التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

تتضمن أربعة فوائد : ١ ـ جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم. ٢ ـ ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة. ٣ ـ إيضاح المشكلات ، وبيان المجملات. ٤ ـ تحقيق أقوال المفسّرين ، وتمييز الراجح من المرجوح» (١).

وجعل المؤلف لتفسيره مقدمة وجيزة ذكر فيها ما يتعلق بشئون القرآن وعلومه الشيء الوفير ، وحقّق فيها مسائل كثيرة نافعة ، جعلها في اثني عشر بابا ، وهي أشبه بمقدمة «المحرّر الوجيز» لابن عطية ، ولعلّها مأخوذة منها. فإنّ المؤلف اعتمد في تفسيره هذا الوجيز على تفسير ابن عطية ، والكشّاف للزّمخشري ، وغيرهما من تفاسير أدبية ولغوية كانت معروفة آنذاك ، وعلى أيّ تقدير فهو تفسير لطيف وجامع كامل في بابه. وقد طبع عدة طبعات.

٥ ـ تفسير الجلالين ، اشترك في تأليف هذا التفسير ، جلال الدين المحلّي ، وجلال الدين السيوطي. فقد ابتدأ جلال الدين محمد بن أحمد المحلّي الشافعي ـ المتوفّى سنة (٨٦٤ ه‍) وكان علّامة عصره ـ في تفسير القرآن من أول سورة الكهف إلى آخر القرآن ، ثم شرع في تفسير الفاتحة ، وبعد أن أتمها اخترمته المنية فلم يفسّر ما بعدها. فجاء جلال الدين السيوطي المتوفّى (٩١١ ه‍) فأكمل التفسير ، فابتدأ بتفسير البقرة وانتهى عند آخر سورة الإسراء ، ووضع تفسير الفاتحة في آخر تفسير الجلال المحلّي لتكون ملحقة به. وقد نهج السيوطي في التفسير منهج المحلّي ، من إيجاز المطالب ، وذكر ما يفهم من كلام الله تعالى ، والاعتماد على أرجح الأقوال ، وإعراب ما يحتاج إليه ، والتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة ، على وجه لطيف ، وتعبير وجيز ، بحيث لا يكاد قارئ تفسير الجلالين

__________________

(١) مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل ، ج ١ ، ص ٣.

٥٢١

يلمس فرقا بيّنا بين طريقة الشيخين فيما فسّراه ، اللهم في مواضع قليلة لا تبلغ العشرة.

والتفسير قيّم في بابه ، وحظى بكثرة الانتشار ورواجه بين روّاد العلم ، وقد طبع مرارا وطار صيته.

٦ ـ التفسير المقارن ، وهو خلاصة التفاسير الإسلامية المشهورة. قام بتأليفه العلامة المعاصر الشيخ محمد باقر الناصري ـ من أهل الناصرية بالعراق ـ اعتمد ما يقرب من ثلاثين تفسيرا فلخّصها وجمع لبابها وحوى على عبابها ، في تفسير مختصر وجيز ، حسن الأسلوب ، جيّد العبارة ، سهل التناول ، مما يطلعك على قدرة المؤلّف العلمية والأدبية. وكان منهجه : أن يذكر المعاني اللغوية النادرة أوّلا ، ثم ينتقي أوضح النصوص وأجمعها لما حوت الآية من دلالة ، مع إدخال بعض التعديلات في عبارات السلف ، لتتناسب مع لغة العصر ، ويعتمد أهم كتب التفسير عند الشيعة الإمامية ، وخيرة تفاسير أهل السنة والجماعة. وقدّم مباحث تمهيدية قبل الورود في التفسير ، مما يهمّ للمفسر رعايتها لدى تفسير الآيات.

وقد قام بطبعه ونشره مركز البحوث والدراسات العلمية ، التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ـ في قم المقدسة ـ في شهر رجب المرجب سنة (١٤١٦ ه‍) وكان تاريخ التأليف (١٤١٥ ه‍).

٧ ـ صفوة التفاسير تأليف الأستاذ محمد علي الصابوني ، من أساتذة كلية الشريعة بمكة المكرمة. كان له نشاط في علوم القرآن والتفسير ، ومن ثم قام بتأليف عدة كتب في التفسير وعلوم القرآن ، أكثرها مختصرات ، كمختصر تفسير ابن كثير ، ومختصر تفسير الطبري ، والتبيان في علوم القرآن ، وروائع البيان في

٥٢٢

تفسير آيات الأحكام ، وقبس من نور القرآن ، وصفوة التفاسير ؛ وهو الكتاب الذي نحن بصدده.

وهو تفسير موجز ، شامل جامع بين المأثور والمعقول ، مستمد من أوثق التفاسير المعروفة كالطبري والكشاف وابن كثير والبحر المحيط وروح المعاني ، في أسلوب ميسّر سهل التناول ، مع العناية بالوجوه البيانية واللغويّة. قال في المقدّمة : وقد أسميت كتابي «صفوة التفاسير» ؛ وذلك لأنه جامع لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصّلة ، مع الاختصار والترتيب ، والوضوح والبيان. فهو تفسير توسّط فيه المؤلف في مسلكه العلمي ، ليسهل فهمه على طلبة العلم بأسلوب سهل وعبارات ميسّرة ، وإيضاحات جيدة في بيان تحليلي تربوي قريب التناول. طبع الكتاب في ثلاث مجلدات ، وكان تاريخ التأليف سنة (١٤٠٠ ه‍).

٨ ـ الوجيز في تفسير القرآن العزيز تأليف الأستاذ محمد علي دخيل ، من ذوي النشاطات الدينية الحريصة على الإسلام والدفاع عنه ، إلى جنب تربية النشء الجديد تربية إسلامية عريقة ، ومن ثم كانت تآليفه تدور حول هذا المحور ، مثل : ثواب الأعمال وعقابها ، علي في القرآن ، دراسات في القرآن الكريم ، قصص القرآن الكريم ، المصحف المفسر ، الوجيز ـ الذي هو مورد دراستنا ـ. فقد تم تأليفه سنة (١٤٠٥ ه‍) ، وطبع سنة (١٤٠٦ ه‍) ، في مجلد واحد كبير ، في (٨٢٩) صفحة.

وهو تفسير موجز شامل ، يغلب عليه اللون التربوي التحليلي ، متناسبا مع مستوى الجيل الحاضر. التزم فيه بنص الطبرسي في مجمع البيان مع مراعاة الاختصار. يبيّن فيه مجمل المعنى من دون أن يتوسّع فيه أو يتعرّض للأدب والبلاغة ، وإنما يذكر اللغة والتفسير الموجز ، مع ذكر الأحاديث الواردة ، عن النبي أو أحد الأئمة عليهم‌السلام بحذف الأسناد ، أحيانا ، كما يتعرّض لمواضع الاستدلال

٥٢٣

في المذهب الإمامي في ظرافة وإيفاء. وقد ألحق بآخره بحثا حول العقائد والأخلاق والقصص ، كدراسات موضوعية في التفسير ، كما تعرّض في الختام لجانب من التفسير العلمي لآيات متناسبة في ذلك. ومن ثمّ فهو تفسير جامع في وضعه ، وشاف كاف لأبناء الجيل الحاضر ، لمن أراد الإيجاز والاختصار.

٩ ـ تقريب القرآن إلى الأذهان تفسير مزجي لطيف ، شرح معاني الآيات على طريقة المزج بين الأصل والشرح ، مع بيان اللغة وأسباب النزول لدى الحاجة ، وتعرّض لمسائل الفقه والكلام عند المناسبة بصورة موجزة. يقع في ثلاثين جزء حسب تجزئة القرآن ، وكان تأليفه سنة (١٣٨٣ ه‍) وتم طبعه سنة (١٤٠٠ ه‍).

تأليف الفقيه العلّامة السيد محمد الشيرازي ، من أعلام النهضة الإسلامية المعاصرة ، صاحب بحوث ودراسات إسلامية موسّعة ، وفي متنوّع جوانبها. وله حول القرآن كتابات غير هذا ، منها : «تسهيل القرآن» في عشرة أجزاء ، و «توضيح القرآن» في ثلاثة أجزاء ، و «تبيين القرآن» ، و «الجنة والنار في القرآن» ، لم تخرج إلى عالم الطباعة.

١٠ ـ النهر المادّ من البحر المحيط تفسير أدبي ، ونحوي لغوي ، تأليف أبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي ، المتوفّى سنة (٧٤٥ ه‍). اختصره من تفسيره الكبير «البحر المحيط» وطبع على هامشه ، وهو تفسير لطيف حوى النكات الأدبية الرائعة التي كان أودعها في تفسيره الكبير ، وحذف منه الأبحاث الجدلية المسهبة ، ولخّصها في هذا التفسير. قال في المقدمة : لما صنّفت كتابي الكبير المسمّى ب «البحر المحيط» ، عجز عن قطعه لطوله السابح. فأجريت منه نهرا تجري عيونه ، وتلتقي بأبكاره فيه عيونه ، لينشط الكسلان في اجتلاء جماله ،

٥٢٤

ويرتوي الظمآن بارتشاف زلاله. وربما نشأ في هذا النهر مما لم يكن في البحر ، وذلك لتجدّد نظر المستخرج للآلية ، المبتهج بالفكرة في معانيه ومعاليه. وما أخليته من أكثر ما تضمنه البحر من نقوده ، بل اقتصرت على يواقيت عقوده ، ونكبت فيه عن ذكر ما في البحر من أقوال اضطربت بها لججه ، وإعراب متكلّف تقاصرت عنه حججه (١).

وهناك مختصر آخر للبحر المحيط لتاج الدين الحنفي النحوي تلميذ أبي حيان ، سماه «الدرّ اللقيط من البحر المحيط» مطبوع بالهامش أيضا.

__________________

(١) مقدمة النهر الماد ، بهامش البحر المحيط ، ج ١ ، ص ٤ ـ ١٠.

٥٢٥

تفاسير عرفانيّة

(التفسير الرمزي والإشاري)

هناك لأهل العرفان الباطني تفاسير وضعت على أساس تأويل الظواهر ، والأخذ ببواطن التعابير دون دلالاتها الظاهرة ، اعتمادا على دلالة الرمز والإشارة فيما اصطلحوا عليه ، مستفادة من عرض الكلام وجانبه ، وليس من صريح اللفظ وصميم صلبه. فقد فرضوا لظواهر التعبير بواطن حملوها حملا على القرآن الكريم ، استنادا إلى مجرّد الذوق العرفاني الخاص ، وراء الفهم المتعارف العام.

وهي نزعة صوفية (١) قديمة ، دخيلة على الإسلام ، بعد أن ترجمت الفلسفة

__________________

(١) الصوفية ، نسبة إلى الصوف : اسم رمزي لفئات جعلت شعارها التقشّف في الحياة والتزهّد عن مباهجها ، ومنه الاجتزاء بلبس الصوف بدلا من فاخر الثياب ، كناية عن الإعراض عن مطلق الترفّه في الحياة. وكان من مبتدعاتهم أن جعلوا «الطريقة» في مقابلة «الشريعة» ، فزعموا : من أهل الشريعة هم أهل الظواهر ، وأهل الطريقة هم أهل البواطن ، وحسبوا من أنفسهم الجمع بين الطريقة والشريعة ، ولكن مفضّلين الطريقة على الشريعة ، زعما بأنّ الأصل هو الباطن ، وأنّ الظاهر عنوان الباطن.

وقد تسرّبت النزعة الصوفية إلى بعض أوساط الخواصّ ، حاملة اسم «العرفان» كانت طريقتهم في السلوك والعرفان أمتن وأدقّ ظرافة من طرائق العامّة ، وكانت تأويلاتهم لظواهر الكتاب والسنّة أقرب وأضبط.

ولكلا الطائفتين تفاسير مبتنية على أساس التأويل ، كل على شاكلته ، سوف نتعرّض إلى أمثلتها إن شاء الله.

٥٢٦

اليونانية ، في القرنين الثاني والثالث ، وتفشّت في أوساط عامّيّة كانت بعيدة عن تعاليم أهل البيت عليهم‌السلام.

ونحن إذ نستنكر على هؤلاء تأويلاتهم غير المستندة ، نرى أن للقرآن ظهرا وبطنا ، كما جاء في حديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسبقنا الكلام عنه ، وكان «الظهر» عبارة عن المعنى المستفاد من تنزيل الآية ، ومن ظاهر التعبير حسب الأصول المقررة في باب التفهيم والتفهّم. وأما «البطن» فهو عبارة عن المفهوم العام الشامل ، المستنبط من فحوى الآية وتأويلها إلى حيث تنطبق عليه من موارد مشابهة ، حسب مرّ الدهور. وكان للتأويل ضوابط ذكرنا حدودها وشرائطها ، وليس حسب الذوق المختلف حسب تنوّع السلائق ، كما ارتكبه القوم مع الأسف.

كان الصوفي إنما ينظر إلى القرآن نظرة تتمشّى مع أهدافه وتتّفق مع تعاليمه ، حسب النزعة الصوفيّة الباطنيّة ، ولم يكن من السهل أن يجد في القرآن صراحة تتّفق مع نظرته ، أو يتمشّى بوضوح مع نزعته ؛ حيث القرآن جاء لهداية الناس إلى معالم الحياة الكريمة ، وجاء بتعاليم تتّفق مع واقعيّات الحياة. ولم يأت لإثبات أو دعم نظريّات وتعاليم جاءت غير مألوفة ، ولا هي ماسّة بواقع الإنسان في هذه الحياة ، وإنما هي أشياء فرضوها فرضا واحتملوها احتمالا مجردا عن الواقعيّات ، وربما كانت متنافرة مع الفطرة والعقل السليم.

غير أنّ الصوفي ، زعما منه في إمكان الجمع بين الشريعة والطريقة ، يحاول أن يعثر على مقصوده حيثما وجد إلى ذلك سبيلا ولو بالفرض والاحتمال ، ومن ثمّ تراه يتعسّف في تأويل ظواهر الكتاب والسنة من غير هوادة ، ويتكلّف في حمل الآيات القرآنية على معاني غريبة عن روح الشريعة ، ويتخبّط خبط عشواء بلا تورّع. وكان ذلك مصداقا لامعا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فسّر القرآن برأيه فإن

٥٢٧

أصاب فقد أخطأ» حيث أخطأ الطريق لا محالة.

وأولى سمات التفسير الصوفي البارزة ، هو التكلم بلا هوادة ، والأخذ في التأويل من غير ضابطة ، والاعتماد على سجع الكلام في تكلّف ظاهر.

إن التفسير الصوفي لا يعتمد على مقدّمات علمية ولا براهين منطقية ، ولا يعلّله سبب معقول ، وإنما هو شيء حسبه قد أفيض عليه بسبب إشراقات نوريّة ، جاءته من محلّ أرفع. أنه يرى من مقامه الصوفي العرفاني وصلا إلى درجة الكشف والشهود ، لتنكشف له المعاني من سجف العبارات ، وتظهر له الإشارات القدسيّة ، وتنهلّ على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات القرآنية والسنّة النبويّة ، من معارف سبحانية متعالية عن أفهام العامّة ، هكذا يزعم الصوفي في هواجس خياله.

وبذلك افترقت طرائق الصوفية عن مذاهب العلماء والفقهاء ، وطريقتهم القويمة في فهم الكتاب والسنة الشريفة ، ومن ثمّ لم يعتبر العلماء شيئا من تأويلات الصوفيّة ومن مشى على طريقتهم من أهل العرفان الباطني المجرّد. وسيتّضح هذا الجانب عند التعرّض لتفاسيرهم.

هذا القشيري ـ في تفسيره «لطائف الإشارات» ـ يفسّر كل بسملة من كل سورة حسبما يحلو له من مقال أو يتوح له من خيال ، من غير ضابطة يعتمد عليها أو حجة مقبولة.

هو عند تفسير البسملة من سورة الحمد يقول :

الباء في «بسم الله» حرف التضمين ، أي بالله ظهرت الحادثات ، وبه وجدت المخلوقات ، فما من حادث مخلوق ، وحاصل منسوق ، من عين وأثر وغبر ، وغير من حجر ومدر ، ونجم وشجر ، ورسم وطلل ، وحكم وعلل ، إلّا بالحق

٥٢٨

وجوده ، والحق ملكه ومن الحق بدؤه ، وإلى الحق عوده ، فبه وحد من وحّد ، وبه جحد من ألحد ، وبه عرف من اعترف ، وبه تخلّف من اقترف (١).

لم نعرف حرف التضمين ، ولم نعرف كيف فسّر البسملة من هذه السورة بهذه المعاني ، ولكنه في سائر السور يفسّرها بمعان أخر ، ولعله يدّعي أنّ هكذا ألهم وأشرق عليه ، انظر إلى تفسيره لبسملة سورة البقرة :

الاسم مشتق من السموّ والسمة ، فسبيل من يذكر هذا الاسم أن يتّسم بظاهره بأنواع المجاهدات ، ويسمو بهمّته إلى محالّ المشاهدات ، فمن عدم سمة المعاملات على ظاهره ، وفقد سموّ الهمّة للمواصلات بسرائره ، لم يجد لطائف الذكر عند قالته ، ولا كرائم القرب في صفاء حالته (٢).

وفي بسملة سورة آل عمران :

اختلف أهل التحقيق ـ يعني بهم الصوفية وأهل التأويل ـ في اسم «الله» هل هو مشتق من معنى أم لا؟ فكثير منهم قالوا : إنه ليس بمشتق من معنى ، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص ، يجري في وضعه مجرى أسماء الأعلام في صفة غيره ، فإذا قرع بهذا اللفظ أسماع أهل المعرفة لم تذهب فهو مهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وحقه. وحق هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب ، فإذا قال بلسانه : «الله» أو سمع بآذانه شهد بقلبه «الله».

وكما لا تدلّ هذه الكلمة على معنى سوى «الله» لا يكون مشهود قائلها إلّا «الله» ، فيقول بلسانه «الله» ، ويعلم بفؤاده «الله» ، ويعرف بقلبه «الله» ، ويحبّ بروحه «الله» ، ويشهد بسره «الله» ، ويتملّق بظاهره بين يدي «الله» ، ويتحقق بسرّه

__________________

(١) لطائف الإشارات ، ج ١ ، ص ٥٦.

(٢) المصدر ، ص ٦٤ ـ ٦٥.

٥٢٩

«الله» ، ويخلو بأحواله «لله» و «في الله» ، فلا يكون فيه نصيب لغير «الله» ، وإذا أشرف على أن يصير محوا في الله ، لله ، بالله ، تداركه الحق سبحانه برحمته ، فيكاشفه بقوله : «الرحمن الرحيم» استبقاء لمهجتهم أن تتلف ، وإرادة في قلوبهم أن تنقى ، فالتلطّف سنّة منه سبحانه ؛ لئلا يفنى أولياؤه بالكلية (١).

وفي بسملة النساء :

اختلفوا في «الاسم» عمّا ذا اشتقّ ، فمنهم من قال : إنه مشتق من السموّ ، وهو العلوّ ، ومنهم من قال : إنه مشتق من السمة ، وهي الكيّة. وكلاهما في الإشارة ؛ فمن قال : إنه مشتق من «السموّ» فهو اسم من ذكره سمت رتبته ، ومن عرفه سمت حالته ، ومن صحبه سمت همّته ، فسمو الرتبة يوجب وفور المثوبات والمبارّ ، وسموّ الحالة يوجب ظهور الأنوار في الأسرار ، وسموّ الهمّة يوجب التحرّز عن رقّ الأغيار.

ومن قال : أصله من «السمة» ، فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة ، ومن صحبه وسم بسمة الإرادة ، ومن أحبّه وسم بسمة الخواصّ ، ومن عرفه وسم بسمة الاختصاص. فسمة العبادة توجب هيبة النار أن ترمى صاحبها بشررها ، وسمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع في استرقاق صاحبها ، مع شرف خطرها ، وسمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة ، وسمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة.

ويقال : اسم من واصله سما عنده عن الأوهام قدره سبحانه. ومن فاصله

__________________

(١) لطائف الإشارات ، ج ١ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٥٣٠

وسم بكيّ الفرقة قلبه ، وعلى هذه الجملة يدلّ اسمه (١).

وفي بسملة المائدة :

سماع اسم «الله» يوجب الهيبة ، والهيبة تتضمّن الفناء والغيبة ، وسماع «الرحمن الرحيم» يوجب الحضور والأوبة ، والحضور يتضمن البقاء والقربة.

فمن أسمعه «بسم الله» أدهشه في كشف جلاله ، ومن أسمعه «الرحمن الرحيم» عيّشه بلطف إفضاله (٢).

وهكذا عند كل بسملة يأتي بجمل وعبارات ذات تسجيع متكلّف فيه إلى تمام السور ، لكنه عند سورة قريش ، يغيّر الاتّجاه ، وينسى منهجه الدائر ، ويقول :

«بسم» ، الباء في «بسم» تشير إلى براءة سرّ الموحّدين عن حسبان الحدثان ، وعن كل شيء مما لم يكن فكان ، وتشير إلى الانقطاع إلى الله في السرّاء والضرّاء والشدّة والرّخاء. والسين تشير إلى سكونهم في جميع أحوالهم تحت جريان ما يبدو من الغيب ، بشرط مراعاة الأدب. والميم تشير إلى منّة الله عليهم بالتوفيق ، لما تحققوا به من معرفته ، وتخلّقوا من طاعته (٣).

ولم هذا التغيير في الاتجاه؟ ولعله ألهم إليه إلهاما!

نعم هناك ما يبرّر موقف الصوفية من هذه التأويلات ، بأنها من تفسير الباطن للقرآن وراء تفسيره الظاهري ، مع العلم أن للقرآن ظهرا وبطنا ، ولا يعني التفسير الباطني نفي التفسير الظاهري ، بل هما معا ثابتان جميعا ، ومعه لا موضع للإنكار

__________________

(١) لطائف الإشارات ، ج ٢ ، ص ٥ ـ ٦.

(٢) المصدر ، ج ٢ ، ص ٩١.

(٣) المصدر ، ج ٤ ، ص ٣٣٩.

٥٣١

عليهم.

قال الأستاذ حسن عباس زكي (١) بصدد الدفاع عن مواضع الصوفية في تأويل القرآن :

فالمفسرون من علماء الشريعة يقفون عند ظاهر اللفظ وما دلّ عليه الكلام من الأمر والنهي والقصص والأخبار والتوحيد ، وغير ذلك ، وأهل التحقيق أو الصوفية يقرّون تفسيرهم هذا ، ويرونه الأصل الذي نزل فيه القرآن. ولكن لهم في كلام الله مع الأخذ بهذا التفسير الظاهري مذاقات لا يمكنهم إغفالها ؛ لأنها بمثابة واردات أو هواتف من الحق لهم. فلا ينبغي أن نقف القرآن على تفسير معيّن على أنه المراد ، فلا نقول كما يقول البعض : إنّ التفسير الظاهري وحده هو المقصود ، كما لا يرى أهل التحقيق أنّ تفسيرهم وحده هو المراد ؛ لأن القول بالتفسير الظاهري وحسب ، تحديد لكلام الله غير المحدود ، وإخضاع القرآن للّغة التي مقياسها العقل المحدود ، والوقوف في تفسير كلام الله عند العقل المحدود ، عقال عن الانطلاق فيما وراء الغيوب ، وإغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها ؛ لأنها لا تخضع لمقاييسه وإنما تخضع لشيء آخر فوقه ، وتدرك بلطيفة أخرى سواه ، إذن فهناك ما فوق العقل إلا وهو القلب ؛ فإن للقلب لغته كما أنّ للعقل لغته. وإذا كانت لغة العقل تدرك بالألفاظ ، ويعبّر عنها بالكلمات ، فلغة القلب تدرك بالذوق ؛ لأنه لا يحيط بالتعبير عنها اللفظ.

ولنقرب إلى الفهم ، فلغة القلب مثل التفّاحة ، فلن يستطيع من أكلها وأحسّ حلاوتها أن يترجم باللفظ أو يعبّر بالوصف ـ لمن لم يأكلها قبل ـ عن طعمها

__________________

(١) وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية بمصر ، له تعريف بتفسير القشيري أثبته في مقدمة الكتاب.

٥٣٢

ومذاقها ، وهكذا لا تدرك لغة القلب بوصف أو بلفظ ، وإنما يدركها ذو قلب متذوّق ؛ ولذلك لا تحيط بالتعبير عن لغة القلب العبارة ، وإنما يعبّر عنها بالإشارة.

فالإشارة ترجمان لما يقع في القلوب من تجلّيات ومشاهدات ، وتلويح لما يفيض به الله على صفوته وأحبابه من أسرار في كلام الله ، وكلام رسوله.

ومن هنا كانت مذاقات الصوفية وأهل التحقيق في القرآن الكريم ، وهم لا يرون أنّ تلك المذاقات وحدها هي المرادة ، وإنما يأخذونها إشارات من الله لهم بعد إقرار ما قاله أهل الظاهر من تفسير ، باعتباره أصل التشريع.

وجليّ بعد ذلك أنه لا مجال لمتعرض ممن ينكر عليهم مذاقاتهم ، ويراها ميلا بكلام الله عن مجراها ، ما داموا لا يأخذون بمذاقاتهم وحدها ، وإنما يأخذون بهما مع إقرارهم لتفسير أهل الشرع. فلا يعنينا من ذي جدل أن يقول عن هذه الإشارات : إنها إحالة لكلام الله وتغيير لسياقه ومجراه ؛ لأنّ ذلك يصدق لو قالوا : إنه لا معنى للآية إلّا هذا ، وهم لا يقولون ذلك ، بل يقرّون الظواهر على ظواهرها ، ويفهمون عن الله ما أفهمهم.

وذلك مصداق الحديث الشريف : «لكل آية ظهر وبطن وحدّ ومطلع» فالباطن لا يعارض الظاهر ، والظاهر لا يعارض الباطن.

وذلك النهج بعيد كل البعد عما نادى به «الباطنيّة» من الأخذ بباطن القرآن لا ظاهره ، وقصرهم معاني القرآن على ما ادعوه من تفسيراتهم دون غيره ؛ لأنّهم بذلك لا يقرّون الشريعة ويبطلون العمل بها ، وهم لا يخضعون دعواهم للنص القرآني ، بل يخضعون النص القرآني لدعواهم.

وهنا يزول ما التبس على البعض من أن مذاقات الصوفية في القرآن الكريم ، نزعة باطنية ، فبينهم وبينها آماد وأبعاد ، بل أنهم لبريئون منها ، ولينكرونها كل الإنكار ، وواضح ذلك من أنهم يأخذون بالباطن بعد الأخذ بالظاهر ، ويقرّون

٥٣٣

الحقيقة بعد الأخذ بالشريعة ، ويرون أن الحقيقة نفسها أساسها الشريعة ، فالفرق ثمة كبير ، والبون شاسع وعظيم.

ولا مجال بعد هذا الإيضاح لإنكار من ينكر على الصوفية مذهبهم في الإشارات وما يختصهم الله به في كلامه وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأسرار والفيوضات.

على أنّ تلك الإشارات أمر مشروع أقرّه الحديث المذكور آنفا «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطلع» فأربابها متّبعون لا مبتدعون ، اختصهم الله بأسراره في آياته ، ليكونوا مصابيح الهدى في غسق الدّجى ، كما أقره عمد الدين وذوو العلم من المؤلّفين :

قال سعد الدين التفتازاني ، في شرح العقائد النسفية : «وأما ما ذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص مصروفة على ظواهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفيّة إلى حقائق تنكشف على أرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان» (١).

وقال الشيخ زروق : «نظر الصوفي أخصّ من نظر المفسّر وصاحب فقه الحديث ؛ لأن كلّا منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلّا ، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه».

فإذا دار المفسر في حدود اللفظ القرآني ، واستنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام ، فلأولي الألباب وذوي البصائر فيه بعد ذلك من الأسرار والحقائق ما لا ينكشف لسواهم ولا يدركه غيرهم ، وذلك لتجدّد واردات الحق عليهم ، ودوام

__________________

(١) شرح العقائد النسفية ، ص ١٢٠ (ط كابل).

٥٣٤

تنزّل الفيوضات على قلوبهم ؛ لأنهم أهله ومحبّوه (١).

ولقد أبدع الأستاذ زكي وأبدى براعته في الدفاع عن حريم الصوفية وتأويلاتهم لنصوص الشريعة ، لكنه تطوّع في الدفاع محاولا التغطية على انحرافات القوم وعدم الإفشاء ، مرورا عليها مرور الكرام ، صونا على عرضهم وعدم هتك نواميسهم. وهل الواقعية تساند هذا الدفاع؟ هذا شيء آخر ، ولعلّ الأمر بخلافه.

إنّ شريعة الله ، ظاهرة وباطنة ، ذات حقيقة واحدة ، وتتجلى خلال أوامره ونواهيه وأحكامه وتكاليفه ، من عبادات وفرائض وأصول معارف وفروع مسائل ، إن قام بها المكلّف عن إيمان وإخلاص ، فقد احتضن الحقيقة وأصابها واستضاء بنورها ، وكانت له فيها السعادة والنجاة في الدّارين ، كما سعد السلف الصالح وبلغوا ساحل النجاة.

أمّا أنّ هناك طريقة وراء الشريعة ، فمن سلك الطريقة بلغ الحقيقة ، ومن اقتصر على الشريعة لم ينل سوى المظاهر دون اللّب والصميم. فهذا أمر غريب ومبتدع ابتدعه أهل التأويل. في عهد متأخر عن دور الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

وما هذه الحقيقة الكامنة وراء الشريعة ، والتي اتّخذها الصوفية طريقة في السلوك وعرفانا إلى الواقع الصميم؟! هل هي تلك الخلسات والجلسات العجيبة ، والأوراد والأذكار المبتدعة في أطوارها وكيفيّاتها ، مما لم يأت الله بها من سلطان ، وإنما هي شيء ابتدعوها ابتداعا لا مستند لها.

__________________

(١) مقدمة تفسير القشيري ، ج ١ ، ص ٤ ـ ٦.

٥٣٥

أما الواردات (إلهامات) التي أشار إليها الأستاذ ، فشيء تدّعيه الصوفية وأرباب السلوك الصوفي المجرّد ، وليست سوى خواطر وأوهام وهواجس وتخيّلات بحتة ، لو لم نقل إنها من همزات الشياطين.

نعم السلوك إلى الله كامن وراء الإخلاص في العمل بتكاليف الشريعة والالتزام بتعاليمه القيمة محضا ، وليس في غير ذلك سوى ابتداع وانحراف عن الحقيقة ، أيّا كان نمطه ولونه ، فربّ عمل كان في أصله مشروعا ، لكنه أصبح بسبب ملابسات وزيادات كمّا أو كيفا ضلالة وبدعة ؛ إذ لم يرد بشأنها نص في الكتاب أو السنة الشريفة.

وبالجملة فإن الأعمال التي يزاولها أهل القشف في السلوك الصوفي ، أعمال غريبة عن روح الإسلام ، ولا ينبغي أن نصفها بصفة الحقيقة الربانية كما يزعمون.

وكلّ يدّعي وصلا بليلى

وليلى لا تقرّ لهم جوابا

هذا مضافا إلى وفرة شطحات هؤلاء ملأت دفاترهم وسجلّاتهم ، لا تدع مجالا لأيّ تبرير لمواضعهم ، حتى ولو كان شكليّا. وسيوافيك نقم العلماء على مواضع الصوفية في تأويلاتهم الباطلة ، عند الكلام عن تفسير السلمي ، شيخ القشيري ومقتداه في التفسير. ونتعرض هناك لتأويلات لا تنسجم مع روح الشريعة ، ولا هي تتوافق مع لفظ القرآن ، لا في ظاهره ولا في باطنه.

والحديث الشريف : «إنّ للقرآن ظهرا وبطنا ...» ، و «أن ظهره تنزيله وبطنه تأويله ...» لا يعني هواجس أهل التصوّف أو تخيّلاتهم المزعومة. وقد أسبقنا أنّ للتأويل (كشف باطن الآية) شروطا كما أنّ للتفسير (فهم ظاهر الآية) أيضا شروطا ، وليس هذا أو ذاك مطلق العنان ، يجري حسبما يشتهيه أهل الأهواء.

وعليك بمراجعة ما يأتي من نماذج من تأويلاتهم التي لا تعدو تخيلات.

٥٣٦

أيها المدّعي سليمى هواها

لست منها ولا قلامة ظفر

إنما أنت في هواها كواو

ألصقت في الهجاء ظلما بعمرو

ويجدر بنا أن ننبّه على أن تفاسير الصوفية ليست على نمط واحد من الاعتبار أو السقوط ، بل بين رفيع ووضيع ، وأسلم تفاسيرهم ، هو تفسير القشيري نسبيّا ؛ حيث خلوّه عن أكثر شطحات الصوفية المعروفة عنهم. وأسلم منه تفسير الميبدي الموسوم ب «كشف الأسرار وعدة الأبرار» على ما سنذكره.

التنويع في التفسير الباطني

قد ينوّع التفسير الصوفي إلى نوعين : نظري وفيضي ، حسب تنويع المتصوّفة إلى تصوّف نظري وعملي ، ليكون التصوّف النظري مبتنيا على البحث والدراسة ، أما التصوّف العملي فهو الذي يقوم على التقشّف والتزهّد والتفاني في العبادة (الأذكار والأوراد).

وعليه فالتفسير الصوفي النظري ، تفسير أولئك المتصوّفة الذين بنوا تصوّفهم على مباحث نظريّة فلسفية ، ورثوها من يونان القديمة ، ومن الصعب جدّا أن يجد هؤلاء في القرآن ما يتّفق وتعاليمهم ، وهي بعيدة عن روح القرآن وتعاليم الإسلام ، اللهم إلّا إذا حملوا نظرياتهم على القرآن وأقحموا عليه إقحاما.

قال الأستاذ الذهبي : ونستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي ، شيخ هذه الطريقة في التفسير ؛ إذ إنّه أظهر من خبّ فيها ووضع ، وأكثر أصحابه معالجة للقرآن على طريقة التصوّف النظري (١).

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٥٣٧

وأما التفسير الفيضي ، فهو تأويل الآيات على خلاف ما يظهر منها ، بمقتضى إشارات رمزيّة ، تظهر لأرباب السلوك والرياضة النفسية ، من غير ما دعم بحجة أو برهان.

قال الذهبي : والفرق بينه وبين التفسير الصوفي النظري من وجهين.

أولا : أنّ النظري ينبني على مقدّمات علمية تنقدح في ذهن الصوفي أوّلا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك. أما التفسير الفيضي الإشاري فيرتكز على رياضة روحيّة يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسيّة ، وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.

ثانيا : أنّ التفسير الصوفي النظري ، يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني ، وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه. أمّا التفسير الفيضي الإشاري فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية ، بل يرى أنّ هناك معنى آخر تحتمله الآية ، ويراد منها أولا وقبل كل شيء ، وذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره (١).

لكنا لا نرى تفاوتا في تفاسير الصوفية ، سوى الشدّة والضعف في تأويلاتهم التي يتكلّفونها حسب أذواقهم وسلائقهم ، بلا استناد ولا أساس ، وكلّها معدود من التفسير بالرأي المقيت.

إذ لم نر من استند منهم على مقدّمة علمية ولا برهان واضح ، سوى سوانح وخواطر عارضة ، يحسبونها إشراقات جاءتهم من مكان عليّ ، وليس سوى

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٥٣٨

ادّعاءات فارغة (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)(١).

نعم هناك منهم من يحاول الجمع بين الظاهر والباطن ، تأليفا بين الشريعة والطريقة ، كالقشيري في تفسيره ، ومنهم من يقتصر على الباطن معرضا عن الظاهر ، إما منكرا له كالباطنية المحضة ، أصحاب الحسن السبّاح ، وهم الملاحدة ، وعلى نظيرهم الخوارج والقرامطة. وكذا بعض تفاسير الصّوفية ممن اقتصروا على محض الباطن ، كمحيي الدين بن عربي في تفسيره الباطني المنسوب إليه. لكنه مع ذلك لم ينكر الظواهر ، وقد فسر القرآن أثناء كتبه تفسيرا آخر حسب الظاهر المعروف (٢).

ومثله تفسير أبي محمد الشيرازي «عرائس البيان» جرى في تفسيره على نمط واحد هو التفسير الإشاري ، ولم يتعرض للتفسير الظاهر بحال ، وإن كان يعتقد أنه لا بدّ منه أوّلا ، كما صرّح بذلك في مقدمة تفسيره ، وسنذكره.

أهم تفاسير الصوفيّة وأهل العرفان

لأهل العرفان الباطني تفاسير متنوعة في البناء على تأويل الآيات ، حسب مشاربهم في التصوّف والعرفان ، فمنهم من جمع بين تفسير الظاهر والباطن فاصلا بينهما كلّا على حدّه ، ومنهم من مزج بين الأمرين من غير فصل بينهما ، وربما حصل خلط من ذلك بحيث لا يعرف القارئ أنه تفسير أو تأويل ، ومنهم

__________________

(١) النور / ٣٩.

(٢) جمعه محمود الغرّاب من علماء دمشق المعاصرين حسبما نذكر.

٥٣٩

من اقتصر على مجرد التأويل محضا ، حسبما نذكر من تفاسيرهم.

١ ـ تفسير التستري

ولقد بدأ التفسير الباطني اعتمادا على تأويل الآيات منذ القرن الثالث على يد أبي محمد سهل بن عبد الله التستري من مواليد سنة (٢٠٠ ه‍) والمتوفّى سنة (٢٨٣ ه‍). فإن له تفسيرا على طريقة الصوفية جمعه أبو بكر محمد بن أحمد البلدي ، وقد طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة (١٩٠٨ م) فيما لا يزيد على مائتي صفحة.

كان التستري من كبار العارفين ، وقد ذكرت له كرامات ، ولقى الشيخ ذا النون المصري بمكة ، وكان صاحب رياضة واجتهاد وافر. أقام بالبصرة زمنا طويلا ، وتوفّي بها.

وتفسيره هذا مطبوع في حجم صغير ، لم يتعرّض فيه المؤلف لتفسير جميع القرآن ، بل تكلم عن آيات محدودة ومتفرقة من كل سورة. ويبدو أنّ التفسير مجموعة من أقوال سهل في التفسير ، جمعها البلدي المذكور في أول الكتاب ، والذي يقول كثيرا : قال أبو بكر : سئل سهل عن معنى آية كذا ، فقال : كذا. وللكتاب مقدمة جاء فيها توضيح معنى الظاهر والباطن ومعنى الحدّ والمطلع ، فيقول : ما من آية في القرآن إلّا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع. فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم. والحد : حلالها وحرامها ، والمطلع : إشراق القلب على المراد بها ، فقها من الله عزوجل فالعلم الظاهر علم عام ، والفهم لباطنه ، والمراد به خاص. ويقول في موضع آخر : قال سهل : إن الله تعالى ما استولى وليّا من أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا علّمه القرآن ، إما ظاهرا وإما باطنا. قيل له : إن الظاهر نعرفه ،

٥٤٠