سياسة القرشيين ، بل أوفق. ومن هنا صحّ أن يقال : إنه نزل بلغة قريش ؛ لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى ، وكانت هذه حكمة إلهية سامية ؛ فإن وحدة اللسان العامّ من أهمّ العوامل في وحدة الأمة ، خصوصا أول عهد بالتوثب والنهوض.

ومنها : بيان حكم من الأحكام ، كقوله سبحانه : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) [النساء : ١٢] قرأ سعد بن أبي وقاص : «وله أخ أو أخت من أمّ» بزيادة لفظ : «من أمّ» ، فتبين بها أن المراد بالإخوة في هذا الحكم الإخوة للأم دون الأشقاء ، ومن كانوا لأب ، وهذا أمر مجمع عليه.

ومثل ذلك قوله سبحانه في كفارة اليمين : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة : ٨٩] ، وجاء في قراءة : «أو تحرير رقبة مؤمنة» بزيادة لفظ «مؤمنة» فتبين بها اشتراط الإيمان في الرقيق الذي يعتق كفارة يمين.

١٠٥

وهذا يؤيد مذهب الشافعي ، ومن نحا نحوه في وجوب توافر ذلك الشرط.

ومنها : الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين ، كقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢] قرىء بالتخفيف والتشديد في حرف الطاء من كلمة «يطهرن» ، ولا ريب أنّ صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في طهر النساء من الحيض ؛ لأن زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى ، أما قراءة التخفيف ، فلا تفيد هذه المبالغة ، ومجموع القراءتين يحكم بأمرين : أحدهما : أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر ؛ وذلك بانقطاع الحيض. وثانيهما : أنها لا يقربها زوجها أيضا إلّا إن بالغت في الطهر ، وذلك بالاغتسال ، فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء ، وهو مذهب الشافعي ، ومن وافقه أيضا.

ومنها : الدلالة على حكمين شرعيين ، ولكن في حالين مختلفين ؛ كقوله تعالى في بيان الوضوء : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] قرىء بنصب لفظ «أرجلكم» ، وبجرها ، فالنصب يفيد طلب غسلها ؛ لأن العطف حينئذ يكون على لفظ : «وجوهكم» المنصوب ، وهو مغسول ، والجرّ يفيد طلب مسحها ؛ لأن العطف حينئذ يكون على لفظ «رءوسكم» المجرور ، وهو ممسوح. وقد بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن المسح يكون للابس الخف ، وأنّ الغسل يجب على من لم يلبس الخف.

ومنها : دفع توهّم ما ليس مرادا : كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] وقرىء : «فامضوا إلى ذكر الله» ، فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة ، ولكنّ القراءة الثانية رفعت هذا التوهم ؛ لأن المضيّ ليس من مدلوله السرعة.

ومنها : بيان لفظ مبهم على البعض : نحو قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] وقرىء : «كالصوف المنفوش» ، فبينت القراءة الثانية أنّ العهن هو الصوف.

ومنها : تجلية عقيدة ضلّ فيها بعض الناس : نحو قوله تعالى في وصفه الجنة وأهلها : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان : ٢٠] جاءت القراءة بضم الميم ، وسكون اللام في لفظ : «وملكا كبيرا» ، وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم ، وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه ، فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية

١٠٦

المؤمنين لله ـ تعالى ـ في الآخرة ؛ لأنه ـ سبحانه ـ هو الملك وحده في تلك الدار : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦].

* والخلاصة : أن تنوّع القراءات ، يقوم مقام تعدّد الآيات ؛ وذلك ضرب من ضروب البلاغة ، يبتدىء من جمال هذا الإيجاز ، وينتهي إلى كمال الإعجاز.

أضف إلى ذلك ما في تنوّع القراءات من البراهين الساطعة ، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله ، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضادّ ، ولا إلى تهافت وتخاذل ، بل القرآن كله على تنوّع قراءاته ، يصدّق بعضه بعضا ، ويبين بعضه بعضا ، ويشهد بعضه لبعض ، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير ، وهدف واحد من سموّ الهداية والتعليم ، وذلك ـ من غير شك ـ يفيد تعدّد الإعجاز بتعدّد القراءات والحروف.

ومعنى هذا : أن القرآن يعجز إذا قرىء بهذه القراءة ، ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه القراءة الثانية ، ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه القراءة الثالثة ، وهلمّ جرّا. ومن هنا تتعدّد المعجزات بتعدّد تلك الوجوه والحروف!

ولا ريب أن ذلك أدلّ على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان ، على كل حرف ووجه ، وبكل لهجة ولسان : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢].

ولقد كان الثعالبي ـ رحمه‌الله ـ يكثر من إيراد القراءات متواترة وشاذة ، وكان معتمده الأول على تفسير ابن عطية ، فكان ينقل منه مواضع القراءات ووجوهها.

ومن أمثلة نقله للقراءات :

١ ـ في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) [البقرة : ١٨٤] قال : قرأ باقي السبعة غير نافع وابن عامر : «فدية» بالتنوين ، «طعام مسكين» بالإفراد. قال : «وهي قراءة حسنة ...».

٢ ـ في قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] قال : وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم : «صوافن» جمع : صافنة ، وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل ؛ لئلا تضطرب ، ومنه في الخيل : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) [ص : ٣١].

٣ ـ وفي قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] قال : وقرأ

١٠٧

حمزة وغيره : «وأرجلكم» بالخفض ، وقرأ نافع وغيره بالنصب ، والعامل «اغسلوا». ومن قرأ بالخفض ، جعل العامل أقرب العاملين. وجمهور الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل ، وأن المسح لا يجزىء ... ثم قال : قال ابن العربي في «القبس» : ومن قرأ «وأرجلكم» بالخفض ، فإنه أراد المسح على الخفين ، وهو أحد التأويلات في الآية. انتهى.

٤ ـ ثم يحتج ببعض القراءات الشّاذّة على تعضيد المعنى ، مثل ما ذكره عند قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) الآية [التوبة : ١٢٨] قال : وقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يقتضي مدحا لنسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه من صميم العرب وشرفها ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفسكم» ـ بفتح الفاء ـ من النفاسة ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثامنا : احتجاجه بالشّعر :

الشعر ديوان العرب ؛ ففيه تاريخهم ، وآثارهم ، وبه يفتخرون ، ويمتدحون ، ويرغبون ، ويرهبون ، ولم لا وهم قوم الفصاحة والبيان ؛ وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة».

وقد مضى سلف الأمة من المفسرين على الاحتجاج بأشعار العرب ، وما قصة نافع بن الأزرق مع ابن عباس ببعيدة عن ذلك.

وقد ذكرت أقوال كثيرة عن ابن عباس تدل على جواز الاحتجاج بالشعر في تفسير الكتاب العزيز ، منها : الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها ، فالتمسنا معرفة ذلك منه.

ومن سؤالات نافع ونجدة بن عويمر ؛ أنهما قالا : أخبرنا عن قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [المعارج : ٣٧] ، قال : العزون : الحلق الرقاق. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم. أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول : [الوافر]

فجاءوا يهرعون إليه حتّى

يكونوا حول منبره عزينا

وهكذا كانت إجابات ابن عباس ، قال أبو عبيد في فضائله : حدثنا هشيم ؛ عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة ؛ عن ابن عباس ؛ أنه كان يسأل عن القرآن ، فينشد فيه الشعر.

ومن هنا وجدنا الإمام الثعالبي يستشهد بأشعار العرب ، فمن ذلك :

١٠٨

١ ـ احتجاجه لقراءة ابن كثير (آتَيْتُمْ) [البقرة : ٢٣٣] بمعنى فعلتم ـ بقول زهير : [الطويل]

وما كان من خير أتوه فإنّما

توارثه آباء آبائهم قبل

٢ ـ واحتجاجه لمعاني بعض الألفاظ ، مثل قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء : ٨٥]. فقال : مقيتا : معناه : قديرا ؛ ومنه قول الزبير بن عبد المطلب : [الوافر]

وذي ضغن كففت النّفس عنه

وكنت على إساءته مقيتا

ومنه : احتجاجه على أن من معنى «الجهالة» أن يتعمد الأمر فيركبه ، مع عدم مضادة للعلم قال : فمنها قول الشاعر : [الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

٣ ـ ومنه احتجاجه على المسائل النحوية ، فمثلا في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر : ٩] يقول نقلا عن الصفاقسي : و «الإيمان» منصوب بفعل مقدر ، أي : واعتقدوا الإيمان ، فهو من عطف الجمل ؛ كقوله : [الرجز]

علفتها تبنا وماء باردا

 ............................

وهذا بالإضافة إلى شعر الزّهد والرقائق الذي ضمنه تفسيره ، والذي يقرؤه القارئ الكريم ، فيستشعر عذوبته ورقّته ، وحسن اختياره ومكانه.

تاسعا : موقفه من الإسرائيليّات :

بادىء ذي بدء ، فإن الجنس البشري مرّ عليه قرون عديدة ، وأزمان بعيدة ، حملت في طيّاتها أخبارا ، وأحوالا ، وتارة أهوالا ، فأخبر بها السّلف الخلف ، والمتقدم المتأخر.

وإن هذه الأمة المباركة هي الآخرة في تلك السلسلة المديدة من عمر البشرية ، فكان لها زبدة الأخبار ، والرصيد الأكبر من تواريخ الأمم والشعوب ، فحظيت بالعبر والعظات ، والسعيد من وعظ بغيره.

ولأن أهل الكتاب كانوا سابقين علينا ، فقد روي لنا ، ورووا هم من أخبارهم وأخبار السابقين ، وفي هذا يقول نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».

فكان ما أخبرونا به على ثلاثة أقسام :

١٠٩

١ ـ قسم صدقهم فيه الوحي ، فنصدقهم فيه.

٢ ـ قسم أكذبهم فيه الوحي ، فنكذبهم فيه.

٣ ـ قسم سكت عنه ، فنسكت عنه ، ونقول : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.

ولكن ما المقصود ب «الإسرائيليات»؟!!

الإسرائيليات : جمع إسرائيلية ، نسبة إلى بني إسرائيل ، والنسبة في مثل هذا تكون لعجز المركب الإضافي لا لصدره ، وإسرائيل هو : يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أي : عبد الله ، وبنو إسرائيل هم : أبناء يعقوب ، ومن تناسلوا منهم فيما بعد ، إلى عهد موسى ، ومن جاء بعده من الأنبياء ، حتى عهد عيسى ـ عليه‌السلام ـ وحتى عهد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد عرفوا ـ «باليهود» ، أو «بيهود» من قديم الزمان ، أما من آمنوا بعيسى : فقد أصبحوا يطلق عليهم اسم «النصارى» ، وأما من آمن بخاتم الأنبياء : فقد أصبح في عداد المسلمين ، ويعرفون بمسلمي أهل الكتاب».

وقد أكثر الله من خطابهم ببني إسرائيل في القرآن الكريم تذكيرا لهم بأبوة هذا النبي الصالح ، حتى يتأسوا به ، ويتخلقوا بأخلاقه ، ويتركوا ما كانوا عليه من نكران نعم الله عليهم ، وعلى آبائهم ، وما كانوا يصفون به من الجحود ، والغدر ، واللؤم ، والخيانة وكذلك ذكرهم الله ـ سبحانه ـ باسم اليهود في غير ما آية. وأشهر كتب اليهود هي : التوراة ، وقد ذكرها الله في قوله تعالى : (الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ١ ـ ٤]. وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ...) [المائدة : ٤٤] والمراد بها : التوراة التي نزلت من عند الله قبل التحريف والتبديل ، أما التوراة المحرفة المبدلة ، فهي بمعزل عن كونها كلها هداية ، وكونها نورا ، ولا سيما بعد نزول القرآن الكريم ، الذي هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية السابقة ، فما وافقه فهو حق ، وما خالفه فهو باطل.

ومن كتبهم أيضا : الزبور ، وأسفار الأنبياء ، الذين جاءوا بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ وتسمى التوراة ، وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها (بالعهد القديم).

وكان لليهود بجانب التوراة المكتوبة التلمود ، وهي التوراة الشفهية ، وهو مجموعة

١١٠

قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية ، ومدنية ، وشروح ، وتفاسير ، وتعاليم ، وروايات كانت تتناقل وتدرس شفهيا من حين إلى آخر ... وقد اتسع نطاق الدرس والتعليم فيه إلى درجة عظيمة جدّا ، حتى صار من الصعب حفظه في الذاكرة ، ولأجل دوام المطالعة ، والمداولة ، وحفظا للأقوال والنصوص ، والآراء الأصلية المتعددة والترتيبات ، والعادات الحديثة ، وخوفا من نسيانها وفقدانها ، مع مرور الزمن ، وخصوصا وقت الاضطهادات ، والاضطرابات ، قد دوّنها الحاخامون بالكتابة سياجا للتوراة ، وقبلت كسنّة من سيدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ومن التوراة وشروحها ، والأسفار وما اشتملت عليه ، والتلمود وشروحه ، والأساطير والخرافات ، والأباطيل التي افتروها ، أو تناقلوها عن غيرهم : كانت معارف اليهود وثقافتهم ، وهذه كلها كانت المنابع الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب التفسير ، والتاريخ والقصص والمواعظ ، وهذه المنابع إن كان فيها حق ، ففيها باطل كثير ، وإن كان فيها صدق ، ففيها كذب صراح ، وإن كان فيها سمين ففيها غثّ كثير ، فمن ثم انجرّ ذلك إلى الإسرائيليات ، وقد يتوسع بعض الباحثين في الإسرائيليات ، فيجعلها شاملة لما كان من معارف اليهود ، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل وشروحها ، والرسل وسيرهم ، ونحو ذلك ، وإنما سميت إسرائيليات ؛ لأن الغالب والكثير منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل ، أو من كتبهم ومعارفهم ، أو من أساطيرهم وأباطيلهم.

والحق : أن ما في كتب التفسير من المسيحيات ، أو من النصرانيات هو شيء قليل بالنسبة إلى ما فيها من الإسرائيليات ، ولا يكاد يذكر بجانبها ، وليس لها من الآثار السيئة ما للإسرائيليات ؛ إذ معظمها في الأخلاق ، والمواعظ ، وتهذيب النفوس ، وترقيق القلوب (١).

والملاحظ أن الثعالبي ـ رحمه‌الله ـ كغيره من التفاسير ـ ذكر بعض الإسرائيليات ، ولكنه يعقب ما يذكره بما يفيد عدم صحته ، أو على الأقل بما يفيد عدم القطع بصحته.

ومن ذلك في قوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠].

فالثعالبي يقول : ... وروي في قصص ذلك أن الشيطان أشار على حواء أن تسمي هذا المولود عبد الحارث ، وهو اسم إبليس ، وقال لها : إن لم تفعلي قتلته ، فزعموا أنهما

__________________

(١) ينظر : «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» ، د. محمد محمد أبو شهبة ، ط. مجمع البحوث الإسلامية ، القاهرة ١٤٠٤ ه‍ ، ص ٢١ فما بعدها.

١١١

أطاعاه ... ثم ذكر القصة وقال : قلت : وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس ، ولم أقف بعد على صحة ما روي من هذه القصص ، ولو صحّ لوجب تأويله ... قال : وعلى كل حال : الواجب التوقّف والتّنزيه لمن اجتباه الله ، وحسن التأويل ما أمكن ، وقد قال ابن العربي في توهين هذا القول وتزييفه : وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره ، وفي الإسرائيليات التي ليس لها ثبات ، ولا يعول عليها من له قلب ... إلخ».

ومنه أيضا عند تفسير قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) [النمل : ٢٠].

يقول : وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره ؛ لعدم صحته.

ونراه ينتقد ما يروى من آثار إذا خالفت الشّرع ، أو ما لا يليق أن ينسب إلى الوحي.

فمثلا عند تفسير قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] ـ يذكر حديث الغرانيق ، ثم يحكي عن أئمة المالكية مثل القاضي عياض ، وأبي بكر بن العلاء إنكارهم لهذه الرواية ، وأمثالها ، ثم قال : قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره ...» وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزاهته عن مثل هذا.

ومنه أيضا ما ذكره في قصّة بني إسرائيل لما سألوا عيسى ابن مريم مائدة من السماء [المائدة : ١١٣ ـ ١١٥] ، ثم قال : وأكثر الناس في قصص المائدة مما رأيت اختصاره ؛ لعدم سنده.

وعلى أية حال ، فإن الملاحظ على الثعالبي ـ رحمه‌الله ـ ندرة إيراده للإسرائيليات جدا ، فإن أورد بعض ذلك نبّه عليه ؛ كما تقدم.

١١٢

وصف النسخ المعتمد عليها

في كتاب تفسير «الثعالبي» المسمى

بجواهر الحسان في تفسير القرآن

اعتمدنا في تحقيق الكتاب على أربع نسخ خطية.

ووصفها على النحو التالي :

النسخة الأولى : المحفوظة بدار الكتب المصرية / تحت رقم (٤٥٣) طلعت ، تقع في (٣١٣) ورقة ، وسطرتها ٢٨ سطرا ؛ ورمزنا لها بالرمز (أ).

النسخة الثانية : المحفوظة بدار الكتب المصرية ، تبدأ من الكهف إلى آخر القرآن ، تقع تحت رقم (٥) تفسير ، الجزء الثاني فقط ، ورمزنا لها بالرمز (ب).

النسخة الثالثة : المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (١١٥٧) تفسير ، تقع في (٢١٦) ورقة ، سطرتها (٣٣) سطرا وهي من مريم إلى آخر القرآن ، ورمزنا لها بالرمز (ج).

النسخة الرابعة : المحفوظة بدار الكتب المصرية ، وهي من أول الزمر إلى آخر القرآن ، وتحت رقم (٤٧) تفسير م ، وتقع في (٢٤٨) ورقة ، ومسطرتها (١٩) سطرا ، ورمزنا لها بالرمز (د) ، هذا ، وكان من النسخ المطبوعة المعتمد عليها طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. وقد رمزنا لها بالرمز (ط).

عملنا في الكتاب

قمنا في تحقيق الكتاب بما يلي :

أولا : المقابلة وإثبات ما كان صوابا في النص ومخالفه في هامش الكتاب ، وقمنا بضبط ما أشكل من الكتاب.

ثانيا : عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها.

ثالثا : تخريج الأحاديث النبوية والآثار.

رابعا : ترجمة للأعلام الوارد أسمائهم بالكتاب.

١١٣

خامسا : شرح غريب النص. معتمدين في ذلك على كتب المعاجم.

سادسا : التعليق على بعض المسائل الفقهية.

سابعا : التعليق على بعض المسائل النحوية المشار إليها في النص.

ثامنا : توثيق للقراءات الواردة في الكتاب ، وبيان ما أبهمه المصنف منها.

تاسعا : توثيق لبعض المصادر التي اعتمد عليها المصنف.

عاشرا : وضع مقدمة للكتاب وترجمة لمؤلفه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

١١٤

١١٥

١١٦

الجزء الأول من تفسير الثعالبي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

يقول العبد الفقير إلى الله تعالى المعترف بذنبه ، الراجي رحمة ربّه ، عبد الرّحمن بن محمّد بن مخلوف الثّعالبيّ ، لطف الله به في الدّارين وبسائر المؤمنين.

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلوات ربّنا وسلامه على سيدنا محمّد خاتم النبيّين ، وعلى آله وصحبه السادة المكرمين ، والحمد لله الذي منّ علينا بالإيمان ، وشرّفنا بتلاوة القرآن ، فأشرقت علينا بحمد الله أنواره ، وبدت لذوي المعارف عند التلاوة أسراره ، وفاضت على العارفين عند التدبّر والتأمّل بحاره ، فسبحان من أنزل على عبده الكتاب ، وجعله لأهل الفهم المتمسكين به من أعظم الأسباب ؛ (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

أمّا بعد ، أيّها الأخ ، أشرق الله قلبي وقلبك بأنوار اليقين ، وجعلني وإيّاك من أوليائه المتّقين ، الذين شرّفهم بنزل قدسه ، وأوحشهم من الخليقة بأنسه ، وخصّهم من معرفته ، ومشاهدة عجائب ملكوته ، وآثار قدرته ، بما ملأ قلوبهم حبره ، وولّه عقولهم في عظمته حيره ، فجعلوا همّهم به واحدا ، ولم يروا في الدارين غيره ، فهم بمشاهدة كماله وجلاله يتنعّمون ؛ وبين آثار قدرته وعجائب عظمته يتردّدون ، وبالانقطاع إليه والتوكّل عليه يتعزّزون ، لهجين بصادق قوله : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١] فإنّي جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عيني وعينك في الدارين ؛ فقد ضمّنته بحمد الله المهمّ مما اشتمل عليه تفسير ابن عطيّة (١) ، وزدتّه فوائد جمّه ، من غيره من كتب الأئمّة ، وثقات أعلام هذه الأمّة ، حسبما رأيته أو روّيته عن الأثبات ، وذلك قريب من مائة تأليف ، وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين ، ومعدود في

__________________

(١) عبد الحق بن غالب بن عطية الغرناطي ، كان فقيها جليلا ، عارفا بالأحكام ، والحديث ، والتفسير ، نحويا ، لغويا ، أديبا ، روى عنه ابن مضاء وغيره ، له «تفسير القرآن العظيم» مات سنة ٥٤١ ه‍.

ينظر : «طبقات المفسرين» ـ للسيوطي ـ ص ٦٠ ، ٦١ «بغية الوعاة» (٢ / ٧٣ ، ٧٤) ، «طبقات المفسرين» للداوودي (١ / ٢٦٥)

١١٧

المحقّقين ، وكلّ من نقلت عنه من المفسّرين شيئا فمن تأليفه نقلت ، وعلى لفظ صاحبه عوّلت ، ولم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى ؛ خوف الوقوع في الزّلل ، وإنما هي عبارات وألفاظ لمن أغزوها إليه ، وما انفردت بنقله عن الطبريّ (١) ، فمن اختصار الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد اللّخميّ النحويّ لتفسير الطبريّ ـ نقلت ؛ لأنه اعتنى بتهذيبه ، وقد أطنب أبو بكر بن الخطيب في حسن الثناء على الطبري ومدح تفسيره ، وأثنى عليه غاية نسأل الله تعالى أن يعاملنا وإياهم برحمته ، وكلّ ما في آخره انتهى ، فليس هو من كلام ابن عطيّة ، بل ذلك مما انفردت بنقله عن غيره ، ومن أشكل عليه لفظ في هذا المختصر ، فليراجع الأمّهات المنقول منها ، فليصلحه منها ، ولا يصلحه برأيه وبديهة عقله ؛ فيقع في الزّلل من حيث لا يشعر ، وجعلت علامة التاء لنفسي بدلا من «قلت» ومن شاء كتبها «قلت» ، وأمّا العين ، فلابن عطيّة ، وما نقلته من الإعراب عن غير ابن عطية فمن الصّفاقسيّ (٢) مختصر أبي حيّان (٣) غالبا ، وجعلت الصّاد علامة عليه ، وربّما نقلت عن غيره معزّوا لمن عنه نقلت ، وكلّ ما نقلته عن أبي حيّان ، فإنما نقلي له بواسطة الصّفاقسيّ غالبا ، قال الصّفاقسيّ : وجعلت علامة ما زدتّه على أبي حيّان* م*.

وما يتّفق لي إن أمكن ، فعلامته «قلت» ، وبالجملة فحيث أطلق فالكلام لأبي

__________________

(١) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ، الإمام العلم صاحب التفسير المشهور ، مولده سنة ٢٢٤ ، أخذ الفقه عن الزعفراني والربيع المرادي ، وذكر الفرغاني عند عد مصنفاته كتاب : لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام ، وهو مذهبه الذي اختاره وجوّده واحتج له ، وهو ثلاثة وثمانون كتابا. مات سنة ٣١٠.

انظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ١٠٠) ، «تاريخ بغداد» (٢ / ١٦٢) ، «تذكرة الحفاظ» (٢ / ٦١٠)

(٢) هكذا بصاد ثم فاء كما ذكره المؤلف وفي الكتب بالسين ثم فاء ، وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ، القيسي ، السفاقسي ، أبو إسحاق ، برهان الدين : فقيه مالكي. تفقه في «بجاية» ، وحج فأخذ عن علماء «مصر» و «الشام». وأفتى ودرّس سنين. له مصنفات منها «المجيد في إعراب القرآن المجيد» ويسمى «إعراب القرآن» ، و «شرح ابن الحاجب» في أصول الفقه.

ينظر : «الأعلام» (١ / ٦٣) ، و «الدرر الكامنة» (١ / ٥٥) ، و «النجوم الزاهرة» (١٠ / ٩٨)

(٣) محمد بن يوسف بن علي بن حيان بن يوسف ، الشيخ الإمام العلامة ، الحافظ ، المفسر النحوي ، اللغوي ، أثير الدين ، أبو حيان الأندلسي ، الجياني ، الغرناطي ، ثم المصري. ولد في ٦٥٢ ه‍. قرأ العربية على رضي الدين القسنطيني ، وبهاء الدين بن النحاس ، وغيرهم ، سمع نحوا من أربعمائة شيخ ، وكان ظاهريا ، فانتمى إلى الشافعية ، له مصنفات منها : «البحر المحيط في التفسير» و «النهر في البحر» ، و «شرح التسهيل» ، و «ارتشاف الضرب». سمع منه الأئمة العلماء ، وأضر قبل موته بقليل ، توفي بالقاهرة في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

ينظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (٣ / ٦٧) ، «الأعلام» (٨ / ٢٦) ، «طبقات السبكي» (٦ / ٣١) ؛ «الدرر الكامنة» (٤ / ٣٠٢)

١١٨

حيّان ، وما نقلته من الأحاديث الصّحاح والحسان عن غير البخاريّ ومسلم وأبي داود والتّرمذيّ في باب الأذكار والدّعوات ـ فأكثره من «النّوويّ» (١) و «سلاح المؤمن» ، وفي الترغيب والترهيب وأحوال الآخرة فمعظمه من «التذكرة» للقرطبي (٢) ، و «العاقبة» لعبد الحقّ ، وربّما زدتّ زيادات كثيرة من «مصابيح البغويّ» (٣) وغيره ؛ كما ستقف عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ كلّ ذلك معزوّ لمحالّه ، وبالجملة فكتابي هذا محشوّ بنفائس الحكم ، وجواهر السّنن الصحيحة والحسان المأثورة عن سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال أبو عمر بن عبد البرّ (٤) في كتاب «التّقصّي» (٥) : وأولى الأمور بمن نصح نفسه ، وألهم رشده ـ معرفة

__________________

(١) يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام ، شيخ الإسلام محيي الدين ، أبو زكريا الحزامي النووي ، ولد سنة ٦٣١ ، قرأ القرآن ببلده ، وختم وقد ناهز الاحتلام ، وكان محققا في علمه وفنونه ، مدققا في علمه وشؤونه ، حافظا لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عارفا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه ، واستنباط فقهه .. في كثير من المناقب يطول ذكرها صنف «المنهاج في شرح مسلم» ، و «المجموع» و «الأذكار» وغيرها. مات سنة ٦٧٧.

انظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (٢ / ١٥٣) ، «طبقات السبكي» (٥ / ١٦٥) ، «النجوم الزاهرة» (٧ / ٢٧٨)

(٢) محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح ، الأنصاري ، الخزرجي ، الأندلسي ، أبو عبد الله ، القرطبي : من كبار المفسرين ، صالح متعبد من أهل «قرطبة». رحل إلى الشرق واستقر بمنية ابن خصيب (في شمالي أسيوط ، بمصر) وتوفي فيها. من كتبه «الجامع لأحكام القرآن» يعرف بتفسير القرطبي ، و «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة». وكان ورعا متعبدا ، طارحا للتكلف ، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية. ينظر : «الأعلام» (٥ / ٣٢٢) ، «الديباج» (٣١٧)

(٣) الحسين بن مسعود بن محمد ، العلامة محيي السنة ، أبو محمد البغوي ، يعرف بالفراء أحد الأئمة ، تفقه على القاضي الحسين ، وكان دينا ، عالما ، عاملا على طريقة السلف ، قال الذهبي : كان إماما في التفسير ، إماما في الحديث ، إماما في الفقه. بورك له في تصانيفه ورزق القبول لحسن قصده وصدق نيته. ومن تصانيفه : «التهذيب» ، و «شرح المختصر» ، وتفسيره «معالم التنزيل». وغيرها. مات سنة ٥١٦.

انظر : «طبقات ابن قاضي شهبة» (١ / ٢٨١) ، «وفيات الأعيان» (١ / ٤٠٢) ، «تذكرة الحفاظ» (٤ / ١٢٥٨) ، و «الأعلام» (٢ / ٢٨٤) ، «شذرات الذهب» (٤ / ٤٨) ، «النجوم الزاهرة» (٥ / ٢٢٤)

(٤) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري ، القرطبي ، المالكي ، أبو عمر : من كبار حفّاظ الحديث ، مؤرخ أديب ، بحاثة ، يقال له : حافظ المغرب ، ولد بقرطبة سنة ٣٦٨ ه‍ ، وتوفي بشاطبة سنة ٤٦٣ ه‍ ، من تصانيفه : «الدرر في اختصار المغازي والسير» و «الاستيعاب» و «جامع بيان العلم وفضله» و «المدخل» من القراءات ، و «بهجة المجالس وأنس المجالس» و «الاستذكار من شرح مذاهب علماء الأمصار» و «الإنباه على قبائل الرواة» و «الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف».

ينظر : «الأعلام» (٨ / ٢٤٠) ، «وفيات الأعيان» (٢ / ٣٤٨) ، «بغية الملتمس» (٤٧٤)

(٥) «تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ، أو «التقصي لحديث الموطأ وشيوخ الإمام مالك» ، ص ٩.

١١٩

السنن التي هي البيان لمجمل القرآن بها يوصل إلى مراد الله تعالى من عباده فيما تعبّدهم به من شرائع دينه الذي به الابتلاء ، وعليه الجزاء ، في دار الخلود والبقاء ، التي لها يسعى الألبّاء العقلاء ، والعلماء الحكماء ، فمن منّ الله عليه بحفظ السّنن والقرآن ، فقد جعل بيده لواء الإيمان ، فإن فقه وفهم ، واستعمل ما علم ـ دعي في ملكوت السموات عظيما ، ونال فضلا جسيما ـ انتهى ، والله أسأل أن يجعل هذا السعي خالصا لوجهه ، وعملا صالحا يقربنا إلى مرضاته ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

وسمّيته ب «الجواهر الحسان في تفسير القرآن»

أسأل الله أن ينفع به كلّ من حصّله ، وصلى الله على سيدنا محمّد ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا عدد ما ذكره الذاكرون ، وغفل عن ذكره الغافلون ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وها أنا ـ إن شاء الله ـ أشرع في المقصود وألتقط من كلام ابن عطيّة ـ رحمه‌الله ـ ما ستقف عليه من النّبذ الحسنة المختارة ما تقرّ به العين ، وإذا نقلت شيئا من غيره ، عزوته لصاحبه ؛ كما تقدّم.

قال* ع (١) * ـ رحمه‌الله ـ بعد كلام في أثناء خطبته : ولما أردتّ أن أختار لنفسي ؛ وأنظر في علم أعدّ أنواره لظلم رمسي ، سبرت العلوم بالتنويع والتقسيم ، وعلمت أنّ شرف العلم على قدر شرف المعلوم ؛ فوجدتّ أمتنها حبالا ، وأرسخها جبالا ، وأجملها آثارا ؛ وأسطّعها أنوارا ـ علم كتاب الله جلّت قدرته ، وتقدّست أسماؤه ، الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] الذي استقلّ بالسّنّة والفرض ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض ، وأيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى ، وتخليصا للنّيّات ، ونهيا عن الباطل ، وحضّا على الصالحات ؛ إذ ليس من علوم الدنيا ؛ فيختلّ حامله من منازلها صيدا ، ويمشي في التلطّف لها رويدا ، ورجوت أنّ الله تعالى يحرّم على النّار فكرا عمّرته أكثر عمره معانيه ، ونفسا ميّزت براعة رصفه ومبانيه ، ثم قال : قال الله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] قال المفسّرون : أي : علم معانيه ، والعمل بها ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيّدوا العلم بالكتب» (٢) ؛ ففزعت إلى تعليق ما

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٣٤ ـ ٣٦)

(٢) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة ، وهم : أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عباس.

١٢٠