التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

قوله ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(١) يقول : وهذه صفة الخلفاء الراشدين الذين مكّنهم الله في الأرض ... وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم ؛ لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكّنوا في الأرض أقاموا بفروض الله عليهم ، وقد مكّنوا في الأرض ، فوجب أن يكونوا أئمة قائمين بأوامر الله ، منتهين عن زواجره ونواهيه. ولا يدخل معاوية في هؤلاء ؛ لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ، وليس معاوية من المهاجرين ، بل هو من الطلقاء (٢).

وعند قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)(٣) يقول : وفيه الدلالة على إمامة الخلفاء الأربعة أيضا ؛ لأن الله استخلفهم في الأرض ومكّن لهم كما جاء الوعد ، ولا يدخل فيهم معاوية ؛ لأنه لم يكن مؤمنا في ذلك الوقت (٤).

وعند قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٥). نجده يجعل عليّا عليه‌السلام هو المحق في قتاله ، ومعه كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم ، وكان معاوية من الفئة الباغية ؛ لحديث عمار ، ولم ينكره معاوية ، بل حاول تأويله (٦). قال الذهبي : فجعل عليا هو المحق وأما معاوية ومن معه فهم الفئة

__________________

(١) الحج / ٣٩ ـ ٤١.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ، ج ٣ ، ص ٢٤٦.

(٣) النور / ٥٥.

(٤) أحكام القرآن للجصّاص ، ج ٣ ، ص ٣٢٩.

(٥) الحجرات / ٩.

(٦) أحكام القرآن للجصاص ، ج ٣ ، ص ٤٠٠.

٣٦١

الباغية ، وكذلك كل من خرج على عليّ عليه‌السلام.

قال : وما كان أولى بصاحبنا أن يترك هذا التحامل على معاوية الصحابي ، ويفوّض أمره إلى الله ، ولا يلوي مثل هذه الآيات إلى ميوله وهواه (١).

قلت : ولعل نحوسة الدفاع عن معاوية قد أخذت صاحبنا الذهبي فانجرفت به إلى مهاوي الضلال ، وأخيرا إلى شر قتلة ، حشره الله مع مواليه (٢).

أحكام القرآن (المنسوب إلى الشافعي المتوفّى سنة ٢٠٤)

جمعه الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي النيسابوري الشافعي ، صاحب السنن الكبرى ، المتوفّى سنة (٤٥٨).

والكتاب يشتمل على ما جاء في كلام محمد بن إدريس الشافعي إمام الشافعية ، من استناد واستشهاد بآيات قرآنية ، في عامة أبواب الفقه ، فعمد البيهقي إلى جمعه وترتيبه وإبدائه في صورة تأليف مستقل. قال البيهقي : فرأيت من دلّت الدلالة على صحّة قوله ـ أبا عبد الله محمد بن إدريس الشّافعي المطّلبي ابن عم محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد أتى على بيان ما يجب علينا معرفته من أحكام القرآن ، وكان ذلك مفرّقا في كتبه المصنّفة في الأصول والأحكام ، فميّزته وجمعته في هذه الأجزاء على ترتيب المختصر ؛ ليكون طلب ذلك منه على من أراد أيسر ، واقتصرت في حكاية كلامه على ما يتبيّن منه المراد دون الإطناب ،

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٤٤٣.

(٢) إنه في أخريات حياته صانع حكومة مصر في مسالمتها مع أعداء الإسلام ، ومن ثم اغتالته أيدي مسلمة مصر دفاعا عن حريم الإسلام. وذلك في شعبان عام ١٣٩٧ ه‍ الموافق ١٩٧٧ م. و ١٣٥٦ ش.

٣٦٢

ونقلت من كلامه في أصول الفقه ، واستشهاده بالآيات الّتي احتاج إليه من الكتاب ، على غاية الاختصار ، ما يليق بهذا الكتاب.

ومما استند إليه الشافعي في مسائل العقيدة ، قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(١) قال : فلمّا حجبهم في السخط ، كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا.

وهكذا استدلّ على أنّ المشيئة لله بقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) قال : فأعلم خلقه أن المشيئة له (٣).

وفي مسائل أصول الفقه ، استند في حجّية خبر الواحد بآيات بعث الرسل ، إلى كل أمّة برسول واحد ، ثم جعل يسرد الآيات في ذلك : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...)(٤). (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ...)(٥). (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ...)(٦) وغير ذلك من آيات. قال : فأقام ـ جلّ ثناؤه ـ حجّته على خلقه في أنبيائه بالأعلام الّتي باينوا بها خلقه سواهم ، وكانت الحجّة على من شاهد أمور الأنبياء دلائلهم الّتي باينوا بها غيرهم ، وعلى من بعدهم ـ وكان الواحد في ذلك وأكثر منه سواء ـ تقوم الحجّة بالواحد منهم قيامها بالأكثر ... وكذا أقام الحجة على الأمم بواحد.

قال البيهقي : واحتج الشافعي بالآيات الّتي وردت في القرآن في فرض طاعة

__________________

(١) المطففين / ١٥.

(٢) الدهر / ٣٠.

(٣) أحكام القرآن للشافعي (البيهقي) ، ج ١ ، ص ٤٠.

(٤) نوح / ١.

(٥) الأعراف / ٦٥.

(٦) الأعراف / ٧٣.

٣٦٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده إلى يوم القيامة واحدا واحدا ، في أن على كل واحد طاعته ، ولم يكن أحد غاب عن رؤية رسول الله ، يعلم أمره إلّا بالخبر عنه ، وبسط الكلام فيه (١).

ومما استدلّ به في مسائل الأحكام وهي الكثرة الكثيرة ما حدّث الشافعي بإسناده إلى مجاهد ، قال : أقرب ما يكون العبد من الله ـ أو إلى الله ـ إذا كان ساجدا ، ألم تر إلى قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(٢) يعنى : افعل واقرب. قال الشافعي : ويشبه ما قال مجاهد ، والله أعلم ما قال ، أي ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وفي رواية حرملة عنه في قوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً)(٤) قال الشافعي : واحتمل السجود : أن يخرّ ، وذقنه ـ إذا خرّ ـ تلى الأرض ، ثم يكون سجوده على غير الذقن.

واستدل بآية (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٥) بوجوب الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلوات الفرائض. قال : فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع ، أولى منه في الصّلاة (٦).

ومن غريب استدلاله : أنه فهم من قوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)(٧) أنّ المني طاهر ؛ حيث كان أصل الإنسان

__________________

(١) أحكام القرآن للشافعي (البيهقي) ، ج ١ ، ص ٣١ ـ ٣٢.

(٢) العلق / ١٩.

(٣) ممّا أثبته الشافعي قبل أثر مجاهد.

(٤) الإسراء / ١٠٧.

(٥) الأحزاب / ٥٦.

(٦) أحكام القرآن ، ج ١ ، ص ٧٠ ـ ٧٢.

(٧) السجدة / ٧ ـ ٨.

٣٦٤

من ماء وتراب ، وهما طاهران ، فخلق النسل من ماء يدلّ على طهارته أيضا. قال : بدأ الله خلق آدم من ماء وطين ، وجعلهما معا طهارة ، وبدأ خلق ولده من ماء دافق. فكان في ابتداء خلق آدم من الطاهرين اللذين هما الطهارة دلالة لابتداء خلق غيره أنه من ماء طاهر لا نجس. قال : المني ليس بنجس ؛ لأن الله أكرم من أن يبتدئ خلق من كرّمه من نجس. قال : ولو لم يكن في هذا ـ أي طهارة المني ـ خبر عن النبي ؛ لكان ينبغي أن تكون العقول تعلم أن الله لا يبتدئ خلق من كرّمه وأسكنه جنّته من نجس. ثم ذكر الخبر الوارد في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يغسل ثوبه من مني أصابه (١).

والكتاب مطبوع جزءين في مجلد واحد.

أحكام القرآن لكياالهرّاسي الشافعي أيضا

هو عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكياالهراسي (٢). فقيه شافعي ، أصله من خراسان ثم رحل إلى نيسابور ، وتفقه على إمام الحرمين الجويني مدّة حتى برع ، ثم خرج إلى بيهق ثم إلى العراق ، وتولّى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد ، إلى أن توفي سنة (٥٠٤).

يعتبر كتابه هذا من أهمّ المؤلّفات في أحكام القرآن عند الشافعيّة ؛ ذلك لتعصّب المؤلّف فيه لمذهب الشافعي ، محاولا بكل جهده تفسير الآيات في صالح مذهبه. يقول في مقدمته : «إن مذهب الشافعي أسدّ المذاهب وأقومها وأرشدها وأحكمها ، وإن نظر الشافعي في أكثر آرائه ومعظم أبحاثه ، يترقّى عن

__________________

(١) أحكام القرآن ، ج ١ ، ص ٨١ ـ ٨٢.

(٢) كيا : كلمة فارسية ، معناها : الكبير القدر ، المقدّم بين الناس.

٣٦٥

حدّ الظنّ والتخمين إلى درجة الحق واليقين ... وإن الله فتح له من أبوابه ، ويسّر عليه من أسبابه ، ورفع له من حجابه ، ما لم يسهل لمن سواه ، ولم يتأتّ لمن عداه». هكذا يتعصّب لمذهب الشافعي ، ويحاول ترجيحه على سائر المذاهب.

قال الذهبي : إنّ تقديم الكتاب بمثل هذا الكلام ناطق بأن الرجل متعصّب لمذهبه ، وشاهد عليه بأنه سوف يسلك في كتابه مسلك الدفاع عن قواعد الشافعي وفروع مذهبه ، وإن أدّاه ذلك إلى التعسّف والتأويل. قال : ودونك الكتاب ، لتقف على مبلغ تعصّب صاحبه وتعسّفه (١).

وله حملات عنيفة على الجصّاص ، مقابلة له بالمثل ، فراجع الكتاب. والكتاب مطبوع أربعة أجزاء في مجلدين.

أحكام القرآن لابن العربي المالكي

هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأندلسي ، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفّاظها ، توفي سنة (٥٤٣). كان من أهل التفنّن في العلوم والتبحّر فيها ، متكلّما في أنواعها ، نافذا في جمعها ، حريصا في طلبها.

ويعتبر هذا الكتاب مرجعا مهمّا للتفسير الفقهي عند المالكية ؛ حيث مؤلفه مالكي متأثّر بمذهبه ، فظهرت عليه في تفسيره روح التعصّب والدفاع عنه ، وربما حمل على مخالفيه حملة عشواء ، بما لا يتناسب ومقام الفقهاء العظام.

وعلى أي حال ، فهو كتاب حافل بالأدب واللغة مضافا إلى عرض مذاهب السلف في الفتيا ، والاستظهار من كتاب الله. تراه قد يطيل البحث بالقيل والقال ،

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٤٤٥.

٣٦٦

وردّا على مخالفي رأي أصحابه ، من غير جدوى. نجده عند آية الوضوء (١) يتعرّض لأصحاب الشافعي في اعتبارهم النيّة في الوضوء ، يقول : ظنّ ظانّون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء ، أنه لمّا أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة دلّ على أنه أوجبه لأجله ، وأنه أوجب به النية.

وهذا لا يصحّ ، فإن إيجاب الله سبحانه الوضوء لأجل الحدث لا يدلّ على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك ، بل يجوز أن يجب لأجله ، ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة وبنيتها لأجله ... ويسهب في الكلام هنا ، وينتهي إلى قوله : فركب على هذا سفاسفة المفتين ، وأوردوا فيها نصّا عمن لا يفرّق بين الظن واليقين.

وينتقل بعد ذلك إلى الكلام حول (وَأَيْدِيَكُمْ) ، فيقول : اليد عبارة عمّا بين المنكب والظفر ، وهي ذات أجزاء وأسماء ، منها المنكب ومنها الكف والأصابع ، وهو محل البطش والتصرف العام في المنافع ، وهو معنى اليد. وغسلهما في الوضوء مرتين : إحداهما عند أوّل محاولة الوضوء وهو سنة ، والثانية في أثناء الوضوء وهو فرض.

قوله : (إِلَى الْمَرافِقِ). وذكر أهل التأويل في ذلك ثلاثة أقاويل :

الأول : أنّ «إلى» بمعنى «مع» ، كما قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(٢) معناه : مع أموالكم.

الثاني : أنّ «إلى» حدّ ، والحدّ إذا كان من جنس المحدود دخل فيه.

الثالث : أن المرافق حد الساقط لا حد المفروض. قاله القاضي عبد الوهاب ،

__________________

(١) المائدة / ٦.

(٢) النساء / ٢.

٣٦٧

وما رأيته لغيره.

وتحقيقه أنّ قوله : «وأيديكم» يقتضي بمطلقه من الظفر إلى المنكب ، فلما قال : إلى المرافق أسقط ما بين المنكب والمرافق ، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر. وهذا كلام صحيح يجري على الأصول ، لغة ومعنى.

وأما قولهم : إنّ «إلى» بمعنى «مع» فلا سبيل إلى وضع حرف موضع حرف ، وإنما يكون كل حرف بمعناه ، وتتصرّف معاني الأفعال ، ويكون التأويل فيها لا في الحروف. ومعنى قوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) على التأويل الأول : فاغسلوا أيديكم مضافة ، إلى المرافق. وكذلك قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) معناه : مضافة إلى أموالكم.

وقد روى الدارقطني وغيره ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا توضّأ أدار الماء على مرفقيه (١).

ومما يمتاز به هذا الكتاب ، كراهته للإسرائيليات ، كما أنه شديد النفرة من الخوض فيها ، فهو عند ما تعرض لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(٢) نجده يقول : «المسألة الثانية» في الحديث عن بني إسرائيل ، كثر استرسال العلماء في الحديث عنهم في كل طريق. وقد ثبت عن النبي أنه قال : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ومعنى هذا الخبر : الحديث عنهم بما يخبرون به عن أنفسهم وقصصهم ، لا بما يخبرون به عن غيرهم ؛ لأن إخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة والثبوت إلى منتهى الخبر ، وما يخبرون به عن أنفسهم فيكون من باب

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي ، ج ٢ ، ص ٥٦٢ ـ ٥٦٥.

(٢) البقرة / ٦٧.

٣٦٨

إقرار المرء على نفسه أو قومه ، فهو أعلم بذلك. وإذا أخبروا عن شرع لم يلزم قبوله. ففي رواية مالك عن عمر ، أنه قال : رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أمسك مصحفا قد تشرّمت حواشيه (١). فقال : ما هذا؟ قلت : جزء من التوراة! فغضب وقال : والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي (٢).

والكتاب مطبوع في أربع مجلدات ، طبعة أنيقة.

أحكام القرآن ـ للراوندي (فقه القرآن)

تأليف الفقيه المحدّث المفسّر الأديب ، قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي ، المتوفّى سنة (٥٧٣). كان فاضلا وعالما جامعا لأنواع العلوم ، له مصنّفات في مختلف العلوم الإسلاميّة ، فيما يقرب من ستين مؤلّفا ، من أجملها : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ، وعليه اعتمد ابن أبي الحديد في شرح النهج. ومنها هذا الكتاب الذي نحن بصدده ، وهو من خير كتب أحكام القرآن وأقدمها وأجلّها. وهو مرتّب حسب ترتيب أبواب الفقه ، حاويا في كل باب على آيات متناسبة مع فروع المسائل في ذلك الباب. ومن ثمّ فهو أشبه بالتفسير الموضوعي للآيات المرتبطة بالأحكام. وهو غاية في الإيجاز والاختصار بما أوجب إبهاما ، في أكثر الأحيان.

مثلا يذكر قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ)(٣) ويروي عن ابن عباس : كل تسبيح

__________________

(١) المصحف : مجموعة صحائف. تشرّم : تشقّق وتمزّق.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي ، ج ١ ، ص ٢٣.

(٣) النور / ٣٦ ـ ٣٧.

٣٦٩

في القرآن صلاة.

وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : أن الله مدح قوما بأنهم إذا دخل وقت الصلاة تركوا تجارتهم وبيعهم واشتغلوا بالصلاة.

قال : وهذان الوقتان من أصعب ما يكون على المتبايعين ، وهما : الغداة والعشيّ؟!

ثم ذكر قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ)(١)

قال : إنما أضاف الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد والعدل ؛ لأن فيها التعظيم لله عند التكبير ، وفيها تلاوة القرآن التي تدعو إلى كل برّ ، وفيها الركوع والسجود ، وهما غاية خضوع لله ، وفيها التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى.

وإنما جمع بين صلاته وحياته وإحداهما من فعله والأخرى من فعل الله ؛ لأنهما جميعا بتدبير الله؟! والكيفيات المفروضة في أول كل ركعة ثمانية عشر. وفي أصحابنا من يزيد في العدد. وإن كانت الواجبات بحالها في القولين (٢).

قلت : لا يخفى مواضع الإبهام والإجمال في هذا الوجيز من الكلام.

والكتاب مطبوع في مجلدين ، بتحقيق السيد أحمد الحسيني ـ قم ـ.

أحكام القرآن ـ للسيوري (كنز العرفان في فقه القرآن)

هو جمال الدين أبو عبد الله المقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد

__________________

(١) الأنعام / ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) فقه القرآن ، ج ١ ، ص ١١١.

٣٧٠

السيوري الحلّي الأسدي ، المعروف بالفاضل المقداد. كان من أجلّاء الأصحاب وعظماء المشايخ ، عالما فاضلا متكلّما محققا فقيها. توفّي سنة (٨٢٦) ، ودفن في النجف الأشرف.

وهو صاحب مؤلفات جليلة وقيّمة ، منها هذا الكتاب ، ومنها : التنقيح الرائع في شرح المختصر النافع ، في الفقه. ومنها : اللوامع في المباحث الكلامية. وكتابه : «النافع في شرح الباب الحادي عشر» ، معروف.

وكتابه هذا ـ كنز العرفان ـ مرتّب حسب ترتيب أبواب الفقه أيضا. وقد طبع الكتاب جزءين في مجلد واحد ، وهو كثير الفائدة ، متوسّع في البحث على اختصاره. ويتعرّض للمباحث اللغوية والأدبية المتناسبة ، في غاية الوجازة والإيفاء ، الأمر الذي يدلّ على سعة باع المؤلّف ، وتضلّعه في الأدب واللغة والبيان ، مضافا إلى قوّة الاستدلال ، وصلابته في إقامة البرهان.

زبدة البيان في أحكام القرآن للمقدس الأردبيلي

هو المولى الفقيه المحقّق أحمد بن محمد الأردبيلي المتوفّى سنة (٩٩٣). كان أعلم أهل زمانه في الفقه والكلام ، عظيم المنزلة رفيع الشّأن ، صاحب كتاب «مجمع الفائدة» في شرح الإرشاد.

وهذا الكتاب أيضا مرتّب حسب ترتيب أبواب الفقه ، ولا يتجاوز في البحث عن مسائل الأحكام العملية ، على غرار متون الكتب الفقهية البحتة. وأكثر كتب آيات الأحكام التي ألّفها الأصحاب ، على ذلك ، لم يتجاوزوا حدود الأحكام. وهو كتاب جيّد حسن الترتيب ، متين الاستدلال ، قويّ البرهان.

٣٧١

مسالك الأفهام ـ إلى آيات الأحكام للفاضل الجواد الكاظمي

هو شمس الدين أبو عبد الله محمد الجواد بن سعد بن الجواد الكاظمي ، من أعلام القرن الحادي عشر. وهو أيضا مرتّب حسب ترتيب الفقه ، مطبوع أربعة أجزاء في مجلّدين. وهو من أبسط التفاسير الفقهية ، على مشرب أصحابنا الإمامية ، ومن اتقنها.

قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر

لأحمد بن إسماعيل بن عبد النبي الجزائري ، المتوفّى سنة (١١٥١). وهو من أجلّ كتب آيات الأحكام وأنفعها ، وأشملها لفروع المسائل ، وهو مطبوع طبعة أنيقة.

آيات الأحكام ـ للسيد الطباطبائي اليزدي

هو السيد محمد الحسين اليزدي المتوفّى (١٣٨٦). وهو مرتّب حسب ترتيب السور ، مع مقدمة وجيزة نافعة.

٣٧٢

التفاسير الجامعة

وهو ثالث أنواع التفسير الّتي ظهرت إلى الوجود : التفسير النقلي (التفسير بالمأثور) ، ثم التفسير الفقهي (آيات الأحكام) ، وثالثا التفاسير الاجتهادية الجامعة ، والتي تعرضت لجوانب من الكلام النظري حول تفسير القرآن.

وهذه التفاسير الاجتهادية الجامعة من أقدم أنواع التفسير بعد التفسير بالمأثور ، وتشمل الكلام في جوانب مختلفة من التفسير ، لغة وأدبا وفقها وكلاما ، حسب تنوّع العلوم والمعارف الّتي كانت دارجة ذلك العهد. نعم كان قد يغلب على بعض هذه التفسير لون التخصّص الذي كان يتخصّص فيه صاحب التفسير ، من براعة في أدب أو فقه أو كلام. غير أنّ ذلك لم يكد يخرج بالتفسير عن كونه من التفسير الاجتهادي الجامع ، وليس في طابع ذي لون واحد.

ونحن ذاكرون الأهمّ من هذه التفاسير التي احتلّت المحل الأرفع في الأوساط العلمية ، طول عهد الإسلام ، ونضعها موضع دراستنا ، بحثا وراء معرفة قيمتها في عالم التفسير :

التبيان ـ في تفسير القرآن لأبي جعفر الطوسي (٤٦٠)

هو الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، نسبة إلى «طوس» من بلاد خراسان ، الآهلة بالعلم والثقافة والعمران ، ولا تزال معهدا للدراسات الإسلامية ؛ حيث مثوى الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، وتعدّ اليوم من أكبر مدن إيران الإسلامية المزدهرة.

٣٧٣

وشيخنا العلامة الطوسي ، يعدّ علما من أعلام الطائفة وشيخها المقدّم وإمامها الأسبق ، سبّاق العلوم والمعارف الإسلامية ، والقدوة العليا لمن كتب وألّف في شتى شئون العلوم الإسلامية ، من فقه وتفسير وكلام ، فضلا عن الأصول والرجال والحديث.

ولقّب بشيخ الطائفة ؛ لأنه زعيمها وقائدها وسائقها ومعلّمها الأول في مختلف العلوم.

ولد بطوس في شهر رمضان سنة (٣٨٥). وهاجر إلى بغداد سنة (٤٠٨) أيّام زعامة عميد الطائفة محمد بن محمد بن النعمان المشتهر بالشيخ المفيد. فلازمه ملازمة الظل ، وعكف على الاستفادة منه ، وأدرك ابن الغضائري وشارك النجاشي. وبعد وفاة شيخه المفيد سنة (٤١٣) وانتقال الزعامة إلى علم الهدى السيد المرتضى ، انحاز الشيخ إليه ولازم الحضور تحت منبره ، وعنى به المرتضى وبالغ في توجيهه وتلقينه. وبقي ملازما له طيلة (٢٣) سنة ، حتى توفي السيد سنة (٤٣٦) فاستقل شيخ الطائفة بأعباء الإمامة ، وظهوره على منصّة الزعامة ، وأصبح علما من أعلام الشيعة ومنارا للشريعة ، وكانت داره في الكرخ مأوى الأمّة ومقصد الوفّاد ، يأتونه من كل صوب ومكان. وتصدّر كرسي الكلام في بغداد ، بطلب من الخليفة القادر بالله العباسي ؛ حيث لم يكن في بغداد يومذاك من يفوقه قدرا أو يفضّل عليه علما ومعرفة ، بمباني الشريعة وأصول الكلام فيها.

ولم يزل شيخنا المعظم إمام عصره وعزيز مصره ، حتى ثارت القلاقل وحدثت الفتن في بغداد ، واتّسع ذلك على عهد طغرل بيك أوّل ملوك السلاجقة ، فإنه ورد بغداد وكان أول ما فعل أن شنّ الإغارة على الكرخ ، وأحرق مكتبة الشيعة هناك ، والتي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي. وكان قد جمع فيها من كتب فارس والعراق ، واستجلب من بلاد الهند والصين

٣٧٤

والروم. فكانت مكتبة ضخمة ثريّة ، ربما تنوف كتبها على عشرات الألوف ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفين.

ومن ثم اضطرّ شيخنا أبو جعفر إلى الهجرة إلى النجف الأشرف سنة (٤٤٩) ، واستفرغ للعكوف على التأليف والتصنيف ، وفيها خرجت أمّهات كتبه وتآليفه ، أمثال : المبسوط ، والخلاف ، والنهاية في الفقه ، والتبيان في التفسير ، والتهذيب ، والاستبصار في الحديث ، والاقتصاد ، والتمهيد في الكلام ، وسائر كتبه الرجالية وغيرها.

فيا له من منبع علم ومدّخر فضيلة ، ازدهر به العالم الإسلامي ، نورا وعلما وحياة نابضة ، فقد بارك الله فيه وفي عمره (٣٨٥ ـ ٤٦٠) ٧٥

التعريف بهذا التفسير

هو تفسير حافل جامع ، وشامل لمختلف أبعاد الكلام حول القرآن ، لغة وأدبا ، قراءة ونحوا ، تفسيرا وتأويلا ، فقها وكلاما ... بحيث لم يترك جانبا من جوانب هذا الكلام الإلهي الخالد ، إلّا وبحث عنه بحثا وافيا ، في وجازة وإيفاء بيان.

يبدو من ارجاعات الشيخ في تفسيره إلى كتبه الفقهية والأصولية والكلامية ، أنه كتب التفسير متأخرا عن سائر كتبه في سائر العلوم ، ومن ثم فإن هذا الكتاب يحظى بقوّة ومتانة وقدرة علمية فائقة ، شأن أي كتاب جاء تأليفه في سنين عالية من حياة المؤلّف.

وبحق فإن هذا التفسير حاز قصب السبق من بين سائر التفاسير التي كانت دارجة لحد ذاك الوقت ، والّتي كانت أكثرها مختصرات ، تعالج جانبا من التفسير دون جميع جوانبه ، مما أوجب أن يكون هذا التفسير جامعا لكلّ ما ذكره

٣٧٥

المفسرون من قبل ، وحاويا لجميع ما بحثه السابقون عليه.

قال الشيخ في مقدمة تفسيره : فإن الّذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب ، أني لم أجد أحدا من أصحابنا قديما وحديثا من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القرآن ، ويشتمل على فنون معانيه ، وإنما سلك جماعة منهم في جمع ما رواه ونقله وانتهى إليه في الكتب المروية في الحديث ، ولم يتعرّض أحد منهم لاستيفاء ذلك وتفسير ما يحتاج إليه ، فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأمة ، بين مطيل في جميع معانيه ، واستيعاب ما قيل فيه من فنونه ـ كالطبري وغيره ـ وبين مقصّر اقتصر على ذكر غريبه ، ومعاني ألفاظه. وسلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت فيه منّتهم (١) ، وتركوا ما لا معرفة لهم به قال : وأنا إن شاء الله تعالى أشرع في ذلك على وجه الإيجاز والاختصار لكل فن من فنونه ، ولا أطيل فيملّه الناظر فيه ، ولا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه.

فهو تفسير وسط جامع شامل ، حاويا لمحاسن من تقدّمه ، تاركا فضول الكلام فيه مما يملّ قارئيه ، فجاء في أحسن ترتيب وأجمل تأليف ؛ فلله درّه وعليه أجره.

منهجه في التفسير

أما المنهج الّذي سلكه في تفسير القرآن ، فهو المنهج الصحيح الّذي مشى عليه أكثر المفسرين المتقنين ، فيبدأ بذكر مقدمات تمهيدية ، تقع نافعة في معرفة أساليب القرآن ، ومناهج بيانه وسائر شئونه ، مما يرتبط بالتفسير والتأويل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، ومعرفة وجوه إعجاز القرآن ، وأحكام تلاوته وقراءته ، وأنه نزل بحرف واحد ، والكلام عن الحديث

__________________

(١) المنّة ـ بضم الميم ـ : القوّة. والكلمة من الأضداد.

٣٧٦

المعروف : نزل القرآن على سبعة أحرف. والتعرّض لأسامي القرآن وأسامي سوره وآياته ، وما إلى ذلك.

أمّا صلب التفسير ، فيبدأ بذكر الآية ، ويتعرّض لغريب لغتها ، واختلاف القراءة فيها ، ثم التعرّض لمختلف الأقوال والآراء وينتهى إلى تفسير الآية تفسيرا معنويا في غاية الوجازة والإيفاء. وهكذا يذكر أسباب النزول ، والمسائل الكلامية المستفادة من ظاهر الآية ، حسب إمكان اللغة والأدب الرفيع ، كما يتعرّض للمسائل الخلافية في الفقه والأحكام ، ومسائل الاعتقاد ونحوها. كل ذلك مع عفّ اللسان وحسن الأدب في التعبير.

ومما يجدر التنبّه له ، أنّ هذا التفسير يتعرّض لمسائل علم الكلام ، في صبغة أدبية رفيعة ، ولا يترك موضعا من الآيات الكريمة الّتي جاءت فيها الإشارة إلى جانب من مسائل العقيدة ، إلّا وتعرض لها ، وأكثر في تفصيل وبسط كلام. وهذا من اختصاص هذا التفسير.

يقول المؤلّف في المقدمة : وسمعت جماعة من أصحابنا قديما وحديثا يرغبون في كتاب مقتصد ، يجتمع على جميع فنون علم القرآن : من القراءة ، والمعاني ، والإعراب ، والكلام على المتشابه ، والجواب عن مطاعن الملحدين فيه ، وأنواع المبطلين ، كالمجبرة والمشبّهة والمجسّمة وغيرهم ، وذكر ما يختص أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه ، على صحّة مذهبهم في أصول الديانات وفروعها. وأنا إن شاء الله تعالى أشرع في ذلك على وجه الإيجاز والاختصار لكل فن من فنونه ، ولا أطيل ، فيملّه الناظر فيه ، ولا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه.

ولنذكر أمثلة على ذلك :

مثلا عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ

٣٧٧

يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(١) يقول :

واعلم أنّ هذه الآية من الأدلّة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبي بلا فصل. وجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أنّ الولي في الآية بمعنى الأولى والأحق ، وثبت أيضا أنّ المعنى بقوله : «والذين آمنوا» أمير المؤمنين. فإذا ثبت هذان الأصلان ، دلّ على إمامته.

ثم أخذ في بيان كون المراد من «الولي» في الآية هو الأولى بالأمر ؛ لأنه المتبادر من اللفظ. واستشهد بقول العرب ، وبآيات وأشعار ، وشواهد أخر. وأخذ في بيان دلالة «إنما» على الحصر ، كما أثبت من رواية أكثر المفسرين على نزولها في علي عليه‌السلام (٢).

وعند قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(٣) يروي عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام : أنهم الأئمة المعصومون ، وقيل : هم أمراء السرايا والولاة ، وقيل : هم أهل العلم والفقه الملازمين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال الجبائي : هذا لا يجوز ؛ لأنّ «أولى الأمر» ، من لهم الأمر على الناس بولاية. قال الشيخ : والأوّل أقوى ؛ لأنه تعالى بيّن أنهم متى ردّوه إلى أولي العلم علموه ، والردّ إلى من ليس بمعصوم ، لا يوجب العلم ؛ لجواز الخطأ عليه بلا خلاف ، سواء أكانوا أمراء السرايا ، أو العلماء (٤).

وعند قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ

__________________

(١) المائدة / ٥٥.

(٢) التبيان ، ج ٣ ، ص ٥٥٩.

(٣) النساء / ٨٣.

(٤) التبيان ، ج ٣ ، ص ٢٧٣.

٣٧٨

اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١)

قال : فيمن تعود «الهاء» إليه قولان : أحدهما : قال الزجاج : إنها تعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والثاني : قال الجبائي : تعود إلى أبي بكر ؛ لانه كان الخائف واحتاج إلى الأمن. قال الشيخ : والأول أصحّ ؛ لأنّ جميع الكنايات قبل هذا وبعده راجعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يليق أن يتخلّل ذلك كله كناية عن غيره.

ثم قال : وليس في الآية ما يدلّ على تفضيل أبي بكر ؛ لان قوله : «ثاني اثنين» مجرد الإخبار أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ومعه غيره. وكذلك قوله : «إذ هما في الغار» خبر عن كونهما فيه. وقوله : «إذ يقول لصاحبه» لا مدح فيه أيضا ؛ لان تسمية الصاحب لا تفيد فضيلة ، ألا ترى أنّ الله تعالى قال في صفة المؤمن والكافر : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ)(٢) ، وقوله : «لا تحزن» إن لم يكن ذمّا فليس بمدح ، بل هو نهي محض عن الخوف. قوله : «إنّ الله معنا» ، قيل : إنّ المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة ؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد. إلى أن يقول : فأين موضع الفضيلة للرجل لو لا العناد. ثم أضاف : ولم نذكر هذا للطعن على أبي بكر ، بل بيّنا أن الاستدلال بالآية على الفضل غير صحيح (٣).

وفي مسألة «العدل» وتحكيم العقل في معرفة الصفات ، نراه يذهب مذهب

__________________

(١) التوبة / ٤٠.

(٢) الكهف / ٣٧.

(٣) التبيان ، ج ٥ ، ص ٢٢٠ ـ ٢٢٣.

٣٧٩

أهل الاعتدال في النظر ، فيؤوّل الآيات على خلاف ما يراه أهل الظاهر من الصفاتيين ، من الأشاعرة وأهل القول بالجبر والتشبيه.

مثلا ، في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(١) يقول : «ختم الله على قلوبهم» أي شهد عليها بأنها لا تقبل الحق. يقول القائل : أراك تختم على كل ما يقول فلان ، أي تشهد به وتصدّقه ، وذلك استعارة. وقيل : «ختم» بمعنى طبع فيها أثرا للذنوب ، كالسمة والعلامة ، لتعرفها الملائكة فيتبرّءوا منهم ، ولا يوالوهم ، ولا يستغفروا لهم. وقيل : المعنى أنّه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنّها لا يدخلها الإيمان ، ولا يخرج عنها الكفر. قال الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي (٢)

وعند قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(٣) يقول : والمعنى أنهم صم عن الحق لا يعرفونه ؛ لأنهم كانوا يسمعون بآذانهم. وبكم عن الحق لا ينطقون. مع أن ألسنتهم صحيحة ، عمي لا يعرفون الحق وأعينهم صحيحة ، كما قال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(٤). قال : وهذا يدل على أن قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) و (طَبَعَ اللهُ عَلَيْها)(٥) ليس هو على وجه الحيلولة بينهم وبين الإيمان ؛ لأنه وصفهم بالصم والبكم والعمى مع صحة حواسهم ، وإنما أخبر بذلك عن إلفهم الكفر واستثقالهم للحق والإيمان ، كأنهم ما سمعوه

__________________

(١) البقرة / ٧.

(٢) التبيان ، ج ١ ، ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) البقرة / ١٨.

(٤) الأعراف / ١٩٨.

(٥) النساء / ١٥٥.

٣٨٠