التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ...)(١). واليهود كانوا أكثر أهل الكتاب صلة بالمسلمين. وثقافتهم كانت أوسع من ثقافات غيرهم ، وحيلهم التي يصلون بها إلى تشويه جمال الإسلام كانت ماكرة خادعة ، وكان لهم نصيب كبير في هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليّات الدخيلة. فمن أجل هذا كلّه ، غلب اللّون اليهودي على غيره من ألوان الدخيل على التفسير والحديث ، وأطلق عليه كلّه لفظ «الإسرائيليّات».

الإسرائيليّات في التفسير والحديث

كانت العرب منذ أوّل يومها تزعم من أهل الكتاب ، ولا سيّما اليهود القاطنين بين أظهرهم ، أهل دين وثقافة ومعرفة بشئون الحياة ، ومن ثم كانوا يراجعونهم فيما تتوق إليه نفوسهم في معرفة شئون الخليقة وتواريخ الأمم السالفة والأنبياء وما إلى ذلك. وهكذا بعد ظهور الإسلام كانوا يفضّلون مراجعة أهل الكتاب في معرفة شئون الإسلام والدعوة.

ولا سيّما وقد حدا بهم القرآن إلى مساءلة أهل الذكر والكتاب. قال تعالى مخاطبا لهم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)(٢). وهذا من باب (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣).

المخاطب ، وإن كان هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن المقصود غيره ممّن شكّ في

__________________

(١) المائدة / ٨٢.

(٢) يونس / ٩٤.

(٣) يس / ٢٢.

٨١

رسالته ، فليراجعوا أهل الكتاب في معرفة سمات نبي الإسلام. وهذا كان في إبّان الدعوة ؛ حيث كان يرجى الصدق من أهل الكتاب.

وهكذا قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)(٢).

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ...)(٣).

إلى غيرها من آيات ، تخاطب المشركين ، فيما لو ارتابوا في صحة ما جاء به القرآن ، أن يراجعوا أهل الكتاب.

وقد حسب بعض المسلمين الأوائل ، أنّ ذلك تجويز لهم أيضا في مراجعة اليهود ، فيسألوهم عن بعض شئون الشريعة ، ولا سيّما في أصول معارفها وشئون الخليقة وتاريخ الأنبياء.

لكنّ الأمر لم يستمرّ على ذلك حتى جاء النهي الصريح عن مراجعة أهل الكتاب ؛ وذلك بعد أن عرف منهم الخبث واللّؤم في تضليل المسلمين ، وتشويه سمعة الإسلام ، وتضعيف العقائد.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ. لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً.

__________________

(١) الأنبياء / ٧.

(٢) النحل / ٤٣.

(٣) الإسراء / ١٠١.

٨٢

وَدُّوا ما عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(١).

(البطانة) : ما يستبطنه الإنسان من ثيابه التي تلي جسده ، أي لا تتخذوا أصحاب سرّ من غيركم.

(لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) ، أي لا يقصّرون في إفساد ذهنيّاتكم عن الإسلام ، ومنه الخبل : فساد العقل. ورجل مخبّل : فاسد الرأي.

(وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) ، أي كانت غاية جهدهم إيقاع العنت بكم. والعنت : المشقّة الروحية ، والقلق الفكري.

ومن ثمّ أصدر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهيه الصريح عن مراجعة أهل الكتاب ، بما أنهم لا يخلصون النصيحة للمسلمين ، ولا يأبهون إن حقا قالوا أو باطلا ، ما دامت الغاية هي إيقاع الفساد والعنت بين المؤمنين.

فقد أخرج أحمد في مسنده وكذا ابن أبي شيبة والبزّار من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال :

إنّ عمر بن الخطاب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه عليه (وفي نسخة أحمد : فقرأه النّبي) فغضب ، فقال : أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة. لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبوا به ، أو بباطل فتصدّقوا به. والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه‌السلام كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتّبعني (٢).

__________________

(١) آل عمران / ١١٨.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ، ج ٣ ، ص ٣٨٧. وراجع : فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر

٨٣

المتهوّك : الذي خاس عقله ، فيرد في الأمور من غير رويّة ولا تعقّل ، كالمتهوّر غير المبالي.

وهذا اللحن من الخطاب غاية في الاستنكار على صنيع قبيح لا يليق بشأن إنسان عاقل متدبّر بصير. فقد وبّخ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر في صنيعه هذا ، وأنه راجع اليهود في بعض مسائله ، وهذا الإسلام ناصع جليّ بين يديه يجيب على جميع مسائل الإنسان في الحياة ، لا إبهام فيه ولا قصور.

فقد أبان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نبي الله موسى عليه‌السلام لو أدرك هذا الزمان ، لكان الواجب نبذ ما لديه ، والأخذ بما جاء به نبي الإسلام ، فكيف بالمسلمين يراجعون اليهود في مخاريق قديمة العهد ، لا وزن لها ولا اعتبار ، وأنها مزيج أباطيل قد يوجد في طيّها بعض الحقيقة ، مما لا يمكن الوثوق من صحتها ، ما دامت ضائعة بين الأباطيل.

وقد عقد البخاري في صحيحه بابا عنونه بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» (١). وذكر فيه حديث معاوية عن كعب الأحبار : إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب ، وإن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.

قوله : «نبلو عليه الكذب» ، أي نختبره فنجد في أخباره كذبا. هذا الحديث قاله

__________________

ـ ج ١٣ ، ص ٢٨١. قال ابن حجر : رجاله موثوقون إلّا أنّ في مجالد ضعفا ... غير أنّ البخاري قال : إنّه صدوق. وقال يعقوب بن سفيان : تكلم الناس فيه وهو صدوق. قال ابن عدي : له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة. قلت : وهذا الحديث من هذا الطريق الصالح. راجع : تهذيب التهذيب ، ج ١٠ ، ص ٤٠ ـ ٤١.

(١) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٣٦. وراجع : ج ٣ ، ص ٢٣٧.

٨٤

معاوية عند ما حج في خلافته (١).

وروى بإسناده عن أبي هريرة ، قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانيّة ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» (٢).

أقول : ويل تلك الفئة من المنتحلين بالإسلام ، يتركون القرآن العربيّ الفصيح ، ويستمعون إلى سفاسف عبريّة يفسرها ذوو الأحقاد من أهل الكتاب.

وهذا كان في أخريات حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان أبو هريرة (٣) ممن يستمع إلى مثل تلك السفاسف ، فجاء النهي ، والأمر بالاقتناع بما جاء به القرآن.

وروى حديث ابن عباس في الاستنكار لمراجعة بعض المسلمين لأهل الكتاب ، وسنذكره.

هذا ، ومع ذلك كان من المسلمين من لم ينته عن مراجعة أهل الكتاب أو النظر في كتبهم ورسائلهم ، بغية الحصول على مطالب كان يزعم افتقادها في أحاديث المسلمين.

وقد راجت هذه العادة الجاهليّة ـ التي كانت تضعف حينا وتقوى حينا آخر ـ بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث انسدّ على كثير من الناس باب علم الله المتمثّل في شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغافلين عن خلفائه العلماء أبواب علومه الفيّاضة ، ولا سيّما باب علم النبيّ علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن كان على حذوه كابن عباس

__________________

(١) راجع : فتح الباري ، ج ١٣ ، ص ٢٨٢.

(٢) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٣٦.

(٣) لأنّ أبا هريرة أسلم بعد فتح خيبر سنة سبع من الهجرة.

٨٥

وابن مسعود وأضرابهما ، فتركوا السبيل السويّ ولجأوا إلى معوّج الطريق.

هذا ابن عباس يناديهم فيقول :

«كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث (١) ، تقرءونه محضا لم يشبّ (٢). وقد حدّثكم أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم. لا والله ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم» (٣).

وكان من الآثار السيّئة التي خلّفتها مراجعة أهل الكتاب رغم نهي النبي عنها أن خلطت الأكاذيب الإسرائيلية بالتفسير والحديث الوارد عن النبي والخيار من صحابته الأجلّاء ، فشوّهت وجه التفسير ، فضلا عن التاريخ والحديث. وسوف نذكر نماذج من هذا التشويه ، ولا سيّما في التفسير بالمأثور.

قال ابن خلدون :

وصار التفسير على صنفين : تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف ، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي ، وكل ذلك لا يعرف إلّا بالنقل عن الصحابة والتابعين ، وقد جمع المتقدمون في ذلك وأروعوا ، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسمين والمقبول

__________________

(١) في نسخة : «أحدث الأخبار بالله».

(٢) لم يشب : من الشوب وهو الخلط ، أي لم يشبه شيء ، كناية عن عدم الدسّ فيه والتحريف ، كما كان عليه كتب السالفين.

(٣) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٣٦. وج ٣ ، ص ٢٣٧. وفي الموضعين بعض الاختلاف في لفظ الحديث.

٨٦

والمردود. والسبب في ذلك : أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء مما تتشوّق إليه النفوس البشريّة ، في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهوديّة ، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشرعيّة التي يحتاطون لها ، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم. وتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها ـ كما قلنا ـ عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك ، إلّا أنّهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم ، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملّة ، فتلقّيت بالقبول من يومئذ (١).

هل تجوز مراجعة أهل الكتاب؟

وهل هناك ما يبرّر مراجعة أهل الكتاب؟

زعم الكثير من الكتّاب المتأخرين ـ تبريرا لمواقف لفيف من الصحابة الذين صمدوا على الرجوع إليهم ، ولا سيّما مسلمة أهل الكتاب ـ أن هناك دلائل على

__________________

(١) المقدمة ، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، آخر الفصل الخامس فيما ذكره بشأن التفسير.

٨٧

الجواز ، إمّا في زمن متأخر عن المنع الذي كان في ابتداء الأمر ، أو في شئون لا تمسّ أحكام الشريعة في مثل القصص والتواريخ ، أو فيما لم تمسّه يد التحريف وقد توافق مع ما جاء به القرآن الكريم ، أو نحو ذلك.

هذا ابن تيميّه يذكر عن السدّيّ الكبير (هو أبو محمّد إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي توفّي سنة ١٢٧) أنه كان في بعض الأحيان ينقل ما يحكى من أقاويل أهل الكتاب ، التي أباحها ـ فيما زعم ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : بلّغوا عني ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار (١) ، رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين (٢) من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدّث منهما ، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك (٣).

قال : ولكن هذه الأحاديث الإسرائيليّة تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما علمنا صحّته ممّا بأيدينا ممّا يشهد له بالصدق.

والثاني : ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

والثالث : ما هو مسكوت عنه ، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا نكذّبه ، وتجوز حكايته ، لما تقدم (٤). وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ولهذا اختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا ، في مثل أسماء أهل

__________________

(١) رواه البخاري في باب ما ذكر عن بني إسرائيل من كتاب الأنبياء ، ج ٤ ، ص ٢٠٧.

(٢) الزاملة : هي الملفّة ، وربما كانت حمل بعير ، وقد فسر أبو شهبة الزاملتين بحمل بعيرين. (الإسرائيليّات والموضوعات ، ص ٩٢)

(٣) سنأتي على تفسير هذا الحديث بغير ما فهمه هؤلاء.

(٤) من عدم تصديقهم ولا تكذيبهم فيما يحكونه. ذكر ذلك في ص ١٩ من رسالته.

٨٨

الكهف وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلّفين في دنياهم ودينهم. ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز (١).

ويستدل الذهبي لجواز مراجعة أهل الكتاب والنقل عنهم فيما لا يخالف الشريعة بآيات ، زعم دلالتها على إباحة الرجوع إليهم ، قال :

وإذا نحن نظرنا في القرآن الكريم ، وجدنا من آياته البيّنات ما يدعو نبي الإسلام وجماعة المسلمين إلى أن يرجعوا إلى علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ليسألوهم عن بعض الحقائق التي جاءت في كتبهم ، وجاء بها الإسلام فأنكروها ، أو أغفلوها ، ليقيم عليهم الحجّة ، ولعلّهم يهتدون.

ومن هذه الآيات الدالّة على إباحة رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تبع دينه من المسلمين إلى أهل الكتاب قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)(٢) ، وقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣) ، وقوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا)(٤). قال : ومعناه : واسأل أممهم وعلماء دينهم. قال الفراء مبيّنا وجه المجاز في الآية : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء عليهم‌السلام ، وقوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) ، وقوله : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، وقوله : (سَلْ

__________________

(١) مقدمته في أصول التفسير ، ص ٤٥ ـ ٤٦ ، (المطبعة السلفية) وراجع : مقدمة تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٤.

(٢) يونس / ٩٤.

(٣) الأنبياء / ٧ ، والنحل / ٤٣.

(٤) الزخرف / ٤٥.

٨٩

بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(١).

قال : كل ما تقدم من أمر الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسؤال أهل الكتاب ، يدلّ على جواز الرجوع إليهم ، ولكن لا في كل شيء ، بل فيما لم تصل له يد التحريف والتبديل من الحقائق التي تصدق القرآن وتلزم المعاندين منهم ومن غيرهم الحجّة (٢).

قال : وعلى هذا فما جاء موافقا لما في شرعنا تجوز روايته ، وعليه تحمل الآيات الدالّة على إباحة الرجوع إلى أهل الكتاب ، وعليه أيضا يحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ؛ إذ المعنى : حدّثوا عنهم بما تعلمون صدقه.

وأما ما جاء مخالفا لما في شرعنا أو كان لا يصدّقه العقل ، فلا تجوز روايته ؛ لأن حديث الإباحة لا يتناول ما كان كذبا. وأما ما سكت عنه شرعنا ، ولم يكن ما يشهد لصدقه ولا لكذبه وكان محتملا ، فحكمه أن نتوقف في قبوله فلا نصدّقه ولا نكذّبه ؛ وعلى هذا يحمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم». أما روايته فجائز على أنها مجرّد حكاية لما عندهم ؛ لأنها تدخل في عموم الإباحة المفهومة ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (٣).

وأضاف قائلا : ما ثبت من أن بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس ، كانوا يراجعون بعض من أسلم من أهل الكتاب ، يسألونهم عمّا في كتبهم ، وما روي من

__________________

(١) الإسرائيليات في التفسير والحديث ، محمد حسين الذهبي ، ص ٦٠ ـ ٦١ ، الأعراف / ١٦٣ ، الإسراء / ١٠١ ، البقرة / ٢١١.

(٢) المصدر ، ص ٦٣.

(٣) الإسرائيليّات في التفسير والحديث ، ص ٦٤ ـ ٦٥.

٩٠

أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدّث منهما ، لا يعارض ما رواه البخاري من إنكار ابن عباس على من يسأل أهل الكتاب.

ولا ما رواه عبد الرزاق في مسنده عن ابن مسعود من نهيه عن سؤال أهل الكتاب بقوله : «لا تسألوا أهل الكتاب ، فإنّهم لن يهدوكم وقد أضلّوا أنفسهم».

ولا ما رواه أحمد من إنكار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر لمّا أتاه بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب بقوله : «أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب».

قال : «نعم لا تعارض بين هذا وذاك ؛ لأن صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا أعرف الناس بأمور دينهم ، وكان لهم منهج سديد ومعيار دقيق في قبول ما يلقى إليهم من الإسرائيليّات ، ما كانوا يرجعون إليهم في كل شيء ، وإنما كانوا يرجعون إليهم لمعرفة بعض جزئيّات الحوادث والأخبار.

قال : أما إنكار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنكار الصحابة على من كان يرجع إليهم ، فقد كان في مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام ، مخافة التشويش على عقائدهم وأفكارهم (١).

قال ابن حجر : «وكأنّ النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلاميّة والقواعد الدينيّة خشية الفتنة. ثم لمّا زال المحذور وقع الإذن في ذلك ، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار» (٢).

__________________

(١) الإسرائيليّات في التفسير والحديث ، ص ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) راجع : فتح الباري ، ج ٦ ، ص ٣٢٠.

٩١

مناقشة دلائل الجواز

غير أن هذه الدلائل غير وافية بإثبات المطلوب ، ولا هي تبرّر مراجعة أهل الكتاب في شيء من تفسير القرآن الحكيم أو تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام.

ذلك لأنّ اليهود الذين جاوروا العرب كانوا أهل بادية مثلهم ـ كما قال ابن خلدون ـ لا علم لهم ولا تحقيق بمعرفة الصحيح من الأخبار ، سوى ما شاع لديهم من أخبار عامّيّة ممّا لا يمكن الوثوق بها. أما علماؤهم فكانوا أهل دجل وتزوير ، كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ـ كما حكى عنهم القرآن ـ ويزوّرون الحديث ويقولون : هذا من عند الله ، وما هو من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا ، بغية حطام الدنيا الرذيلة.

ومن ثمّ كان المنع من ذلك شديدا كما عرفت في مناهي النبي وأصحابه الكبار عن ذلك ، ولم يدل على جوازه شيء من الأخبار والآثار.

أمّا الآيات التي زعموها مبيحة لذلك ، فالاستدلال بها عقيم ؛ لأنها من باب «إيّاك أعني واسمعي يا جارة». كان الخطاب في ظاهره مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّ المقصود غيره من المتشكّكين في أمر الرسالة ، وليسوا هم المسلمين أيضا ، بل الكفّار والمنافقون هم المقصودون ، بدليل صدر الآية وذيلها : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)(١).

والعجب من الذهبي كيف يزعم أنّ هذه الآية جاءت رخصة للنبي في مراجعة أهل الكتاب؟! أو هل يشكّ النبي فيما أنزل إليه؟! أو هل يمتري النبي في صدق رسالته كي يؤمر بالانتهاء منه؟!

__________________

(١) يونس / ٩٤.

٩٢

لا شك أنّ المقصود غيره من الذين كانوا يتشكّكون في صدق رسالته ، ولقد كان المرجع الوحيد الذي يمكن أولئك المتشكّكين اللّجوء إليه هم (أهل الكتاب) الذين جاورهم ، وليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقصود البتة ، ولا المسلمون المعتقدون بصحة الرسالة.

وهكذا قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)(١) خطاب محض موجّه إلى العرب الجاهليّ.

أما حديث «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فهو كناية عن التوسّع في تفضيع شأنهم ؛ حيث كلّ ما حدّثته عنهم من رذائل وفضائح فهو حقّ لا مرية فيه ؛ حيث توسّعهم في ارتكاب الآثام وركوبهم جميع القبائح المحتملة بشأنهم ، كما جاء في المثل : «حدّث عن البحر ولا حرج» كناية عن التوسّع في الأمر ، وأنه كل ما قلت عنه فهو صحيح. ومنه قولهم بشأن معن بن زائدة الشيباني وكان من أجواد العرب : «حدّث عن معن ولا حرج» ، كناية عن توسّعه في المكرمات ، فكل ما حدّثت عنه من فضيلة ، فهو صدق واقع (٢).

فهذا تعبير كنائي عن مطلق التوسّع في أمر إن شينا أو زينا ، وليس المقصود التحدّث ، بمعنى الرواية والنقل عنهم.

ويتأيّد هذا المعنى ، بما ورد في لفظ أحمد :

«تحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، فإنكم لا تحدّثون عنهم بشيء إلّا وقد

__________________

(١) النحل / ٤٣.

(٢) راجع : مجمع الأمثال للميداني رقم ١١٠٣ ، ج ١ ، ص ٢٠٧. وفرائد الأدب للأب لويس معلوف.

٩٣

كان فيهم أعجب منه» (١) ، أي كلّ ما حدّثت عنهم من فضيحة أو رذيلة شانئة ، فهو صدق ؛ لأنهم أوسع فضاحة وأكثر رذالة مما يحتمل بشأنهم.

وفي لفظه الآخر :

«حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، وحدّثوا عنّي ولا تكذبوا» (٢).

ففي هذه المقارنة بين التوسّع في الحديث عن بني إسرائيل ، والتقيّد لدى الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دلالة واضحة على صدق الحديث عنهم مهما كان الحديث ، أما عند التحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب تحرّي الصدق ، ولئلا يكون كذبا عليه. فإنّه من كذب عليه متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار.

أقطاب الروايات الإسرائيليّة

عند ما نتصفح كتب السير والتفاسير وأخبار الملاحم ، نجد أنّ أكثريّة ما يروى من الإسرائيليّات تكاد تدور على أقطاب ثمانية ، كانوا هم الأساس لشياع الأساطير الإسرائيليّة بين المسلمين.

وهم : عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ومحمد بن كعب القرظي ، ووهب بن منبّه ، وتميم بن أوس الداري ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبو هريرة.

أما الأوّلان فهما من مسلمة أهل الكتاب. والثلاثة بعدهما ممّن ولدوا عن أبوين كتابيّين. والأخيران أسلما عن شرك. ولكن أخذا علمهما ممن سبقهما من

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ، ج ٣ ، ص ١٣.

(٢) المصدر ، ص ٥٦.

٩٤

أهل الكتاب.

أما الخمسة الأول فكانت لهم إلمامة بثقافات موروثة من أهل الكتاب ، لكن لا على حدّ التحقيق والنقد ، بل على حدّ الشياع العام ـ حسبما نبّه عليه ابن خلدون ـ لأنهم كانوا أيضا كإخوانهم العرب ، من البائدة القاطنين في الجزيرة.

كان هؤلاء جميعا ، يقصّون على الناس ـ في حلقات إما في أندية أو جوامع ـ القصص والأخبار البائدة ، ويحوكون لهم غرائب الآثار الأساطيريّة ، وربما كانت مهيّجة ، ومن ثمّ كانت لهم أسواق رائجة في الأوساط العامّيّة ؛ الأمر الذي أشاع عنهم الكثير من الأساطير الإسرائيلية ، وأخذ عنهم أهل السير والتاريخ ، وأدرجوها ضمن كتبهم في التفسير والحديث والتاريخ.

وإليك إلمامة قصيرة بحياة هؤلاء الأقطاب الثمانية :

١ ـ عبد الله بن سلام

اسمه الحصين بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ، حليف النوافل من الخزرج ، وهم بنو عوف ، كان حبرا من أحبار اليهود ، فأسلم عند مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وقيل : قبل وفاته بسنتين ، فسمّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله. قال ابن حجر : وكان من بني قينقاع (١).

قيل : إنه جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي قد قرأت القرآن والتوراة. فقال : «اقرأ بهذا ليلة ، وبهذا ليلة». قال الإمام شمس الدين الذهبي : إسناده ضعيف (٢).

لأنّ الراوي له هو إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي ، وهو متروك الحديث.

__________________

(١) الإصابة ، ج ٢ ، ص ٣٢٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ، ج ٢ ، ص ٤١٨ ـ ٤١٩.

٩٥

وبعضهم اتّهمه. قال الأستاذ شعيب الأرناءوط : فالحديث ضعيف جدّا ، بل يكاد يكون موضوعا ، فإنه مخالف لحديث جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّ عمر بن الخطاب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمتهوّكون كما تهوّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة. ولو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي». قال : وهو حديث حسن (١).

كان عبد الله بن سلام ممن يحوك الأحاديث ليستجلب أنظار العامّة ويرفع بمنزلته لديهم ، من ذلك ما حاكه حول صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة ، كان يمليها على العامّة تزلّفا إليهم. فكان يذكر من أوصاف الرسول الراهنة ، ويقول : وجدتها كذلك في التوراة (٢) ، وكان يدّعي أنه أعلم اليهود وأخبرهم بكتب السالفين (٣).

وقد حكيت حوله أحاديث في فضله ونبله ، غير أنها ضعيفة الإسناد موهونة. توفّي بالمدينة سنة (٤٣).

٢ ـ كعب الأحبار

هو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي رعين أو من آل ذي الكلاع (٤). ويكنّى

__________________

(١) هامش سير أعلام النبلاء. أخرج الحديث عن «مجمع الزوائد ، ج ١ ، ص ١٧٣ ـ ١٧٤».

(٢) أوردها ابن سعد في الطبقات (ط ليدن) ، ج ١ ، ص ٨٧ ، ص ١٤.

(٣) الإصابة ، ج ٢ ، ص ٣٢١ ، وسير الأعلام ، ج ٢ ، ص ٤١٦.

(٤) وربما رجّح الثاني ، لما رواه الطبراني من طريق يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عوف بن

٩٦

أبا إسحاق ، من كبار أحبار اليهود ، كان أبوه كاهنا ، وورث الكهانة من أبيه. ولد قبل الهجرة باثنتين وسبعين سنة ، وأسلم بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوائل خلافة عمر. وهلك أيام عثمان سنة (٣٢). فقد عاش (١٠٤) سنة.

كان من أهل اليمن ـ من يهودها ـ فهاجر إلى المدينة عند ما أسلم ، ثم تحوّل إلى الشام ، فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه ، لما زعم فيه من كثرة العلم (١). وهو الذي أمره أن يقصّ في بلاد الشام ؛ وبذلك أصبح أقدم الإخباريين في موضوع الأحاديث اليهودية المتسرّبة إلى الإسلام. وبواسطة كعب وابن منبّه وسواهما من اليهود الذين أسلموا تسرّبت إلى الحديث طائفة من أقاصيص التلمود ـ الإسرائيليات ـ وما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءا من الأخبار التفسيرية والتاريخية في حياة المسلمين.

افتجر هذا الكاهن لإسلامه سببا عجيبا ليتسلّل به إلى عقول المسلمين

__________________

مالك ، أنه دخل المسجد يتوكّأ على ذي الكلاع ، وكعب يقصّ على الناس ، فقال عوف لذي الكلاع : ألا تنهى ابن أخيك هذا عمّا يفعل؟ قيل : إنه نهاه وذكّره بحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقصّ على الناس إلّا أمير أو مأمور أو متكلّف محتال» فأمسك كعب عن القصص حتى أمره معاوية ، فصار يقصّ بعد ذلك.

(الإصابة ، ج ٣ ، ص ٣١٥ ـ ٣١٦)

(١) قال معاوية في وصف علمه : ألا إنّ كعب الأحبار أحد العلماء ، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنّا فيه لمفرطين.

والذي يدل على مبلغ علمه الموهوم ما قاله هو لقيس بن خرشة القيسي : ما من شبر في الأرض إلّا وهو مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى ، ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ، يعني أنه يعلم بذلك. (راجع : تهذيب التهذيب ، ج ٨ ، ص ٤٣٩ ، والاستيعاب في ترجمة قيس بن خرشة ، هامش الإصابة ، ج ٣ ، ص ٢٤٣).

٩٧

وقلوبهم. فقد أخرج ابن سعد بإسناد صحيح ـ حسبما ذكره أبو ريّة ـ عن سعيد بن المسيّب قال : قال العباس بن عبد المطلب لكعب : ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ، حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟

فقال : إنّ أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إليّ ، وقال : اعمل بهذا. وختم على سائر كتبه ، وأخذ عليّ بحق الوالد على ولده أن لا أفضّ الخاتم. فلمّا كان الآن ، ورأيت الإسلام يظهر ولم أر بأسا ، قالت لي نفسي : لعلّ أباك غيّب عنك علما كتمك ، فلو قرأته ، ففضضت الخاتم ، فقرأته ، فوجدت فيه صفة محمّد وأمّته. فجئت الآن مسلما. فوالى العباس (١).

قلت : ولا يخفى ما في هذا التبرير من تفاهة إن لم يكن في طيّها سفاهة تصحبها خباثة.

وكان عمر يكرهه ويسيء الظنّ به ، لما كان قد أفسد في الحديث وأشاع الأكاذيب. قال له يوما وقد أحضره : لتتركنّ الأحاديث أو لألحقنّك بأرض القردة (٢) ، يعني أرض اليهود التي هي أصله. وروى أهل السير أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يذمّه ، ويقول عنه : إنّ كعب الأحبار لكذّاب. وقد كان منحرفا عن علي عليه‌السلام ، كما ذكره ابن ابي الحديد (٣).

__________________

(١) الطبقات ، ج ٧ ، ق ٢ ، ص ١٥٦. وراجع : الإصابة ، ج ٣ ، ص ٣١٦. والأضواء لأبي ربّة ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه ، ج ١ ، ص ٥٤٤. راجع : هامش سير أعلام النبلاء ، ج ٣ ، ص ٤٩٠. ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ، ج ٨ ، ص ١٠٨ ، ط السعادة (راجع الإسرائيليات للذهبي ، ص ٩٦).

(٣) شرح النهج ، ج ٤ ، ص ٧٧.

٩٨

ومن سخافاته ما روي عن سعد الجاري مولى عمر ، قال : إنّ عمر دعا أمّ كلثوم ـ وكانت تحته ـ فوجدها تبكي. فقال لها : ما يبكيك؟ فقالت : هذا اليهودي ـ تعني كعبا ـ يقول : إنك على باب من أبواب جهنّم! فقال عمر : ما شاء الله ، والله إني لأرجو أن يكون ربّي خلقني سعيدا. ثم أرسل إلى كعب فدعاه ، فلمّا جاءه قال : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ ، والذي نفسي بيده ، لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنّة.

فقال عمر : أي شيء هذا ، مرّة في الجنة ومرّة في النّار؟!

فقال : يا أمير المؤمنين ، والذي نفسي بيده ، إنا لنجدك في كتاب الله ـ يعني به التوراة ـ على باب من أبواب جهنم ، تمنع الناس أن يقعوا فيها. فإذا متّ لم يزالوا يقتحمون فيها إلى يوم القيامة (١).

ويروي الطبري أنه جاء إلى عمر قبل مقتله بثلاثة أيام ، وقال له : اعهد ، فإنّك ميّت في ثلاثة أيام. قال : وما يدريك؟ قال : أجده في كتاب الله عزوجل في التوراة! قال عمر : إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال : اللهمّ ، لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك ، وأنه قد فنى أجلك (٢).

قال أحمد أمين تعقيبا على هذه القصّة : وهذه القصّة إن صحّت دلّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر ، ثم وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيليّة. كما

__________________

(١) طبقات ابن سعد ، ج ٣ ، ق ١ ، ص ٢٤٠ ، س ٤ ـ ١٢.

(٢) جاء في تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٦٤ (مطبعة الاستقامة) حوادث سنة (٢٣) : أن عمر كان لا يحسّ ألما ولا وجعا حتى كان من الغد جاءه كعب فقال : يا أمير المؤمنين ذهب وبقي يومان. ثم جاءه من غد الغد فقال : ذهب يومان وبقي يوم وليلة ، وهي لك إلى صبيحتها. فلما كان الصبح خرج إلى الصلاة فطعنه أبو لؤلؤة.

٩٩

تدلّنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل (١).

وهكذا ذكر أبو ريّة : وممّن اشترك في مؤامرة قتل عمر ، وكان له أثر كبير في تدبيرها كعب الأحبار. وهذا لا يمتري فيه أحد إلّا الجهلاء (٢).

وذكر ابن سعد أنّ كعبا كان يقول : كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر ، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه. وكان إلى جنبه نبيّ يوحى إليه. فأوحى الله إلى النبيّ أن يقول له : اعهد عهدك واكتب وصيّتك فإنّك ميّت إلى ثلاثة أيام ، فأخبره النبي بذلك. فلما كان في اليوم الثالث وقع بين الجدر وبين السرير ؛ ثم جاء إلى ربّه فقال : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي كنت أعدل في الحكم ، وإذا اختلفت الأمور اتّبعت هواك وكنت وكنت ، فزدني في عمري حتى يكبر طفلي وتربو أمّتي. فأوحى الله إلى النبيّ أنه قد قال كذا وكذا ، وقد صدق ، وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة ، ففي ذلك ما يكبر طفله وتربو أمّته.

فلما طعن عمر قال كعب : لئن سأل عمر ربّه ليبقينّه الله. فأخبر بذلك عمر ، فقال عمر : اللهمّ ، اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم (٣).

وذكر أيضا : لمّا طعن عمر ، جاء كعب فجعل يبكي بالباب ، ويقول : والله لو أنّ أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخّره لأخّره. فدخل ابن عباس عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا كعب يقول كذا وكذا! قال : إذن والله لا أسأله. ثم قال : ويل لي ولأمّي إن لم يغفر الله لي (٤).

__________________

(١) فجر الإسلام ، ص ١٦١.

(٢) أضواء على السنة المحمدية ، ص ١٥٥.

(٣) الطبقات ، ج ٣ ، ق ١ ، ص ٢٥٧ ، س ٢ ـ ١٢.

(٤) المصدر ، ص ٢٦٢ ، س ١٩.

١٠٠