التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

فالباطن ما هو؟ قال : فهمه ، وإن فهمه هو المراد (١).

ونجده أحيانا لا يقتصر على التفسير الإشاري وحده ، بل ربما ذكر المعاني الظاهرة ثم يعقّبها بالمعاني الإشارية. وحينما يعرض للمعاني الإشارية لا يكون واضحا في كل ما يقوله ، بل تارة يأتي بالمعاني الغريبة التي يستبعد أن تكون مرادة لله تعالى ، كالمعاني التي يذكرها في تفسير البسملة :

الباء : بهاء الله. والسين : سناء الله. والميم : مجد الله. والله : هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها ، وبين الألف واللّام منه حرف مكنّى ، غيب من غيب إلى غيب ، وسرّ من سرّ إلى سر ، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة ، لا ينال فهمه إلّا الطّاهر من الأدناس ، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان. والرحمن : اسم فيه خاصية من الحرف المكنّى بين الألف واللام. والرحيم : هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع ، والابتداء في الأصل ، رحمة لسابق علمه القديم (٢).

وبهذا النسق فسّر «الم» ، وتبعه على ذلك أبو عبد الرحمن السلمي ، ومن بعدهما من مفسري الصوفية وأهل العرفان (٣).

وربّما فسّر الآية بما لا يحتمله اللفظ ، وليس سوى الذوق الصوفي حمله على الآية حملا ، من ذلك ما ذكره في تفسير الآية (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)(٤) : لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة ، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره ، أي لا تهتمّ بشيء هو غيري. قال : فآدم عليه‌السلام لم يعصم من الهمة والفعل في الجنة ،

__________________

(١) تفسير التستري ، ص ٣.

(٢) المصدر ، ص ٩ ـ ١٢.

(٣) حقائق التفسير للسلمي ، ص ٩.

(٤) البقرة / ٣٥.

٥٤١

فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. قال : وكذلك كل من ادّعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظرا إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله عزوجل مع ما جبلت عليه نفسه ، إلّا أن يرحمه‌الله ، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوّه وعليها. قال : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لمّا أدخل الجنة ، ألا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه ، فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل والبيان ونور القلب ، لسابق القدر من الله تعالى ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل (١).

وفى أغلب الأحيان يجري في تفسيره مع ظاهر الآية أوّلا ، ثم يعقّبه بما سنح له من خواهر صوفية يجعلها تأويلا وتفسيرا لباطن الآية. من ذلك تفسيره للآية (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(٢) حيث يقول بعد ذكره للتفسير الظاهر : وأما باطنها ، فالجار ذي القربى هو القلب ، والجار الجنب هو الطبيعة ، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدى بالشريعة ، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله (٣).

وعند تفسيره للآية (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(٤) يقول : مثّل الله الجوارح بالبرّ ، ومثّل القلب بالبحر ، وهم أعمّ نفعا وأكثر خطرا. هذا هو باطن الآية ، ألا ترى أنّ القلب إنما سمّي قلبا لتقلّبه ، وبعد غوره (٥).

__________________

(١) تفسير التستري ، ص ١٦ ـ ١٧.

(٢) النساء / ٣٦.

(٣) تفسير التستري ، ص ٤٥.

(٤) الروم / ٤١.

(٥) تفسير التستري ، ص ٤٥. وراجع : الذهبي ، ج ٢ ، ص ٣٦٥.

٥٤٢

٢ ـ حقائق التفسير للسّلمي

وثاني تفاسير الصوفية التي ظهرت إلى الوجود ، تفسير أبي عبد الرحمن السّلمي ، المسمّى ب «حقائق التفسير» هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى الأزدي السّلمي ، المولود سنة (٣٣٠) والمتوفّى سنة (٤١٢). كان شيخ الصوفية ورائدهم بخراسان ، وله اليد الطولى في التصوّف ، وكان موفّقا في علوم الحقائق حسبما اصطلح عليه القوم وكان على جانب كبير من العلم بالحديث ، أخذ منه الحاكم النيسابوري والقشيري صاحب التفسير.

وهذا التفسير من أهم تفاسير الصوفية ، ويعدّ من أمّهات المراجع للتفسير الباطني لمن تأخر عنه ، كالقشيري والشيرازي وأضرابهما من أقطاب الصوفية.

وهو امتداد للتفسير الصوفي الذي ابتدعه التستري من ذي قبل وتفصيل فيه ، وتحرير واسع للذوق الصوفي في فهمه لمعاني كلمات الله في القرآن العظيم. يقول في مقدمته :

«لما رأيت المتوسّمين بعلوم الظاهر قد سبقوا في أنواع فرائد القرآن ، من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام ، وإعراب ولغة ، ومجمل ومفصّل ، وناسخ ومنسوخ ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلّا آيات متفرّقة ، أحببت أن أجمع حروفا استحسنها من ذلك ، وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك ، وأرتّبه على السور ، حسب وسعي وطاقتي» (١).

غير أنّ الاقتصار على المعاني الإشاريّة ، والإعراض عن المعاني الظاهرة في هذا التفسير ، ترك للعلماء مجالا للطعن عليه ، ولقى معارضات شديدة من معاصريه وممن أتوا بعده ، فاتّهم بالابتداع والتحريف والقرمطة ، ووضع

__________________

(١) حقائق التفسير للسّلمي ، ص ١ ـ ٢.

٥٤٣

الأحاديث على الصوفية.

يقول ابن الصلاح (١) في فتاواه وقد سئل عن كلام الصوفية في القرآن : وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسّر أنه قال : صنّف أبو عبد الرحمن السّلمي «حقائق التفسير» فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير ، فقد كفر.

قال : الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم ، فإنه لو كان كذلك ، كانوا قد سلكوا مسلك الباطنيّة ، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن ، فإن النظير يذكر بالنظير ، ومن ذلك قتال النفس في الآية الكريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)(٢) فكأنه قال : أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك ، لما فيه من الإبهام والإلباس (٣).

قال أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفّى سنة (٤٦٣ ه‍) ـ وهو قريب عهد به ـ : قال لي محمد بن يوسف القطّان النيسابوري : كان السّلمي غير ثقة. قال الخطيب : وكان يضع للصوفية الأحاديث (٤).

__________________

(١) هو الإمام الحافظ العلّامة شيخ الإسلام في قطره وعصره ، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن الكردي الشهرزوري الموصلي. ولد سنة (٥٧٧ ه‍) وتوفّي سنة (٦٤٣ ه‍) بدمشق ، ودفن بمقبرة الصوفية ، وكان قبره ظاهرا يزار. (سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج ٢٣ ، ص ١٤٠ ، رقم ١٠٠)

(٢) التوبة / ١٢٣.

(٣) فتاوي ابن الصلاح ، ص ٢٩. (الذهبي ، ج ٢ ، ص ٣٦٨).

(٤) تاريخ بغداد ، ج ٢ ، ص ٢٤٨.

٥٤٤

وهكذا وصفه أبو العباس أحمد بن تيميّة الحرّاني المتوفّى سنة (٧٢٨ ه‍) بالوضع والاختلاق. قال : وما ينقل في «حقائق» السّلمي من التفسير عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام عامته كذب على جعفر ، كما قد كذب عليه غير ذلك (١).

قال الإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفّى سنة (٧٤٨ ه‍) في «تذكرة الحفاظ» : «ألّف السّلمي حقائق التفسير فأتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنيّة ، نسأل الله العافية» (٢).

وقال في ترجمته في «سير أعلام النبلاء» : «وللسّلمي سؤالات للدار قطني عن أحوال المشايخ والرواة سؤال عارف. وفي الجملة ففي تصانيفه أحاديث وحكايات موضوعة. وفي «حقائق التفسير» أشياء لا تسوغ أصلا ، عدّها بعض الأئمة من زندقة الباطنية ، وعدّها بعضهم عرفانا وحقيقة ، نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى» (٣).

ومن ثمّ عدّ السيوطي المتوفى سنة (٩١١) تفسير السّلمي في كتابه «طبقات المفسرين» ضمن التفاسير المبتدعة. قال : وإنما أوردته في هذا القسم لأنه غير محمود (٤).

وهكذا ذكر الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الداودي المتوفّى سنة (٩٤٥ ه‍) في «طبقات المفسرين» ، قال : وكتاب «حقائق التفسير» للسّلمي قد

__________________

(١) منهاج السنة ، ج ٤ ، ص ١٥٥.

(٢) تذكرة الحفاظ ، ج ٣ ، ص ١٠٤٦.

(٣) سير أعلام النبلاء ، ج ١٧ ، ص ٢٥٢.

(٤) طبقات المفسرين للسيوطي (ط ليدن) ص ٣١.

٥٤٥

كثر الكلام فيه ، من قبل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ومحامل للصوفيّة ، ينبو عنها ظاهر اللفظ (١).

وإليك الآن نماذج من تأويلات السّلمي ، مما ينبو عنها لفظ القرآن الكريم : قال في الآية (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)(٢) : قال محمد بن الفضل : اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها ، أو أخرجوا من دياركم ، أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم ، ما فعلوه إلّا قليل منهم في العدد ، كثير في المعاني ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة (٣).

وفي سورة الرعد عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ)(٤) يقول : قال بعضهم : هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده ، فإليهم الملجأ وبهم النجاة ، فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ، ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر. سمعت علي بن سعيد يقول : سمعت أبا محمد الحريري يقول : كان في جوار الجنيد إنسان مصاب في خربة ، فلمّا مات الجنيد وحملنا جنازته ، حضر الجنازة ، فلما رجعنا تقدّم خطوات وعلا موضعا من الأرض عاليا ، فاستقبلني بوجهه ، وقال : يا أبا محمد ، إني لراجع إلى تلك الخربة ، وقد فقدت ذلك السيّد ، ثم أنشد شعرا :

وما أسفي من فراق قوم

هم المصابيح والحصون

__________________

(١) طبقات المفسرين للداودي ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) النساء / ٦٦.

(٣) تفسير السّلمي (حقائق التفسير) ، ص ٤٩.

(٤) الرعد / ٣.

٥٤٦

والمدن والمزن والرواسي

والخير والأمن والسكون

لم تتغير لنا الليالي

حتى توفتهم المنون

فكل جمر لنا قلوب

وكل ماء لنا عيون (١)

وفي سورة الحج عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)(٢) ، يقول : قال بعضهم : أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة ، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة ، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة ، وأثمرت الإيمان ، وأينعت التوحيد ، أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها ، واشتاقت إلى ربّها فطارت بهمّتها ، وأناخت بين يديه ، وعكفت فأقبلت عليه ، وانقطعت عن الأكوان أجمع. ذاك آواها الحق إليه ، وفتح لها خزائن أنواره ، وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ، ورياض الشوق والقدس (٣).

وفي سورة الرحمن عند قوله تعالى : (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ)(٤) يقول : قال جعفر : جعل الحق تعالى في قلوب أوليائه رياض أنسه ، فغرس فيها أشجار المعرفة ، أصولها ثابتة في أسرارهم ، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد ، فهم يجنون ثمار الأنس في كل أوان ، وهو قوله تعالى : (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي ذات الألوان ، كل يجتني منه لونا على قدر سعته ، وما كوشف له من بوادي المعرفة وآثار الولاية (٥).

__________________

(١) تفسير السّلمي ، ص ١٣٨.

(٢) الحج / ٦٣.

(٣) تفسير السّلمي ، ص ٢١٢.

(٤) الرحمن / ١١.

(٥) تفسير السّلمي ، ص ٣٤٤.

٥٤٧

وفي سورة الانفطار (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(١) يقول : قال جعفر : النعيم : المعرفة والمشاهدة ، والجحيم : النفوس ، فإن لها نيرانا تتّقد (٢).

وفي سورة النصر (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(٣) يقول : قال ابن عطاء الله : إذا شغلك به عمّا دونه فقد جاءك الفتح من الله تعالى ، والفتح : هو النجاة من السّجن البشري بلقاء الله تعالى (٤).

٣ ـ لطائف الإشارات للقشيري

هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري. ولد في قرية من ضواحي نيسابور سنة (٣٧٦ ه‍) ومات أبوه وهو صغير ، فاتّجهت به أسرته نحو طلب العلم ، فبرع فيه حسبما دارت رحى العلم في ذلك العهد ، في الفقه والحديث والأدب والأصول والتفسير. وسار في درب الصوفية على يد أبي الحسن ابن الدقاق المتوفّى سنة (٤٤٨ ه‍) من كبار مشايخ الصوفية ذلك العهد ، وقد أشار عليه أن يحضر حلقات درس أبي بكر الطوسي ، وابن فورك ، والأسفراييني. وفي أثناء ذلك كان يداوم على درس ابن الدّقّاق ، ولما توفّي انتقل إلى دروس عبد الرحمن السّلمي المتوفّى سنة (٤١٢ ه‍) حتى أصبح شيخ خراسان في الفقه والكلام ، مع تصدير في الحديث والوعظ والإرشاد. وتوفّي سنة

__________________

(١) الانفطار / ١٣ ـ ١٤.

(٢) تفسير السّلمي ، ص ٣٨٥.

(٣) النصر / ١.

(٤) تفسير السّلمي ، ص ٤٠٢.

٥٤٨

(٤٦٥ ه‍) بمدينة نيسابور.

وتفسيره هذا امتداد للتفسير الصوفي الباطني ، معتمدا في أكثر الأحيان على تأويلات قد ينبو عنها ظاهر لفظ الآية الكريمة. لكنه مع ذلك حاول أن يوفّق بين علوم الحقيقة ـ حسب مصطلحهم ـ وعلوم الشريعة ، قاصدا أن لا تعارض بينهما ، وأن أيّ كلام يناقض ذلك فهو خروج على كليهما ؛ إذ كل شريعة غير مؤيّدة بالحقيقة فغير مقبول ، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول ، فالشريعة أن تعبده ، والحقيقة أن تشهده. كما جاء في «الرسالة القشيريّة» (١).

حاول في هذا التفسير أن يبرهن على أن كلّ صغيرة وكبيرة في علوم الصوفيّة ، فإنّ لها أصلا من القرآن. ويتجلّى ذلك بصفة خاصّة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا في النّص القرآني ، كالذكر والتوكّل والرضا ، والوليّ والولاية والحق ، والظاهر والباطن ، والقبض والبسط. فإنك عند خلال قراءة التفسير لا تكاد تملك إلا أن تحكم أن الصوفيّة قد استمدّوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم ، وأنّ علومهم ليست غريبة ولا مستوردة ، كما يحلو لكثير من الباحثين ، حين يرون التصوّف الإسلامي متأثّرا بالتيّارات الأجنبيّة ، اليونان والفرس والهند.

كذلك تلحظ عبقريّة القشيري إزاء اللفظة أو الآية ، حينما لا يكون فيها اصطلاح صوفي ، فإنّه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات في الصحبة والصاحب ، ومن علاقة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه إشارات عن الشيخ ومريديه ، ومن مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والجبال إشارات تتّصل اتّصالا وثيقا بالرياضات والمجاهدات ، أو بالمواصلات والكشوفات.

__________________

(١) الرسالة القشيريّة ، ص ٤٦. وراجع : مقدمة تفسير القشيري ، ج ١ ، ص ١٨.

٥٤٩

ومن ثمّ فإنه من أوفق التفاسير الصوفية في الجمع بين الشريعة والطريقة ، وأسلمها عن الخوض في التأويلات البعيدة التي يأباها اللفظ وينفرها ، كما في سائر تفاسيرهم.

ولذلك فإنّ فيه بعض الشطحات أو التأويلات البعيدة ، مما يعدّ تفسيرا بالرأي الممنوع منه شرعا ، مثلا عند قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١) يقول : الأمر في الظاهر بتطهير البيت ، والإشارة من الآية إلى تطهير القلوب. وتطهير البيت بصونه عن الأدناس والأوضار ، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار.

وطواف الحجاج حول البيت معلوم بلسان الشرع ، وطواف المعاني معلوم لأهل الحق ، فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة ، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة ، فهؤلاء أصحاب التلوين ، وهؤلاء أرباب التمكين (٢).

وقلوب القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدا واقفة.

وقلوب الموحّدين على بساط الوصل أبدا راكعة.

وقلوب الواجدين على بساط القرب أبدا ساجدة.

ويقال : صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدا واقفة ، وسوامي قصود

__________________

(١) البقرة / ١٢٥.

(٢) التلوين والتمكين لفظان اصطلاحيّان : التلوين صفة أرباب الأحوال ، والتمكين صفة أهل الحقائق. فما دام العبد في الطريق فهو صاحب تلوين ؛ لأنّه يرتقي من حال إلى حال ، وينتقل من وصف إلى وصف ، وهو أبدا في الزيادة. أما صاحب التمكين فوصل ثم اتصل ، وأمارة أنه اتصل أنه بالكلّية عن كليّته بطل ، والتغيير بما يرد على العبد إما لقوّة الوارد أو لضعف صاحبه ، والسكون إما لقوّته أو لضعف الوارد عليه. (الرسالة القشيرية ، ص ٤٤).

٥٥٠

المريدين بمشهد الجود أبدا طائفة ، ووفود همم العارفين بحضرة العزّ أبدا عاكفة (١).

وقال في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) ـ إلى قوله ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(٢) : والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغي أن يكون الصيد منه في الأمان ، لا يتأذّى منه حيوان بحال ؛ لذا قالوا : البرّ من لا يؤذي الذرّ ولا يضمر الشرّ.

ويقال : الإشارة في هذا أنّ من قصدنا فعليه نبذ الأطماع جملة ، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحال من الأحوال. وكما أنّ الصيد على المحرم حرام إلى أن يتحلّل ، فكذلك الطلب والطمع والاختيار على الواجد حرام ما دام محرما بقلبه.

ويقال : العارف صيد الحق ، ولا يكون للصيد صيد.

وإذا قتل المحرم الصيد فعليه الكفّارة ، وإذا لاحظ العارف الأغيار ، أو طمع أو رغب في شيء أو اختار لزمته الكفّارة ، ولكن لا يكتفي منه بجزاء المثل ولا بأضعاف أمثال ما تصرّف فيه أو طمع ، ولكن كفّارته تجرّده على الحقيقة عن كل غير ، قليل أو كثير ، صغير أو كبير.

قوله عزوجل : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ)(٣) قال : حكم البحر خلاف حكم البرّ ، وإذا غرق العبد

__________________

(١) لطائف الإشارات ، ج ١ ، ص ١٣٦.

(٢) المائدة / ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) المائدة / ٩٦.

٥٥١

في بحار الحقائق سقط حكمه ، فصيد البحر مباح له ؛ لأنه إذا غرق صار محوا ، فما إليه ليس به ولا منه إذ هو محو ، والله غالب على أمره (١).

وقد تقدّم تفسيره للبسملة في كل سورة بمعنى يغاير معناها في سورة أخرى ، وهل هذا مستند إلى دليل ، أو مجرد ذوق عرفاني لا أساس له؟!

٤ ـ كشف الأسرار وعدّة الأبرار (تفسير الميبدي)

المعروف بتفسير الخواجا عبد الله الأنصاري

أصل هذا التفسير للخواجه عبد الله الأنصاري ، ثم بسطه ووضّح مبانيه المولى أبو الفضل رشيد الدين الميبدي ، كما يقول في المقدمة :

«أما بعد فإني طالعت كتاب شيخ الإسلام ، فريد عصره ووحيد دهره ، أبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري ـ قدّس الله روحه ـ في تفسير القرآن ، وكشف معانيه ، ورأيته قد بلغ به حدّ الإعجاز لفظا ومعنى وتحقيقا وترصيعا ، غير أنه أوجز غاية الإيجاز ، وسلك فيه سبيل الاختصار ، فلا يكاد يحصّل غرض المتعلّم المسترشد ، أو يشفي غليل صدر المتأمّل المستبصر ، فأردت أن أنشر فيه جناح الكلام ، وأرسل في بسطه عنان اللّسان ، جمعا بين حقائق التفسير ولطائف التذكير ، وتسهيلا للأمر على من اشتغل بهذا الفنّ ، فصمّمت العزم على تحقيق ما نويت ، وشرعت بعون الله في تحرير ما هممت ، في أوائل سنة عشرين وخمسمائة ، وترجمت الكتاب بكشف الأسرار وعدّة الأبرار» (٢).

__________________

(١) لطائف الإشارات ، ج ٢ ، ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٢) كشف الأسرار وعدّة الأبرار ، ج ١ ، ص ١.

٥٥٢

أما الخواجا ، فهو الإمام القدوة الحافظ الكبير ، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي بن محمد الأنصاري الهرويّ ، من ذريّة صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي أيّوب الأنصاري. مولده بهرات سنة (٣٩٦ ه‍) وتوفّي بها سنة (٤٨١ ه‍) وقبره مزار مشهود هناك. كان على حظّ وافر من العربية والفقه والحديث والتواريخ والأنساب ، إماما كاملا في التفسير ، حسن السيرة في التصوّف ، غير مشتغل بكسب ، مكتفيا بما يباسط به المريدين والأتباع من أهل مجلسه في العام مرّة أو مرّتين على رأس الملأ ، فيحصل على ألوف من الدنانير وأعداد من الثياب والحليّ ، فيأخذها ويفرّقها على اللّحّام والخبّاز ، وينفق منها ، ولا يأخذ من السلطان ولا من أركان الدولة شيئا. وقلّ ما يراعيهم ، ولا يدخل عليهم ، ولا يبالي بهم ، فبقي عزيزا مقبولا قبولا أتمّ من الملك ، مطاع الأمر نحوا من ستين سنة ، من غير مزاحمة. وقد كان سيفا مسلولا على المتكلّمين ، له صولة وهيبة واستيلاء على النفوس ببلده ، يعظّمونه ويتغالون فيه ، ويبذلون أرواحهم فيما يأمر به. كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير ، وكان طورا راسيا في السّنّة لا يتزلزل ولا يلين. وقد امتحن عدّة مرات وأوذي في الله. وله مقامات وحكايات ذكرها أرباب التراجم (١).

وأما الميبدي فهو الإمام السعيد رشيد الدين أبو الفضل ابن أبي سعيد أحمد بن محمد بن محمود الميبدي (٢) ، وكان أبوه جمال الإسلام أبو سعيد قد توفّي قبل الخواجا بسنة ـ سنة ٤٨٠ ه‍ ـ ومن ثم فإن المترجم كان قد أدرك

__________________

(١) راجع : تذكرة الحفاظ للذهبي ، ج ٣ ، ص ١١٨٣ ، رقم ١٠٢٨. وسير أعلام النبلاء ، ج ١٨ ، ص ٥٠٣ ، رقم ٢٦٠.

(٢) راجع : مقدمة التفسير بقلم الدكتور على أصغر حكمت.

٥٥٣

الخواجا ، ومن ثم وصفه أصحاب التراجم بالتلمذة لديه (١). قد تصدّى تحرير تفسير شيخه عام (٥٢٠ ه‍) أي بعد وفاة شيخه بأربعين سنة. وميبد بلدة من ضواحى يزد ـ إيران.

ويظهر من تأليفه هذا الفخيم أنه كان على مستوى رفيع من الفضيلة والأدب السامي ، ولا سيّما في الأدب الفارسي البديع ؛ حيث تستجيعه المتين وترصيفه الرصين ، في جزالة وسلاسة وسهولة في التعبير ، ولا سيّما في النوبة الثالثة ؛ حيث ظرافة الذوق العرفاني العميق والأدب الرفيع ، تجدهما قد امتزجا في كلامه ، فجاء شيئا طريفا يستدعي التحسين والإعجاب.

أما التفسير ذاته فيعدّ من أكبر وأضخم تفسير كتب على الطريقة العرفانية الصوفية ، في عشر مجلدات ضخام ، وضع على أحسن سبك وأجمل عبارات أدبيّة رصينة ، فهو من التفاسير الأدبية الممتازة باللغة الفارسية ، وقد كثر تداوله بين الأدباء وأفاضل العرفاء.

وكان منهجه السير في ثلاث نوبات :

النوبة الأولى في التفسير الظاهري على حدّ الترجمة الظاهرية.

والنوبة الثانية في بيان وجوه المعاني والقراءات وأسباب النزول ، وبيان الأحكام وذكر الأخبار ، والآثار الواردة بالمناسبة.

والنوبة الثالثة في بيان الرموز والإشارات العرفانية ، ولطائف الدقائق

__________________

(١) راجع : لغت نامه دهخدا حرف الراء ، نقلا عن تاريخ أدبي إيران لإدوارد براون ذيل صفحه ٣٧٥. وهكذا تاريخ أدبيات إيران للدكتور صفا ، ج ٢ ، صص ٢٥٧ و ٨٨٣ و ٩٣٠ و ٩٣٢.

٥٥٤

والنكات الظريفة المستفادة من سجف العبارات ، وهو بيت القصيد من التفسير.

كل ذلك بعبارات رائعة ذات تسجيع وترصيف لطيف ، كما هو دأب أكثر أصحاب التفسير العرفاني.

ومما حظي به هذا السفر الجليل ، كثرة استشهاده بالوجوه والنظائر من الآيات الكريمة ، يوردها تباعا في كل مناسبة ، مما يدل على إحاطة المؤلّف بمعاني القرآن ، ومختلف أنواع آية الكريمة. هذا عند كل مناسبة ، نذكر منها ما يلي : مثلا عند قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)(١) يقول : ونظير ذلك في القرآن كثير ، ويذكر الآيات التالية ، ويترجم كل آية ترجمة رائعة ، نذكرها مع الترجمة :

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (٢) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(٣).

(بنده من درى برگشاى تا درى برگشايم). (عبدي ، افتح بابا حتى أفتح بابا).

(.. وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى)(٤).

(در انابت برگشاى تا در بشارت برگشايم). (افتح باب الإنابة حتى أفتح باب البشارة).

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)(٥).

(در انفاق برگشاى تا در خلف برگشايم). (افتح باب الإنفاق حتى أفتح باب

__________________

(١) البقرة / ٤٠.

(٢) غافر / ٦٠.

(٣) البقرة / ١٥٢.

(٤) الزمر / ١٧.

(٥) سبأ / ٣٩.

٥٥٥

العوض).

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١).

(در مجاهدت برگشاى تا در هدايت برگشايم). (افتح باب المجاهدة حتى أفتح باب الهداية).

(ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢).

(در استغفار برگشاى تا در مغفرت برگشايم). (افتح باب الاستغفار حتى أفتح باب المغفرة).

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(٣).

(در شكر برگشاى تا در زيادت نعمت برگشايم). (افتح باب الشكر حتى أفتح باب الزيادة في النعمة).

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)(٤).

(بنده من به عهد من وازآى تا به عهد تو وازآيم) (٥). (عبدي أوف بعهدي حتى أوفي بعهدك).

هكذا يحظى هذا السفر الجليل بجودة سبكه وجمال أسلوبه الأدبي ، الذي دأب المؤلّف عليه في عامّة تعابيره في التفسير ، ولا سيّما في النوبة الثالثة ؛ حيث ظرافة الذوق العرفاني اللطيف ، وطراوة الأدب الفارسي الرفيع ، تجدهما قد

__________________

(١) العنكبوت / ٦٩.

(٢) النساء / ١١٠.

(٣) إبراهيم / ٧.

(٤) البقرة / ٤٠.

(٥) كشف الأسرار ، ج ١ ، ص ١٧٦.

٥٥٦

امتزجا معا ، فأصبح آية في الجمال والبهاء. ويبدو براعة المؤلف وسعة تضلّعه الأدبي الفائق ، إذا ما وجدنا تلك الطلاوة الرائعة قد أفرغت في قالب الأدب الفارسي الجزل السلس السهل التعبير.

وإليك نموذجا من النوبة الثالثة العرفانية :

هو عند تفسير قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(١) يقول :

«پير طريقت گفت : الهى! كار آن دارد كه با تو كارى دارد ، يار آن دارد كه چون تو يارى دارد ، او كه در دو جهان تو را دارد هرگز كى تو را بگذارد! عجب آن است كه او كه تو را دارد از همه زارتر مى گدازد. او كه نيافت به سبب نايافت مى زارد ، او كه يافت بارى چرا مى گدازد.

در بر آن را كه چون تو يارى باشد

گر ناله كند سياه كارى باشد» (٢)

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) همان است كه گفت : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ).

رهبت وتقوى ، دو مقام است از مقامات ترسندگان ، ودر جمله ترسندگان راه دين بر شش قسم اند :

تايبانند وعابدان وزاهدان وعالمان وعارفان وصدّيقان.

تايبان را خوف است ، چنان كه گفت : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ

__________________

(١) البقرة / ٤٠.

(٢) قال شيخ الطريقة : إلهي ، لا شغل إلا لمن كان شغله معك. ولا ناصر إلا من كان ناصره مثلك.

ومن كان له مثلك في الدارين فلن يدعك. والعجب أن من كان له مثلك كان أكثرهم أنينا وو يئن من لم يجدك بسبب عدم الكشف ، أما الذي وجدك فلم يئن ويندب؟!

من كان معينه مثلك

وشكا فقد ظلم وجفا

(كشف الأسرار ، ج ١ ، ص ١٧٥)

٥٥٧

وَالْأَبْصارُ).

وعابدان را وَجُل : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).

وزاهدان را رهبت : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً).

وعالمان را خشيت : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

وعارفان را اشفاق : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).

وصدّيقان را هيبت : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)(١).

أمّا خوف ، ترس تائبان ومبتديان است ، حصار ايمان وترياق وسلاح مؤمن ، هركه را اين ترس نيست او را ايمان نيست ، كه ايمنى را روى نيست ، وهركه را هست به قدر آن ترس ايمان است.

ووجل ، ترس زنده دلان است كه ايشان را از غفلت رهايى دهد ، وراه اخلاص بر ايشان گشاده گرداند ، وأمل كوتاه كند ، وچنانك وجل از خوف مه

__________________

(١) الّذي قال : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة / ٤٠) هو الذي قال (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة / ٤١).

الرهبة والتقوى ، منزلتان من منازل الخائفين. والخائفون في طريق الدّين على ستّ طوائف :

التائبون. العابدون. الزاهدون. العالمون. العارفون. الصّدّيقون.

أمّا التائبون فعلى خوف ، كما قال تعالى : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (النور / ٣٧).

والعابدون على وجل : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحجّ / ٣٥).

والزاهدون على رهبة : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) (الأنبياء / ٩٠).

والعالمون على خشية : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (فاطر / ٢٨).

والعارفون على اشفاق : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (المؤمنون / ٥٧).

والصّدّيقون على حذر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (آل عمران / ٢٨).

٥٥٨

است ، رهبت از وجل مه (١) ، اين رهبت عيش مرد ببرد ، واو را از خلق ببرد ، ودر جهان از جهان جدا كند. اين چنين ترسنده همه نفس خود غرامت بيند ، همه سخن خود شكايت بيند ، همه كرد خود جنايت بيند. گهى چون غرق شدگان فرياد خواهد ، گهى چون نوحه گران دست بر سر زند ، گهى چون بيماران آه كند. واز اين رهبت اشفاق پديد آيد كه ترس عارفان است ، ترسى كه نه پيش دعا حجاب گذارد ، نه پيش فراست بند ، نه پيش اميد ديوار. ترسى گدازنده كشنده ، كه تا نداى (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا)(٢) نشنود نيارامد. اين ترسنده را گهى سوزند وگاه نوازند ، گهى خوانند وگاه كشند ، نه از سوختن آه كند ونه از كشتن بنالد.

كم تقتلونا وكم نحبّكم

يا عجبا كم نحبّ من قتلا (٣)

__________________

(١) «مه» ـ بكسر الميم ـ بمعنى الكبير ويقابله «كه» بمعنى الصغير.

(٢) فصلت / ٣٠.

(٣) أمّا الخوف الّذى يمثّل خوف التائبين والمبتدئين ، فهو طوق الإيمان ، وبلم المؤمن وسلاحه. ومن لا خوف له لا إيمان له ؛ إذ لا مأمن هناك. ومن كان له خوف فإيمانه بمقدار خوفه. وأمّا الوجل ، فهو خوف أولى البصائر ، ينقذهم من الغفلة ، ويفتح لهم باب الإخلاص ، ويقصر الأمل ؛ والرهبة أكبر من الوجل كما أنّ الوجل أكبر من الخوف. إنّ الرهبة تذهب بعيش المرء وتجعله وحيدا ، تفصله عن الدنيا وهو في الدنيا. هذا الخائف يجد نفسه كلها غرما ، وكلامه برمّته شكوى ، وعمله جميعه جرما. فهو تارة كالغريق يستصرخ ، وأخرى كالنادب يضرب على رأسه. وثالثة كالعليل يتأوّه.

والإشفاق وليد هذه الرهبة ، التي هي خوف العارفين ، ذلك الخوف لا يضع حجابا يحول دون الدعاء ، ولا قيدا يحول دون فراسة النفس ، ولا حاجزا يحول دون الرجاء. إنّه خوف ممضّ قاتل ، ولو لا قوله تعالى : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا) لمّا قرّ له قرار.

٥٥٩

از پس اشفاق هيبت است ـ بيم صدّيقان ـ بيمى كه از عيان خيزد ، وديگر بيمها از خبر چيزى در دل تابد چون برق ، نه كالبد آن را تابد ، نه جان طاقت آن دارد كه با وى بماند ، وبيشتر اين در وقت وجد وسماع افتد ، چنانك (كليم) را افتاد به (طور) (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)(١) وتا نگويى كه اين هيبت از تهديد افتد كه اين از اطلاع جبّار افتد.

يك ذرّه اگر كشف شود عين عيان

نه دل برهد نه جان نه كفر وايمان (٢)

هذا هو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» (٣).

ونموذج آخر أروع ، عند قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)(٤) يقول :

__________________

وقد يحرق هذا الخائف حينا ، وقد يشفق عليه حينا آخر وقد يقتل وقد يدعى فلا من الحرق يتأوّه ولا من القتل يتوجّع :

كم تقتلوننا وكم نحبّكم

يا عجبا كم نحبّ من قتلا

(١) الأعراف / ١٤٣.

(٢) تأتي الهيبة بعد الإشفاق ـ وهي خوف الصّدّيقين ـ ذلك الخوف المنبعث عن معانية ، وغيره منبعث عن خبر يتألّق في القلب ، لا الجسم يتحمل ذلك الخوف ولا الروح تطيقه كي تبقى معه. والأكثر أنّه يتّفق حين الوجد والسماع ، كما اتفق للكليم عليه‌السلام في جبل طور وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً. فلا تقل : إنّها هيبة عن تهديد ، وإنّما هي عن معرفة الجبار جلّ عزّه.

لو كشفت ذرّة عن عين عيان

لا القلب ينجو ، لا الروح ، لا الكفر ولا الإيمان

(٣) كشف الأسرار ، ج ١ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٤) البقرة / ١١٢.

٥٦٠