التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

الرازي ترك وهن تلك الوجوه وقوّة هذه الدلائل بمعرض القارئ ومسمعه ، ليحكم هو حسب ذهنيّته الفطريّة الحاكمة بأنّ العبد مختار في فعله. والله تعالى لا يكلّف بما لا يستطاع ، الأمر الذي يجعل من دلائل أهل الاعتزال هي الكفّة الراجحة ، وهذا شيء فعله الإمام الرازي ، عن حسن نية وعن عمد فعله ـ حسب الظاهر ـ إذ الظاهر أنه ليسيء الظن بمذاهب أصحابه الأشعريين.

ومما يدلك على ذلك ، أنه لم يطعن في دلائل أهل الاعتزال ، وذكرها تامة وافية ، كما هي عادته في كل أمر يعتقده صحيحا.

ثم إنه بعد إيراد دلائل الطرفين ، أورد شبهاته في المسألة وذكر مقالات تشكيكيّة ، وأسندها إلى أهل التشكيك ، ممن فرضهم أهل العناد في مسائل الكلام.

قال : واعلم أنّ هذا البحث صار منشأ لضلالات عظيمة ، فمنها : أنّ منكري التكاليف والنبوّات قالوا : قد سمعنا كلام أهل الجبر ـ يعنى بهم الأشاعرة ـ فوجدناه قويّا قاطعا. وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ، ولا يلتفت العاقل إليهما! وسمعنا كلام المعتزلة في أنّ مع الجبر يقبح التكليف ، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا ، فصار مجموع الكلامين كلاما قويّا في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوّات.

هكذا يلقي التشكيك ، عند عرض الآراء ، سواء المخالف أم المؤالف.

ثم يذكر مطاعن أخر وجّهها الطاعنون في القرآن وفي الإسلام ، على أثر هذه المناظرة بين أهل الجبر والقدر ، ويستنتج : أنّ الرجوع إلى العقليّات يورث الكفر والضلال ، ولهذا قيل : من تعمّق في الكلام تزندق.

ثم يذهب في تشكيكاته حيث يشاء ، ويذكر في أثنائها حكاية طريفة يرويها

٤٢١

عن ابن عمر ، أنّ رجلا قام إليه فقال : يا أبا عبد الرحمن إنّ أقواما يعملون الكبائر ويقولون : كان ذلك في علم الله فلم نجد بدّا منه. فغضب وقال : سبحان الله ، قد كان في علمه أنهم يفعلونها ، فلم يحملهم على الله على فعلها. حدّثني أبي أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلّتكم ، والأرض التي أقلّتكم. فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض ، فكذلك لا تستطيعون الخروج عن علم الله تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب ، فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها.

والمقصود : أن علمه تعالى الأزلي محيط بأفعال العباد ، ولكن من غير أن يكون علمه تعالى سببا وعلّة في إيجادها ؛ لأنّ علمه تعالى السابق ، تبع لعمل العبد اللّاحق ، فكيفما يعمل يعلمه تعالى من غير أن يكون هذا العلم مؤثرا في إرادة العبد.

وهذا المعنى الواضح ، لم يدركه مثل الإمام الرازي؟ ولعلّه تظاهر بعدم الفهم! قال تعقيبا على هذه الحكاية : إنّ في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة ، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنّه لا يليق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول مثل ذلك ؛ لأنه متناقض وفاسد ، أما المتناقض فلأنّ الصدر يدل على الجبر ، والذيل صريح في القدر. وأما أنه فاسد فلأن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان ، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدمه تكليف بالجمع بين النفي والإثبات (١).

قلت : ولعل إمامنا الرازي طاعن في ضلاله القديم أو متظاهر بذلك.

ومن ذلك أيضا ، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ

__________________

(١) راجع : التفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ٤٢ ـ ٤٧.

٤٢٢

يُبْعَثُونَ. قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)(١).

قال : احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه ، وتقريره : أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى ، ثم بيّن أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم ، وكان تعالى عالما بأنّ أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) فثبت بهذا أن إنظار إبليس وإمهاله هذه المدّة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير ، فلو كان تعالى مراعيا لمصالح العباد لامتنع أن يمهله وأن يمكّنه من هذه المفاسد ، فحيث أنظره وأمهله ، علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلا.

ومما يقوي ذلك أنّه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق ، وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلّا إلى الكفر والضلال ، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق ، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ، ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك.

قالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة ، فقال الجبّائي : إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ، ولا يضلّ بقوله أحد إلّا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضلّ أيضا. والدليل عليه قوله تعالى : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ

__________________

(١) الأعراف / ١٤ ـ ١٦.

(٢) سبأ / ٢٠.

٤٢٣

الْجَحِيمِ)(١) ؛ ولأنه لو ضلّ به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم : يجوز أن يضلّ به قوم ، ويكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشهوة ، فإنّ هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلّا أنّ الامتناع منها يصير أشقّ ، ولأجل تلك الزيادة من المشقّة تحصل الزيادة في الثواب ، فكذا هنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشدّ وأشقّ ، ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه.

وأجاب الرازي : أن الشيطان لا بدّ أن يزيّن القبائح ، ومعلوم أن حال الإنسان مع هذا التزيين لا يكون مساويا مع عدمه. فحصول هذا التزيين يوجب الإقدام على القبائح ، وهو إلقاء في المفسدة. ومسألة الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنّ الله لا يراعي مصلحة العباد بسبب خلق تلك الزيادة في شهوة الإنسان ، وحصول الزيادة في الثواب لا حاجة إليه ؛ حيث دفع العقاب المؤبّد من أعظم الحاجات ، فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأكمل الأعظم ؛ لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة (٢).

انظر كيف فضح أصحابه بهذا النمط من البحث ، والخوض في مسألة تمسّ جانب حكمته تعالى ، فينفي كونه تعالى حكيما لا يفعل إلّا عن مصلحة ، والمصلحة التي يراعيها الخالق تعالى إنما تعود إلى العباد أنفسهم ؛ حيث في ذاته تعالى الغناء المطلق. كما أنه يتنافى وقاعدة اللّطف الناشئة عن مقام حكمته تعالى ، بفعل ما يقرّب العباد إلى الطاعة ، ويبعّدهم عن المعصية. وهو أساس التشريع وبعث الأنبياء وإنزال الكتب ، الأمر الذي يعترف به الإمام الرازي.

نعم لا شك أنه تعالى حكيم لا يفعل إلّا عن مصلحة تعود إلى العباد أنفسهم ؛

__________________

(١) الصافات / ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) التفسير الكبير ، ج ١٤ ، ص ٣٩ ـ ٤٠.

٤٢٤

حيث إنه تعالى غنيّ بالذات.

قال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ـ إلى قوله ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١).

فقد كان الله تعالى عزيزا لا يغالب على أمره ، لكنّه لا يفعل إلّا ما تقتضيه حكمته ، مراعيا فيها مصلحة العباد. فقد كان في مصلحتهم بعث الرسل والأنبياء وإنزال الشرائع ، وكان في طبيعتهم اقتضاء ذلك. فقد أجاب طلبهم اتماما للحجّة عليهم ، فلا تكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

وقد جاء في القرآن حوالي ثمانين موضعا ، جاء التصريح فيها بأنه تعالى حكيم عليم ، وحكيم خبير ، وعزيز حكيم ؛ مما ينبؤك عن علم وحكمة لا يفعل شيئا إلّا عن إحاطة وقدرة وحكمة شاملة.

وأما مسألة خلق إبليس وإمهاله وتسليطه على إغواء الناس ، فهذا أمر يعود إلى مصلحة النظام القائم في الخلق ، لا شيء إلّا وهو واقع بين قطبين : سلب وإيجاب ، جذب ودفع ؛ وبذلك استوى الوجود. فلولا دوافع الشرور ، لم يكن في الاندفاع نحو المطلوب الخير كثير فضل ، بل لم يكن هنا اندفاع نحو الخير ؛ حيث لا دافع إلى الشرّ.

فالإنسان واقع بين دوافع الخير ودوافع الشر على سواء ، وهو مختار في الانجذاب إلى أيهما شاء ، ويملك قدرته في الاختيار وعقله وإرادته التامّة في اختيار الخير أو الشر. فإذا اختار الخير فعن إرادته وتحكيم عقله فكانت فضيلة ، وإذا اختار الشر فعن إرادته والاستسلام لهوى نفسه فكانت رذيلة. ولا فضيلة

__________________

(١) النساء / ١٦٣ ـ ١٦٥.

٤٢٥

ولا رذيلة إلّا إذا كانت هنا دوافع للخير وللشر معا ، وكان الإنسان يملك إرادته في الاختيار.

أما الشيطان فلا سلطة له على الإنسان سوى دعوته وبعثه إلى فعل الشرور (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(١) ، نعم كان كيد الشيطان ضعيفا (٢). وأن الله لهو القوي العزيز (٣)(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٤) ، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(٥).

وعند تفسير قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٦).

نراه يبحث عن مسائل الإمامة على مذهب الشيعة الإمامية ، واشتراطهم العصمة في إمام المسلمين ، ويذكر حججهم القاطعة في المسألة ، ثم يجيب عليها لا بتلك القوة والمتانة.

قال عند الكلام عن قوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : احتج الروافض بهذه الآية على القدح في إمامة الشيخين ؛ حيث كانا كافرين وكانا حال كفرهما ظالمين ؛ لأن الشرك ظلم عظيم. فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة : أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ، وأيضا فإنهما لعدم عصمتهما حال الإمامة ، كانا غير صالحين لها.

__________________

(١) إبراهيم / ٢٢.

(٢) قال تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) ، النساء / ٧٦.

(٣) قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ـ هود / ٦٦»

(٤) المجادلة / ٢١.

(٥) غافر / ٥١.

(٦) البقرة / ١٢٤.

٤٢٦

ثم حاول الإجابة على ذلك من وجهين : أحدهما : أنّ الاستدلال مبتن على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ ، كما هو حقيقة فيمن تلبّس. وليس الأمر كذلك ؛ لأن المشتق حقيقة فيمن تلبّس باتّفاق الأصوليين ؛ ولا يصدق على من انقضى عنه المبدأ. والثاني : أن المراد بالإمامة هنا هي النبوّة ، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوّة (١).

لكن استدلال الإمامية لا يتوقّف على كون المشتق حقيقة في الأعم ممن تلبّس أو انقضى عنه المبدأ ، بل كما صرّح هو أيضا : إنه في حال التلبّس يتوجّه الخطاب بعدم اللّياقة. والنفي تأبيد شمل الظالم ووصمه بوصمة العار : أنّه غير صالح للإمامة أبدا. ومن ثمّ فإن الكافر لا يصلح للنّبوّة حتى ولو تاب وآمن ، ولا دليل عليه سوى شمول هذه الآية ، حسبما صرّح به الرازي نفسه. إذن فالآية صالحة لسلب الصلاحيّة أبدا عمّن كفر وأشرك بالله طرفة عين.

فمن كفر بالله وأشرك فقد ظلم ربّه وظلم نفسه ، والظالم مسلوب الصلاحية أبدا ، حتى بعد توبته وإيمانه أيضا ؛ إذ يتوجّه إليه حينذاك ـ أي حين ظلمه ـ : لا ينالك عهدي أيّها الظالم الخائن لربّه. وهو نفي تأبيد مترتّب على ظلم ، صادر من المكلّف. وهذا من خاصية الظلم ؛ حيث يترتب عليه حكم عام ، نظير السرقة يترتّب عليها حكم القطع ، فيجب إجراؤه سواء حال سرقته أم بعدها. نعم إذا تاب السارق قبل إمكان القبض عليه ، فإنه يسقط حكم القطع ، ولكنه بدليل خاص ، وإلّا كان الحكم ثابتا على عمومه.

ومسألتنا الحاضرة من هذا القبيل ، أي من قبيل السرقة والزنى وشرب الخمر ، يثبت أحكامها بمجرد الصدور وصدق الموضوع خارجا ، ويدوم حتى

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٤ ، ص ٤٥ ـ ٥٠.

٤٢٧

الإجراء.

فقوله تعالى : الظالم لا يناله عهدي ، نظير قوله : السارق تقطع يده ، والزاني يجلد ، والشارب يحدّ ، يجري الحكم بعد انقضاء المبدأ ، ولا يختص بحال التلبّس.

والإمامة ـ هنا ـ شيء وراء النبوّة ، وهو القدوة للناس ، التي ليست سوى إمامة الأمّة مطلقة ؛ لأن هذه الإمامة إنما جاءت إبراهيم ، حال كونه نبيّا ، فهي رتبة الإمامة جاءته بعد النبوّة ، ومن ثم فإنها تشمل الخلافة التي هي إمامة عامة.

وإذا كانت الإمامة بهذا المعنى لا تنال من كفر بالله طرفة عين ، فلا يصلح للإمامة إلّا من كان معصوما من الخطأ والزلل.

ودليل آخر تمسّك به الإمامية ، أغفله الرازي ، وهو : أنّ هذه الآية نفت صلاحية من كان يظلم نفسه ، ولو بارتكاب الكبائر ، غير الكفر والشرك. فمن يحتمل في شأنه ارتكاب المعصية ـ أي لم يكن معصوما ـ لم يطمئن خروجه عن شمول الآية بنفي لياقة الإمامة.

ومن ثم فإنه يشترط في الإمام سواء النبي أم خليفته أن يكون معصوما.

مباحث تافهة

وهناك تجد في هذا التفسير الضخم الفخم بعض أبحاث تافهة ، لا تمسّ مسائل الإنسان في الحياة ، ولا تفيده علما ولا عملا ، تعرّض لها الإمام الرازي ، وأظنه قد تفكّه بها ، ولم يردها عن جدّ عقلاني ، هذا فضلا عن تلكم المجادلات العنيفة التي أضاع بها كثيرا من صفحات تفسيره ، ولقد كان الكفّ عنها أجدر.

من ذلك تفصيله الكلام حول مسألة تافهة للغاية ، وهي : المسألة السادسة ،

٤٢٨

في أنّ السماء أفضل أم الأرض؟! ويأتي لتفضيل كل منهما بوجوه (١).

وهكذا عند تفسير قوله : «السماء بناء» يأتي في المسألة الثانية بفضائل السماء من وجوه خمسة. ثم يأتي في المسألة الثالثة بفضائل السماء ، وبيان فضائل ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، ويذكر لكل منها وجوها من فضائل (٢).

وبهكذا أمور لا طائل تحتها يسوّد كثيرا من صفحات تفسيره ، الأمر الذي يدلّ على فراغ وجدة كان يتمتع بهما مفسّرنا الخبير.

وربما يردّ المسائل ، هي بالهزل أشبه منه إلى الجدّ مما لا يتناسب ومقام علميته الرفيعة.

مثلا : عند تفسير قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(٣) يحاول توجيه نزول القرآن في شهر رمضان ـ ليلة القدر ـ نزوله الدفعي جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزوله التدريجي إلى الأرض نجوما. يقول : إنما جرت الحال على ذلك لما علمه الله من المصلحة ، فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكّان سماء الدنيا مصلحة ، أو كان فيه مصلحة للرّسول عليه‌السلام في توقّع الوحي من أقرب الجهات ، أو كان فيه مصلحة لجبرئيل ؛ حيث كان هو المأمور بإنزاله وتأديته (٤).

__________________

(١) حول الآية رقم (٢٠) من سورة البقرة ، التفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) المصدر ، ج ٢ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٩.

(٣) البقرة / ١٨٥.

(٤) التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ٩٣.

٤٢٩

تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)

المؤلف هو القاضي ناصر الدين أبو الخير ، عبد الله بن عمر بن محمد بن علي ، البيضاوي الشافعي ، نسبة إلى بيضاء ، مدينة كانت مشهورة بفارس ، بينها وبين شيراز ثمانية فراسخ ، ولي قضاء شيراز ، وكان إماما بارزا نظّارا خيّرا كما قال السبكي توفّي سنة (٦٨٥). له مصنفات جيّدة أهمها هذا التفسير الذي اعتمد فيه على تفسير «الكشاف» للزمخشري.

وهو تفسير جيّد لطيف ، جمع فيه بين حسن العبارة وقوّة البيان ، ومن ثم اعتمده كثير من المفسرين ، كالمولى الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ، وله نظرات وآراء دقيقة في حلّ معضلات الآيات ، هو عند تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) من سورة الحمد ، ينوّع الهداية إلى مراحل أربعة ، مترتّبة بعضها إثر بعض ، فإنما يسأل العباد النيل إلى مراتب أعلى من هداية الله للعباد. وهذا تفسير طريف يوجّه سؤال الهداية في أمثال هذه الآية ، ربما لم يسبقه إليه أحد من المفسرين.

يقال : إنه أشعري المسلك ، ومن ثم إنه أخذ من تفسير الكشاف كثيرا ، لكنه ترك ما فيه من اعتزال ، وهذا غير صحيح ؛ لأنه يذهب في تفسيره مذهب أهل العدل والتنزيه ، ومن ثم نراه يؤوّل كثيرا من ظواهر آيات تنافي دليل العقل.

مثلا عند تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)(١) وجدناه يقول : إلّا قياما كقيام المصروع ، وهو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. ثم يفسّر «المس» بالجنون ، ويقول : وهذا أيضا من زعماتهم أنّ الجنّي يمسّ الرجل فيختلط

__________________

(١) البقرة / ٢٧٥.

٤٣٠

عقله (١).

وهذا الذي مشى عليه موافق مع مذهب الاعتزال الذي مشى عليه الزمخشري من أنّ الجن لا تسلّط لها على الإنسان ، فيما عدا الوسوسة والإغواء ؛ حيث قوله تعالى حكاية عن إبليس في مشهد القيامة : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(٢) وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ)(٣).

وهذا التفسير كما ذكرنا مختصر من تفسير «الكشاف» للزمخشري وقد استمدّ أيضا من «التفسير الكبير» للإمام الرازي ، ومن «تفسير الراغب» الأصفهاني ، وضم إلى ذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ، لكنه أعمل فيه عقله ، فضمّنه نكتا بارعة ، ولطائف رائعة ، واستنباطات دقيقة ، كل هذا في أسلوب رائع موجز ، وعبارة تدق أحيانا وتخفى إلّا على ذي بصيرة ثاقبة ، وفطنة نيّرة. وهو يهتمّ أحيانا بذكر القراءات ، وربما ذكر الشواذ أيضا ، كما أنه يعرض للصناعة النحوية ، ولكن بدون توسع واستفاضة ، كما أنه يتعرّض عند آيات الأحكام لبعض المسائل الفقهية بدون توسّع منه في ذلك.

ومما يمتاز به البيضاوي في تفسيره أنه مقلّ جدا من ذكر الروايات الإسرائيلية ، وهو يصدر الرواية بقوله : روي أو قيل ، إشعارا منه بضعفها.

ثم إنه إذا عرض للآيات الكونية ، فإنه لا يتركها بدون أن يخوض في مباحث

__________________

(١) البيضاوي ، ج ١ ، ص ٢٦٧.

(٢) إبراهيم / ٢٢.

(٣) سبأ / ٢١.

٤٣١

الكون الطبيعية ، ولعل هذه الظاهرة سرت إليه عن طريق «التفسير الكبير» للإمام الرازي.

وإليك من نصّ عبارته الشارحة لمنهجه في التفسير ، والمبيّنة للمصادر التي اعتمدها أو اختصرها في تفسيره ، قال في مقدّمة تفسيره :

«ولطالما أحدّث نفسي بأن أصنّف في هذا الفنّ ـ أي التفسير ـ كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة ، وعلماء التابعين ، ومن دونهم من السلف الصالحين. وينطوي على نكات بارعة ولطائف رائعة ، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين ، وأماثل المحققين ، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزيّة إلى الأئمة الثمانية المشهورين ، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين».

ويقول في خاتمة الكتاب ما نصه : «وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب ، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة ، وصفوة آراء أعلام الأمّة ، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه ، والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه ، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، والتلخيص العاري عن الإضلال ...».

يقول عنه صاحب كشف الظنون : «وتفسيره هذا كتاب عظيم الشأن ، غني عن البيان ، لخّص فيه من «الكشاف». ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان ، ومن «التفسير الكبير» ما يتعلق بالحكمة والكلام ، ومن «تفسير الراغب» ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الإشارات. وضم إليه ما وري زناد فكره من الوجوه المعقولة ، فجلا رين الشك عن الصريرة ، وزاد في العلم بسطة

٤٣٢

وبصيرة ...» (١).

غير أننا نجد البيضاوي قد وقع فيما وقع فيه «الكشاف» وغيره من المفسرين ، من ذكرهم في نهاية كل سورة حديثا أو أحاديث في فضلها وفضل قارئها ، وقد عرفنا قيمة هذه الأحاديث ، وإنها موضوعة باتفاق أهل الحديث. ولسنا نعرف كيف اغتر بها أمثال البيضاوي فرواها ، وتابع الزمخشري وأمثاله في ذكرها ، مع ما لهم من مكانة علمية وحصانة عقل ودراية.

وقد اعتذر عنه صاحب كشف الظنون بقوله : «وأما أكثر الأحاديث التي أوردها في أواخر السور ، فإنه لكونه ممن صفت مرآة قلبه ، وتعرّض لنفحات ربه ، تسامح فيه ، وأعرض عن أسباب التجريح والتعديل ، ونحا نحو الترغيب والتأويل ، عالما بأنها مما فاه صاحبه بزور ودلّى بغرور ...» (٢). لكنه اعتذار غير عاذر.

ثم إنّ هذا الكتاب رزق بحسن القبول عند الجمهور ، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية ، فمنهم من علّق تعليقة على سورة منه ، ومنهم من حشّى تحشية تامة ، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه.

تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)

تأليف أبي البركات ، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ، نسبة إلى «نسف» من بلاد ماوراء النهر (٣). كان إمام زمانه ، رأسا في الفقه على المذهب الحنفي ، بارعا

__________________

(١) كشف الظنون لحاجي خليفة ، ج ١ ، ص ١٨٧.

(٢) المصدر ، ص ١٨٨.

(٣) نسف معرّب «نخشب» ببلاد السند ، بين جيحون وسمرقند.

٤٣٣

في الحديث والتفسير ، وله تصانيف في الفقه والأصول ، ومنها هذا التفسير الذي اختصره من «تفسير البيضاوي» ومن «الكشاف» للزمخشري ، جمع فيه من وجوه الإعراب والقراءات ، وضمّنه ما اشتمل عليه «الكشاف» من النكت البلاغية والمحسنان البديعية ، وأورد فيه ما أورده الزمخشري من الأسئلة والأجوبة ، لكن لا صريحا بل مدرجا ضمن شرحه للآية. توفّي سنة (٧٠١ ه‍ ق) ، ودفن بأيذج ـ وزان أحمد معرّب «ايذه» ـ بلدة بين أهواز وأصفهان ، من محافظة خوزستان.

وهناك تفسير آخر بهذا الاسم ، لأبي حفص نجم الدين عمر بن محمد النسفي الحنفي أيضا ، توفيّ سنة (٥٣٨ ه‍ ق) وقد طبع هذا التفسير أيضا في مجلّدين. وله ترجمة للقرآن بالفارسية ، طبعت سنة (١٣٥٣ ش) بتصحيح الدكتور عبد الله الجويني. والنسفيون كثيرون ، غير أنّ المعروف منهم هما هاذان المفسران.

تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)

لأبي السعود محمد بن محمد بن المصطفى العمادي ، توفي سنة (٩٨٢). كان من العلماء الترك ولازم السلطان سليمان القانوني ، وتقلّد القضاء ، وأنيط إليه الافتاء سنة (٩٥٢). كان حاضر الذهن ، سريع البديهة ، يكتب باللّغات العربية والفارسية والتركية ، وقد مكّنت له معرفته بهذه اللغات الاطلاع على الكثير من المؤلفات.

كان منهوما بتدريس «الكشاف» و «البيضاوي» معجبا بهما ، ومن ثم وضع

٤٣٤

تفسيره على منوالهما ، فجاء صورة أخرى عنهما مع تغييرات يسيرة. ومع ذلك فهو من أجود التفاسير المشتملة على النكات الأدبية والدقائق البلاغية ، فكان غاية في حسن الصوغ وجمال التعبير ، ومن ثم ذاعت شهرته بين أهل العلم ، وشهد له كثير من العلماء بأنه من خير التفاسير.

والمطالع في تفسيره هذا يجده لا بالطويل المملّ ، ولا بالقصير المخلّ ، وسطا مشتملا على لطائف ونكات ، وفوائد وإشارات.

ومن مميّزات هذا التفسير إقلاله من القصص الإسرائيلية ، وإن ذكر منها شيئا فإنّه يذكره مضعّفا له أو منكرا ، ومبيّنا منشأ بطلانه وذلك كما صنع في قصّة هاروت وماروت ؛ حيث فنّد ما جاء حولها من أساطير إسرائيلية ، ولهذا نراه قد صنّف فيها رسالة خاصة وبيّن فيها جهات ضعفها. ومع ذلك نجده لم يخل من قصص إسرائيلية ، كما نجده في قصة داود وأوريا ، والخرافات التي حيكت حولها ، وقد زعم المؤلف : أن ذلك كان جائزا في شريعة داود (١). هكذا يبرّر من غير تبرير. وهو أشعري في مسلكه ، ويفسّر الآيات في ضوء ذاك المذهب البائد.

تفسير الآلوسي (روح المعاني)

للسيد محمود أفندي الآلوسي البغدادي المتوفّى سنة (١٢٧٠). كان شيخ علماء الأحناف ببغداد ، جمع بين المعقول والمنقول ، حسبما أوتي من حظ عظيم في التوسع والتتبّع. كان عالما بمبادئ الأصول والفروع ، محدّثا ومفسرا خبيرا. وكان ذا حافظة غريبة ، كان لا يحفظ شيئا إلّا وقد حضره. كان يقول : ما استودعت ذهني شيئا فخانني. تقلّد إفتاء الحنفية سنة (١٢٤٢) ، وتولّى أوقاف مدرسة

__________________

(١) راجع : القصة في تفسير أبي السعود ، ج ٧ ، ص ٢٢٢.

٤٣٥

المرجانية ببغداد. وفي سنة (١٢٦٣) انفصل عن منصب الإفتاء وبقي مشتغلا بتفسير القرآن ، حتى أتمّه ، وسافر به إلى القسطنطينية ، ليعرض تفسيره على السلطان عبد المجيد خان ، لينال إعجابه ورضاه.

وتفسيره هذا جامع لآراء السلف وأقوال الخلف ، مشتملا على مقتطفات كثيرة من تفاسير من تقدّمه ، كتفسير ابن عطية ، وتفسير أبي حيان ، وتفسير الكشاف ، وأبي السعود ، وابن كثير ، والبيضاوي ، والأكثر من الفخر الرازي. وربما نقد المنقول من هذا التفسير ، ولكن قليلا.

وهو في تفسيره يتعصّب للمذهب السلفي أصولا وفروعا ، باد عليه تعصّبه ، ولذلك نراه لم يراع أدب الكتابة في كثير من الأحيان.

مثلا عند تفسيره لقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١). يقول بعد كلام طويل ولجاج عنيف : وإضافته ـ أي الطغيان ـ إليهم ؛ لأنه فعلهم الصادر منهم ، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى ، فالاختصاص المشعرة به الإضافة ، إنما هو بهذا الاعتبار ، لا باعتبار المحلية والاتّصاف ، فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ، ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقّف على إذن الفعّال لما يريد ، فإنه اعتبار عليه غبار ، بل غبار ليس له اعتبار. فلا تهولنّك جعجعة الزمخشري وقعقعته (٢).

وهو تفسير فيه تفصيل وتطويل ، وأحيانا بلا طائل. إنه يستطرد إلى الكلام في الصناعة النحويّة ، ويتوسّع في ذلك ربّما إلى حدّ يكاد يخرج به عن وصف

__________________

(١) البقرة / ١٥.

(٢) روح المعاني ، ج ١ ، ص ١٤٨.

٤٣٦

كونه مفسرا. قال الذهبي : ولا أحيلك على نقطة بعينها ، فإنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك (١).

وهكذا يستطرد في المسائل الفقهية مستوعبا آراء الفقهاء ومناقشاتهم بما يخرجه عن كونه كتاب تفسير إلى كتاب فقه. أمّا المسائل الكلامية فحديثه عنها مسهب مملّ لا يكاد يخرج من التعصب في الغالب.

كما لم يفته أن يتكلّم عن التفسير الإشاري ، بعد الفراغ عن الكلام في تفسير الظاهر من الآيات ، وهو في ذلك يعتمد التفسير النيسابوري والقشيري وابن العربي وأضرابهم ، وربّما يتيه في وادي الخيال.

وجملة القول فهذا التفسير موسوعة تفسيرية مطوّلة تطويلا يكاد يخرجه عن مهمته التفسيرية في كثير من الأحيان. فتفسير الآلوسي هذا هو أوسع تفسير ظهر بعد الرازي على الطريقة القديمة ، بل هو نسخة ثانية من تفسير الرازي مع بعض التغيير ـ ليس بالمهم ـ إذ كل من قرأ تفسير الآلوسي يجده معتمدا تفسير الرازي كل الاعتماد ، وكان مصدره الأول من مصادره في التفسير ، كما قال الأستاذ عبد الحميد (٢).

تفسير البلاغي (آلاء الرحمن)

للإمام المجاهد والعلّامة الناقد الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي. ولد سنة (١٢٨٢) وتوفّي سنة (١٣٥٢ ه‍). كان ـ رحمه‌الله ـ قد قضى حياته الكريمة في

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٣٥٨.

(٢) الرازي مفسرا لعبد الحميد ، ص ١٧٠.

٤٣٧

النضال والدفاع عن حامية الإسلام ، قلما وقدما (١). وله في كلا المجالين مواقف مشهودة. ومصنفاته في الدفاع عن حريم الإسلام معروفة. منها : «الرحلة المدرسية» ، في ثلاثة أجزاء ، حاول فيها الرد على شبه المسيحيّين ضدّ الإسلام. ومنها : «الهدى إلى دين المصطفى» ، دافع فيه عن كرامة القرآن العتيدة في جزءين كبيرين. وغيرهما من كتب ورسائل عنيت بأهمّ المسائل الإسلاميّة العريقة.

وهذا التفسير من أفضلها ؛ حيث كان من آخر تآليفه ، فكان أدقّها وأمتنها. سوى أنه من المؤسف جدّا إذ لم يمهله الأجل ، فقضى نحبه عند بلوغه لتفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً)(٢). فأكمل تفسير الآية ولحق بجوار ربّه الكريم ليوفّيه أجره حسبما وعد في الآية ، والكريم إذا وعد وفى.

وكان شيخنا العلامة البلاغي عارفا باللغات العبريّة والإنجليزيّة والفارسيّة الى لغته العربيّة. مجيدا فيها ، مما ساعده على مراجعة أهم المصادر للتحقيق عن

__________________

(١) شارك في حركة العراق الاستقلاليّة ضد الإنجليز ، في ثورة (١٩٢٠ م) الدّامية.

(٢) الآية رقم ٥٧ من سورة النساء.

لكن هنا للأستاذ الذهبي إساءة تعبير بشأن هذا المفسّر الجليل ، ينبؤك عن خبث طويّة. يقول في صفافته : «وينتهى تفسير البلاغي عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ...) (التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٤٤).

ولعلّ القضاء صبّ عليه البلاء (عام ١٩٧٧ م) حيث هلاكه في شرّ قتلة مغبّة تجاسره على أمثال هذا العبد الصالح الذي قضى حياته في الدفاع عن حريم الإسلام. لكن شيخنا البلاغي عمل عمله لله ، فكان مصداقا لقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر / ٢٩٤).

٤٣٨

مبادئ الأديان القديمة ، والوقوف على مبانيها. فكانت تآليفه في هكذا مجالات ذوات إسناد متين وأساس ركين.

وتفسيره هذا هادف إلى بيان حقائق كلامه تعالى وإبداء رسالة القرآن ، في أسلوب سهل متين ، يجمع بين الإيجاز والإيفاء ، والإحاطة بأطراف الكلام ، بما لا يدع لشبه المعاندين مجالا ، ولا لتشكيك المخالفين مسربا. هذا إلى جنب أدبه البارع ومعرفته بمباني الفقه والفلسفة والكلام والتاريخ ، ولا سيّما تاريخ الأديان وأعراف الأمم الماضية ، والتي حلّ بها كثيرا من مشاكل أهل التفسير. ومن ثمّ كان منهجه في التفسير ذا طابع أدبي كلامي بارع ، فرحمة الله عليه من مجاهد مناضل في سبيل الإسلام.

٤٣٩

التفسير في العصر الحديث

لم يترك الأقدمون لمن تأخّر عنهم كبير جهد في تفسير كتاب الله ، والكشف عن معانيه ومراميه ، فقد تناولوه من أول أمرهم بدراسته التفسيرية التحليلية دراسة توسّعت واطّردت مع الزمن على تدرّج ملحوظ ، وتلوّن بألوان مختلفة حسبما عرفت. ولا شك أنّ كلّ ما يتعلّق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفّاه هؤلاء المفسرون القدامى حقّه من البحث والتحقيق ، فالنواحي اللغوية والبلاغية والأدبية والنحوية ، وحتى الفقهية والكلامية والكونية الفلسفيّة ، كل هذه النواحي وغيرها تناولوها بتوسّع ظاهر ملموس ، لم يتركوا لمن جاء بعدهم إلى ما قبل عصرنا بقليل من عمل جديد أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي دوّنوها ، سوى أعمال ضئيلة لا يعدو أن يكون جمعا لأقوال المتقدمين ، أو شرحا لغامض آرائهم ، أو نقدا أو تفنيدا لما يعتوره الضعف منها ، أو ترجيحا لرأي على رأي ؛ مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود ، خالية من التجديد والابتكار.

ولقد ظلّ الأمر على هذا ، وبقي التفسير واقفا عند هذه المرحلة ـ مرحلة

٤٤٠