التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

يتحاشاه أتباع مذهب الاشعري.

مثلا عند ما تعرّض لتفسير قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(١) يقول : والوجه عبارة عن الجملة. والناضرة : من نضرة النعيم. إلى ربها نظرة : تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره. وهذا معنى تقديم المفعول ، ألا ترى إلى قوله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)(٢) ، (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)(٣) ، (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٤) ، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٥) ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٦) ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٧). كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد ، في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم ، فإنّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم ؛ لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فاختصاصه بنظرهم إليه ، لو كان منظورا إليه ، محال ؛ فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص. والذي يصح معه ، أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، تريد معنى التوقّع والرجاء. ومنه قوله القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

وسمعت سرويّة مستجدية بمكة وقت الظهر ، حين يغلق الناس أبوابهم ،

__________________

(١) القيامة / ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) القيامة / ١٢.

(٣) القيامة / ٣٠.

(٤) الشورى / ٥٣.

(٥) آل عمران / ٢٨ ، النور / ٤٢ ، فاطر / ١٨.

(٦) البقرة / ٢٤٥.

(٧) الشورى / ١٠.

٤٨١

ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم». والمعنى : أنهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلّا من ربّهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلّا إياه (١).

أنظر إلى هذا التحقيق الأنيق الذي سمحت به قريحة مثل الزمخشري العلامة الأديب الأريب ، ولكن أصحاب الرأي المعوّج لم يرقهم هذا البيان الكافي الشافي ، فجعلوا يهرولون حوله في ضجيج وعويل ، زاعمين أنه خالف رأي أهل السنة ، وأوّل القرآن وفق مذهب الاعتزال.

هذا ابن المنير الاسكندري تراه يهاجم الزمخشري في لحن عنيف ، قائلا : ما أقصر لسانه عند هذه الآية ، فكم له يدندن ويطبّل في جحد الرؤية ، ويشقق القباء ويكثر ويتعمّق ، فلما فغرت هذه الآية فاها ، صنع في مصادمتها بالاستدلال ... وما يعلم أن المتمتّع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه ، ولا يؤثر عليه غيره ، كما لا يصرف العاشق إذا ظفر برؤية محبوبه النظر عنه ، فكيف بالمحبّ لله عزوجل إذا أحظاه النظر إلى وجهه الكريم. نسأل الله أن يعيذنا من مزالق البدعة ومزلّات الشبهة (٢).

ويقول الشيخ محمد عليان ـ في الهامش أيضا ـ : عدم كونه تعالى منظورا إليه ، مبني على مذهب المعتزلة ، وهو عدم جواز رؤيته تعالى. ومذهب أهل السنة جوازها.

وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب. قال جمهور أهل العلم : المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٦٦٢.

(٢) بهامش التفسير ، ج ٤ ، ص ٦٦٢.

٤٨٢

الصحيحة ، من أن العباد ينظرون إلى ربّهم يوم القيامة ، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير : وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمّة ، كما هو متّفق عليه بين أئمّة الإسلام وهداة الأنام. وروى البخاري : «أنكم سترون ربكم عيانا». وروى الشيخان : «أن ناسا قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا : لا ، قال : فانكم ترون ربكم كذلك» (١).

وقد أكثر أهل الحديث من روايات بهذا الشأن ، أخذ بظاهرها السلف ، ومن تبعهم من أهل الظاهر (٢).

واستدل شيخ أهل السنة أبو الحسن الأشعري بهذه الآية على جواز رؤية الله في الآخرة ، واستشهد بموضع «إلى» من هذه الآية ، قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي رائية ؛ إذ ليس يخلو النظر من وجوه ثلاثة : إما نظر الاعتبار ، كما في قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(٣) ، أو نظر الانتظار ، كما في قوله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً)(٤) ، أو نظر الرؤية. أما الاول فلا يجوز ؛ لأنّ الآخرة ليست بدار اعتبار. وكذا الثاني ؛ لأن النظر إذا ذكر مع الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه ؛ ولأنّ نظر الانتظار لا يقرن ب «إلى» ، كما في قوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٥). قال : فان قال قائل : لم لا يجوز أن يراد «إلى ثواب ربها ناظرة»؟ قيل له : ثواب الله غيره ، وقد قال تعالى : (إِلى رَبِّها

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ١٠ ، ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٢) راجع : الطبري ، ص ٧٣ ـ ٧٥. وابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤١٤. وكذا القشيري ، ج ٣ ، ص ٩١.

(٣) الغاشية / ١٧.

(٤) يس / ٤٩.

(٥) النمل / ٣٥.

٤٨٣

ناظِرَةٌ) ، ولم يقل : إلى غيره ناظرة ، والقرآن على ظاهره ، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلّا لحجة (١).

أما أهل العدل والتنزيه فكانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة ، فطبّقوا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٢) أبدع تطبيق ، وفصّلوه خير تفصيل ، وحاربوا الأنظار الوضعية التي تثبت أنّ لله تعالى جسما ، وأنّ له وجها ويدين وعينين ، وله جهة فوقية ، وعرش يستوي عليه جالسا ، وأنه يرى بالأبصار ، إلى آخر ما قالته الأشاعرة وأذنابهم من المشبّهة والمجسمة. فأتى أهل العدل وسموا على هذه الأنظار ، وفهموا من روح القرآن : تجريد الله عن المادّية ، فساروا في تفسيرها تفسيرا دقيقا واسعا ، وأوّلوا ما يخالف هذا المبدأ ، وسلسلوا عقائدهم تسلسلا منطقيا.

وقد فصّل الكلام ـ في نفي رؤيته تعالى ـ القاضي عبد الجبار في كتابه «شرح الأصول الخمسة» (٣) وأوفى البحث حقّه. وهكذا الخواجا نصير الدين الطوسي في مختصر العقائد «التجريد» (٤).

وملخّص الكلام في نفي الرؤية : أنّ النظر بالعين عبارة عن إشعاع نوري يحيط بالجسم المرئي ، الأمر الذي يستدعي مقابلة ومواجهة ، وهو يلازم الجسمية. والآية الكريمة تصف موقف المؤمنين في ذلك اليوم ، أنهم على رغم

__________________

(١) راجع : كتاب «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري ، ص ١٠ ـ ١٩. و «اللّمع» له أيضا ص ٦١ ـ ٦٨.

(٢) الشورى / ١١.

(٣) باب نفي الرؤية ، ص ٢٣٢ ـ ٢٧٧.

(٤) شرح تجريد العقائد للعلّامة الحسن بن المطهّر الحلّي ، ص ١٦٣ ـ ١٦٥. ط. بمبئي.

٤٨٤

أهواله الجسام مبتهجون مسرورون ، ليس لشيء إلّا لأنهم منصرفون بكلّيتهم عن غيره تعالى ، ومتوجهون بكل وجودهم إلى الله. والنظر بهذا المعنى يتعدّى ب «إلى» كما جاء في قوله السرويّة ، وقول الشاعر :

إني إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

وكانت عائشة تنكر أشدّ الإنكار إمكان رؤيته تعالى بالأبصار. ففي حديث مسروق عنها المتفق عليه قال : قلت لعائشة : يا أمّتاه ، هل رأى محمد ربّه ليلة المعراج؟ فقالت : لقد قفّ شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث ، من حدّثكهنّ فقد كذب : من حدثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب ، وقد أعظم على الله الفرية ، ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ...)(١) ، ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً)(٢) ، ومن حدّثك أنه ... كتم شيئا من الدين ، فقد كذب ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...)(٣).

هذا حديث متفق عليه رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب الصحاح (٤). وهكذا كان مجاهد يقول في آية القيامة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : تنتظر ثواب ربها. في حديث رواه عبد بن حميد عنه ، قال الحافظ ابن حجر : سنده إلى مجاهد صحيح (٥).

__________________

(١) الأنعام / ١٠٣.

(٢) لقمان / ٣٤.

(٣) المائدة / ٦٧.

(٤) تفسير المنار ، ج ٩ ، ص ١٥٣.

(٥) المصدر ، ص ١٣٤.

٤٨٥

ومن ثم فإنّ النابهين من الأمة ، ولا سيما في عصر متأخّر ، هبّوا ينكرون إمكان رؤيته تعالى على الإطلاق ؛ إذا كان المقصود من الرّؤية الإحاطة بذاته المقدّسة بتحديق العين إليه ، فإنه محال البتة ، فإنه ملازم للتقابل والجسمية المحالين عليه سبحانه.

قال صاحب المنار في وجل من أصحابه في الخروج من مذهب أسلافه : وأما رؤية الربّ تعالى فربما قيل بادئ الرأي : إن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات ، كقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ، وقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) على الإثبات ، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار ، كثير في القرآن وكلام العرب ، كقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً)(١) ، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)(٢) ، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)(٣). وثبت أنه استعمل بهذا المعنى متعديا ب «إلى» ؛ ولذلك جعل بعضهم وجه الدلالة فيه على المعنى الآخر ـ وهو توجيه الباصرة ، إلى ما تراد رؤيته ـ أنه أسند إلى الوجوه ، وليس فيها ما يصحّح إسناد النظر إليها إلّا العيون الباصرة ، وهو في الدقة كما ترى (أي ليس ذلك ظاهر الآية ظهورا عرفيا) (٤). ولصاحب المنار هنا في توجيه وتأويل كلام أهل السنة كلام طويل ، لا يستغني الباحث عن مراجعتها.

ولنا أيضا بحث مستوف بمسألة الرؤية عرضناه في بحث المتشابهات (٥).

__________________

(١) يس / ٤٩.

(٢) الأعراف / ٥٣.

(٣) البقرة / ٢١٠.

(٤) تفسير المنار ، ج ٩ ، ص ١٣٤.

(٥) راجع : التمهيد ، ج ٣ ، ص ٩٠ ـ ١١١.

٤٨٦

اعتماده على التأويل والتمثيل

وهكذا نجد الزمخشري يعتمد في تفسيره على ضروب من التأويل والمجاز والتمثيل ، فيحمل ما ظاهره التنافي مع العقل أو الأصول المتلقّاة من الشرع ، على ضرب من التمثيل والاستعارة والمجاز ، الأمر الذي أثار نعرات خصومه أهل السنة والجماعة ، ناقمين عليه تصريفه لظواهر آيات القرآن الحكيم.

مثلا نجده عند تفسير الآية (٧٢) من سورة الأحزاب ، يقول :

قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظّم أمرها وفخّم شأنها ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال ، قد انقادت لأمر الله عزّ وعلا ، انقياد مثلها ، وهو ما يتأتى من الجمادات ، وأطاعت له الطاعة التي تصحّ منها وتليق بها ؛ حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(١). وأما الإنسان فلم تكن حاله ـ فيما يصحّ منه من الطاعات ، ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف ـ مثل حال تلك الجمادات فيما يصحّ منها ويليق بها من الانقياد ، وعدم الامتناع.

والمراد بالأمانة ، الطاعة ؛ لأنها لازمة الوجود ، كما أنّ الأمانة لازمة الأداء.

وعرضها على الجمادات ، وإباؤها وإشفاقها : مجاز.

وأما حمل الأمانة ، فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد أنه لا يؤدّيها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها ؛ لأنّ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون : ركبته الديون. ولي عليه

__________________

(١) فصّلت / ١١.

٤٨٧

حق ، فإذا أدّاها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها. ونحوه قولهم : لا يملك مولى لمولى نصرا ، يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسك الخاذل. ومنه قول القائل :

أخوك الذي لا تملك الحسّ نفسه

وترفضّ عند المحفظات الكتائف (١)

أي لا يمسك الرقّة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم : أبغض حق أخيك ؛ لأنه إذا أحبّه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدّه ، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه.

فمعنى (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ)(٢) : فأبين إلّا أن يؤدّينها ، وأبى الإنسان إلّا أن يكون محتملا لها لا يؤدّيها ، ثم وصف بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل ، لإخطائه ما يسعده مع تمكّنه منه ، وهو أداؤها.

والثاني : أن ما كلّفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله ، أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه ، أن يتحمّله ويستقلّ به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه. وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته. إنه كان ظلوما جهولا ؛ حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها (٣).

قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلّا على

__________________

(١) هو للقطامي ، وقيل : لذي الرمة. وحسّ له حسّا : رقّ له وعطف. والحسّ أيضا : العقل والتدبير والنظر في العواقب. والارفضاض : الترشرش والتناثر. وأحفظه إحفاظا : أغضبه. والكتائف جمع كتيفة ، وهي الضغينة والحقد. يقول : أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة ، بل يبذلها لك ويسرع إليك بغتة وتذهب ضغائنه.

(٢) الأحزاب / ٧٢.

(٣) خاس به يخيس ويخوس : غدر به. خاس بالعهد ، إذا نكث.

٤٨٨

طرقهم وأساليبهم. ومن ذلك قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب ، لقال : أسوّي العوج. وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقالة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان ممّا يحسّن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبّح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف.

وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.

وهنا تقوم أمام الزمخشري صعوبات ومشاكل ، يصوّرها لنا في سؤاله :

فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى ؛ لأنه مثّلت حاله في تميّله وترجّحه بين الرأيين ، وتركه المضي على أحدهما بحال من يتردّد في ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه. وكل واحد من الممثّل والممثّل به ، شيء مستقيم ، داخل تحت الصحة والمعرفة. وليس كذلك ما في هذه الآية ، فإنّ عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال. وما مثال هذا إلّا أن تشبّه شيئا ، والمشبّه به غير معقول.

ولكنّ الزمخشري لا توقفه هذه الصعوبات ، بل نراه يتخلّص منها بكل دقّة وبراعة ؛ حيث يقول :

قلت : الممثّل به في الآية وفي قولهم : «لو قيل للشحم أين تذهب ...» وفي نظائره ، مفروض ، والمفروضات تتخيّل في الذهن كما المحقّقات : مثّلت حال التكليف في صعوبته ، وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها (١).

__________________

(١) الكشاف ، ج ٣ ، ص ٥٦٤ ـ ٥٦٥.

٤٨٩

قال الذهبي : وهذه الطريقة التي يعتمد عليها الزمخشري في تفسيره أعني طريقة الفروض المجازية ، وحمل الكلام الذي يبدو غريبا في ظاهره ، على أنه من قبيل التعبيرات التمثيليّة أو التخييليّة قد أثارت حفيظة خصمه السنّي ابن المنير الإسكندري عليه ، فاتّهمه بأشنع التّهم في كثير من المواضع التي تحمل هذا الطابع ، ونسبه إلى قلّة الأدب وعدم الذوق (١).

فمثلا عند ما يعرض الزمخشري لقوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢) نراه يقول : هذا تمثيل وتخييل ، كما مرّ في آية عرض الأمانة ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ...) والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلّة تخشعه عند تلاوة القرآن ، وتدبّر قوارعه وزواجره (٣).

ولكن هذا قد أغضب ابن المنير ، فقال معقّبا عليه : وهذا مما تقدم إنكاري عليه فيه ، أفلا كان يتأدّب بأدب الآية ، حيث سمى الله هذا مثلا ، ولم يقل : وتلك الخيالات نضربها للناس. ألهمنا الله حسن الأدب معه ، والله الموفّق.

غير أنّ الزمخشري ولع بهذه الطريقة ، فمشى عليها من أوّل تفسيره إلى آخره ، ولم يقبل المعاني الظاهرة التي أخذ بها أهل السنة وحسبوها أقرب إلى الصواب ، كما لا ينفك عن التنديد بأهل السنة الذين يقبلون هذه المعاني الظاهرة ويقولون بها ، وكثيرا ما ينسبهم من أجل ذلك إلى أنهم من أهل الأوهام والخرافات ، كما عرفت من هجوه لهم في الشعر المتقدّم. وقد سمّاهم أهل الحشو ، عند تفسيره

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٤٤٩.

(٢) الحشر / ٢١.

(٣) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٥٠٩.

٤٩٠

لآية (٣٦) من سورة آل عمران (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ). قال : وما يروى من الحديث : «ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها» فالله أعلم بصحّته. فإن صحّ فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلّا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان في صفتهما ، كقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(١). واستهلاله صارخا من مسّه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنّه يمسّه ويضرب بيده عليه ، ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وأما حقيقة المسّ والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلّا. ولو سلّط إبليس على الناس بنخسهم ، لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه (٢).

وإليك أمثلة أخرى لتقف على مقدار تمسّكه بهذه الطريقة :

ففي سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٣) يذكر الزمخشري في معنى «الكرسي» أربعة أوجه ، ويقول في الوجه الأول منها : إن كرسيّه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلّا تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثمّة ، ولا قعود ، ولا قاعد ، كقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ

__________________

(١) الحجر / ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٣) الآية ٢٥٥.

٤٩١

بِيَمِينِهِ)(١) من غير تصوّر قبضة وطيّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه ، وتمثيل حسّي ، ألا ترى إلى قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(٢)؟!

الأمر الذي لم يرتض ابن المنير ، ومن ثم عقّبه بقوله : قوله : «إن ذلك تخييل للعظمة» سوء أدب في الإطلاق ، وبعد في الإصرار ، فإن التخييل إنما يستعمل في الأباطيل وما ليست له حقيقة صدق ، فإن يكن معنى ما قاله صحيحا فقد أخطأ في التعبير عنه بعبارة موهمة ، لا مدخل لها في الأدب الشرعي. وسيأتي له أمثالها مما يوجب الأدب أن يجتنب.

وفي سورة الأعراف عند تفسير آية الميثاق يقول : وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا)(٣) من باب التمثيل. ومعنى ذلك : أنه نصب لهم الأدلّة على ربوبيّته ووحدانيّته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركّبها فيهم ، وجعلها مميّزة بين الضلالة والهدى ، فكأنّه أشهدهم على أنفسهم وقرّرهم ، وقال لهم : ألست بربكم ، وكأنّهم قالوا : بلى أنت ربّنا ، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيّتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه‌السلام وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤) ، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٥).

وقوله :

__________________

(١) الزمر / ٦٧.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٠١.

(٣) الآية ١٧٢.

(٤) النحل / ٤٠.

(٥) فصّلت / ١١.

٤٩٢

إذ قالت الأنساع للبطن الحق

قدوما فآضت كالفنيق المحنق (١)

وقوله :

قالت له ريح الصبا قرقار

واختلط المعروف بالإنكار (٢)

قال الذهبي : ولكن ابن المنير السني لم يرض هذا من الزمخشري بطبيعة الحال ، ولذا تعقّبه بقوله : إطلاق التمثيل أحسن. وقد ورد الشرع به. أما إطلاق التخييل على كلام الله تعالى فمردود ، ولم يرد به سمع ، وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة. ثم إنّ القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه ، فلذلك أقرّه الأكثرون على ظاهره وحقيقته ، ولم يجعلوه مثالا. أما كيفية الإخراج والمخاطبة فالله أعلم بذلك (٣).

ومسألة «التمثيل» و «التخييل» يستعملها الزمخشري بحريّة أوسع فيما ورد من الأحاديث التي يبدو ظاهرها مستغربا ، وقد مرّ كلامه في حديث مسّ الشيطان ونخسه للمواليد ، الأمر الذي أثار ثائرة خصمه السنّي الذي لم يرتض هذا الصنيع من خصمه المعتزلي ، فتراه يتورّك عليه بقوله : أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته ، فلا محيص له إذن عن تعطيل كلامه عليه‌السلام بتحميله ما لا يحتمله ،

__________________

(١) ـ هو لأبي النجم العجلي. والنسع ـ بالكسر ـ : حزام عريض يشدّ به وسط الدابة وستر الهودج. والحق : فعل أمر ، أي التصق يا ظهر بالبطن وانضمر. وقدوما مصدر منصوب بمحذوف أو بما قبله على أنه مفعول له. وآض يئيض : صار بصير. والفنيق : الفحل المنعم المكرم. والمحنق : المغيظ من الحنق ، وهو الغيظ.

(٢) ـ أيضا لأبي النجم. وقرقار : اسم فعل بمعنى قرقر ، أمر السحاب لتنزيله منزلة العاقل ، أي صوّت بالرعد. والمقصود من الإنكار : المواضع غير المعروفة ، أي سوّ بين الإمكان المعهودة بالإمطار وغير المعهودة.

(٣) الكشاف ، ج ٢ ، ص ١٧٦ ـ ١٧٧.

٤٩٣

جنوحا إلى اعتزال منتزع ، في فلسفة منتزعة ، في إلحاد ، ظلمات بعضها فوق بعض (١).

امتهانه بشأن القراء

وهكذا نجد الزمخشري قد أغاظ خصومه أهل الظاهر والمقلّدة من أهل السنّة والجماعة ؛ حيث رفض حجيّة القراءات حجية تعبديّة ، حتى ولو كانت على خلاف الفصحى من اللّغة ؛ إذ لم تثبت حجّيتها بهذه السعة والإطلاق ، فإذا ما تعارضت قراءة مع المقرر من لغة العرب الفصحى ، نجد العلماء المحققين أمثال الزمخشري يرفضون تلك القراءة ، حفاظا على سلامة القرآن ، من خلل في فصاحته العليا ، الأمر الذي لم يرتضه المقلّدة من أهل الظاهر ، فهبّوا يهاجمونه بأشنع القذائف.

هذا ابن عامر قارئ دمشق ، وهو أحد القراء السبعة قرأ : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(٢) برفع «قتل» ونصب «أولادهم» وجرّ «شركائهم» باضافة «قتل» إلى «شركائهم» مع الفصل بالمفعول به ، وقراءة «زيّن» مبنيا للمفعول.

فأنكر عليه الزمخشري وعدّ قراءته هذه سمجة مردودة ، قال : وأما قراءة ابن عامر ... فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر ، لكان سمجا مردودا ، كما سمج وردّ :

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبي مزادة (٣)

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٤٥٢.

(٢) الأنعام / ١٣٧.

(٣) الزجّ : الطعن. والمزجّة : الرمح القصير لأنه آلة للزجّ. والقلوص : الناقة الشابّة ، وهو مفعول فاصل بين المضاف والمضاف إليه.

٤٩٤

فكيف به في الكلام المنثور ، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته.

قال : والذي حمله على ذلك ، أنّ رأى في بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء ؛ لأنّ الأولاد شركاؤهم في أموالهم ، لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب (١).

وفي ذلك امتهان بشأن ابن عامر (٢) واستهانة بشأن قراءته غير المستندة إلى حجة معتبرة (٣) ، الأمر الذي أثار نعرات القوم ضدّه وجعلوه يقذفونه بأقبح الشتائم. هذا ابن المنير الإسكندري الهائم في تيه ضلاله ، يعلو بنشيجه في ذلك ، يقول في حدّة وغضب : لقد ركب المصنف في هذا الفصل متن عمياء ، وتاه في تيهاء ، وأنا أبرأ إلى الله ، وأبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه مما رماهم به ، فإنه تخيّل أن القرّاء ـ أئمة الوجوه السبعة ـ اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا

__________________

(١) الكشاف ، ج ٢ ، ص ٧٠.

(٢) هو عبد الله بن عامر اليحصبي قارئ الشام ، توفّي سنة (١١٨). كان خامل النسب خامل الذكر ، لم يعرف نسبه كما لم يعرف له شيخ ، تعلّم القراءة عفوا ، وقد كرهه الناس وكرهوا قراءته ، كان يؤمّ الناس بالمسجد الأموي ، فلما استخلف سليمان بن عبد الملك بعث إلى مهاجر وقال : قف خلف ابن عامر فإذا تقدّم فخذ بثيابه واجذبه ، فلن يتقدم منا دعىّ ، وصلّ أنت يا مهاجر ، ففعل. راجع : التمهيد ، ج ٢ ، ص ١٨٦ ، وطبقات الفراء ، ط ٣ ، رقم ٨.

(٣) وقد تكلمنا عن القراءات السبع وأنها غير متواترة ، وإنما هي اجتهادات للقراء ، لا حجّية فيها ذاتية في سوى قراءة عاصم برواية حفص ، فإنها لوحدها القراءة المتواترة التي توارثها المسلمون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا حجّية في غيرها إطلاقا. راجع : التمهيد ، ج ٢ ، ص ٦٠ ـ ٨٤ ، مبحث القرّاء والقراءات.

٤٩٥

وسماعا ، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه. ولم يعلم الزمخشري أنّ ابن عامر قرأ بها ، يعلم ضرورة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأها على جبرائيل كما أنزلها عليه كذلك ، وتواترت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولو لا عذر أنّ المنكر ليس من أهل الشأنين : علم القراءة وعلم الأصول ، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين ، وأنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة وزلّة منكرة (١).

وقال أبو حيان الأندلسي : «وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يردّ على عربي صريح محض قراءة متواترة ، موجود نظيرها في «لسان العرب» في غير ما بيت ، وأعجب لسوء ظنّ هذا الرجل بالقرّاء الأئمة الذين تخيّرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا ، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم. ولا التفات لقول أبي علي الفارسي : هذا قبيح قليل في الاستعمال. وقال قبل ذلك : ولا التفات إلى قول ابن عطية : وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب» (٢).

وقال الكواشي ـ هو أحمد بن يوسف أبو العباس الموصلي صاحب تفسير ، توفّي سنة (٦٨٠ ه‍) ـ : «كلام الزمخشري يشعر بأن ابن عامر ارتكب محظورا ، وأنه غير ثقة ؛ لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ ، ومع ذلك أسندها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وليس الطعن في ابن عامر طعنا فيه ، وإنما هو طعن في علماء الأمصار ؛ حيث جعلوه أحد القرّاء السبعة المرضيّة ، وفي الفقهاء حيث لم ينكروا عليه ، وأنهم يقرءونها في محاريبهم ، والله أكرم من أن يجمعهم على الخطأ».

وقال التفتازاني : هذا أشدّ الجرم ؛ حيث طعن في أسناد القرّاء السبعة

__________________

(١) هامش الكشاف ، ج ٢ ، ص ٦٩.

(٢) تفسير «البحر المحيط» لأبي حيان ، ج ٤ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٤٩٦

ورواياتهم ، وزعم أنهم إنما يقرءون من عند أنفسهم. وهذه عادته ، يطعن في تواتر القراءات السبع ، وينسب الخطأ تارة إليهم ، كما في هذا الموضع ، وتارة إلى الروايات عنهم. وكلاهما خطأ» (١).

وتقلّد الآلوسي عبارة ابن المنير : «وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء ، فقد تخيّل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا ، كما ذهب إليه بعض الجهلة ، فلذلك غلّط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبيّن منشأ غلطه ، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فإن القراءات السبع متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل تغليط الله عزوجل ، نعوذ بالله سبحانه من ذلك» (٢).

تهاجمه على أهل السنة

كما ولم يقصر الزمخشري في تهاجمه على خصومه من أهل السنّة ، فلم يدع فرصة أثناء تفسيره إلّا وقذفهم بقذائف لاذعة وقرعهم بمقامع دامغة. قال الذهبي : وإن المتتبع لما في «الكشاف» من الجدل المذهبي ، ليجد أنّ الزمخشري قد مزجه في الغالب بشيء من المبالغة في السخريّة والاستهزاء بأهل السنة ، فهو لا يكاد يدع فرصة تمرّ بدون أن يحقّرهم ويرميهم بالأوصاف المقذعة ، فتارة يسمّيهم المجبّرة ، وأخرى يسميهم الحشوية ، وثالثة يسميهم المشبّهة ، وأحيانا يسميهم القدريّة ، تلك التسمية التي أطلقها أهل السنة على منكري القدر ، فرماهم بها الزمخشري ، لأنهم يؤمنون بالقدر. كما جعل حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي

__________________

(١) بنقل الشيخ يوسف البحراني في الكشكول ، ج ٣ ، ص ٣٣٩.

(٢) روح المعاني ، ج ٨ ، ص ٣٣.

٤٩٧

حكم فيه على القدريّة أنهم مجوس هذه الأمّة ، منصبّا عليهم ؛ وذلك حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى)(١) : ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمّة ، بشهادة نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكفى به شاهدا ـ إلّا هذه الآية لكفى بها حجة (٢).

كما سمّاهم بهذا الاسم ورماهم بأنهم يحيون لياليهم في تحمّل الفاحشة ، ينسبونها إلى الله تعالى ؛ حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(٣) : وأما قول من زعم أنّ الضمير في «زكّى» و «دسّى» لله تعالى ، وأنّ تأنيث الضمير الراجع إلى «من» لأنّه في معنى النفس ، فمن تعكيس القدريّة الذين يورّكون (٤) على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه. ويحيون لياليهم في تمحّل فاحشة ينسبونها إليه (٥).

والظاهرة العجيبة في خصومة الزمخشري ، أنه يحرص كل الحرص على أن يحوّل الآيات القرآنية التي وردت في حق الكفار ، إلى ناحية مخالفيه في العقيدة من أهل السنة ، ففي سورة آل عمران حيث يقول تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)(٦) ، نجد الزمخشري بعد ما يعترف بأنّ الآية واردة في حق اليهود والنصارى يجوز أن تكون واردة في حق مبتدعي

__________________

(١) فصّلت / ١٧.

(٢) الكشاف ، ج ٤ ، ص ١٩٤.

(٣) الشمس / ٩ ـ ١٠.

(٤) ورك فلان ذنبه على غيره ، إذا قرفه به ، أي اتهمه به ظلما.

(٥) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٧٦٠.

(٦) الآية ١٠٥.

٤٩٨

هذه الأمة ، وينصّ على أنهم «المشبّهة» و «المجبّرة» و «الحشويّة» وأشباههم (١).

وفي سورة يونس ، حيث يقول تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)(٢) ، يقول : بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه ؛ وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ، كالناشئ على التقليد من «الحشويّة» إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة أنكرها في أوّل وهلة ، واشمأزّ منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه ، من غير فكر في صحة أو فساد ؛ لأنّه لم يشعر قلبه إلّا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب (٣).

ولقد أظهر الزمخشري تعصّبا قويّا لمذهبه ، إلى حدّ جعله يخرج خصومه السّنّيين من دين الله ، وهو الإسلام ؛ وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)(٤) : فإن قلت : ما المراد بأولي العلم الذين عظّمهم هذا التعظيم ، حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟

قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة ، وهم علماء العدل والتوحيد ـ يريد أهل مذهبه ـ.

فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد يعني في قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)

__________________

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٩٩.

(٢) الآية ٣٩.

(٣) الكشاف ، ج ٢ ، ص ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٤) آل عمران / ١٨.

٤٩٩

قلت : فائدته أن قوله : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) هو توحيد ، وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) تعديل ، فإذا أردفه بقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين. وفيه : أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدّي إليه كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، وهذا بيّن جليّ كما ترى (١).

وعند تفسيره لقوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)(٢) ، قال : «ثم تعجّب من المتّسمين بالإسلام ، المتّسمين بأهل السنة والجماعة ، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ، ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة (٣) فإنه من منصوبات أشياخهم! والقول ما قال بعض العدلية فيهم :

لجماعة سمّوا هواهم سنّة

وجماعة حمر لعمري موكفة (٤)

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا

شنع الورى فتستّروا بالبلكفة

وحمل الآية على أنها ترجمة عن مقترح قومه وحكاية لقولهم.

وتفسير آخر ، وهو : أن يريد بقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) عرّفني نفسك تعريفا واضحا جليّا ، كأنّها إراءة في جلائها بآية ، مثل آيات القيامة التي تضطر

__________________

(١) الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥. وراجع : التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٤٦٥ ـ ٤٦٧.

(٢) الأعراف / ١٤٣.

(٣) لأنهم قالوا : إنه يرى بلا كيف ، أي لا تسأل عن كيفية رؤيته تعالى. والبلكفة مخففة ذلك.

وعدّ الزمخشري ذلك ذريعة للتخلّص من مأزق القول بالجسمية والقول بالجهة ، فهو من منصوبات أشياخهم ، أي شبكات يتصيّدون بها الضعفاء.

(٤) أي موضوع عليها الإكاف وهي البرذعة. وهي بمنزلة السرج للفرس.

٥٠٠