التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

وهذه الغزوة بهذا الإسم غير معروفة ، ولا أثبتها أصحاب السير بهذا الشكل ، وإنما ذلك من اختصاصات هذا الكتاب ، وكم له من نظير.

و «أسد عويلم» غير معروف ، سوى ما ذكره المحقق الشعراني في هامش الكتاب (١) ولم نجده فيما أرجعه من مصدر.

ومما امتاز به هذا التفسير أنه لم يترك موضعا جاءت مناسبة الوعظ والإرشاد إلّا وقد استغلّ الفرصة ، وأخذ في الوعظ والزجر والترغيب والترهيب.

من ذلك عند ذكره لقصّة آدم وتوبته ، وأنه إنما تقبّل الله منه التوبة بأمور ثلاثة تمثّلت في آدم ، فليكن ذلك من كل تائب ، وهي : الحياء ، والدعاء ، والبكاء ... ثم أخذ في الوعظ والإرشاد ، متمثّلا بقول محمود الورّاق :

يا ناظرا يرنو بعيني راقد

ومشاهدا للأمر غير مشاهد

منّتك نفسك ضلّة فأبحتها

سبل الرجاء وهنّ غير قواصد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي

درك الجنان بها وفوز العائد

ونسيت أن الله أخرج آدما

منها إلى الدنيا بذنب واحد (٢)

كنز الدقائق وبحر الغرائب للمولى المشهدي

هو الميرزا محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي الأصل ، المشتهر بالمشهدي ؛ حيث نشأ وتربّى بمشهد الإمام الرضا عليه‌السلام ـ وميرزا : مخفف «ميرزاده» بمعنى «وليد الأمير» ـ كان فاضلا أديبا جامعا ، ومحدّثا فقيها ،

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٢٤٠ ، رقم ١.

(٢) المصدر ، ج ١ ، ص ١٤٩.

٤٠١

علما من أعلام القرن الثاني عشر ، توفي حدود سنة (١١٢٥).

ويظهر من تفسيره هذا أنه كان متبحّرا في شتّى العلوم الإسلامية التي كانت دارجة ذلك العهد ، من الفلسفة والكلام ، والأدب واللغة ، والفقه والحديث. وقد اضطلع بعلم التفسير والتأويل.

وتفسيره هذا من خير تفاسير ذلك العهد ، وهو كما كتبنا في المقدمة حصيلة ما سبقه من أمهات تفاسير أصحابنا الإمامية : النقلية والاجتهادية ، قد جمع فيه من لباب البيان وعباب التعبير ، أينما وجده طي الكتب والتفاسير السابقة عليه ، والتي كانت راقية لديه. فقد اختار حسن تعبير البيضاوي ، اقتداء بشيخه الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي. كما انتخب من أسلوب الطبرسي في «مجمع البيان» تبويبه وترتيبه ، مضيفا إليه ما استحسنه من «كشّاف» الزمخشري وحواشي العلّامة الشيخ البهائي ، وكثيرا من تأويلات جاءت في تفاسير أهل الرّمز والإشارات. وقد قرّظ تفسيره علمان من أعلام الأمة : المجلسي العظيم ، والخوانساري الكبير ، مما يدلّك على جلالة قدر هذا التفسير الفخيم.

وبحق إنه تفسير جامع كامل ، مع إيجازه وإيفائه ، شمل جوانب مختلفة من الكلام حول تفسير كلام الله ، فلم يترك شاردة ولا واردة من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام إلّا أوردها وتعرّض لها بتفصيل ، ثم الأدب واللغة بشكل مستوعب ، ثم مسائل الكلام والفلسفة والفقه في مجالاته المناسبة ، وأخيرا يتعرّض لتأويل الآية وتفسير بطونها حسب تعبيره ، ومن ثم فإنه يعدّ من التفاسير الجامعة الشاملة لكل جوانب التفسير المعهود ذلك الحين.

وقد طبع هذا التفسير عدة طبعات أنيقة في عهدنا الحاضر ، وهو في متناول العموم.

٤٠٢

تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)

لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي ، توفي سنة (٦٧١). كان من العلماء العارفين ، صاحب تصانيف ممتعة ، منها هذا التفسير الذي يعدّ من أمثل التفاسير وأجودها تصنيفا وتأليفا وجمعا للآراء والأقوال ، مع العناية التامة باللغة والأدب والفقه والكلام ، ومن ثم عدّه بعضهم من التفاسير الفقهية كما فعله الذهبي ولعلّه لمناسبة عنوان الكتاب.

وقد وصف المؤلف تفسيره هذا بما يلي : رأيت أن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمّن نكتا من التفسير ، واللغات والإعراب ، والقراءات ، والردّ على أهل الزيغ والضلالات ، جامعا بين المعاني ، ومبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف ، ومن تبعهم من الخلف.

وانتهج في تفسيره منهج سائر التفاسير الجامعة ، فيذكر الآية أوّلا ، ويعقبها بذكر مسائل ، يأتي فيها على شرح مواضع الآية جملة جملة ، فيشرحها ويبيّن مواضع إغلاقها ، وربما تعرّض لأسباب النزول ، وذكر القراءات واللغة والإعراب ، وأحيانا جاء بأقوال السلف أو الخلف إن مسّت الحاجة إلى ذلك.

وهو تفسير جيد نافع ، جمع بين الاختصار والإيفاء بجوانب الكلام ، بما يفيد المطالع إفادة تامّة ، تجعل المراجع في غنى عن مراجعة أمّهات كتب التفسير ، على وجازته.

وجعل لتفسيره مقدمة جامعة في عشرين بابا ، ذكر فيها مسائل تفيد المراجع قبل الخوض في التفسير.

وحاول القرطبي في تفسيره هذا نبذ الإسرائيليات والموضوعات ، فتركها حسب وسعه ، كما فعله ابن عطية في «المحرّر الوجيز». وكانا موفّقين في هذا

٤٠٣

السبيل بعض الشيء.

تفسير الماوردي (النكت والعيون)

لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري المتوفّى سنة (٤٥٠). والنسبة إلى «ماء ورد» كان يعمل به والده ويبيعه. ولد بالبصرة ، ثم ارتحل إلى بغداد ، وفيها سمع الحديث وأخذ الفقه وانضم إلى حلقات أبي حامد الأسفراييني. ولما بلغ أشدّه تصدّر للتدريس آونة في بغداد وأخرى في البصرة ، وتنقّل في البلاد لنشر العلم ، ثم استقرّ به المقام في بغداد ، فقام بالتدريس والتحديث وتفسير القرآن. وألّف فيها كتبه في الأدب والفقه والحديث والتفسير.

وتفسيره هذا يعدّ من أوجز التفاسير الّتي عنيت باللغة والأدب ونقل الآراء ونقدها ، والمشي على طريقة أهل النظر في التفسير. قال في مقدّمة تفسيره :

«ولما كان الظاهر الجليّ مفهوما بالتلاوة ، وكان الغامض الخفي لا يعلم إلّا من وجهين : نقل ، واجتهاد ، جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه ، وتفسير ما غمض تصوّره وفهمه. وجعلته جامعا بين أقاويل السلف والخلف ، وموضّحا عن المؤتلف والمختلف ، وذاكرا ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل. عبّرت عنه بأنه محتمل ، ليتميّز ما قيل مما قلته ، ويعلم ما استخرج مما استخرجته» (١).

ويعتبر تفسير الماوردي من أهم كتب التفسير ، وقد اهتم به كثير من المفسرين المتأخرين عنه ، كابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» ، والقرطبي في

__________________

(١) النكت والعيون ، ج ١ ، ص ٢١.

٤٠٤

«الجامع لأحكام القرآن».

ومفسرنا هذا لم يأل جهدا في إعمال رأيه وإبداء نظره في شرح معاني الآيات على طريقة تحكيم العقل الرشيد نافيا أن يكون ذلك من التفسير بالرأي الممنوع ؛ حيث يقول :

«تمسّك بعض المتورّعة ، ممّن قلّت في العلم طبقته ، وضعفت فيه خبرته ، واستعمل هذا الحديث على ظاهره ، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ، عند وضوح شواهده ، إلّا أن يرد بها نقل صحيح ، ويدلّ عليها نصّ صريح. وهذا عدول عما تعبّد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين ، قد نبّه على معانيه ما صرّح من اللّغز والتعمية ، الّتي لا يوقف عليها إلّا بالمواضعة إلى كلام حكيم ، أبان عن مراده ، وقطع أعذار عباده ، وجعل لهم سبلا إلى استنباط أحكامه ، كما قال تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(١) ولو كان ما قالوه صحيحا ، لكان كلام الله غير مفهوم ، ومراده بخطابه غير معلوم ، ولصار كاللّغز المعمّى ، فبطل الاحتجاج به ، وكان ورود النّص على تأويله مغنيا عن الاحتجاج بتنزيله ، وأعوذ بالله من قول في القرآن يؤدّي إلى التوقف عنه ، ويؤول إلى ترك الاحتجاج به» (٢).

وقد أخذ ذلك بعضهم عليه ، زاعما سدّ باب الاجتهاد في القرآن ، تاركا وراءه قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٣)

__________________

(١) النساء / ٨٣.

(٢) النكت والعيون ، ج ١ ، ص ٣٤.

(٣) محمد / ٢٤.

٤٠٥

التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)

للإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ، المعروف بابن الخطيب ، من أصل طبرستاني ، نزل والده الرّي واشتهر بها. في ظاهره أشعري شافعي المذهب ، صاحب تصانيف ممتعة في فنون المعارف الإسلامية ، مضطلعا بالأدب والكلام والفلسفة والعرفان. قال ابن خلّكان : إن كتبه ممتعة ، وقد انتشرت تصانيفه في البلاد ، ورزق فيها سعادة عظيمة ، فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين ، توفي سنة (٦٠٦).

وتفسيره هذا من جلائل كتب التفسير ، وقد استوفى الكلام فيه ، بما وسعه من الاضطلاع بأنحاء المعارف وفنون العلوم ، ولم يدع براعته متجوّلة في مختلف مسائل الأصول والفلسفة والكلام ، وسائر المسائل الاجتهادية النظرية والعقلية ، وأسهب الكلام فيها ، بما ربما أخرجه عن حدّ الاعتدال. وكثيرا ما يترك وراءه لمّة من تشكيكات وإبهامات بما يعرقل سبيل الباحثين في التفسير ، ولكنّه مع ذلك فإنه فتّاح لكثير من مغالق المسائل في أبحاث إسلامية عريقة.

أما منهجه في التفسير ، فإنه يذكر الآية أوّلا ، ويعقّبها بموجز الكلام عنها بصورة إجمالية ، ويذكر أن فيها مسائل ، يبحث في كل مسألة عن طرف من شئون الآية : قراءة ، وأدبا ، وفقها ، وكلاما ، وما أشبه من المباحث المتعلقة بتفسير الآية ، ويستوفي الكلام في ذلك في نهاية المطاف. وهو من أحسن الأساليب التفسيرية ، تتجزّأ المسائل وتتركّز الأبحاث ، مفصلة كلّا في محلّها ، من غير أن يختلط البحث أو تتشابك المطالب ، ومن ثمّ لا يترك القارئ حائرا في أمره من البحث الّذي ورد فيه.

ومن طريف الأمر أنه لم يجعل لتفسيره مقدمة ليشرح فيها موضعه من

٤٠٦

التفسير ، والغاية التي أقدم لأجلها على كتابة مثل هذا التفسير الضخم ، والسفر الجلل العظيم ، وكان لا بدّ أن يشرح ذلك. كما لم يذكر منابعه في التفسير ، ولا الكتب التي اعتمدها في مثل هذا التصنيف ، في حين أنّا نعلم أنه اعتمد خير المؤلفات لذاك العهد ، وأحسن المصنفات في ذلك الزمان ، في مثل تفسير أبي مسلم الأصفهاني والجبّائي والطبري وأبي الفتوح الرازي ، وأمثالهم من مشايخ عظام وعلماء أجلّة معروفين حينذاك.

وتفسيره هذا ، يغلب عليه اللّون الكلامي الفلسفي ، لاضطلاعه بهذين العلمين ، ومن ثم نجده يكثر الكلام في ذلك كلما أتاحت له الفرصة ، فيغتنمها ، ويسهب الكلام في مسائل فلسفية بعيدة الأغوار ، بما ربما أخرجه عن حدّ تفسير القرآن ، إلى مباحث جدلية كلامية ، وربما كانت فارغة.

وهل أكمل تفسيره أم تركه ناقصا ليكمله غيره من تلاميذ وأحفاد ، كما قيل؟

قال ابن خلكان : له التصانيف المفيدة في فنون عديدة ، منها تفسير القرآن الكريم ، جمع فيه كل غريب وغريبة ، وهو كبير جدا ، لكنه لم يكمله (١).

قال ابن حجر : الّذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي ، هو أحمد بن محمد بن أبي حزم نجم الدين المخزومي القمولي ، المتوفّى سنة (٧٢٧) ، وهو مصري (٢).

وقال حاجي خليفة : صنف الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد القمولي تكملة له ، وقاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن خليل الخوئي الدمشقي كمّل ما

__________________

(١) وفيات الاعيان ، ج ٤ ، ص ٢٤٩ ، رقم الترجمة ٦٠٠.

(٢) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، ج ١ ، ص ٣٠٤.

٤٠٧

نقص منه أيضا. توفّي سنة (٦٣٩) (١).

وقال ابن أبي أصيبعة المتوفّى سنة (٦٦٨) في ترجمة أحمد بن خليل الخوئي : ولشمس الدين الخوئي من الكتب ، تتمة تفسير القرآن لابن الخطيب (٢).

وأما إلى أيّ موضع بلغ الإمام الرازي من تفسيره ليترك البقية لغيره ، فهذا مختلف فيه اختلافا غريبا :

يقول الأستاذ محمد حسين الذهبي : وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصّه : «الّذي رأيته بخطّ السيد مرتضى نقلا عن «شرح الشفا» للشهاب ، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء» (٣).

واحتمل بعضهم أنّ الرازي أتمّ تفسيره ما عدا سورة الواقعة ؛ حيث فيها بعض التعليق من غيره ، مثلا جاء ذيل تفسير قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤) وفيه مسائل ، المسألة الأولى أصولية ، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه‌الله في مواضع كثيرة ، ونحن نذكر بعضها (٥).

قال الأستاذ الذهبي تعقيبا على هذا الكلام : وهذه العبارة تدلّ على أنّ الإمام الرازي لم يصل في تفسيره إلى هذه السورة (٦).

ثم أبدى رأيه في حلّ الاختلاف قائلا : «والذي أستطيع أن أقوله كحلّ لهذا الاضطراب هو أنّ الإمام الرازي كتب تفسيره إلى سورة الأنبياء ، فأتى بعده شهاب

__________________

(١) كشف الظنون ، ج ٢ ، ص ١٧٥٦.

(٢) عيون الأنباء ، ج ٢ ، ص ١٧١. (الرازي مفسّرا لمحسن عبد الحميد ، ص ٥٢).

(٣) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٩٢.

(٤) الواقعة / ٢٤.

(٥) راجع : التفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ١٥٦.

(٦) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٩٢.

٤٠٨

الدين الخوئي فشرع في تكملة هذا التفسير ، ولكنه لم يتمّه ، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه. كما يجوز أن يكون الخوئي أكمله إلى النهاية ، والقمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخوئي. وهذا هو الظاهر من عبارة كشف الظنون» (١).

قلت : وعلى ذلك ، فإنّ الإمام الرازي لم يبلغ من تفسيره سوى حوالى النصف ، الأمر الذي لا يمكن تصديقه ، بل الظاهر أنه فسّر القرآن كله حتى آخر سورة منه ، نظرا لوحدة الأسلوب والمنهج والقلم والبيان ، فضلا عن الشواهد الموفورة ، على أنّ الإمام الرازي قد أكمل تفسيره حتى النهاية ، اللهم إلّا بعض التعليق مما أضيف إليه بعد ذلك ، فألحق بالمتن في الاستنساخات المتأخرة.

ونذكر شاهدا على ذلك أنّه عند تفسير الآية رقم (٢٢) من سورة الزمر (رقمها ٣٩ ورقم سورة الأنبياء ٢١) في تفسير قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)(٢) يقول : واعلم أنّا بالغنا في تفسير سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)(٣) في تفسير شرح الصدر ، وفي تفسير الهداية (٤).

وأمثال هذه العبارة كثيرة في القسم المتأخر من التفسير.

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٩٣.

(٢) الزمر / ٢٢.

(٣) الأنعام / ١٢٥.

(٤) راجع التفسير الكبير ، ج ٢٦ ، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٤٠٩

عنايته بأهل البيت

له عناية خاصة بآل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكرهم بإجلال وإكبار ، ويفخّم من شأنهم ؛ مما ينبؤك عن ولاء متين بالنسبة إلى العترة الطاهرة ، الذين هم عدل القرآن العظيم.

تجده يقول عند الكلام عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم : وأما أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله عليه‌السلام : «اللهم أدر الحقّ مع علي حيث دار».

ثم يقول عند ترجيحه للقول بوجوب الجهر : إنّ راوي قولنا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأخيرا يقول : وعمل علي بن أبي طالب عليه‌السلام معنا ، ومن اتّخذ عليّا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (١).

ومن دأبه تعقيب أسماء أئمة أهل البيت ب «السلام عليهم» كتعقيبه لاسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد عرفت تعقيب اسم علي ب «السلام عليه» ، وهكذا في تعقيب أسماء سائر الأئمة. هو عند ما يروي عن الإمام جعفر بن محمد ، يصفه أولا بلقبه الفخيم «الصادق» ثم يعقبه ب «السلام عليه». قال في تفسير النعيم : قال جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : النعيم : المعرفة والمشاهدة ، والجحيم : ظلمات الشهوات (٢).

وفي كثير من عباراته : محمد عليه‌السلام ، علي عليه‌السلام على سواء ، راجع تفسيره

__________________

(١) راجع : تفسير سورة الفاتحة ، ج ١ ، ص ٢٠٤ ـ ٢٠٧ من التفسير الكبير.

(٢) التفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٨٥.

٤١٠

لسورة النصر (١). وهكذا نجده يذكر أئمة أهل البيت بإكبار وإجلال ، هو عند ما يتعرض لوفرة ذرية الرسول في تفسير سورة الكوثر ، يقول : انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء ، كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، والنفس الزكية وأمثالهم (٢) والذي يجلب النظر أنه عقّب أسماء الأئمة الأربعة فقط ب «السلام عليهم» ، الأمر الذي يدل بوضوح على مبلغ تشيّعه لآل البيت عليهم‌السلام.

هو عند ما يتعرض لآية المتعة من سورة النساء (٢٤) يقول : إنها نسخت في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول : إنا لا ننكر أنّ المتعة كانت مباحة ، إنما الذي نقوله : إنها صارت منسوخة. ويقول بصدد نهي عن عمر عنها : إنه لو كان مراده أنّ المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنها ، لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ، ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين ؛ حيث لم يحاربه ولم يردّ ذلك القول عليه (٣).

المقصود من «أمير المؤمنين» هو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام يصفه بهذا اللقب الفخم أيّام عهد عمر ، ويعتقد في شخصيته الكريمة حراسة لدين الله وحفظا لحدوده ، الأمر الّذي جرى عليه أهل الولاء لهذا البيت الرفيع ، وهكذا تعتقد الشيعة الإمامية في أئمتها الأطهار.

وهكذا تمثّله بأبيات شعريّة تنوّه من شأن أهل البيت عليهم‌السلام في كثير من مواضع تفسيره ، منها : استشهاده بشعر حسان بن ثابت ، لغرض بيان أنّ السجدة ليوسف إنما كان من جهة أنهم جعلوه قبلة في سجودهم ، واستشهد لذلك بقوله :

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ١٥٣.

(٢) المصدر ، ص ١٢٤.

(٣) المصدر ، ج ١٠ ، ص ٥٣ ـ ٥٤.

٤١١

ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعرف الناس بالقرآن والسنن (١)

وأما ما نجده أحيانا من تحامله على الشيعة وربما لعنهم بعنوان «الروافض» (٢) فلعلّه من عمل النسّاخ ؛ إذ لا يليق بقلم كاتب أديب ، وعلامة أريب أن يهدر في سفه الهذر ، من يعن بالحمد لا ينطق بما سفه ، ولم يحد عن سبيل الحلم والأدب.

ذكر عند تفسير آية المودّة نقلا عن صاحب الكشاف الحديث المعروف : «من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا ، مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله».

قال بعد نقل ذلك : وأنا أقول : آل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله أشدّ التعلّقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل.

وأيضا اختلف الناس في «الآل» فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم أمته. فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وإن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل ، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل. وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه!

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٨ ، ص ٢١٢.

(٢) راجع : المصدر ، ج ١٢ ، ص ٢١ و ٢٩.

٤١٢

وروى صاحب الكشاف : أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : «عليّ وفاطمة وابناهما» ، فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم.

ويدلّ عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّ فاطمة عليها‌السلام قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها». وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يحب عليّا والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ، لقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١) ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ). (٢) ولقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ). (٣) ولقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(٤).

الثالث : إن الدعاء «للآل» منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة ، وهو قوله : «اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمدا وآل محمد» ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل. فكل ذلك يدل على أنّ حبّ آل محمد واجب.

وقال الشافعي رضى الله عنه :

__________________

(١) الأعراف / ١٥٨.

(٢) النور / ٦٣.

(٣) آل عمران / ٣١.

(٤) الأحزاب / ٢١.

٤١٣

يا راكبا قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (١)

ونقل ابن حجر العسقلاني عن ابن خليل السكوني في كتابه «الرّد على الكشّاف» أنه أسند عن ابن الطباخ : أنّ الفخر كان شيعيّا ، يقدّم محبة أهل البيت ، كمحبّة الشيعة ، حتى قال في بعض تصانيفه : «وكان علي عليه‌السلام شجاعا بخلاف غيره» (٢).

وقال الطوفي : إنه يورد شبه المخالفين في المذهب ، على غاية ما يكون من القوّة والتحقيق ، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء (أو الدهاء). قال : وبعض الناس يتّهمه في هذا ، وينسب ذلك إلى أنه كان ينصر بهذا الطريق ، ما يعتقده ، ولا يجسر على التصريح به (٣).

وقال الشيخ محمد بهاء الدين العاملي في حوادث شهر شوال ، يوم عيد الفطر : «وفيه سنة ست وستمائة ، توفي فخر الدين الرازي ، الملقّب بالإمام ، وأصله من مازندران ، وولد بالرّيّ ، وكان يميل إلى التّشيّع ، كما لا يخفى على من تصفّح تفسيره الكبير. وقبره بمدينة هرات» (٤).

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٤٢٩.

(٣) الإكسير في علم التفسير للطوفي ، ص ٢٦. واللسان ، ج ٤ ، ص ٤٢٨.

(٤) راجع : رسالته الوجيزة «توضيح المقاصد» ، ص ٢٥ ، المطبوعة ضمن رسائل باسم «المجموعة النفيسة» ، ص ٥٨٣ ، من مطبوعات مكتبة المرعشي بقم.

٤١٤

إمام المشككين

ومما اختص به الإمام الرازي خوضه في أنحاء المسائل ، من أدب وكلام وفلسفة وأصول ، ولكنه لا يخرج منها في الأكثر إلّا ويترك وراءه لمّة من تشكيكات وإبهامات في وجه المسألة ، إنه ربما أثار إشكالا أو إشكالات ، لكنه لا يجب عليها إلّا إجابات ضعيفة وموهونة ، يترك القارئ في حيرة ، هل إنّ مثل الإمام الرازي عاجز عن الإجابة لمثل تلكم المسائل ، أم هناك تعمّد لغرض تقرير الإشكال حسب نظره؟! المعروف عن الرازي أنه أشعري المذهب في أصول العقيدة ، جبريّ ظاهري ، لكنه عند عرضه لمسائل الكلام ، يقرّر من مذاهب الخلاف بما يضعف به المذهب الأشعري أحيانا ، وربما إلى حدّ الوهن والافتضاح.

قال نجم الدين الطوفي البغدادي ـ من أعلام القرن السابع ـ : وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي ، وكتاب «مفاتيح الغيب» للإمام الرازي ، ولعمري كم فيه من زلّة وعيب. وحكى لي الشيخ شرف الدين النصيبي المالكي : أن شيخه الإمام الفاضل سراج الدين المغربي صنّف كتاب «المآخذ على مفاتيح الغيب» وبيّن فيه من البهرج والزيف في نحو مجلّدين ، وكان ينقم عليه كثيرا ، خصوصا إيراده شبه المخالفين في المذهب والدين ، على غاية ما يكون من القوّة ، وإيراد جواب أهل الحق منها على غاية ما يكون من الدهاء. قال الطوفي : ولعمري إن هذا لدأبه في غالب كتبه الكلامية والحكمية ، كالأربعين ، والمحصّل ، والنهاية ، والمعالم ، والمباحث المشرقية ، ونحوها. وبعض الناس يتّهمه في هذا وينسبه إلى أنه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده ، ولا يجسر على التصريح به.

وقال في سبب ذلك : إنه كان شديد الاشتياق إلى الوقوف على الحق ـ كما

٤١٥

صرح به في وصيته التي أملاها عند موته ـ فلهذا كان يستفرغ وسعه ، ويكدّ قريحته في تقرير شبه الخصوم ، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال ، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه ، لاستفراغه قوّتها في تقرير الشبه. ونحن نعلم بالنفسية الوجدانية ، أنّ أحدنا إذا استفرغ قوّة بدنه في شغل ما من الأشغال ، ضعف عن شغل آخر ، وقوى النفس على وزان قوى البدن غالبا. وقد ذكر في مقدمة كتاب «نهاية العقول» ما يدل على صحة ما أقول ؛ لأنه التزم فيه أن يقرّر مذهب كل خصم ، لو أراد ذلك الخصم تقريره ، لما أمكنه الزيادة عليه أو أوفى بذلك. ولهذا السبب قرر في كتاب «الأربعين» أدلّة القائلين بالجهة ، ثم أراد الجواب عنها ، فما تمكن منه على الوجه ، فغالط فيه في موضعين قبيحين ، ذكرهما في مواضع كثيرة (١).

ومما بحث على أصول مذهبه الأشعري في ظاهر الأمر ما ذكر عند تفسير الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢).

قال : احتج أهل السنة ـ يعني بهم الأشاعرة ـ بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣) ، وقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ إلى قوله ـ (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)(٤) ، وقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(٥) احتجوا بأمثال هذه الآيات على جواز تكليف ما لا يطاق.

ثم أخذ في تقرير هذا الاحتجاج من وجوه خمسة :

__________________

(١) الإكسير في علم التفسير ، ص ٢٦ ـ ٢٧. تحقيق عبد القادر حسين.

(٢) البقرة / ٦.

(٣) يس / ٧.

(٤) المدثّر / ١٧.

(٥) تبت / ١.

٤١٦

أولا : أنه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين أنهم لا يؤمنون قطّ ، فلو صدر منهم الإيمان ، لزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذبا.

وثانيا : أنه تعالى لما علم منهم الكفر ، فكان صدور الإيمان منهم مستلزما لانقلاب علمه تعالى جهلا.

وثالثا : أنّ وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان ؛ لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقا لو حصل عدم الإيمان ، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان ، لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا ومعدوما معا ، وهو محال ، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان ، أمر بالجمع بين الضدّين ، بل بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال.

ورابعا : أنه تعالى كلّف هؤلاء ـ الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون ـ بالإيمان البتّه ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات.

وخامسا : أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ)(١)

فثبت أنّ القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه ، قصد لتبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه. وهاهنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة ، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدا إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه. وترك

__________________

(١) الفتح / ١٥.

٤١٧

محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر الله تعالى ، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل.

قال : فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع. وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. ولقد كان السلف والخلف من المحقّقين معوّلين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم. ولقد قاموا ـ أي المعتزلة ـ وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع.

هذه هي الوجوه الخمسة التي زعم منها دلائل ثابتة تدعم نظرية أصحابه في جواز التكليف بغير المستطاع ، وحسب أنّ خصومهم أصحاب الاعتزال عجزوا عن ردّها مهما أوتوا من حول وقوّة.

في حين أنّ آثار الوهن بادية عليها ، لأنّ أساسها العلم الأزلي الإلهي المتعلق بعدم إيمان الكافر الجاحد. والحال أنّ العلم مهما يكن فإنه ليس سببا لوقوع المعلوم ، بل إن وقوع المعلوم في وقته سبب لحصول هذا العلم ، فالعلم تبع للمعلوم. فلو فرض أنهم كانوا يؤمنون ؛ لكان العلم حاصلا بإيمانهم. فليس العلم القديم أصلا ، بل هو فرع تحقّق المعلوم في حينه المتأخر ، كما قال أبو الحسين البصري : إن العلم تبع المعلوم ، فإذا فرض الواقع من العبد الإيمان ، عرف أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ، والعمدة أن العبد مختار في الكفر والإيمان ، فأي منهما تحقّق منه ، علمه الله في الأزل ، وليس علمه تعالى سببا قهريّا يسلب عن العبد اختياره في العمل.

وهذا واضح لمن تدبّر ، ولا أظنّ خفاءه على مثل الإمام الرازي صاحب الذهنيّة الوقّادة ، ولكن تظاهرا بالدفاع عن مذهبه الرسمي المفروض عليه من قبل السلطات ، دعاه إلى ذكر مثل هذه الوجوه البادي عليها الضعف والوهن. وتماشيا

٤١٨

مع الجوّ الحاكم أجبر على الانسجام مع الوضع الراهن.

ومن ثمّ نراه ـ عند ما يذكر دلائل أصحاب الاعتزال ـ نراه يذكرها بقوّة ودقّة وإحاطة وتفصيل ، بما لا يدع مجالا في إمكان قبول تلكم الوجوه الأشعرية.

ذكر دلائل أهل الاعتزال في ثلاث مقامات ، أوّلا : عدم المانع من الإيمان والكفر ، وثانيا : أن العلم لا يوجب منعا في العمل ، الثالث : نقض تلكم الوجوه الخمسة. ذكرهن بإسهاب وتفصيل ، نقتطف منها ما يلي :

قال : وأنا أذكر أقصى ما ذكره أصحاب الاعتزال بعونه تعالى وتوفيقه. وذكر وجوها خمسة ، في المقام الأول ؛ وخلاصتها : أن القرآن مملوء من الآيات الدالّة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان ، قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى)(١) ، و (ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا)(٢) ، (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣) قال الصاحب ابن عباد : كيف يأمر العبد بالإيمان وقد منعه عنه؟! وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه؟! وأيضا فإنّ الله تعالى قال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(٤) ، وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)(٥).

فلما بيّن تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا إلّا وقد أزاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من أعظم الأعذار ،

__________________

(١) الإسراء / ٩٤.

(٢) النساء / ٣٩.

(٣) الانشقاق / ٢٠.

(٤) النساء / ١٦٥.

(٥) طه / ١٣٤.

٤١٩

كما أنّ الذم على الكفر والجحود ، هو خير دليل على اختياريته ، وعدم وجود مانع قاهر عن الإيمان.

وذكر في المقام الثاني وجوها عشرة على أنّ المعلوم لا ينقلب عما هو عليه بسبب العلم ؛ لأن العلم إنما يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، فإن كان ممكنا علمه ممكنا ، وإن كان واجبا علمه واجبا ، ولا شك أنّ الإيمان والكفر كل واحد بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود ، فلو صار واجبا بسبب العلم ، كان العلم مؤثرا في المعلوم ، وهو باطل بالضرورة.

وأيضا فان الله تعالى قال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) وقال : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) وقال : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(٣) فكيف يكلف الله العبيد ما لا يطيقون؟!

وفي المقام الثالث ، نقل عن القاضي عبد الجبار جواب المعتزلة عن الأشاعرة ، وتخطئة انقلاب العلم جهلا والصدق كذبا. قال الكعبي وأبو الحسين البصري : إنّ العلم تبع المعلوم ، فإذا فرضت الواقع من العبد الإيمان عرفت أنّ الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان عرفت أنّ الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان. فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا أنه تغيّر العلم. قال الإمام الرازي : فهذا الجواب هو الّذي اعتمده جمهور المعتزلة.

قلت : وقد عرفت قوّة استدلالهم ، وضعف دلائل خصومهم ، غير أنّ الإمام

__________________

(١) البقرة / ٢٨٦.

(٢) الحج / ٧٨.

(٣) الأعراف / ١٥٧.

٤٢٠