التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

الركود والجمود ـ لا يتعداها ، ولا يحاول التخلّص منها. حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة ، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى أن يتحرّروا من قيد هذا الركود ، ويتخلّصوا من نطاق هذا الجمود ، فنظروا في كتاب الله نظرة فاحصة من جديد وإن كان لها اعتماد كبير على ما دوّنه الأوائل في التفسير أثّرت في الاتّجاه التفسيري للقرآن تأثيرا ملموسا ، وغيّرت من اتجاهاته القديمة ، وألبسته ثوبا جديدا لا ينكر ؛ إذ عملت في التخلّص من كل الاستطرادات التي حشرت في التفسير حشرا ومزجت به على غير ضرورة لازمة ، وثابرت على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلية التي كادت تذهب بجمال القرآن وجلاله ، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على أصحابه والأئمة من بعده عليهم‌السلام وإلباس التفسير ثوبا أدبيّا اجتماعيا ، في صياغة جديدة أظهرت روعة القرآن وجمال بهائه ، كما كشفت عن كثير من مراميه الدقيقة وأهدافه السامية ، في تعرفة الإنسان والحياة والسياسة والاجتماع ، وهكذا حاولت التوفيق بجدّ بالغ وجهد بيّن ، بين ظواهر القرآن وما جدّ من نظريات علميّة صحيحة ، على تفاوت بين الموقفين في الغلوّ والاعتدال. كل ذلك من أجل أن يعرف المسلمون ومن ورائهم الناس جميعا أنّ القرآن هو الكتاب الخالد ، الذي يتمشّى مع الزمان في جميع أطواره ومراحله. ولقد أجادوا وأفادوا في هذا المجال ، ولكنّهم توسّعوا في ذلك ، وربّما بلغ ببعضهم حدّ الإفراط والغلوّ ، بما أخرجهم عن حدّ الاعتدال.

٤٤١

ألوان التفسير في العصر الحديث

كان الجري مع الزمن في التفسير استدعى تنوّعه مع تنوّع متطلّبات العصر ومتقلباته ، بما نستطيع أن نجمل القول في ألوان التفسير في العصر الحديث في الألوان الأربعة التالية ، وهي أهمها :

أولا : اللّون العلمي : وهو أوّل الألوان التي ظهرت إلى الوجود ، متأثّرا بمكتشفات العصر الحديث.

ثانيا : اللّون الأدبي الاجتماعي : وهو ثاني الألوان ، المتأثّر بالأدب المعاصر ، والمظاهر الاجتماعية الحاضرة.

ثالثا : اللّون السياسي : وقد ظهر هذا اللّون على أثر التشعّبات الحزبيّة السياسيّة الحديثة في المجتمع الإسلامي.

رابعا : اللّون العقلي : فقد رافقت الألوان المتقدّمة هذا اللون من التفسير العقلي ، الذي كان فيه بعض المحاولات لتأويل آيات ، كانت بظاهرها متنافية مع مظاهر العلم أو العقيدة الإلحادية ، التي أورثتها النهضة الصناعية العلمية ، منذ القرن التاسع عشر للميلاد.

وإليك بعض الكلام عن اللّونين العلمي والأدبي الاجتماعي ، فقد ازدهر العصر الحديث بهما ، نتيجة الوعي الديني الذي ساد أكثر أبناء هذا العصر. أمّا اللّونان الآخران : السياسي والعقلي ، فهما حصيلة أفكار سياسية متطرفة وأخرى إلحادية كافرة ، سيطرت على نفوس ضعيفة ، أو تشكّلات حزبية منحرفة ، ولم تكن لهم تفاسير شاملة ، سوى بضع آيات التقطوها ، كانت من المتشابهات ، ومن ثمّ اتبعوها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها. فهي تفاسير مقطوعة الدابر منبوذة لا يعتدّ بها ، فلم نعتمدها ولا كان لها شأن.

٤٤٢

١ ـ اللّون العلمي

إن هذا اللّون من التفسير الذي يرمي إلى جعل القرآن مشتملا على إشارات عابرة إلى كثير من أسرار الطبيعية ، الّتي كشف عنها العلم الحديث ، ولا تزال على مسرح الاكتشاف قد استشرى أمره في العصر الأخير ، وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية وشغف بالعلوم ، إلى جنب عنايتهم بالقرآن الكريم. وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية الخاصّة ، الّتي تسلّطت على قلوب أصحابها ، أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيرا من الكتب والرسائل التي يحاول أصحابها فيها أن يحمّلوا القرآن كثيرا من علوم الأرض والسماء ، وأن يجعلوه دالّا عليها بطريق التصريح أو التلميح ، اعتقادا منهم أنّ هذا بيان لناحية من أهم نواحي صدقه ، وإعجازه ، وصلاحيته للبقاء.

أهم الكتب التي عنيت بهذا اللّون

من أهم هذه الكتب التي ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية ، كتاب «كشف الأسرار النورانية القرآنية ، فيما يتعلق بالأجرام السماوية ، والأرضية ، والحيوانات ، والنباتات ، والجواهر المعدنية» تأليف الطبيب الفاضل محمد بن أحمد الإسكندراني ، أحد رجال القرن الثالث عشر الهجري ، برع في الطب الروحاني والجسماني ، وكانت له علاقة شديدة في دفع شبهات الأجانب التي كانت تثار ضد الدين ، وكان له إلمام بالعلوم الحديثة التي كانت معروفة على عهده ، من طب وصناعة ، والعلوم الطبيعية والكيمياء ، وطبقات الأرض والحيوان والنبات. ومن ثمّ حاول إثبات أن لا منافاة بين الدين والعلم ، بل أنّ أحدهما ليكمّل الآخر ويؤيّده. توفي سنة (١٣٠٦ ه‍).

٤٤٣

وكتابه هذا من أوّليات الكتب التي ظهرت في هذا الشأن ، وهو كتاب كبير الحجم ، يقع في ثلاث مجلدات ، لكن من غير أن يستوعب جميع آي القرآن ، سوى ما يتعلق بموضوع دراسته الخاصة. بحث في الجزء الأول عن الحياة وخلق الأحياء في الأرض ، وفي الجزء الثاني ، عن الأجرام السماويّة وعن مظاهر الكون في الأرض والسماء ، وفي الجزء الثالث ، عن أسرار النباتات والمعادن ، وما إلى ذلك.

وقد ذكر الإسكندراني في هذا الكتاب أنّ القرآن يحتوي على علوم جمّة ، على ما جدّ من نظرات علميّة تؤيّد إعجاز القرآن ، ويثبت أنّ عصر العلم الذي يتحدثون عنه قد بيّنه القرآن في صورة حقائق الكون ، وخلق الحيوان ، وأسرار النباتات والمعادن.

وأبان في المقدمة غرضه من هذا التأليف ، قائلا :

«وكنت منذ زالت عني تمائم الطفولية ، ونيطت بي عمائم الرجولية ، ممن شغف بتعلّم الطب ليالي وأياما ، أنهمك في دراسته على قدر الطاقة سنين وأعواما ، ثم أقمت بدمشق الشام معتنيا بمداواة أهلها الأماثل الأعلام ، إلى أن اجتمعت في محفل سنة (١٢٩٠ ه‍) كان حافلا ببعض الأطباء المسيحيّين ، فشرعوا يتحادثون في كيفية تكوّن الأحجار الفحميّة ، وفي أنها هل أشير إليها في التوراة والإنجيل أم لا؟ فلم يحصلوا على شيء ، لا صريحا ولا إشارة ، ثم وجّهوا إلىّ السؤال عن القرآن الكريم هل فيه إشارة إلى ذلك؟ فتصدّرت للجواب وتلطّفت في التفهيم والخطاب ، قدر طاقتي ووسعي ، وتتبّعت كلام كثير من العلماء ، وتفرّدت في طلبه من كتب التفسير والطب ، مع زيادة الاجتهاد».

وهو كتاب لطيف في بابه ، طريف في أسلوبه ، اعتمد فيه آراء القدماء والمحدثين ، وجدّ في ذلك حسب إمكانه ، وأفاد ، جزاه الله خيرا.

٤٤٤

وهناك مختصرات في هذا الشأن كثيرة جرت على نفس المنوال ، فهناك الأطباء والمهندسون وعلماء اختصاصيون كانت لهم عناية بالدين وبالقرآن الكريم ، حاول كلّ حسب وسعه وحسب طاقته العلمية ، في الإبانة عن وجه إعجاز القرآن ، من ناحية اختصاصه. والكتب والرسائل من هذا القبيل كثيرة ومنبثّة ، ربّما تفوق الحصر ، ولا تزال تزداد حسب اطّراد الزمان (١).

وفي العلماء الدينيين أيضا كثير ممن قام بهذا الأمر ، وكتب في جوانب علمية من القرآن الكريم ، أمثال العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني المتوفّى سنة (١٣٨٦ ه‍) قام بتأليف رسالة يقارن فيها بعض مسائل الهيأة والفلكيات حسب إشارات جاءت في الشريعة وفي نصوص القرآن الكريم. طبعت طبعتها الأولى في بغداد سنة (١٣٢٨ ه‍) وترجمت عدة ترجمات منها بالفارسية ، مما يدل على إعجاب العلماء بهذا الكتاب.

ورسالة الأستاذ عبد الله باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيأة. طبعت بالقاهرة سنة (١٣١٥ ه‍).

ورسالة السيد عبد الله الكواكبي ، وهي عبارة عن مجموعة مقالات له ، نشرها في بعض الصحف عند ما زار مصر سنة (١٣١٨ ه‍) ثم جمعت ضمن كتاب باسم «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».

ورسالة إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعي ، عقد فيه بحثا عن

__________________

(١) لديّ رسالتان قيّمتان فيما يخص مسائل الطب والقرآن الكريم ، إحداهما : «القرآن والطب الحديث» تأليف صديقنا الفاضل الدكتور صادق عبد الرضا علي ، طبعت في بيروت.

والأخرى : «مع الطب في القرآن الكريم» تأليف الدكتورين عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز ، طبعت في دمشق. رسالة أعدّت لنيل إجازة دكتورا في الطب.

٤٤٥

القرآن والعلوم.

ورسالة الأستاذ رشيد رشدي العابري ، مدرس الجغرافية في ثانوية التفيّض ببغداد ، قام بنشرها سنة (١٩٥١ م).

ورسائل من هذا القبيل مبثوثة فوق حد الإحصاء.

هذا ، وأكثر علماء العصر الحديث نزعة إلى التفسير العلمي ، وأكبرهم انتاجا هو الشيخ طنطاوي جوهري ، فإنه أكثر من جمع في هذا المجال وأطال في تفسيره «الجواهر» وربما أسهب بما يخرجه عن طور التفسير أحيانا. يقع في خمسة وعشرين جزءا ، وألحقه بجزء آخر هو المتمم للجزء السادس والعشرين. وإليك بعض الكلام عن هذا التفسير العجيب.

الجواهر في تفسير القرآن للطنطاوي

هو الشيخ طنطاوي بن جوهري المصري ، توفّي سنة (١٣٥٨ ه‍). وتفسيره هذا يعتبر أطول وأول من فسر القرآن الكريم في ضوء العلم الحديث ، ومن قبله محمد أحمد الإسكندراني ، ولكنه بصورة غير شاملة ، وكذلك جاء بعده مفسرا للقرآن بطريقة علمية حديثة محمد عبد المنعم الجمال في صورة أوجز ، حسبما يأتي.

ويرى الشيخ الجوهري أنّ معجزات القرآن العلميّة لا زالت تنكشف يوما بعد يوم ، كلّما تقدّمت العلوم والاكتشافات ، وأنّ كثيرا من كنوز القرآن العلميّة ما زالت مذخورة ، يكشف عنها العلم شيئا فشيئا على مرّ العصور.

والشيخ الجوهري كان منذ صباه مولعا بهكذا كشائف علميّة دينيّة ، مغرما بالعجائب الكونيّة ، ومعجبا بالبدائع الطبيعية ، مشوّقا إلى ما في السماء والأرض من جمال وكمال وبهاء كمال يقول هو عن نفسه قال في مقدّمة تفسيره :

٤٤٦

«لمّا تأمّلت الأمّة الإسلامية ، وتعاليمها الدينية ، ألفيت أكثر العقلاء وبعض أجلّة العلماء ، عن تلك المعاني معرضين ، وعن التفرّج عليها ساهين لاهين ، فقليل منهم من فكّر في خلق العوالم وما أودع فيها من الغرائب. فأخذت أؤلّف كتبا لذلك شتّى ، كنظام العالم والأمم ، وجواهر العلوم ، والتاج المرصّع ، وجمال العالم ... ومزجت فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية ، وجعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع ...» (١).

لكنه وجد أنّ هذه الكتب رغم كثرتها وانتشارها وترجمتها إلى اللغات الأخرى كالأوردية والقازانية الروسية لم تشف غليله ، فتوجّه إلى الله أن يوفّقه إلى تفسير القرآن تفسيرا ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم ، فوفّقه الله لتحرير هذا التفسير الجليل.

ومفسرنا هذا يقرّر في تفسره أنّ في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين (٧٥٠) آية ، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين (١٥٠) آية (٢).

ونجده كثيرا ما يهيب بالمسلمين أن يتأمّلوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون ، ويحثّهم على العمل بما فيها ، ويندّد بمن يغفل هذه الآيات على كثرتها ، وينعى على من أغفلها من السابقين الأوّلين.

منهج المؤلف في التفسير

إنه يذكر الآيات فيفسّرها أوّلا لفظيّا مختصرا ، لا يكاد يخرج بذلك عمّا في كتب التفسير المألوفة ، لكنّه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذي يسمّيه تفسيرا

__________________

(١) الجواهر في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٢.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٣.

٤٤٧

لفظيّا ويدخل في أبحاث علمية مستفيضة ، يسمّيها لطائف أو جواهر. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة آراء علماء الشرق ، والغرب في العصر الحديث ، ليبين للمسلمين وغيرهم أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ، ونبّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء. ونجده يضع لنا في تفسيره كثيرا من صور النباتات ، والحيوانات ، ومناظر الطبيعة ، وتجارب العلوم ، بقصد أن يوضّح للقارئ ما يقول ، توضيحا ، يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس ، ولقد أفرط في ذلك ، وجاز حدّ المجاز.

ومما يؤخذ عليه : أنه قد يشرح بعض الحقائق الدينيّة بما جاء عن أفلاطون في جمهوريّته ، أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم ، وهو حين ينقلها يبدي رضاه عنها وتصديقه بها ، في حين أنها تخالف في ظاهرها ما عليه أصحابه السلفيّون الأشاعرة (١).

وهكذا نراه قد يستخرج كثيرا من علوم القرآن بواسطة حساب الجمل ، الذي لا نكاد نصدّق بأنه يوصل إلى حقيقة ثابتة. قال الذهبي : وإنما هي عدوى تسرّبت من اليهود إلى المسلمين ، فتسلّطت على عقول الكثير منهم.

هذا ، وإنّا نجد المؤلف يفسّر آيات القرآن تفسيرا يقوم على نظريّات علميّة حديثة ، غير مستقرة في ذاتها ، ولم تمض فترة التثبّت منها ، وهذا ضرب من التكلّف ارتكبه المؤلّف ، إن لم يكن يذهب بغرض القرآن أحيانا ، فلا أقلّ من أن يذهب بروائه وبهائه.

__________________

(١) الأمر الذي جعل الحكومة السعودية أن أصدرت الأمر بمصادرة الكتاب ، وعدم السماح بدخوله إلى الحجاز. يجد القارئ ذلك في نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبد العزيز آل سعود في الجزء ٢٥ ، ص ٢٣٨.

٤٤٨

وتكفيك مراجعة عبرى إلى هذا التفسير لكي تعرف مغزى هذا النقد الخطير ، وقد أتى الذهبي بنماذج من هذا النمط العليل ، واستنتج أخيرا : أنّ الكتاب في ذاته موسوعة علمية ، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر ، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الإمام الرازي ؛ إذ قيل عنه : «فيه كل شيء إلّا التفسير» بل هو أحقّ من تفسير الرازي بهذا الوصف وأولى به. وإن دلّ الكتاب على شيء ، فهو أنّ المؤلف إنما يحلّق في أجواء خياله ، ويسبح حسب زعمه في ملكوت السماوات والأرض ، ويطوف في نواح شتى من العلم بفكره وعقله ، ليجلّي للناس آيات الله في الآفاق والأنفس ، وليظهر لهم أنّ القرآن قد جاء بكل ما جاء به الإنسان من علوم ونظريّات ، تحقيقا لقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١). ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده ، وانحراف به عن هدفه ، ولعله إطاحة بشأنه في كير من الأحيان ، ويبدو من خلال التفسير أنّه لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه هذا الذي سلكه في تفسيره ، ولم تلق هذه النزعة التفسيريّة قبولا لدى كثير من المثقّفين.

التفسير الفريد

ويتلو تفسير الجواهر ، تفسير علمي آخر أوجز منه ، هو «التفسير الفريد» تأليف العالم الفقيه محمد عبد المنعم الجمال. تفسير تحليلي موجز ، شامل لجميع آيات القرآن ، اهتم مؤلفه بالتوفيق بين الدين والعلم ، وأن يفسّر القرآن على ضوء العلم الحديث ، مسترشدا في ذلك بأبحاث من العلماء والمفسرين ، من دون بسط واستطراد. يقول في المقدمة :

__________________

(١) الأنعام / ٣٨.

٤٤٩

«في سنة (١٩٤٩ م) اجتمعت في مدينة لندرة ببعض الإنجليز ، الذين أسلموا حديثا ، وكانوا يلحّون عليّ في أن أوافيهم ببعض التفاسير القرآنية ، فاضطررت إلى اقتناء بعض الكتب التي اهتمت بترجمة وتفسير الآيات القرآنية. وقد لاحظت على كثير منها. أنها لا تستجلي معاني القرآن ، أو لا تستوعب النواحي العلميّة. فسألت الله أن يوفّقني إلى تفسير كتابه على ضوء العلم الحديث».

ثم بيّن معيار التوفيق بين الدين والعلم ، وحدوده قائلا :

«ولا مشاحّة في أنّ العلوم مهما تقدّمت فهي عرضة للزلل ، فينبغي أن لا يطبّق على آياته الكريمة إلّا ما يكون قد ثبت منها قطعيا ، وكلّ نظريّة علميّة تختلف مع آية من آي الذكر الحكيم ، لا بدّ أنّها لم تصل بعد إلى سبر غور الحقيقة ، فلا زالت معجزات القرآن الكريم يكشفها العلم ، ولا زالت العلوم كلما تقدمت تجلو الغشاوات الّتي تحجب النور عن عيون الغافلين».

هذا وقد سلك المؤلف في تفسيره المسلك العلمي الاجتماعي ، الملائم للثقافة العربية في وقته ، بما يتيسر للناشئة من الشباب المثقّف التعرف إلى دين الإسلام ، والوقوف على أسرار القرآن وعظمته. وهو تفسير جيّد في ذاته ، سهل التناول لذوي الثقافات المختلفة ، خال عن الإطالة والاستطرادات المملّة ، جزى الله المؤلّف خيرا.

والتفسير يقع في أربع مجلّدات ، وطبع في القاهرة سنة (١٩٧٠ م) ، (١٣٩٠ ه‍).

٤٥٠

٢ ـ اللّون الأدبي الاجتماعي

يمتاز التفسير في هذا العصر ، بتلوّنه باللّون الأدبي الاجتماعي ، ونعني بذلك أنّ التفسير لم يعد يظهر عليه في هذا العصر ذلك الطابع التقليدي الجافّ ، من معالجة مسائل شكليّة ، كادت تصرف الناس عن هداية القرآن الكريم ، وانشغالهم بمباحث فارغة لا تمسّ روح القرآن وحقيقته. وإنّما ظهر عليه طابع آخر وتلوّن بلون يكاد يكون جديدا وطارئا على التفسير ، ذلك هو معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولا وقبل كل شيء على إظهار مواضع الدقة في التعبير القرآني ، ثم بعد ذلك تصاغ تلك المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شيّق أخّاذ ، ثم يطبّق النص القرآني على ما في الكون والحياة من سنن الاجتماع ونظم العمران.

هذه النهضة الأدبية الاجتماعية قامت بمجهود كبير في تفسير كتاب الله تعالى ، قرّبت القرآن إلى أفهام الناس ، في مستوى عام كان أقرب إلى الواقعية من الأمس الدابر.

وإليك من امتيازات هذه المدرسة التفسيرية الحديثة : إنها نظرت إلى القرآن نظرة بعيدة عن التأثّر بمذهب من المذاهب ، فلم يكن منها ما كان من كثير من المفسّرين القدامى من التأثر بالمذهب ، إلى درجة كانت تجعل القرآن تابعا لمذهبه ، فيؤوّل القرآن بما يتّفق معه ، وإن كان تأويلا متكلّفا وبعيدا.

كما أنها وقفت من الروايات الإسرائيليّة موقف الناقد البصير ، فلم تشوّه التفسير بما شوّه به في كثير من كتب المتقدمين ، من الروايات الخرافية المكذوبة ، التي أحاطت بجمال القرآن وجلاله ، فأساءت إليه وجرّأت الطاعنين عليه.

كذلك لم تغترّ هذه المدرسة بما اغترّ به كثير من المفسّرين من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ، التي كان لها أثر سيّئ في التفسير.

٤٥١

ولقد كان من أثر عدم اغترار هذه المدرسة بالروايات الإسرائيلية ، والأحاديث الموضوعة أنها لم تخض في تعيين ما أبهمه القرآن ، من مثل الحروف المقطّعة ، وبعض الألفاظ المبهمة الواردة في القرآن ، مما أبهمه القرآن إبهاما ، ولم تكن غاية في إظهاره حينذاك ، كما لم تجرأ على الخوض في الكلام عن الأمور الغيبيّة ، التي لا تعرف إلّا من جهة النصوص الصحيحة الصريحة ، بل قرّرت مبدأ الإيمان بما جاء من ذلك مجملا ، ومنعت من الخوض في التفصيلات والجزئيات ، في مثل الحياة البرزخية والجنة والنار والحور والقصور والغلمان وما شابه ذلك ، وهذا مبدأ سليم ، يقف حاجزا منيعا دون تسرّب شيء من خرافات الغيب المظنون ، إلى المقطوع والمعقول من العقائد.

كذلك نجد هذه المدرسة أبعدت التفسير عن التأثر باصطلاحات العلوم والفنون والفلسفة والكلام ، التي زجّ بها في التفسير ، بدون أن يكون في حاجة إليها ، ولم تتناول من ذلك إلّا بمقدار الحاجة ، وعلى حسب الضرورة فقط. هذه كلها من الناحية السلبية التي سلكتها هذه المدرسة.

وأمّا من الناحية الإيجابيّة ، فإنّ هذه المدرسة نهجت بالتفسير منهجا أدبيّا اجتماعيا ، فكشفت عن بلاغة القرآن وإعجازه في البيان ، وأوضحت معانيه ومراميه ، وأظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم ونظم الاجتماع ، وعالجت مشاكل الأمّة الإسلامية خاصّة ، ومشاكل الأمم عامّة ، بما أرشد إليه القرآن ، من هداية وتعاليم ، والتي جمعت بين خيري الدنيا والآخرة.

كما وفّقت بين القرآن وما أثبته العلم من نظريّات صحيحة وثابتة ، وجلت للناس أنّ القرآن كتاب الله الخالد ، الذي يستطيع أن يساير التطوّر الزمني والبشري ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

كما دفعت ما ورد من شبه على القرآن ، وفنّدت ما أثير حوله من شكوك

٤٥٢

وأوهام ، بحجج قويّة ، قذفت بها على الباطل فدمغته فإذا هو زاهق.

كل ذلك بأسلوب شيّق جذّاب يستهوي القارئ ، ويستولي على قلبه ، ويحبّب إليه النظر في كتاب الله ، ويرغّبه في الوقوف على معانيه وأسراره.

وأيضا فإنّ هذه المدرسة فتحت في وجه التفسير بابا كان مغلقا عليه ، منذ زمن سحيق ، إنها أعطت لعقلها حريّة واسعة النطاق ، وأتاحت للعقل والفكر البشري مجاله الواسع الذي منحه الله له ، ورغّبه في ذلك. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(١).

ومن ثمّ حكّمت العقل الرشيد على كل مظاهر الدين ، فتأوّلت ما ظاهره المنافاة مع الحقائق الشرعية الثابتة ، والتي دعمها العقل ، وعدلت بها عن إرادة الحقيقة إلى المجاز والتمثيل ، وبذلك وبهذه الحرية العقلية الواسعة ، جارت أهل العدل في تعاليمها وعقائدها ، والتي كان عليها السلف النابهون ، وقذفت بتعاليم الأشاعرة المتجمّدة وراء الظهور ، وبذلك لم تترك مجالا لأحاديث أهل الحشو أن تتدخّل في التفسير ، ولا في عقائد المسلمين في شيء من الأصول والفروع. فقد طعنت في بعض الأحاديث بالضعف تارة وبالوضع أخرى ، رغم ورودها في المجاميع الحديثية الكبرى ، أمثال البخاري ومسلم وغيرهما ؛ إذ أنّ خبر الواحد لا تثبت به عقيدة إجماعا ، ولا هو حجة في هذا الباب عند أرباب الأصول.

أهم روّاد هذه المدرسة

رائد هذه المدرسة الأول وزعيمها وعميدها ، هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، الذي بنى أساس هذا البنيان الرفيع ، وفتح باب الاجتهاد في التفسير بعد ما

__________________

(١) النحل / ٤٤.

٤٥٣

كان مغلقا طيلة قرون ، فقد نبذ طريقة التقليد السلفي ، وأعطى للعقل حريته في النقد والتمحيص. وسار على منهجه الأجلّاء من تلامذته ، أمثال السيد محمد رشيد رضا ، والشيخ محمد محمد القاسمي ، والشيخ أحمد مصطفى المراغي ، ومن جاء بعدهم جاريا على نفس التعاليم ، أمثال السيد قطب ، والشيخ محمد جواد مغنية ، والشيخ محمد الصادقي ، والسيد محمد حسين فضل الله ، والسيد محمد الشيرازي ، والشيخ سعيد حوى ، والأستاذ محمد علي الصابوني ، والسيد محمد تقي المدرسي ، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي. والذي فاق الجميع في هذا المجال ، هو العلامة الفيلسوف السيد محمد حسين الطباطبائي ، الذي حاز قصب السبق في هذا المضمار.

وإليك بعض الكلام عن أهم ما كتب من جلائل التفسير المدوّن في هذا العصر :

المنار (تفسير القرآن العظيم)

تفسير حافل جامع ولكنه غير كامل ، يشتمل على اثني عشر مجلدا وينتهي عند الآية (٥٣) من سورة يوسف. كان من أوّل القرآن إلى الآية (١٢٦) من سورة النساء بإنشاء الشيخ محمد عبده (المتوفى سنة ١٣٢٣ ه‍) وإملاء السيد رشيد رضا (المتوفّى سنة ١٣٥٤) ومن بعده سار السيّد في التفسير متّبعا منهج الشيخ في تفسيره للآيات حتى سورة يوسف.

كان الشيخ يلقي دروسه في التفسير بالجامع الأزهر على الطلاب لمدّة ست سنوات ، وكان السيد رشيد رضا يكتب ما سمعه ويزيد عليه بما ذاكره مع الشيخ ، وقام بنشر ما كتب في مجلته «المنار» وذلك بعد مراجعة الأستاذ ليقوم بتنقيحه وتهذيبه ، أو إضافة ما يكمله.

٤٥٤

قال الذهبي : كان الأستاذ الإمام ، هو الذي قام وحده من بين رجال الأزهر بالدعوة إلى التجديد ، والتحرّر من قيود التقليد ، فاستعمل عقله الحرّ في كتاباته وبحوثه ، ولم يجر على ما جمد عليه غيره من أفكار المتقدمين وأقوال السابقين ، فكان له من وراء ذلك آراء وأفكار خالف بها من سبقه. وهذه الحريّة العقلية ، وهذه الثورة على القديم ، كان لهما أثر بالغ في المنهج الذي نهجه الشيخ لنفسه ، وسار عليه في تفسيره (١).

قد رسم محمد عبده في تفسيره منهجا تربويّا للأمّة الإسلامية ، يبعث مقوّماتها ، ويثير أمجادها ، وينادي بآداب القرآن من الشجاعة والكرامة والحفاظ ، قد حارب جمود الفقهاء وتقليدهم ، وتقديم المذاهب على القرآن والسنّة مكانهما الأول من التشريع ، ودعا المسلمين إلى استخدام عقولهم وتفكيرهم (٢).

ومن خصائص هذا التفسير العناية بمشاكل المسلمين الحاضرة ، والتوجّه إلى معالجة أسباب تأخّر المجتمع الاسلامي ، وإلى إمكان بناء مجتمع قوي ، وعودة الأمّة إلى ثورة حقيقية قرآنية على أوضاعها المتخلفة ، ومواجهة الحياة مواجهة علمية صحيحة ، والعناية التامة إلى الأخذ بأسباب الحضارة الإسلامية من جديد ، ومواجهة أعدائها ، وردّ الغزوات الفكريّة الاستعمارية التي شنّت على الإسلام عقيدة وتاريخا وحضارة ورجالا ، ومناقشتها بالأدلة العلمية والوقائع التاريخيّة ، وتفنيدها وإثبات بطلانها من ذاتها.

ويتلخص منهج تفسير المنار في البنود التالية :

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٥٥٤ ـ ٥٥٥.

(٢) منهج الإمام محمد عبده ـ لشحاتة ـ المفسرون ، ص ٦٦٨.

٤٥٥

١ ـ الإسلام هو دين العقل والشريعة ، وهو مصدر الخير والصلاح الاجتماعي.

٢ ـ القرآن لا يتبع العقيدة ، وإنما تؤخذ العقيدة من القرآن.

٣ ـ عدم وجود تعارض بين القرآن والحقائق العلمية الراهنة.

٤ ـ اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة.

٥ ـ التحفظ في الأخذ بما سمّي بالتفسير المأثور ، والتحذير من الأقاصيص الإسرائيلية والمكذوبة.

٦ ـ عدم إغفاله الوقائع التاريخية ، والتي لها دخل في فهم معاني القرآن الكريم.

٧ ـ استعمال الذوق الأدبي النزيه في فهم مرامي الآيات الكريمة.

٨ ـ معالجته للمسائل الاجتماعية في الأخلاق والسلوك.

٩ ـ تفسيره للقرآن على ضوء العلم الحديث القطعي الثابت.

١٠ ـ حذره عن الخوض في الأمور المغيّبة عن الحسّ والإدراك.

١١ ـ موضعه النزيه تجاه سحر السحرة ، ولا سيما بالنسبة إلى التأثير في شخصية الرسول.

١٢ ـ موقفه الصحيح من روايات أهل الحشو ، حتى ولو كانت في الكتب الصحاح.

موقفه من حقيقة الملائكة والشياطين

ولقد كان من أثر إعطاء الشيخ عبده لنفسه الحريّة الواسعة في فهم القرآن الكريم ، أنّا نجده يخالف رأي جمهور أهل السنّة (١) ، ويذهب على خلاف مذهب

__________________

(١) راجع : الذهبي في التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٥٧٢.

٤٥٦

الأشعري في الأخذ بالظواهر والجمود عليها ، وترك الخوض في فهم حقيقتها أو تأويلها ، نراه يخالف هذا المسلك السلفي ، ويذهب إلى ما ذهب إليه أهل الرأي والنظر والتمحيص وأصحاب التأويل ، وقد عبّر عنهم الذهبي بالمعتزلة وليسوا هم وحدهم بل وأهل القول بالعدل وتحكيم العقل مطلقا فيرى من الملائكة والشياطين ، القوى الفعّالة المودعة في عالم الطبيعية ، في صالح الحياة أو فسادها ، أما إنها موجودات مستقلة ذوات شمائل وأعضاء كشمائل الإنسان وأعضائه ، حسب ما فهمه الظاهريّون من تعابير الشرع التي هي أمثال واستعارات فلا ، نظرا لأنها موجودات لا تسانخ وجود الإنسان بذاته ، ولا هي على شاكلته.

قال في قصة سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس (البقرة : ٣٤) :

«وذهب بعض المفسرين مذهبا آخر في فهم معنى الملائكة ، وهو : أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكّلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك ، فيه إيماء إلى الخاصّة بما هو أدقّ من ظاهر العبارة ، وهو أنّ هذا النموّ في النبات لم يكن إلّا بروح خاص ، نفخه الله في البذرة ، فكانت به الحياة النباتيّة المخصوصة ، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان ، فكلّ أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمّت به الحكمة الإلهية في إيجاده ، فإنّما قوامه بروح إلهي ، سمّي في لسان الشرع ملكا ، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسم هذه المعاني «القوى الطبيعية» ، إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلّا ما هو طبيعة ، أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة. والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه ، هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها ، وبه قوامها ونظامها ، لا يمكن لعاقل أن ينكره ، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكا ، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة ، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوّة طبيعية أو ناموسا طبيعيا ؛ لأنّ هذه الأسماء لم ترد في الشرع ، فالحقيقة واحدة والعاقل لا تحجبه الأسماء عن المسمّيات ، وإن

٤٥٧

كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه ، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ، ولكن أعرف قوّة لا أفهم حقيقتها ، ولا يعلم إلّا الله ، على م يختلف الناس ، وكل يقرّ بوجود شيء غير ما يرى ويحسّ ، ويعترف بأنه لا يفهمه حقّ الفهم ، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ وما ذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب ـ وقد اعترف بما غيب عنه ـ لو قال : أصدق بغيب أعرف أثره ، وإن كنت لا أقدر قدره ، فيتّفق مع المؤمنين بالغيب ، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي ، ويحظى بما يحظى به المؤمنون؟

«يشعر كل من فكّر في نفسه ، ووازن بين خواطره ، عند ما يهمّ بأمر فيه وجه للحقّ أو للخير ، ووجه للباطل أو للشر ، بأنّ في نفسه تنازعا ، كأنّ الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى ، فهذا يورد وذاك يدفع ، وأحد يقول : افعل ، وآخر يقول : لا تفعل ، حتى ينتصر أحد الطرفين ، ويترجّح أحد الخاطرين ، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا ونسمّيه : قوّة وفكرا ، وهي في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه ، وروح لا تكتنه حقيقتها ، لا يبعد أن يسمّيه الله ملكا ، أو يسمّى أسبابه ملائكة ، أو ما شاء من الأسماء ، فإنّ التسمية لا حجر فيها على الناس ، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة ، والسلطان النافذ والعلم الواسع!

قال : «فإذا صحّ الجري على هذا التفسير ، فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أنّ الله تعالى لما خلق الأرض ودبّرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها ، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من أنواع المخلوقات ، لا يتعدّاه ولا يتعدى ما حدّد له من الأثر الذي خصّ به ، خلق بعد ذلك الإنسان ، وأعطاه قوّة يكون بها مستعدّا للتصرف بجميع هذه القوى ، وتسخيرها في عمارة الأرض ، وعبّر عن تسخير هذه القوى له بالسجود ، الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير ، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حدّ له ، والتصرف الذي

٤٥٨

لم يعط لغيره ، خليفة الله في أرضه ؛ لأنه أكمل الموجودات في الأرض ، واستثنى من هذه القوى قوة واحدة ، عبّر عنها بإبليس ، وهي القوّة التي لزّها الله بهذا العالم لزّا ، وهي التي تميل بالمستعد للكمال ، أو بالكامل إلى النقص ، وتعارض مدّ الوجود لتردّه إلى العدم ، أو تقطع سبيل البقاء ، وتعود بالموجود إلى الفناء ، أو التي تعارض في اتّباع الحق ، وتصدّ عن عمل الخير ، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتمّ بها خلافته ، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خلق مستعدّا للوصول إليها ، تلك القوّة التي ضلّلت آثارها قوما فزعموا أنّ في العالم إلها يسمّى إله الشر ، وما هي بإله ، ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلّا هو.

قال : «ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل ، لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك ، والعمدة على اطمينان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق» (١).

ثم يعود في موضع آخر إلى تقرير التمثيل في القصة ، فيقول : «وتقرير التمثيل في القصّة على هذا المذهب هكذا : إنّ إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه الّتي بها قوامه ونظامه ، لوجود نوع من المخلوقات يتصرّف فيها ، فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض. وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض ؛ لأنه يعمل باختياره ، ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حدّ لهما ، هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك ، وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض. وتعليم آدم الأسماء كلها ، بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض ، وانتفاعه به

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٢٦٧ ـ ٢٦٩.

٤٥٩

في استعمارها. وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصّلهم في الجواب ، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته. وسجود الملائكة لآدم ، عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ، ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك. وإباء إبليس واستكباره عن السجود ، تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشّر وإبطال داعية خواطر السوء الّتي هي مثار التنازع والتخاصم ، والتعدي والإفساد في الأرض. ولو لا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم ، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري» (١).

انكاره على أهل الحديث في روايتهم للطامّات

ثم إنّ الشيخ عبده كان ممن يرى تساهل أهل الحديث في رواياتهم الغثّ والسمين ، غير مبالين في متونها أهي مخالفة لأصول العقيدة أم متنافية مع مباني الإسلام الركينة ، الأمر الذي يؤخذ على أهل الحشو في الحديث في ذلك.

قال بشأن قصة زكريا وبشارة الملائكة له بيحيى ، وطلبه من الله أن يجعل له آية :

«ومن سخافات بعض المفسرين زعمهم أنّ زكريا عليه‌السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم ، بوحي الشياطين ؛ ولذلك سأل سؤال التعجّب ، ثم طلب آية للتثبّت. وروى ابن جرير عن السدّي وعكرمة : أنّ الشيطان هو الّذي شكّكه في نداء الملائكة ، وقال له : إنّه من الشيطان ، قال : «ولو لا الجنون بالروايات مهما هزلت وسمجت ، لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف ، الذي ينبذه العقل ، وليس في الكتاب ما يشير إليه ، ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلّا هذا

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٤٦٠