التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

لكفى في جرحه ، وأن يضرب بروايته على وجهه. فعفى الله عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية مما ينشر» (١).

وقال فيما جاء من الروايات في سحر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«وقد رووا هنا أحاديث في أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحره لبيد بن أعصم ، وأثّر سحره فيه ، حتى كان يخيّل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، أو يأتي شيئا وهو لا يأتيه ، وأنّ الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر ، وعوفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا كان نزل به من ذلك ، ونزلت هذه السورة (سورة الفلق) (٢).

قال : «ولا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه عليه‌السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظنّ أنه يفعل شيئا وهو لا يفعله ، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان ، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العاديّة ، بل هو ماسّ بالعقل ، آخذ بالروح ، وهو مما يصدق قول المشركين فيه : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)(٣). وليس المسحور عندهم إلّا من خولط في عقله ، وخيّل له أنّ شيئا يقع وهو لا يقع ، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ، ولا يوحى إليه.

«وقد قال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوّة ولا ما يجب لها : أنّ الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صحّ ، فيلزم الاعتقاد به ، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين ؛ لأنه ضرب من إنكار السحر ، وقد جاء القرآن بصحّة السحر. أنظر كيف ينقلب الدين الصحيح ، والحق الصريح ، في نظر المقلّد

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) راجع : الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٤١٧. ورواه البخاري ومسلم وابن ماجة (روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣).

(٣) الفرقان / ٨.

٤٦١

بدعة ، نعوذ بالله ، يحتج بالقرآن على ثبوت السحر ، ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدّه من افتراء المشركين عليه ، ويؤوّل في هذه ولا يؤوّل في تلك ، مع أنّ الذي قصده المشركون ظاهر ؛ لأنهم كانوا يقولون : إن الشيطان يلابسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم ، وضرب من ضروبه وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد ، فإنه خولط في عقله وإدراكه ، في زعمهم. والذي يجب اعتقاده ، أنّ القرآن مقطوع به ، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته ، وعدم الاعتقاد بما ينفيه ، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه‌السلام حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه ، ووبّخهم على زعمهم هذا ، فإذا هو ليس بمسحور قطعا. وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد ، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد ، وعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد ، لا يؤخذ في نفيها عنه إلّا باليقين ، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون ، على أنّ الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجّة.

«وعلى أيّ حال فلنا بل علينا أن نفوّض الأمر في الحديث ، ولا نحكّمه في عقيدتنا ، ونأخذ بنصّ الكتاب وبدليل العقل ، فإنه إذا خولط النبي في عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظنّ أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلّغه ، أو أنّ شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه ، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان» (١).

قال الذهبي ناقما على هذه الطريقة التي هي طريقة أهل الاعتزال :

__________________

(١) ذكر ذلك في تفسيره لجزء عم ص ١٨٥ ـ ١٨٦. وتعرض له في تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٢٩١.

٤٦٢

«وهذا الحديث الذي يردّه الأستاذ الإمام ، رواه البخاري وغيره (١) من أصحاب الكتب الصحيحة ، وليس من وراء صحّته ما يخلّ بمقام النبوّة. (وعلّل عدم الإخلال بأنه من قبيل المرض ، وقد عرفت ردّ الإمام عليه بأحسن ردّ) وأضاف قائلا :

«ثم إنّ الحديث رواية البخاري وغيره من كتب الصحيح ، ولكن الأستاذ الإمام ، ومن على طريقته ، لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره ، فلا مانع عندهم من عدم صحّة ما يرويه البخاري ، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد ، لا يثبت به إلّا الظنّ ، وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنّة التي هي بالنسبة للكتاب في منزلة المبيّن من المبيّن ، وقد قالوا : إن البيان يلتحق بالمبيّن ، قال : «وليس هذا الحديث وحده الذي يضعّفه الشيخ ، أو يتخلص منه بأنه رواية آحاد ، بل هناك كثرة من الأحاديث نالها هذا الحكم القاسي» ، فمن ذلك أيضا حديث الشيخين «كل بني آدم يمسّه الشيطان يوم ولدته أمّه إلّا مريم وابنها» فإنه قال فيه : «إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة» (٢).

«فهو لا يثق بصحّة الحديث رغم رواية الشيخين له ، ثم يتخلّص من إرادة الحقيقة على فرض الصحة ، بجعل الحديث من باب التمثيل ، وهو ركون إلى مذهب المعتزلة ، الذين يرون أنّ الشيطان لا تسلّط له على الإنسان إلّا بالوسوسة والإغواء فقط» (٣).

قلت : الحق أحقّ أن يتّبع ، حتى ولو كان القائل به أصحاب الاعتزال ؛ إذ الحق

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ١٧٨. ومسلم ج ٧ ، ص ١٤. فتح الباري ، ج ١٠ ، ص ١٩٣.

(٢) راجع : تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٢٩٠.

(٣) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٥٧٥.

٤٦٣

ضالّة المؤمن ، أخذها حيث وجدها. فإن كان مذهب أهل الجمود يقضي بالأخذ بالظواهر الظنيّة ، حتى في باب العقائد ، التي تستدعي اليقين فيها ، فإنّ مذهب أهل النظر والاجتهاد ، يرى وجوب التدبّر في آياته تعالى والتعمّق فيها ؛ ذلك أنه دستور القرآن الكريم ، والذي هدى إليه العقل الرشيد.

نعم لا تقاس عقليّة مثل شيخنا الإمام الكبيرة ، مع ذهنية أمثال الذهبي الهزيلة التي اقتنعت بتقاليد أشعرية سلفية ، رغم منافاتها لأصول الشرع ومحكمات القرآن الكريم.

أوّلا : لا سلطان لإبليس على أحد ، سوى وسوسته وإغوائه ، قال تعالى فيما يحكيه عن إبليس لما قضى الأمر : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)(١).

ثانيا : ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٢) فلم يكن لإبليس على عباد الله المخلصين حتى سلطان الوسوسة والإغواء ، فكيف بالاستحواذ على عقليتهم الكريمة (٣).

ثالثا : أنّى للبيد أن يستحوذ على عقليّة مثل الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مثال العقل الأول في عالم الإمكان.

إذن فلا يصح ما ورد في ذلك من تأثير السحر على عقله عليه‌السلام ولم يثبت شيء من ذلك من طرق أهل البيت عليهم‌السلام. أما الوارد في جامع البخاري (ج ٧ ، ص ١٧٨)

__________________

(١) راجع : المنار ، ج ٧ ، ص ٥١٢ ـ ٥١٣. إبراهيم / ٢٢.

(٢) الحجر / ٤٢.

(٣) وقد أنكر الشيخ الإمام إمكان استحواذ الشيطان على عباد الله المخلصين. راجع : المنار ، ج ٣ ، ص ٢٩١.

٤٦٤

وفتح الباري (ج ١٠ ، ص ١٩٣) ومسلم (ج ٧ ، ص ١٤) فمردود على قائله ، وهو من المفتعلات (١).

رأي صاحب المنار في الجنّ

يرى السيد رشيد رضا ما يراه شيخه وأستاذه في الجنّ ، وأنه لا يرى ، وكل من ادّعى رؤية الجنّ فهو مخطئ في إدراكه ، ولم يصحّ في ذلك حديث. ويرجّح أنّ من ادّعى رؤية الجن فذلك وهم منه وتخيّل ، ولا حقيقة له في الخارج ، أو لعلّه رأى حيوانا غريبا كبعض القردة ، فظنّه أحد أفراد الجنّ ، يقول هذا ثم يعرض في الهامش لذكر حديث أبي هريرة فيمن كان يسرق تمر الصدقة ، وإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بأنه شيطان ـ وهو في البخاري ـ ولغيره من الأحاديث التي تدل على أنّ الإنسان يرى الجنّي ويبصره ، ثم يقول بعد أن يفرغ من سرده للروايات : والصواب أنه ليس في هذه الروايات كلها حديث صحيح (٢).

بل ونجده يزيد على ذلك فيجوّز أن تكون ميكروبات الأمراض نوعا من الجن ؛ وذلك حيث يقول عند ما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآية (٢٧٥) من سورة البقرة : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) : «والمتكلمون يقولون : إن الجنّ أجسام حيّة خفيّة لا ترى. وقد قلنا في «المنار» غير مرّة : إنه يصحّ أن يقال : إنّ الأجسام الحيّة الخفيّة التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظّارات المكبّرة وتسمّى بالمكروبات ، يصح أن تكون نوعا من الجنّ ، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض (٣).

__________________

(١) تكلّمنا عن ذلك في التمهيد (ج ١ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٩) عند الكلام عن سورتي المعوذتين.

(٢) تفسير المنار ، ج ٧ ، ص ٥١٦ ، التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٥٨٤.

(٣) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٩٦.

٤٦٥

تفسير القاسمي (محاسن التأويل)

لجمال الدين أبي الفرج محمد بن محمد المعروف بالقاسمي. توفي سنة (١٣٣٢ ه‍). ولد في دمشق ، وكان معروفا في الفقه والتفسير والحديث ، وكان من زعماء النهضة السياسية ضد الاستعمار في بلاد الشام. كان قد تتلمذ على يد الأستاذ الشيخ محمد عبده ، فأخذ عنه العلم والسياسة وعلم الاجتماع ، وأفرغه في تفسيره هذا الممتع. التزم فيه المؤلف بمتابعة آراء السلف والاهتمام بنظراتهم في الفقه والتفسير ، مراعيا ما توصّل إليه العلم ، في شيء من الحذر. ومن ثم فهو من خير التفاسير المعاصرة ، الجامعة بين آراء السلف ونظرات الخلف ، مراعيا جوانب الاحتياط ؛ وبذلك قد جمع بين المأثور والمعقول ، في سبك رائع وجزالة في الألفاظ ودقة في الآراء. وقد تكلم بلغة أهل عصره في براعة فائقة ، ومن ثم طار صيته وأصبح من التفاسير المشار إليها بالبنان.

ومن ميزات هذا التفسير ، اهتمامه البالغ بجانب الإشارات العلمية التي جاءت في القرآن ، إنه يعتقد اشتمال القرآن على أسرار من علوم الكون ، ومن ثم افتتح فصلا في مقدمة تفسيره اختصاصا بالكلام عن المسائل الفلكية الواردة في القرآن ، ويتعرّض للقضايا الكونية في الخلق والتدبير ، وفي النهاية يقول : «من عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية ، التي كانت جميع الأمم تجهلها ، بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به ، في أي زمن كان ، مهما كانت معلوماته ، فالناس قديما فهموا أمثال هذه الآيات بما يوافق علومهم ، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء ، علمنا أنهم كانوا واهمين ، وفهمنا معناها الصحيح. فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين ، تظهر لهم كلما تقدمت علومهم ... وهو معجزات للمتأخرين يشاهدونها ، وتتجلّى لهم كلما

٤٦٦

تقدموا في العلم الصحيح» (١). فرغ من تأليف التفسير سنة (١٣٢٩ ه‍).

تفسير المراغي

هو الشيخ أحمد مصطفى المراغي ، شقيق الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في وقته ، وتلميذ الإمام الشيخ محمد عبده صاحب تفسير «المنار» ، والذي وضع تفسيره هذا مشاكلا له ، ومستفادا من بحوث شيخه الأستاذ. توفي سنة (١٣٧١ ه‍).

وتفسيره هذا من أشمل التفاسير لحاجة العصر في أسلوبه وفي طريق سرد المطالب ونضد المقاصد ، متجنّبا القصص الإسرائيلية المدسوسة والخرافات الدخيلة. ولا يغفل في أي مناسبة اللجوء إلى علوم الطبيعة فيما يمسّ فهم كتاب الله العزيز ، ومن ثم فهو تفسير جيّد مفيد في ذاته.

قال الذهبي : «لم نعرف من رجال هذه المدرسة ـ مدرسة الشيخ محمد عبده ـ رجلا تأثّر بروح الأستاذ الإمام ، ونهج على طريقته من التجديد وإطراح التقليد ، والعمل على تنقية الإسلام من الشوائب التي ألصقت به ، وتنبيه الغافلين عن هديه وإرشاده ، مثل الأستاذ المراغي. تربّى هذا الرجل في مدرسة الأستاذ الإمام ، وتخرّج منها وهو يحمل بين جنبيه قلبا مليئا بالرغبة في الإصلاح ، والثورة على كل ما يقف في سبيل الإسلام والمسلمين» (٢).

وقد نهج في تفسيره منهج شيخه ، نراه لا يخوض في مبهمات القرآن بالتفصيل ، ولا يدخل في جزئيات سكت عنها القرآن وأعرض عنها

__________________

(١) راجع : محاسن التأويل ، ج ١ ، ص ٣٣٧.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٥٩٠.

٤٦٧

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزجّ بها في تفسيره ، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه ، حتى يجعل منها شروحا لما أجمله القرآن وسكت عن تفصيله.

وممّا يمتاز به هذا التفسير ، عنايته بإظهار أسرار التشريع ، فنراه يهتم اهتماما كبيرا بإظهار سر التشريع الإسلامي ، وحكمة التكليف الإلهي ، ليظهر محاسن الإسلام ، ويكشف عن هدايته للناس.

كما نجده يعرض لمشاكل المجتمع وأسباب الانحطاط في دول الإسلام ، فيعالج كل ذلك بما يفيضه الله عليه من بيان هداية القرآن وإرشاده. فقد كان بصيرا بمواطن الداء وأسباب الشفاء ، فكان يهدف في دروسه إلى علاجها واستئصالها ، وكان كثيرا ما يوجّه الخطاب إلى أرباب الحلّ والعقد في الدولة.

وهكذا وفّق في التوفيق بين القرآن والعلم الحديث ، رغم اعتقاده أنّ القرآن قد أتى بأصول عامّة لكلّ ما يهم الإنسان معرفته والعلم به ، وكراهته أن يسلك المفسر للقرآن مسلك من يجرّ الآية القرآنية إلى العلوم ، أو العلوم إلى الآية ، كي يفسرها تفسيرا علميا يتّفق مع نظريات العلم الحديث ، ولكن مع ذلك كان يرى أن يكون المفسّر على شيء من العلم ببعض نظريات العلم الحديث ، ليستطيع أن يأخذ منها دليلا على قدرة الله ، ويستلهم منها مكان العبرة والعظة.

في ظلال القرآن

لسيد بن قطب بن إبراهيم الشاذلي ، المستشهد سنة (١٣٨٦ ه‍) على يد طغاة مصر الحاكمة حينذاك. نشأ المؤلف في بيئة إسلامية عريقة ، وكان والده من المؤمنين المتعهدين ، ولد سنة (١٣٢٦ ه‍) في قرية موشا من محافظة أسيوط ، ثم ارتحل إلى القاهرة وكانت دراساته العليا هناك. كان كاتبا إسلاميا مجيدا ، له في

٤٦٨

الإسلاميات كتب ورسائل مفيدة ، تهدف إلى الحركة الإسلامية المتناسبة مع النهضة العلمية الحديثة ، فكان تفسيره هذا من خير التفاسير الأدبية الاجتماعية الهادفة إلى إحياء الحركة الإسلامية العتيدة. فمن أهدافه إزاحة الفجوة العميقة بين مسلمي العصر الحاضر والقرآن الكريم ، وتعريف المسلمين إلى المهمة العلمية السياسية التي قام بها القرآن ، وبيان الحميّة الجهادية التي يهدفها القرآن الكريم. إلى جنب تربية الجيل المسلم تربية قرآنية إسلامية كاملة ، وبيان معالم هذا الطريق الذي يجب على المسلمين سلوكه.

وكان منهجه في التفسير : أولا ، عرض آيات مترابطة بعضها مع البعض ، في مجموعة منسجمة ، وبيان الهدف الكلي للسورة ، ثم للآيات المعروضة. وتقسيم السور إلى دراسات ، تقسيما موضوعيا ، لتعتبر كل مجموعة من الآيات ذات وحدة موضوعية ، وذات هدف معيّن خاص.

ثم يحاول تفسير الآيات ـ في ذوق أدبي خالص ـ ببيان الأهداف الكلية التي ترمي إليها الآيات ، من غير تعرّض للجزئيات ، كما يجتنب من ذكر الإسرائيليات ، والروايات الموضوعة أو الضعيفة ، كما يجتنب الخوض في مسائل الخلاف ، وهكذا يتجنّب التعرض للعلوم القديمة والحديثة التي لا علاقة لها بفهم معاني الآيات الكريمة ، ويعتبر التعرّض لها جفاء بالقرآن ؛ لأنه في غنى عنها ، يقول هو في ذلك :

«وأني لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن ، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها ، كأنما ليعظّموه بهذا ويكبّروه. إنّ القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها ؛ لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها ، والبحث والتجريب

٤٦٩

والتطبيق من خواص العقل في الإنسان ، والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه ، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره ، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأنه يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه» (١).

الميزان في تفسير القرآن

تأليف العلّامة الحكيم السيد محمد حسين الطباطبائي ، من رجالات الفكر الإسلامي القلائل الذين انتجتهم الحياة العلمية الإسلامية في العصر الأخير. ولد بتبريز سنة (١٣٢١ ه‍) وتوفّي بقم سنة (١٤٠٢ ه‍).

وهو تفسير جامع حافل بمباحث نظريّة تحليليّة ذات صبغة فلسفية في الأغلب ، جمع فيه المؤلّف إلى جانب الأنماط التفسيرية السائدة ، أمورا مما أثارته النّهضة الحديثة في التفسير ، فقد تصدّى لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات ، وما يضلّلون به من تشويه للمفاهيم الإسلامية ، بروح اجتماعية واعية ، على أساس من القرآن الكريم ، وفهم عميق لنصوصه الحكيمة.

ولهذا التفسير القيّم مزايا جمّة نشير إلى أهمّها :

١ ـ جمع بين نمطي التفسير : الموضوعي والترتيبي ، فقد فسّر القرآن آية فآية وسورة فسورة. لكنه إلى جنب ذلك ، نراه يجمع الآيات المتناسبة بعضها مع البعض ، ليبحث عن الموضوع الجامع بينها ، كلما مرّ بآية ذات هدف موضوعي ، وكانت لها نظائر منبثّة في سائر القرآن.

٢ ـ عنايته التامّة بجانب الوحدة الموضوعية السائدة في القرآن ، كل سورة هي ذات هدف أو أهداف معيّنة ، هى تشكّل بنيان السورة بالذات ، فلا تتم السورة إلّا

__________________

(١) راجع : في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٦٠ ، ج ٢ ، ص ٩٤.

٤٧٠

عند اكتمال الهدف الموضوعي الذي رامته السورة ، وبذلك نجد السور تتفاوت في عدد آيها. يقول هو في ذلك : «إن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه تعالى التي فصّلها قطعا قطعا وسمّى كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف والالتئام ، لا يوجد بين أبعاض من سورة ، ولا بين سورة وسورة ، ومن هنا نعلم أن الأغراض والمقاصد المحصّلة من السور مختلفة ، وأنّ كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص ولغرض محصّل ، لا تتمّ السورة إلّا بتمامه» (١).

٣ ـ نظريّة «الوحدة الكليّة» الحاكمة على القرآن كلّه ، باشتماله على روح كلية سارية في جميع آياته وسوره ، وتلك الروح هي التي تشكّل حقيقة القرآن الأصلية السائدة على أبعاضه وأجزائه. يرى المؤلّف : أنّ وراء هذا الظاهر من ألفاظ وكلمات وحروف روحا كليّة ، كانت هي جوهر القرآن الأصيل ، وكانت بمثابة الروح في الجسد من الإنسان.

قال في ذلك : «فالمحصل من الآيات الشريفة أنّ وراء ما نقرؤه ونعقله من القرآن ، أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد ، والمتمثل من المثال ، وهو الذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم ، وهو الذي تعتمد عليه معارف القرآن ، وليس من سنخ الألفاظ ولا المعاني» (٢).

وبذلك وبالذي قبله ، تتشكّل وحدة السياق في القرآن ، كما لا يخفى.

٤ ـ الاستعانة بمنهج «تفسير القرآن بالقرآن». فقد حقق المؤلف هذا الأمر وأوجده بعيان ؛ اذ نراه يعتمد في تفسيره على القرآن ذاته ، فيرى أنّ غير القرآن غير صالح لتفسير القرآن ، بعد أن كان هو تبيانا لكل شيء فيا ترى كيف يكون

__________________

(١) الميزان ، ج ١ ، ص ١٤ (ط. طهران) وص ١٦ (ط. بيروت).

(٢) الميزان ، ج ٣ ، ص ٥٥.

٤٧١

القرآن تبيانا لكل شيء ولا يكون تبيانا لنفسه؟!

لكن التزام تفسير القرآن بنفسه ، يتطلّب جهدا بالغا وإحاطة تامة ، وقد لمسناه في مفسّرنا العلّامة ، ووجدناه على قدرة فائقة في ذلك.

يقول هو في ذلك : «الطريقة المرضية في التفسير هي أن نفسّر القرآن بالقرآن ، ونشخص المصاديق ونتعرّفها بالخواصّ التي تعطيها الآيات ، كما قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١) وحاشا القرآن أن يكون تبيانا لكل شيء ولا يكون تبيانا لنفسه (٢).

الفرقان في تفسير القرآن

تأليف الشيخ محمد الصادقي الطهراني ، وقد تمّ تأليفه خلال السنوات (١٣٩٧ ـ ١٤٠٧ ه‍) ، وكان بصورة محاضرات يلقيها على طلبة العلوم الدينية في الحوزتين النجف وقم. وهو تفسير جامع شامل ، اتخذ منهج تفسير القرآن بالقرآن حسب الإمكان ، وهو تحليلي تربوي اجتماعي ، مع الاستناد إلى أحاديث يراها صحيحة وأخرى ملائمة مع ظواهر القرآن ، ولذا احترز عن الإسرائيليات بشكل قاطع ، وكذا عن الأحاديث الموضوعة والضعيفة. وبما أنّ المؤلّف يعدّ من الفقهاء ، فإن في تفسيره الشيء الكثير من التعرّض لمسائل الفقه والأحكام بصورة مبسّطة ، وهكذا تجده يفصّل في المسائل الكلامية الاعتقادية في نزاهة ، كما ويجتنب تحميل القرآن بنظرات العلم الحديث ، ويرى أنّ القرآن في غنى عن ذلك ، اللهم إلّا إذا رفع بذلك إبهام في إشارات عابرة جاءت في القرآن ، على

__________________

(١) النحل / ٨٩.

(٢) الميزان ، ج ١ ، ص ٩.

٤٧٢

شرط أن تكون النظرية ثابتة ؛ ولذلك نراه يحمل على الشيخ طنطاوي في ولعه بحمل النظريات العلمية على القرآن. وفي ذلك يقول : «ومن ذلك كثير عند المتفرنجين من المفسّرين الذين غرقوا في العلوم والنظريات الجديدة ، ونسوا أنّ القرآن هو علم الله ، فلن يتبدّل ، والعلم دوما في تبدّل وتحوّل من خطأ إلى صواب ومن صواب إلى أصوب» (١).

من هدى القرآن

تفسير تربوي تحليلي شامل ، يبحث فيه المؤلف هو السيد محمد تقي المدرسي عن الربط الموضوعي بين الواقع المعاش ، وبين الحقائق الراهنة والدلائل البيّنة التي أبانها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا ، كمنهج تربوي وأخلاقي ، يستهدف وضع الحلول الناجعة لكل مشكلات العصور المختلفة حتى قيام الساعة. قال المؤلف : «واعتمدت فيه على منهج التدبّر المباشر ، انطلاقا مما بيّنته في التمهيد ، أي منهج الاستلهام مباشرة من الآيات ، والعودة إلى القرآن ذاته ، كلما قصرنا عن فهم بعض آياته وفق المنهج الذي علّمنا إياه الرسول الكريم وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام حيث أمرونا بتفسير القرآن ببعضه» (٢) فكان تفسيرا تحليليا تربويا ، لم توجد فيه المعمعات الجدلية ، ولا الخرافات الإسرائيلية ، معتمدا شرح الآيات وذكر مقاصدها العالية وأهدافها السامية ، ومعالجة أدواء المجتمع معالجة ناجعة موفّقة.

تمّ تأليف الكتاب سنة (١٤٠٥ ه‍) ، في (١٨) مجلّدا ، وطبع سنة (١٤٠٦)

__________________

(١) الفرقان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٣١.

(٢) من هدى القرآن ، ج ١ ، ص ٥.

٤٧٣

بطهران.

من وحي القرآن

تفسير تربوي اجتماعي شامل ، ويعدّ من أروع التفاسير الجامعة ، النابعة من روح حركيّة نابضة بالحيويّة الإسلامية العريقة. انطلق فيه المؤلف هو السيد محمد حسين فضل الله ، من ألمع علماء الإسلام في القطر اللبناني يعمل في إحياء الجوّ القرآني في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية ، نظير ما صنعه سيد قطب في تفسيره «في ضلال» ، مضيفا عليه تعاليم صادرة عن أهل البيت في تربية الجيل المسلم ، ومتناسبا مع كل دور من أدوار الزمان.

وقد بدأ المؤلف بمقدمة في بيان هدفه من التفسير والخطوات الأساسية التي مشى عليها ، قال : «هل هذا كتاب تفسير ، وهل نحن بحاجة إلى تفسير جديد أمام هذا الحشد من التفاسير ، التي لم تترك جانبا من جوانب المعرفة القرآنية ، إلّا وأفاضت في تحليله وتوسيعه وتعميقه ، من الجوانب اللغوية ، إلى الجوانب البلاغية والفلسفية ، والنفسية والاجتماعية ... وما تزال المحاولات مستمرة في استحداث آفاق جديدة لتفاسير جديدة؟ والجواب : إننا لم نكتب هذه الأبحاث في البداية كمحاولة تفسيرية جديدة ، بل كانت دروسا قرآنية تلقى على مجموعة من الطلاب المؤمنين المثقفين ، من أجل خلق وعي قرآني يركّز الوعي الإسلامي على قواعد ثابتة. انطلقت هذه الدروس في خط عملي متحرك يركّز على استيحاء أجواء القرآن ، من أجل أن نعيش تلك الأجواء في حياتنا الإسلامية الصاعدة ؛ لأن القرآن ليس كلمات لغوية تتجمّد في معناها اللغوي ، بل هي كلمات

٤٧٤

تتحرّك في أجواء روحية وعملية ...» (١).

ومن ثم يغلب على التفسير الطابع التربوي بما لكلمة التربية من معنى اصطلاحي ، يتجسّد في الارتقاء بالإنسان في كل مجالاته المختلفة ، ويسعى إلى إحداث عملية التكيّف والتفاعل بين الكائن الآدمي وبيئته الطبيعية والاجتماعية ، لتحقيق خلافة الله في الأرض (٢).

وهكذا يمتاز هذا التفسير بأسلوبه الأدبي الرائع ، مع المزج بينه وبين الأسلوب العلمي المتأدّب النزيه ، مما يجعل الكتاب رائعا يجذب القارئ إليه جذبا ، ويجعله يتفاعل معه مغرما به.

وقد تم تأليف هذا التفسير القيم عام (١٣٩٩ ه‍) ، وطبع عدة طبعات ، ولا تزال تعاد طبعاته ، حسب رغبة الجيل المثقّف من الأمّة في اقتنائه والاستضاءة بأنواره ، لا زال المؤلّف مؤيّدا مسدّدا.

تفسير نمونه (الأمثل)

هو أول تفسير نموذجي ظهر إلى الوجود ، وكان قد تعاون عليه جمع من فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة ؛ وذلك خلال مدة (١٤) سنة (١٣٩٦ ـ ١٤١٠ ه‍) ولهذا كان التفسير عملا جماعيّا ، قد بذلت في تدوينه جهود ، ولكن تحت إشراف العلّامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، أحد أعلام العصر ، ومن المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية ، صاحب تآليف إسلامية عريقة ، وصاحب نظر ورأي واجتهاد.

__________________

(١) تفسير من وحي القرآن ، ج ١ ، ص ٨.

(٢) رسالة القرآن ، العدد الرابع ، مقال : الملامح العامة لتفسير «من وحي القرآن» ، ص ٥٩.

٤٧٥

وهذا التفسير إنما دوّن وكتب ليكون غذاء نافعا للجيل المعاصر ؛ ولذلك جاء بالأهم من المواضيع الإسلامية ، التربوية والأخلاقية ، ومتناسبا مع المستوى العام ، فكانت خدمة جليلة أسداها الشيخ مكارم وأعوانه ، وقدّموها للجيل المتعطّش إلى فهم معاني القرآن بشكل واسع ، والاستقاء من مناهله العذبة. جاء في المقدمة : «لكل عصر خصائصه وضروراته ومتطلباته ، وهي تنطلق من الأوضاع الاجتماعية والفكرية السائدة في ذلك العصر ، ولكل عصر مشاكله وملابساته الناتجة عن تغيير المجتمعات والثقافات ، وهو تغيير لا ينفك عن مسيرة المجتمع التاريخية ، والمفكر الفاعل في الحياة الاجتماعية ، هو ذلك الذي فهم الضرورات والمتطلبات ، وأدرك المشاكل والملابسات. وقد واجهنا دوما أسئلة وردت إلينا من مختلف الفئات ، وخاصّة الشباب المتعطّش إلى نبع القرآن عن التفسير الأفضل ، كانت هذه الأسئلة تنطوي ضمنيا على بحث عن تفسير يبيّن عظمة القرآن عن تحقيق لا عن تقليد ، ويجيب على ما في الساحة من احتياجات وتطلّعات وآلام وآمال. تفسير يجدي كل الفئات ، ويخلو عن المصطلحات العلمية المعقّدة ، ونحن نفتقر إلى تفسير مثل هذا. فالسلف والمعاصرون كتبوا في ذلك كثيرا ، ولكنها بأساليب خاصة بالعلماء والأدباء ، وعلى مستويات رفيعة» (١). فمن هنا لم يجدوا بدّا من الإقدام على مثل هذا التفسير بهذا الشكل الصالح للفهم العام ، الأمر الذي يجعل من هذا التفسير على أهمية كبرى في سبيل التثقيف العام ، خدمة جليلة مشكورة.

وهذا التفسير قد كتب بالفارسية في (٢٧) مجلدا ، وترجم إلى العربيّة باسم «الأمثل» في (٢٠) مجلدا. وطبع عدة مرات.

__________________

(١) الأمثل ، ج ١ ، ص ١١.

٤٧٦

الكاشف

للكاتب العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية ، من كبار علماء لبنان (١٣٢٢ ـ ١٤٠٠ ه‍) المتخرّجين من حوزة النجف الأشرف. عيّن قاضيا شرعيّا في بيروت ، ثم مستشارا للمحكمة العليا ، فرئيسا لها بالوكالة. وعرضت عليه الرئاسة ، لكنّه رفض وانعزل ، وانصرف إلى التأليف ، فأخرج العديد من المؤلّفات ذوات الاعتبار ، منها هذا التفسير القيّم ، أخرجه في سبع مجلدات ، وطبع عدّة طبعات.

وكان الشيخ مغنية من الدعاة إلى التقريب بين المذاهب ، وكتب رسالات ومقالات في مجلّة «رسالة الإسلام» بهذا الشأن ، وأحسن وأفاد.

ويعدّ تفسيره هذا من النمط الجديد ، الذي يتلائم وحاجة المسلمين في هذا العصر. ولقد أجاد في هذا المضمار ، وأوجز الكلام حول مفاهيم القرآن الكريم المتوافقة مع متطلّبات الزمن ، في عبارات شيّقة رصينة ، ودلائل متينة معقولة ، من غير أن يتغافل عمّا حقّقه المفسرون السلف وزاد عليه الخلف. فكان تفسيرا جامعا وشاملا ومجيبا على أسئلة الجيل الحديث ، فجزاه الله خير الجزاء.

وهناك تفسير آخر بنفس الاسم «كاشف» تفسير فارسي ، تعاون على تأليفه ، كلّ من الأستاذ السيّد محمد باقر حجتي ، والأستاذ عبد الكريم الشيرازي ، من أساتذة جامعة طهران. يقع في ١٢ مجلدا ، وطبع منذ عام (١٤٠٤ ه‍) عدة طبعات.

ويعدّ تفسيرا جديدا في بيان الشكل الموزون لسور القرآن ونظمها ، ومناسبات الآيات والسور وتبيينها وتفسيرها ، مع الاهتمام بالبيان اللّغوي ، وترجمة تفسيريّة موجزة ، وذكر الصور والأشكال والجداول الإحصائيّة والرسوم الجغرافية لتوضيح المعنى ، مما تتطلّبه حاجة الطلبة الجامعيين اليوم وقد حاولا

٤٧٧

جهدهما في عرض معلومات قرآنية هي بحاجة للجيل الجديد ، مما لا يتاح غالبا العثور عليها في سائر التفاسير أو هي بعيدة عن متناول الشباب المثقّف في العصر الحاضر. فقد كانا موفّقين في هذا الهدف السامي ، جزاهما الله خيرا.

مخزن العرفان

تفسير حافل جامع ، هو من خير التفاسير التي أنتجها الجيل الجديد ، في أسلوب رائع بديع ، في خمسة عشر مجلدا ، باللغة الفارسيّة السهلة السلسة ، وضعتها مفخرة النساء الإيرانيّات ، السيدة نصرت بنت السيد محمد على أمين ، من كبار علماء أصفهان.

وقد تفرّدت أصفهان من بين البلاد الإسلاميّة ، بهذه السيّدة الجليلة ، التي انصرفت بمجهودها نحو العلوم الإسلاميّة ، حتى نالت درجة عالية من الاجتهاد في الفقاهة وفي سائر العلوم الأدبيّة والفلسفية والعرفان ، في أرقى درجات.

وهذه السيدة المعروفة ب «بانو امين» قد بذلت جهدها البالغ في تربية النساء الفاضلات في شتى مناحي إيران الإسلامية. وقد ازدهر البلاد بكثرة من هذه النساء العالمات ، ولا تزال تزدهر البلاد بالتوسّع في سبيل تثقيف المرأة المسلمة ثقافة إسلامية عريقة ورائقة ؛ كلّ ذلك بفضل جهود هذه السيدة الفاضلة الواعية.

وتوفّيت سنة (١٤٠٣ ه‍) عن عمر ناهز التسعين ، فلقد عاشت سعيدة وماتت حميدة. فرحمة الله عليها وبارك في علمها باقيات صالحات.

ولها في شتّى العلوم والمعارف الإسلاميّة كتب ورسائل قيّمه ، لا تزال موضع انتفاع طلّاب العلم وروّاد المعرفة.

والتفسير وضع على أسلوب تربويّ ، يعمد إلى تزكية النفس ، ثم إلى تهذيب الأخلاق ، في شكل جيّد بديع. ويعدّ من خير الآثار ، فجزاها الله خير الجزاء

٤٧٨

الصالحات.

وهناك تفاسير أخر باللّغتين الفارسيّة والعربيّة ، دوّنت أخيرا على أثر النهضة الدينيّة والحركة الثقافية ، في ربوع إيران الإسلامية. نطوي الكلام عن ذكرها ، ونحيل الطالب إلى ما جمعه الفاضل العلامة السيد محمد على أيازي في موسوعته القيّمة «المفسّرون حياتهم ومنهجهم». وهو كتاب حافل جامع لأنواع التفاسير التي زخرت بها البلاد الإسلامية ولا سيّما في العصر الحاضر ، جزاه الله خيرا.

٤٧٩

تفاسير أدبيّة

هناك تفاسير غلب عليها الطابع الأدبي ، النحو والبلاغة وسائر علوم اللغة ، وامتازت بالتعرّض لهذه الجوانب من تفسير القرآن ، نذكر الأهم منها :

الكشّاف

للعلامة جار الله الزمخشري. هو أبو القاسم ، محمود بن عمر الخوارزمي. ولد سنة (٤٦٧) وتوفي سنة (٥٣٨ ه‍) كان معتزلي الاعتقاد ، متجاهرا بعقيدته ، وبنى تفسيره هذا على مذهب الاعتزال ، طاعنا في تفاسير حادت عن جادّة العقل بظواهر هي متنافية مع نصّ الشرع. وهو تفسير قيّم لم يسبق له نظير في الكشف عن جمال القرآن وبلاغته وسحر بيانه ، فقد امتاز المؤلّف بإلمامه بلغة العرب والمعرفة بأشعارهم والإحاطة بعلوم البلاغة والبيان والإعراب. ولقد أضفى هذا النبوغ العلمي الأدبي على تفسير الكشاف ثوبا جميلا ، لفت إليه أنظار العلماء ، وعلق به قلوب المفسرين ، ومن ثمّ أثنى عليه كثير من أولي البصائر في الأدب والتفسير والكلام. غير أن أصحاب الرأي الأشعري نقموا عليه صراحته بمذهب الاعتزال ، وتأويله لكثير من ظواهر الآيات المنافية مع دليل العقل.

إنّ نظرة الزمخشري في دلالة الآيات الكريمة نظرة أدبيّة فاحصة ، وكان فهمه لمعاني الآيات فهما عميقا غير متأثر بمذهب كلامي خاص ، فهو لا ينظر في الآيات من زاوية مذهب الاعتزال ، كما رموه بذلك. بل من زاوية فهم إنسان حرّ ، عاقل أريب ، ويحلّل الآيات تحليلا أدبيّا في ذوق عربيّ أصيل ، الأمر الذي

٤٨٠