التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

مريم المروزي ومحمد بن عكاشة الكرماني ، وأحمد بن عبد الله الجويباري ، وغيرهم. قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة!

وقال : قد ذكر الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين : أن رجلا من الزهّاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره. فقيل له : لم فعلت هذا؟ فقال : رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغّبهم فيه! فقيل له : فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار». فقال : أنا ما كذبت عليه ، إنما كذبت له.

قال تحذيرا من الأحاديث الموضوعة : وأعظمهم ضررا ، قوم منسوبون إلى الزهد ، وضعوا الحديث حسبة! فيما زعموا ، فتقبّل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم ، فضلّوا وأضلّوا (١).

وهذا ميسرة بن عبد ربّه ـ كان كذّابا وضّاعا ـ وضع في فضل قزوين أربعين حديثا. قال أبو زرعة : كان يقول : إني أحتسب في ذلك. وقال ابن الطبّاع : قلت لميسرة : من أين جئت بهذه الأحاديث : «من قرأ كذا فله كذا»؟ قال : وضعته أرغّب الناس فيه. وقد وصفه جماعة بالزهد.

وهكذا كان الحسن ـ الراوي عن المسيّب بن واضح ـ ممن يضع الحديث حسبة.

وكان نعيم بن حماد يضع الحديث في تقوية السّنة (٢).

__________________

(١) التذكار للقرطبي ، ص ١٥٥ ـ ١٥٦. (الغدير ، ج ٥ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦).

(٢) راجع : الغدير ، ج ٥ ، ص ٢٦٨ و ٢٦٩.

٤١

وكان الهيثم الطائي يقوم عامة الليل بالصلاة ، فإذا أصبح يجلس ويكذب ، وأمثاله كثير من الزهاد كانوا من الوضّاعين حسبة لله فيما زعموا (١).

قال ابن الجوزي : منهم قوم وضعوا الأحاديث في الترغيب والترهيب ؛ ليحثّوا الناس بزعمهم على الخير ويزجروهم عن الشرّ. وهذا تعاط على الشريعة ، ومضمون فعلهم أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تتمة ، فقد أتممناها. ثم أسند إلى أبي عبد الله النهاوندي ، قال : قلت لغلام خليل : هذه الأحاديث التي تحدّث بها من الرقائق؟ فقال : وضعناها لنرقّق بها قلوب العامّة. وكان غلام خليل هذا يتزهّد ويهجن شهوات الدنيا ويتقوّت الباقلاء تصوّفا. وغلقت أسواق بغداد يوم موته (٢).

٤ ـ وضع الحديث تزلفا لدى الأمراء. كان بعض ضعفاء النفوس من المحدّثين الضعيفي الإيمان يتزلّفون لدى الأمراء والسلاطين ، بوضع أحاديث تروقهم ، أو تشيد من شناعاتهم في السياسة والحكم.

كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به ، فأهدي إليه حمام ، وعنده أبو البختري القاضي (٣) ، فقال : روى أبو هريرة عن النبي أنه قال : لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو جناح. فزاد جناح. وقد وضعها تزلّفا لدي الرشيد ، فأعطاه جائزة سنيّة. ولمّا

__________________

(١) وقد أفرد العلامة الأميني فصلا أورد أسماءهم فيه (الغدير ، ج ٥ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٧).

(٢) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٣٩ ـ ٤٠.

(٣) أبو البختري ، وهب بن وهب ، انتقل من المدينة إلى بغداد في خلافة هارون الرشيد ، فولّاه القضاء بعسكر المهدي (المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد) ثم عزله وولاه القضاء بمدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري ، وجعل إليه ولاية حربها ، مع القضاء. ثم عزله ، فقدم بغداد وأقام بها إلى أن هلك سنة ٢٠٠.

٤٢

خرج قال الرشيد : والله لقد علمت أنّه كذّاب ، وأمر بالحمام أن يذبح. فقيل له : وما ذنب الحمام؟ قال : من أجله كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). وحكى ابن الجوزي نظير هذه القصة لغياث بن إبراهيم بمحضر المهدي العباسي (٢).

وهكذا حدّث الرشيد : أن جعفر بن محمد حدّثه عن أبيه : أنّ جبرائيل نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه قباء أسود ومنطقة. وإنما قال ذلك ؛ لأن ذلك كان شعار العباسيين. فدخل يحيى بن معين ، فقال له : كذبت يا عدوّ الله ، وقال للشرطيّة خذوه ... فقال فيه المعافى التميمي :

ويل وعول لأبي البختري

إذا توافى الناس في المحشر

من قوله الزور وإعلانه

بالكذب في الناس على جعفر

إلى آخر الأبيات ، وهي مشهورة. ولما بلغ ابن المهدي موته قال : الحمد لله الذي أراح المسلمين منه (٣).

وروى ابن الجوزي عن زكريا بن يحيى الساجي ، قال : بلغني أن أبا البختري دخل على الرشيد ـ وهو قاض ـ وهارون إذ ذاك يطيّر الحمام ، فقال : هل تحفظ في هذا شيئا؟ فقال : حدّثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطيّر الحمام». فقال هارون : أخرج عنّي. ثم قال : لو لا أنه رجل من قريش لعزلته.

قال ابن الجوزي : هذا الحديث من عمل أبي البختري ، واسمه وهب بن

__________________

(١) راجع : تفسير القرطبي (المقدمة) ، ج ١ ، ص ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٤٢.

(٣) لسان الميزان لابن حجر ، ج ٦ ، ص ٢٣٣.

٤٣

وهب. كان من كبار الوضّاعين (١).

وروى حديث القباء الأسود ، قال : لما قدم الرشيد المدينة أعظم أن يرقى منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قباء أسود ومنطقة. فقال أبو البختري : «حدّثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال : نزل جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه قباء أسود ومنطقة ، محتجزا فيها بخنجر».

قال يحيى بن معين : وقفت على حلقة أبي البختري وهو يحدّث بهذا الحديث ، مسندا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. فقلت له : كذبت يا عدوّ الله ، على رسول الله. قال : فأخذني الشرط. فقلت : هذا يزعم أنّ رسول ربّ العالمين نزل على النبي وعليه قباء. فقالوا لي : هذا والله قاصّ كذّاب. وأفرجوا عني (٢).

والأحاديث في أولاد العباس وملكهم ، ولا سيّما الزيّ العباسي الذي تزيّا به جبرائيل ، كثيرة ، أوردها ابن الجوزي في موضوعاته وفنّدها خير تفنيد فراجع (٣).

٥ ـ الوضع نزولا مع سياسة الطغاة. كان معاوية أوّل من وضع سياسته على وضع الأحاديث وقلبها ، تمشية مع أهدافه المرتذلة ، في التغلّب على واقع الإسلام الرفيع.

قال الأستاذ أبو ريّة : لا بد لنا أن نكشف عن ناحية خطيرة من نواحي الوضع في الحديث ، كان لها أثر بعيد في الحياة الإسلامية ، ولا يزال هذا الأثر يعمل عمله

__________________

(١) الموضوعات ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٢) الموضوعات ، ج ٣ ، ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٣) المصدر ، ج ٢ ، ص ٣٠ ـ ٣٧.

٤٤

في الأفكار العفنة والعقول المتخلّفة والنفوس المتعصبة. ذلك أن السياسة قد دخلت في هذا الأمر ، وأثّرت فيه تأثيرا بالغا ، فسخّرته ليؤيّدها في حكمها ، وجعلته من أقوى الدعائم لإقامة بنائها.

وقد علا موج هذا الوضع السياسي وطغا ماؤه في عهد معاوية الذي أعان عليه وساعده بنفوذه وماله ، فلم يقف وضّاع الحديث عند بيان فضله والإشادة بذكره ، بل أمعنوا في مناصرته ، والتعصّب له ، حتى رفعوا مقام الشام الذي يحكمه إلى درجة لم تبلغها مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا البلد الحرام الذي ولد فيه. وأسرفوا في ذلك إسرافا كثيرا ، وأكثروا حتى ألّفت في ذلك مصنّفات (١).

وذكر ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافي : أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين ، على رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه. منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.

روى الزهري أن عروة بن الزبير حدّثه ، قال : حدّثتني عائشة ، قالت : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل العباس وعلي. فقال : يا عائشة ، إن هذين يموتان على غير ملّتي ـ أو قال ـ غير ديني.

وفي حديث آخر عنه ، قال : حدثتني عائشة ، قالت : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل العباس وعلي ، فقال : يا عائشة ، إن سرّك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار ، فانظري إلى هذين قد طلعا.

وأما عمرو بن العاص فقد أخرج عنه البخاري ومسلم بإسناد متصل إليه ،

__________________

(١) الأضواء ، ص ١٢٦ ـ ١٢٧.

٤٥

قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء. إنما وليّى الله وصالح المؤمنين».

وأما أبو هريرة فروي عنه الحديث الذي معناه : أن عليا عليه‌السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسخطه ، فخطب ، وقال : لاها الله ، لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدوّ الله أبي جهل ، إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها. فإن كان عليّ يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي ، وليفعل ما يريد.

وأيضا روى أبو جعفر عن الأعمش قال : لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة (١) ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا ، وقال : يا أهل العراق ، أتزعمون أنّي أكذب على الله وعلى رسوله (٢) وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن لكل نبيّ حرما ، وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، وأشهد أنّ عليا أحدث فيها. فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولّاه إمارة المدينة (٣).

__________________

(١) هو العام الذي نزل فيه الإمام السبط الأكبر عن الحكم لمعاوية الطاغية ، حقنا لدماء المسلمين سنة ٤١. وسمّوه عام الجماعة. قال أبو ريّة : وهو في الحقيقة كان عام التفرقة. الأضواء ـ بالهامش ـ ص ٢١٦.

(٢) قال أبو ريّة : يبدو من هذا القول أن كذب أبي هريرة على النبي كان قد أشتهر من أول يومه حتى عم الآفاق. لأنه قال ذلك وهو بالعراق ، وأن الناس جميعا كانوا يتحدثون عن هذا الكذب في كل مكان. قلت : ولقد كان معروفا بالكذب قبل ذلك. روى ابن أبي الحديد في الشرح (ج ٤ ، ص ٦٧ ـ ٦٨) : أن عمر ضربه بالدرّة ، وقال له : قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) راجع : شرح النهج لابن أبى الحديد ، ج ٤ ، ص ٦٣ ـ ٦٨.

٤٦

وأيضا روى عن شيخه أبي جعفر : أن معاوية بذل لسمرة بن جندب ـ الرجل الوقح ـ مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١) وأنّ الآية الأخرى نزلت في ابن ملجم ، وهي قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢) فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف فقبل ، وروى ذلك (٣).

نعم كان معاوية يرى لنفسه ما يضاهي به عليا في مثل مقامه ومرتبته ، ومن ثمّ كان يحاول الانتشال من مقامه الوضيع ليتسنّى له المقابلة مع مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان يجعل الجعائل للوضع في تفضيله وتفضيل بلاده التي كان يحكمها ، وحاضرة ملكه ، كان يجهد جهده في ذلك.

قال أبو ريّة : ومعاوية ـ كما هو معروف ـ أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة ، فهو بذلك من الطلقاء. وكان كذلك من المؤلّفة قلوبهم الذين كانوا يأخذون ثمنا لإسلامهم. وهو الذي هدم مبدأ الخلافة الرشيدة في الإسلام ، فلم تقم لها من بعده إلى اليوم قائمة. وقد اتخذ دمشق حاضرة لملكه ، وقد وضعوا فيه وفي تفضيل الشام أحاديث نسبوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نذكر منها : ما أخرجه الترمذي أنّ النبي قال لمعاوية : اللهم اجعله هاديا مهديا. وفي حديث آخر أنّ النبي قال :

__________________

(١) البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) البقرة / ٢٠٧.

(٣) شرح النهج ، ج ٤ ، ص ٧٣.

٤٧

اللهم علّمه الكتاب والحساب وقه العذاب ـ وهناك زيادة ـ : وأدخله الجنّة.

وعلى كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصل لها ، فإن إسحاق بن راهويه وهو الإمام الكبير وشيخ البخاري قد قال : إنه لم يصح في فضائل معاوية شيء (١).

وللعلامة الأميني هنا مقال ضاف بشأن المغالاة في فضائل معاوية ، وقد أردفها بما ورد في ذمّه من أحاديث صحاح لا مغمز في إسنادها ، جعلنا في غنى عن الكلام فيه هنا ، فراجع (٢).

وهكذا ذكر الأستاذ أبو ريّة : أن إشادة كهّان اليهود ـ يريد كعبا وأذنابه ـ إلى أنّ ملك النبي سيكون بالشام إنما هو لأمر خبيء في أنفسهم. وقد تبيّن أن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره والثناء عليه ، إلّا لقيام دولة بني أميّة فيه ، تلك الدولة التي قلبت الحكم من خلافة عادلة إلى ملك عضوض ، والتي تحت كنفها وفي أيامها نشأت الفرق الإسلاميّة التي فتت في عضد الدولة الإسلاميّة ومزّقتها تمزيقا ، واستفاض فيها وضع الحديث. فكان جديرا بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة وينفخوا في نار الفتنة ، ويمدّوها بجيوش الأكاذيب والكيد. وكان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام وأهله ، وأنّ الخير كل الخير فيه ، والشر كل الشر في غيره (٣).

ومما قاله هؤلاء الكهنة بهذا الشأن : إن ملك النبي سيكون بالشام ، روى البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة ـ تلميذ كعب ـ مرفوعا : الخلافة بالمدينة

__________________

(١) الأضواء ، ص ١٢٨.

(٢) الغدير ، ج ١٠ ، ص ١٣٨ ، فما بعد.

(٣) الأضواء ، ص ١٧٠.

٤٨

والملك بالشام. وعن كعب : أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن عصاه.

ومن حديث : ستفتح عليكم الشام ، فإذا خيّرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة يقال لها : «دمشق» ـ وهي حاضرة الأمويين ـ فإنها معقل المسلمين في الملاحم ، وفسطاطها منها بأرض يقال لها : «الغوطة».

وقد جعلوا دمشق هذه ، هي الربوة التي ذكرت في القرآن الكريم : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(١) وذلك في حديث مرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جعلها أبو هريرة من مدائن الجنّة أيضا في حديث رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا نصّه : «أربع مدائن من مدائن الجنّة : مكة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، ودمشق» (٢).

وهكذا نرى معاوية الذي تعلّم من كعب كيف يضع الحديث ، يصف نفسه بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده بأنه سيلي الخلافة من بعده. قال في خطبته لمّا عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الإمام الحسن عليه‌السلام سنة (٤١): «أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنك ستلي الخلافة من بعدي ، فاختر الأرض المقدسة ، فإنّ فيها الإبدال» (٣) قال أبو ريّة : وما كاد معاوية يذكر أن الشام أرض الأبدال إلّا وظهرت أحاديث مرفوعة عن هؤلاء الأبدال وقد أوردها السيوطي في «الجامع الصغير» (٤).

__________________

(١) المؤمنون / ٥٠.

(٢) الأضواء ، ص ١٢٩.

(٣) شرح نهج البلاغة ، ج ٤ ، ص ٧٢.

(٤) الأضواء ، ص ١٣٠ ـ ١٣١.

٤٩

وبذلك نكشف عن جانب خطير من كيد الدهاء اليهودي للمسلمين ودينهم وملكهم.

ذلك أنهم لم يكتفوا بما قالوه في الشام بل زادوا على ذلك بأن جعلوا الطائفة الظاهرة على الحق تكون في الشام كذلك ، وحتى نزول عيسى الذي قالوا عنه : سيكون بأرضه.

فقد جاء في الصحيحين : «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. روى البخاري : هم بالشام (١). وفي رواية أبي أمامة الباهلي : أنهم لما سألوا النبي قال : بيت المقدس وأكناف بيت المقدس (٢).

وفي مسلم عن أبي هريرة : أن النبي قال : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة. قال أحمد وغيره : هم أهل الشام.

وفي «كشف الخفاء» : أن كعب الأحبار قال : أهل الشام سيف من سيوف الله ، ينتقم الله بهم من العصاة.

قال أبو ريّة : ولعل العصاة هنا هم الذين لا ينضوون تحت لواء معاوية ، ويتبعون غيره. وغيره هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٤ ، ص ٢٥٢.

(٢) نهاية الإرب ، ج ١ ، ص ٣٣٣.

(٣) الأضواء ، ص ١٧٠ ـ ١٧١. ومن طريف ما يذكر هنا : أنّ رجلا لقى كعب الأحبار فسلم عليه ودعا له. فسأله كعب : ممن هو؟ فقال : من أهل الشام. قال : لعلك من الجند الذين يدخلون الجنة منهم سبعون ألفا بغير حساب. قال الرجل : ومن هم؟ قال : أهل دمشق. قال : لست منهم. قال : فلعلك من الجند الذين ينظر الله إليهم في كل يوم مرتين ، قال : ومن هم؟ قال :

٥٠

نعم وجد أهل الحقد على الإسلام في معاوية والشام أرضيّة خصبة لبذر النفاق والتفريق بين كلمة المسلمين ، فعادوا عليا عليه‌السلام حيث وجدوه المثال الأتم لحقيقة الإسلام الناصعة ، وأفرغوا عداءهم له وللإسلام ، في قالب الثناء على معاوية والشام بلد الأبدال ، فيما اختلقوه.

أخرج ابن الجوزي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سألت أبي ما تقول في عليّ ومعاوية؟ فأطرق ، ثم قال : ايش أقول فيهما ، أن عليا عليه‌السلام كان كثير الأعداء ، ففتّش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا ، فعمدوا إلى رجل ـ يريد معاوية ـ قد حاربه وقاتله فأطروه ، كيدا منهم لعليّ عليه‌السلام (١).

قال ابن حجر : فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. قال : وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ، ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد. وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما (٢).

ومن طريف الأمر ، أنّ البخاري في كتاب «الفضائل» نراه عنون الباب الذي خصّه بمعاوية ، بقوله : «باب ذكر معاوية» ، ولم يجرأ أن يعنونه بلفظة «الفضائل» كما في سائر الأبواب ، وبالفعل لم يأت فيه شيئا مذكورا (٣) ، وهكذا ابن الجوزي (٤) وغيره. ومن ثم قال ابن حجر في الشرح : عبّر البخاري في هذه

__________________

أهل فلسطين. قال الرجل : أنا منهم. وفي لفظ : قال : لعلك من الجند الذين يشفع شهيدهم بسبعين ، قال : ومن هم؟ قال : أهل حمص. (تاريخ ابن عساكر ، ج ١ ، ص ٥٧.) قال أبو ريّة : وحمص هذه هي البلدة التي دفن فيها جثمان كعب.

(١) الموضوعات ، ج ٢ ، ص ٢٤.

(٢) فتح البارى بشرح البخاري ، ج ٧ ، ص ٨١.

(٣) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ٣٥.

(٤) الموضوعات ، ج ٢ ، ص ١٥.

٥١

الترجمة بقوله «ذكر» ولم يقل : «فضيلة» ولا «منقبة» ، لكون «الفضيلة» لا تؤخذ من حديث الباب (١) ، أي لا تستفاد فضيلة من الحديث الذي ذكره تحت هذه الترجمة ، وقد عرفت أنه لم يصح فيه حديث.

وروى الذهبي قال : سئل النسائي ـ وهو بدمشق ـ عن فضائل معاوية ، فقال : ألا يرضى رأسا برأس ، حتى يفضّل!؟ قال الذهبي : فما زالوا يدافعونه حتى أخرج من المجلس ، وحمل إلى الكوفة ، فتوفيّ بها (٢).

وهكذا استمر الحال بعد معاوية ما دامت السلطة الأموية قائمة. فهذا هشام بن عبد الملك نراه يفرض على أتباعه ومتملّقيه من علماء ذلك العصر أن يرووا أنّ الآية : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣) نزلت في عليّ عليه‌السلام فأقرّوه على ذلك (٤).

٦ ـ الوضع نزولا مع رغبة العامّة ، ورغبة فيما بأيديهم من حطام الدنيا. وهذه مهنة القصّاصين ، يقصّون على الناس القصص والأساطير البائدة ويحدّثونهم الغرائب والعجائب ، ليستدرّوا ما لديهم من نقود وإعانات وفضول طعام.

وقد كان وضع الحديث لإرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم ، واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية ، وتوسيع حلقاتهم ، أمرا رائجا ولا يزال.

__________________

(١) فتح الباري ، ج ٧ ، ص ٨١.

(٢) سير أعلام النبلاء ، ج ١٤ ، ص ١٣٢. وهو الذي روى حديث «اللهم لا تشبع بطنه» ، ص ١٢٩.

(٣) النور / ١١.

(٤) الموضوعات في الآثار والأخبار ، هاشم معروف الحسنى ، ص ١٣٧ و ١٩٩.

٥٢

قال القرطبي في مقدمة تفسيره : منهم (من الوضّاع والكذّابين) قوم من السؤّال والمكدين ، يقفون في الأسواق والمساجد ، فيضعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها ، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد (١).

قال ابن الجوزي : هناك قوم شقّ عليهم الحفظ ، فضربوا نقد الوقت ، وربّما رأوا أن الحفظ معروف ، فأتوا بما يغرب مما يحصل مقصودهم ، فهؤلاء قسمان ، أحدهما : القصّاص ، ومعظم البلاء منهم يجري ؛ لأنهم يزيدون أحاديث تثقف وترقّق ، والصحاح يقلّ فيها هذا. ثم إنّ الحفظ يشقّ عليهم ويتفق عدم الدين ، ومن يحضرهم جهّال ، فيقولون. ولقد حكى لي فقيهان ثقتان عن بعض قصّاص زماننا وكان يظهر النسك والتخشع ، أنه حكى لهما ، قال : يوم عاشوراء ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من فعل اليوم كذا فله كذا ، ومن فعل كذا فله كذا ، إلى آخر المجلس. فقالا له : ومن أين حفظت هذه الأحاديث؟ فقال : والله ما حفظتها ، ولا أعرفها ، بل في وقتي قلتها.

قال : ولا جرم كان القصّاص شديدي النعير، ساقطي الجاه ، لا يلتفت الناس إليهم ، فلا لهم دنيا ولا آخرة. وقد صنّف بعض قصّاص زماننا كتابا فذكر فيه : «أن الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب وهو مشغول ، فلما فرغ من شغله رفع رأسه فرآهما ، فقام فقبّلهما ، ووهب لكل واحد منهما ألفا ، وقال : اجعلاني في حلّ ، فما عرفت دخولكما ، فرجعا وشكراه بين يدي أبيهما عليّ عليه‌السلام. فقال عليّ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : عمر بن الخطاب نور في الإسلام وسراج لأهل الجنّة. فرجعا فحدّثاه. فدعا بدواة وقرطاس وكتب : بسم الله الرحمن

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٧٩.

٥٣

الرحيم ، حدّثني سيدا شباب أهل الجنة عن أبيهما المرتضى عن جدّهما المصطفى أنه قال : عمر نور الإسلام في الدنيا وسراج أهل الجنّة في الجنة. وأوصى أن تجعل في كفنه على صدره ، فوضع. فلما أصبحوا وجدوه على قبره ، وفيه : صدق الحسن والحسين وصدق أبوهما وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عمر نور الإسلام وسراج أهل الجنة».

قال ابن الجوزي : والعجب بهذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يضيف مثل هذا. وما كفاه حتى عرضه على كبار الفقهاء ، فكتبوا عليه تصويب ذلك التصنيف. فلا هو عرف أنّ مثل هذا محال ولا هم عرفوا. وهذا جهل متوفّر ، علم به أنّه من أجهل الجهال الذين ما شمّوا ريح النقل ، ولعلّه قد سمعه من بعض الطرقيين (١).

قال الإمام أحمد بن حنبل : أكذب الناس السؤّال والقصّاص.

وعن أبي قلابة : ما أمات العلم إلّا القصّاص.

وكان أبو عبد الرحمن يقول : اتّقوا القصّاص (٢).

وكان الذي أحدث القصص ـ في المساجد ـ هو معاوية بن أبي سفيان. فقد أخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم ، قالوا : إنما القصص محدث أحدثه معاوية حين كانت الفتنة (٣).

لكن سيوافيك في قصة الإسرائيليات أنّ القصص في المساجد ، حدث في أواخر عهد عمر ، حين استجازه تميم الداري فأجازه أن يقصّ قائما في مسجد

__________________

(١) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) الأضواء لأبي ربة ، ص ١٢٤.

(٣) المصدر نفسه.

٥٤

المدينة (١). وهكذا استمر على عهد عثمان ، حتى كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الذي طرد القصّاص من المساجد على عهده (٢) ، الأمر الذي قد أصرّ معاوية على تداومه في المساجد ، منذ أن أجازه عمر بن الخطاب.

وكان الذي أشاع القصّ في المساجد هو كعب الأحبار ؛ حيث انتهز الفرصة أيام الفتنة لبثّ مخاريقه بين المسلمين كيدا بالإسلام ؛ وذلك أن وجد من سياسة معاوية إمكان إشاعة أساطيره بين الناس.

كان كعب قد توعّده عمر بالنفي إلى أرض القردة إذا هو روى إسرائيلياته أو ما كان يلصقه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحاديث خرافة (ستوافيك في حقل الإسرائيليات). فلم يجد كعب تلقاء هذا التهديد مناصا من أن يذعن في غيظ وموجدة ، ثم أخذ يسعى في الخفاء لكي يحقق أغراضه التي أسلم من أجلها. قال أبو ريّة : وما لبث أن أتيحت له فرصة المؤامرة التي دبّرتها جمعيّة سريّة لقتل عمر ، فاشترك هو فيها ، ونفخ في نارها.

فلما خلا له الجوّ بقتله ، أطلق العنان لنفسه لكي يبثّ ما شاء الكيد اليهودي أن يبثّ من الخرافات الإسرائيليّات التي تشوّه بهاء الدين ، يعاونه في ذلك تلاميذه الكبار أمثال : عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة.

وقد درس هذا الكاهن اليهودي في ملامح معاوية تحقيق أهدافه وإمكان رواج إسرائيلياته ، فلم يدع تلك الفرصة ، واغتنمها منذ عهد عثمان.

ذلك أنه لما اشتعلت نيران الفتنة في زمن عثمان واشتد زفيرها ، حتى التهمت

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ، ج ٢ ، ص ٤٤٧.

(٢) فجر الإسلام لأحمد أمين ، ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

٥٥

عثمان فقتلته وهو ـ أي كعب الأحبار ـ في بيته ، لم يدع هذا الكاهن الماكر هذه الفرصة تمرّدون أن يبتهلها ، بل أسرع ينفخ في نارها ، ويسهم بكيده اليهودي فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقد كان من كيده في هذه الفتنة أن أرهص بيهوديّته بأنّ الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية.

فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح : أنّ الحادي كان يحدو بعثمان يقول :

إن الأمير بعده عليّ

وفي الزبير خلق رضيّ (١)

فقال كعب : بل هو صاحب البغلة الشهباء ـ يعني معاوية ـ وكان يراه يركب بغلة ، فبلغ ذلك معاوية فأتاه ، فقال : يا أبا إسحاق ما تقول هذا؟ وهاهنا عليّ والزبير وأصحاب محمد! قال : أنت صاحبها ـ لعله أردف ذلك بقوله : إنّي وجدت ذلك في التوراة ـ كما هي عادته.

وقدّر معاوية هذه اليد الجليلة لكعب ، وأخذ يغمره بإفضاله.

وقد عرف من تاريخ هذا الكاهن أنه تحوّل إلى الشام في عهد عثمان ، وعاش تحت كنف معاوية ، فاستصفاه معاوية لنفسه وجعله من خلصائه ، لكي يروي من أكاذيبه وإسرائيلياته ما شاء أن يروي في قصصه ؛ لتأييده ، وتثبيت قوائم دولته.

وقد ذكر ابن حجر العسقلاني بأنّ معاوية هو الذي أمر كعبا بأن يقصّ في الشام (٢). وهو الذي بثّ أحاديث تفضيل الشام وأهلها ، سواء بنفسه أو على يد تلامذته.

__________________

(١) النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ، للمقريزي ، ص ٥١.

(٢) الإصابة ، ج ٣ ، ص ٣١٦ وراجع : الأضواء ، ص ١٧٩ ـ ١٨١.

٥٦

أقسام الوضّاعين

قسّم ابن الجوزي الرواة الذين وقع في حديثهم الموضوع والكذب والمقلوب إلى خمسة أقسام :

القسم الأول : قوم غلب عليهم الزهد والتقشّف ، فتغفّلوا عن الحفظ والتمييز. ومنهم من ضاعت كتبه أو احترقت أو دفنها ، ثم حدّث من حفظه فغلط.

فهؤلاء تارة يرفعون المرسل ، وتارة يسندون الموقوف ، وتارة يقلبون الإسناد ، وتارة يدخلون حديثا في حديث.

والقسم الثاني : قوم لم يعانوا على النقل ، فكثر خطاؤهم وفحش ، على نحو ما جرى للقسم الأول.

والقسم الثالث : قوم ثقات لكنهم اختلطت عقولهم في آخر أعمارهم ، فخلطوا في الرواية.

والقسم الرابع : قوم متغفّلون ، فمنهم من كان يلقّن فيتلقّن ، ومنهم من يروي حديثا فيظن أنه سمعه ولم يسمعه ، أو يظن جواز إسناد ما لم يسمع. وقد قيل لبعضهم : هذه الصحيفة سماعك؟ فقال : لا ، ولكن مات الذي رواها فرويتها مكانه. ومنهم من كان بعض أولاده يضع له الحديث ، فيدوّن ولا يعلم.

والقسم الخامس : قوم تعمدوا الكذب ، وهؤلاء على ثلاثة أصناف :

الصنف الأول : قوم رووا الخطأ من غير أن يعلموا أنه خطأ. فلما عرفوا وجه الصواب أنفوا أن يرجعوا ، فأصرّوا على خطائهم ، أنفة أن ينسبوا إلى غلط.

والصنف الثاني : قوم رووا عن كذّابين وعن ضعفاء يعلمونهم ، لكنهم دلّسوا في أسمائهم. فالكذب من أولئك المجروحين ، والخطأ القبيح من هؤلاء المدلّسين.

٥٧

والصنف الثالث : قوم تعمّدوا الكذب الصريح.

وهؤلاء ، منهم الزنادقة ، وضعوا الحديث قصدا إلى إفساد الشريعة ، وإيقاع الشك في قلوب العامة ، والتلاعب بالدين ، أمثال : ابن أبي العوجاء وضع أربعة آلاف حديث. وغيره ممن وضعوا كميّات كبيرة ، أحلّوا بها الحرام وحرّموا بها الحلال.

ومنهم ، أصحاب العصبيّة الجاهلة ، كانوا يضعون الحديث نصرة لمذهبهم ، وسوّل لهم الشيطان أنّ ذلك جائز.

ومنهم ، أهل التصوّف والتقشّف ، وضعوا الحديث في الترغيب والترهيب ، ليحثّوا الناس ـ بزعمهم ـ على فعل الخير وترك الشر ، وهذا تعاط على الشريعة ، ومضمون فعلهم أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تتمّة فقد أتمّوها.

ومنهم ، قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن ، فقد حدّث محمد بن خالد عن أبيه قال : سمعت محمد بن سعيد يقول : لا بأس إذا كان الكلام حسنا أن تضع له إسنادا.

ومنهم قوم وضعوا الحديث تزلّفا إلى سلطان أو نيلا إلى نوال ، كما وضع غياث بن إبراهيم حديث «لا سبق في جناح» تزلّفا إلى المهدي ، وكان يحبّ الحمام.

ومنهم من كان يضع الحديث جوابا لسائليه ليحظى منزلة رفيعة لديه.

ومنهم من كان يضع الحديث لقدح أو مدح في أناس لأغراض مختلفة ، كالأحاديث الموضوعة في قدح ومدح الشافعي وأبي حنيفة.

ومنهم من كان يضع الغريب من الحديث ، استجلابا لأنظار العامة ، كما كان يفعله القصّاص ؛ ومعظم البلاء منهم يجري ، لأنهم يزيدون أحاديث تثقف وترقق ، والصحاح يقل فيها هذا. لا جرم كان القصّاص شديدي النعير ساقطي

٥٨

الجاه ، لا التفات إليهم ، ليست لهم دنيا ولا آخرة.

ومن هؤلاء القصّاص شحّاذون ، يضعون الحديث ويسندوه إلى من شاءوا ، ولا سيما من كان معروفا لدى العامة بالجاه والقبول.

قال جعفر بن محمد الطيالسي : صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة. فقام بين أيديهم قصّاص ، فقال : حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، قالا : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال : لا إله إلّا الله ، خلق الله كل كلمة منها طيرا منقاره من ذهب وريشه من مرجان ...» وأخذ في قصّة نحو عشرين ورقة. فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ، ويحيى ينظر إلى أحمد ، فقال له : أنت حدّثته بهذا؟ فقال : والله ما سمعت بهذا إلّا الساعة ، فلما فرغ من قصصه وأخذ القطيعات ، ثم قعد ينتظر بقيّتها ، أشار إليه يحيى بيده أن تعال ، فجاء متوهما النوال. فقال له يحيى : من حدّثك بهذا الحديث؟ فقال : أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. فقال : أنا يحيى وهذا أحمد ، ما سمعنا بهذا قطّ في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن كان لا بدّ والكذب فعلى غيرنا! فقال له : أنت يحيى بن معين؟ قال : نعم. قال : لم أزل أسمع أنّ يحيى بن معين أحمق ، ما تحقّقته إلّا الساعة. قال له يحيى : كيف علمت أنّي أحمق؟ قال : كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما. قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. فوضع أحمد كمّه على وجهه ، وقال : دعه يقوم. فقام كالمستهزئ بهما (١).

__________________

(١) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٣٥ ـ ٤٦.

٥٩

أقطاب الوضّاعين

قال الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي ـ صاحب السنن ـ : الكذّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة : ابن أبي يحيى بالمدينة ، والواقدي ببغداد ، ومقاتل بن سليمان بخراسان ، ومحمد بن سعيد بالشام ، يعرف بالمصلوب (١).

أمّا ابن أبي يحيى ، فهو : أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، واسمه سمعان الأسلمي المدني. روى عن الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وروى عنه الثوري والإمام الشافعي. رمي بالقدر والتشيّع والكذب. قال ابن عدي : لم أجد لإبراهيم حديثا منكرا إلّا عن شيوخ يحتملون. وقد حدّث عنه ابن جريج والثوري والكبار. له كتاب صنّفه في المسانيد أسماه «الموطّأ» أضعاف موطّأ مالك ، وأحاديثه كثيرة ، رواه عنه الشافعي بمصر ، وكان يكنّى عنه. وفي مسند الشافعي عنه أحاديث ، وكان يقول عنه : لأن يخرّ إبراهيم من بعد ، أحب إليّ من أن يكذب ، وكان ثقة في الحديث. وقال أبو أحمد ابن عدي : سألت أحمد بن محمد بن سعيد ـ يعني ابن عقدة ـ فقلت له : تعلم أحدا أحسن القول في إبراهيم غير الشافعي؟ فقال : نعم ، حدثنا أحمد بن يحيى الأودي ، قال : سمعت حمدان بن الأصبهاني ، قلت : أتدين بحديث إبراهيم بن أبي يحيى؟ قال : نعم. ثم قال لي أحمد بن محمد بن سعيد : نظرت في حديث إبراهيم كثيرا وليس بمنكر الحديث. قال ابن عدي : وهذا الذي قاله ، كما قال. وقد نظرت أنا أيضا في حديثه الكثير فلم أجد فيه منكرا إلّا عن شيوخ يحتملون ، وإنما روي المنكر من قبل الراوي عنه أو من قبل شيخه. قال : وهو من جملة من يكتب حديثه.

__________________

(١) ملحق كتابه في الضعفاء والمتروكين ، ص ١٢٣.

٦٠