التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

على عصمة الملائكة ، فإن كان ولا بدّ فهو تخصيص ، كما في شأن إبليس على القول بأنه من الملائكة ، ثم يذكر القصة نقلا عن الإمام أحمد في مسنده ، يرفعها إلى النبي ، لكنه يشكك في صحة السند ورفعه. وأخيرا يستغربها. ويذكرها أيضا بطريقين آخرين ويستغربهما ، وفي نهاية الأمر يقول : وأقرب ما يكون في هذا أنّه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار ، لا عن النبي ، إذن فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار ، عن كتب بني إسرائيل.

ثم يذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين. ويذكر عن علي عليه‌السلام أنه لعن الزهرة ، لأنها فتنت الملكين. ويعقبه بقوله : وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا.

ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس وعن مجاهد أيضا ، ثم يقول : وهذا إسناد جيّد إلى عبد الله بن عمر ، وأضاف : وقد تقدّم أنه من روايته عن كعب الأحبار.

وفي النهاية يقول : وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين وقصّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح ، متصل الإسناد إلى الصادق المصدّق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى (١).

انظر إلى هذا التحقيق الأنيق بشأن خرافة إسرائيلية غفل عنها أكثر المفسرين.

وكذا في قصة البقرة ، نراه يقصّ علينا قصة طويلة مسهبة وغريبة على ما ذكره المفسرون ويعقّبها بقوله : وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدّي وغيرهم ، فيها اختلاف ، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل ، وهي مما

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ١٣٧ ـ ١٤١.

٣٤١

يجوز نقلها ، ولكن لا تصدق ولا تكذب ، فلهذا لا يعتمد عليها إلّا ما وافق الحق عندنا (١).

قوله : «وهي مما يجوز نقلها» هذا إنما تبع في ذلك شيخه ابن تيمية في تجويز الحديث عن بني إسرائيل ، ولكن من غير تكذيب ولا تصديق. وقد تكلّمنا في ذلك عند الكلام عن الإسرائيليات ، وأنه يجب نبذها وعدم نقلها ، ولا سيما إذا كانت من الشائعات عندهم ، غير مثبتة في كتبهم ، والأكثر هو من ذلك.

وهكذا في تفسير سورة «ق» ، يذكر عن بعض السلف أنه جبل محيط بالأرض ، ثم يعقبه بقوله : وكأنّ هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم ، مما لا يصدق ولا يكذب ، وعندي أنّ هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم. كما افتري في هذه الأمة ـ مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها ـ أحاديث عن النبي وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلّة الحفاظ النقاد فيهم ، وشربهم للخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته. وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوّزه العقل ، فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ١٠٨ ـ ١١٠.

(٢) المصدر ، ج ٤ ، ص ٢٢١.

٣٤٢

١١ ـ تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)

هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربيّ الغرناطيّ كان عالما شغوفا باقتناء الكتب ، فكان فقيها عارفا بالأحكام والحديث والتفسير ، نحويّا أديبا بارعا في الأدب والنظم والنثر. توفّي سنة (٤٨١).

وتفسيره هذا من أعظم التفاسير بالمأثور ؛ حيث ملؤه النقد والتحقيق والتمحيص. فكانت له قيمته العلمية بين كتب التفسير ؛ حيث أضفى مؤلّفه عليه من روحه العلمية الفياضة ، ما أكسبه دقّة ورواجا وقبولا.

يقول ابن خلدون عند ما يتعرض لكتب التفسير بالمأثور : فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين ، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين ، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار ... وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا ، إلّا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود ... فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم (مسلمة اليهود) في أمثال هذه الأغراض (أسباب المكوّنات) أخبار موقوفة عليهم ، وليست مما يرجع إلى الأحكام ، فتتحرّى في الصّحة التي يجب بها العمل.

وتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها ـ كما قلنا ـ عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك ، إلّا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم ؛ لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملّة ، فتلقيت بالقبول من يومئذ.

فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص ، وجاء أبو محمد بن عطيّة من المتأخرين بالمغرب ، فلخّص تلك التفاسير كلها ، وتحرّى ما هو أقرب إلى

٣٤٣

الصحة منها ، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس ، حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد ، في كتاب آخر مشهور بالمشرق (١).

وبحق هو تفسير محرّر من أقاصيص مشوّهة إسرائيلية ، كانت دارجة لحد ذلك الحين. فهو من خير التفاسير بالمأثور ، وقد طبع أخيرا ، وخرجت منه مجلدات لحد الآن.

ونجد أبا حيان ـ في مقدمة تفسيره ـ يعقد مقارنة بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشري ، فيقول : وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص. وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص (٢).

ولهذا التفسير مقدمة جامعة نافعة تحتوي على مسائل ذات أهمية ، طبعت مستقلّة عن التفسير ، مع مقدمة كتاب «المباني». قام بنشرهما المستشرق آرثر جفرى ، وطبعتا عدة طبعات.

١٢ ـ تفسير الثعلبي (الكشف والبيان)

هو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري. توفّي سنة (٤٢٧). كان رأسا في التفسير والعربية. قال ابن خلّكان : كان أوحد زمانه في علم التفسير ، وصنّف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير (٣). وقال ياقوت : صاحب التصانيف الجليلة ، من التفسير الحاوي أنواع الفرائد ، من المعاني والإشارات ،

__________________

(١) المقدمة لابن خلدون ، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، الفصل الخامس.

(٢) تفسير البحر المحيط ، ج ١ ، ص ١٠.

(٣) راجع : وفيات الأعيان ، ج ١ ، ص ٣٧ ـ ٣٨.

٣٤٤

وكلمات أرباب الحقائق ، ووجوه الإعراب والقراءات (١). وهو صاحب كتاب «العرائس» في قصص الأنبياء.

من ميزات هذا التفسير : توسّعه في اللغة والأدب والوجوه والقراءات ، والإحاطة بكلام السلف ، والإجادة في نقلها وبسطها. فقد كان مفسّرنا كثير الشيوخ كثير الحديث صحيح النقل موثوق به (٢) ، غير أنه لم يتحر الصحة فيما ينقله من تفاسير السلف ، ومن وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين المكثرين من النقل. وقد جرّ على نفسه وعلى تفسيره ، بسبب هذه الكثرة من الإسرائيليات والموضوعات ، ما جرّه أكثر المفسرين السلف من اللّوم والنقد اللاذع. وقد اعتمد روايات الشيعة أيضا في تفسيره ، الأمر الذي أثار العتاب عليه بالخصوص ، وإلّا فهو وسائر أصحاب التفسير بالمأثور سواء.

١٣ ـ تفسير الثعالبي (الجواهر الحسان)

هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ، توفّي سنة (٨٧٦). كان من الأئمة الرحّالين في طلب العلم. وطار صيته بالفضل والزهد عن الدنيا. وأصبح آية في علم الحديث ، وخلّف كتبا كثيرا ألّفها على نمط أهل الحديث المكثرين.

إنه يتعرّض للقراءات أحيانا ، ويدخل في الصناعة النحوية نقلا عن غيره ، ويذكر الروايات المأثور في التفسير ، يذكرها بلا إسناد ، ويخوض الإسرائيليات خوضا بلا هوادة ، وفيه من آثار التعصب الشيء الكثير. والخلاصة : أن تفسيره هذا

__________________

(١) معجم الأدباء ، ج ٥ ، ص ٣٧.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٢٨ ـ ٢٣٥.

٣٤٥

لا يوازن نظائره من تفاسير سالفة.

١٤ ـ منهج الصادقين

للمولى فتح الله الكاشاني ، فقيه متكلّم صاحب نظر واختيار في التفسير ، من علماء العهد الصفوي. له تفسير باللغة العربيّة باسم «زبدة التفاسير» وهذا التفسير وضعه باللغة الفارسيّة خدمة لأبناء بلاده. وهو أوّل تفسير فارسي اشتهر وطبع عدّة مرّات في عشر مجلّدات. ثم ظهر تفسير أبي الفتوح الرازي في عهد متأخر والذي سبقه بقرون. وقد اعتمد المفسّر على أشهر التفاسير المعتمدة ، منها تفسير أبي الفتوح ومجمع البيان والبيضاوي والكشّاف. وقد اعتنى بالروايات اعتناء البالغ. وهو تفسير جيّد لطيف.

٣٤٦

النمط الثاني

التفسير الاجتهادي

* التفسير الفقهي (آيات الأحكام)

* التفاسير الجامعة

* التفسير في العصر الحديث

* التفاسير الأدبية

* التفاسير اللغوية

* التفاسير الموجزة

* التفاسير العرفانية (التفسير الرمزي والإشاري)

٣٤٧
٣٤٨

النمط الثاني

التفسير الاجتهادي

والتفسير الاجتهادي يعتمد العقل والنظر أكثر مما يعتمد النقل والأثر ؛ ليكون المناط في النقد والتمحيص هو دلالة العقل الرشيد والرأي السديد ، دون مجرد الاعتماد على المنقول من الآثار والأخبار. نعم لا ننكر أنّ مزالّ الأقدام في هذا المجال كثيرة ، وعواقبه وخيمة ، ومن ثم تجب الحيطة والحذر وإمعان النظر ، بعد التوكل على الله والاستعانة به ، الأمر الّذي يحصل عند حسن النيّة والإخلاص في العمل المستمر ، والله من وراء القصد.

والعمل الاجتهادي في التفسير شيء حصل في وقت مبكّر ، في عهد التابعين ؛ حيث انفتح باب الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر في التفسير ، وشاع النقد والتمحيص في المنقول من الآثار والأخبار. ولم يزل يتوسّع دائرة ذلك مع تقادم الزمان ، ومع تنوّع العلوم والمعارف التي ما زالت تتوفّر في الأوساط

٣٤٩

الإسلامية حينذاك.

وقد أسبقنا أن من ميزات تفسير التابعين ، فتح باب الاجتهاد والتوسع فيه ، وهكذا دأب من جاء بعدهم على التوسّع في النظر ، والتنوع في أبعاده ومراميه.

نعم كانت آفة ذلك ـ لدى الخروج عن دائرة التوقيف ، وولوج باب النظر وإعمال الرأي ـ هو خشية أن ينخرط التفسير في سلك التفسير بالرأي الممقوت عقلا ، والممنوع شرعا ؛ حيث لا يؤمن من عاقبة ذلك أن تزلّ قدم أو تهوي إلى مكان سحيق ، وبالفعل قد سقط أناس كثير.

ومن ثمّ تجب معرفة حدود «التفسير بالرأي» والوقوف على ثغوره ، وجوانبه وأبعاده ؛ لغاية الاجتناب عنه.

ونحن قد أوفينا الكلام حول مسألة «التفسير بالرّأي» (١) ويتلخّص في أنّ الممنوع منه هو ما كان بأحد وجهين :

١ ـ الاستبداد بالرأي في تفسير كلامه تعالى ، فيعتمد ما حانت له نظرته الخاصة ، غير مبال بما قاله العلماء من قبله ، فيعمد إلى تفسير آية ، اعتمادا على ما فهمه من لغة وأدب مجرّد ، من غير مراجعة لأقوال السلف ونظراتهم وتوجيهاتهم ، والمسالك التي سلكوها في فهم الآية ، وربما كانت قرائن ودلائل حافّة ، لا ينبغي التغافل عنها. من ذلك معرفة أسباب النزول ، وشرح الحوادث المقارنة لنزول الآية ، والمناسبة الّتي استدعت نزولها ، وكذا المأثور من كلام النبي والصحابة الأوّلين ، مما يعين على فهم كلام الله النازل على رسوله. وإنما يعرف القرآن من خوطب به ، فإغفال ذلك وإعفاء الآثار والدلائل المكتنفة ، حياد عن طريقة العقلاء في فهم الكلام ، فضلا عن كلامه تعالى ، ومن استبدّ برأيه هلك ، كما

__________________

(١) عند البحث عن صلاحيّة المفسر في الجزء الأول ، ص ٦١ ـ ٩٦ ؛ وما كاد يزلّه لو لم يتحذّر.

٣٥٠

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأيضا فإن علم التفسير ، علم انحدر من نقطة أولى ثم توسّع وتنوّع ، كسائر العلوم الّتي ورثتها البشرية من أسلافها العلماء. ولا ينبغي لعالم أن يعفي ما حققه الأسلاف ، وليس له أن يبدأ بما بدأ به الأوّلون ، وإلّا لم تكن العلوم لتزدهر وتتوسّع مع اطّراد الزمان.

والخلاصة : إن مراجعة الدلائل والشواهد القرآنية ، إلى جنب أقوال السلف وآرائهم ، شرط أساسي في معرفة كلام الله ، فمن استبد برأيه من دون مراجعة ذلك ، هلك وأهلك.

وهذا معنى الحديث الوارد : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» فلو فرض أنّه ربّما أصاب الواقع صدفة ، لكنه قد أخطأ الطريق التي تؤمّن عليه الإصابة لدى العقلاء.

٢ ـ أن يعمد إلى آية فيحاول تطبيقها على رأيه ـ مذهب أو عقيدة أو سلوك ـ ليبرّر موضعه من ذلك ، أو يجعل ذلك داعية لعقيدته أو سلوكه ، وهو ـ في الأغلب ـ يعلم أن لا مساس للآية بذلك ، وإنما هو تحميل عليها.

والعمدة : أنه لم يرم فهم معنى الآية وتفسيرها الواقعي ، وإنما رام دعم مذهبه وعقيدته بأيّ وسيلة كانت ، ومنها الآية إن وافق التقدير.

فهذا تحميل على الآية ، وليس تفسيرا لها ، ومن ثم فليتبوّأ مقعده من النار.

روى أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله عزوجل : «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» (١).

وروى أبو جعفر الطبري بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من

__________________

(١) الأمالي للصدوق ، ص ٦ ، المجلس الثاني.

٣٥١

قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (١).

إذن فمن سلك طريقة العقلاء في فهم الكلام ، واعتمد الدلائل والشواهد ، وراجع أقوال السلف الصالح ، ثم أعمل نظره في فهم كلام الله ، لم يكن مفسرا بالرأي ، لا مستبدا برأيه ولا محمّلا برأيه على القرآن الكريم ، والعصمة بالله سبحانه.

تنوّع التفسير الاجتهادي

ومما يجدر التّنبّه له ، أنّ التفسير الاجتهادي المبتني على إعمال الرأي والنظر ، يتنوّع تنوّعا حسب مواهب المفسرين وقدراتهم العلميّة والأدبيّة ، ومعطياتهم في العلوم والمعارف ؛ إذ كل صاحب فنّ وعلم إنما يجعل من صناعته العلمية وسيلة لفهم القرآن ، وينظر إليه من الزاوية الّتي كانت مقدرته متركّزة عليها ، ومن ثمّ تختلف براعة كل مفسر عن غيره ، في الجهة التي كانت قدرته العلمية أبرع وأمتن. فصاحب الأدب الرفيع ، إنما يفوق غيره في براعته الأدبية في التفسير ، وهكذا صاحب الفلسفة والكلام والفقه واللغة ، وحتى صاحب العلوم الطبيعية والرياضيات والأفلاك ، ونحو ذلك. فكل صاحب مهنة إنما يبرع في عمله ، إذا خاض التفسير من جهة صناعته ، ومن زاوية اختصاصه ، الأمر الذي جعل من التفسير متنوّعا ، حسب معطيات أصحاب التفاسير.

ومن ثم نستطيع أن ننوّع ألوان التفسير إلى : أدبي ولغوي ، كلامي وفلسفي وعرفاني ، اجتماعي وعلمي ، وجامع بين أمرين أو أمور من ذلك ؛ ليكون من

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٧.

٣٥٢

النوع الجامع ، الذي يغلب أكثر التفاسير. وليس معنى ذلك أنّ الأديب يتمحّض تفسيره في الأدب واللغة محضا أو الفقيه في الفقه محضا ، وكذا المتكلّم والفيلسوف والعارف وغيرهم ، بل إنما يغلب على تفسير الأديب صياغته الأدبية ، وعلى تفسير الفقيه صياغته الفقهية ، وهكذا ... وإن كان لا يخلو سائر أنواع التفسير مما كان في بعضها من اختصاص.

أمّا تفاسير أصحاب المذاهب كالمعتزلة والخوارج والصوفيّة وأمثالهم ، فهي إما داخلة في النوع الكلامي أو العرفاني ، وليس بخارج عن هذين اللّونين ، ولذلك كان تنويعنا للتفسير يختلف عن تنويع الآخرين بعض الشيء.

وعليه فينقسم التفسير الاجتهادي إلى : أدبي ، وفقهي ، وكلامي ، وفلسفي ، وعرفاني رمزي ، وصوفي إشاري ، واجتماعي ، وعلمي ، وجامع.

تلك أقسام للتفسير الغالبة عليه ، حسب ألوان الاجتهاد فيه. ولنتعرّض للأهم من كتب التفسير المدوّنة على هذه الألوان.

٣٥٣

التفسير الفقهي (آيات الأحكام)

وهي التفاسير الّتي تتعرض للآيات التي تتعلّق بالأحكام التكليفية والوضعية المرتبطة بأعمال المكلّفين ، ومن ثم فهو من التفسير الموضوعي الذي له تعرّض لجانب من الآيات القرآنية. قالوا : ويقرب من نحو خمسمائة آية (١) ، لها تعلّق مباشر بأعمال المكلفين من عبادات ومعاملات ، وإلّا فجميع آي القرآن هي دستورات عملية يجب على المسلمين أن يطبّقوا حياتهم الفكريّة والعملية عليها ، دستورا عاما شاملا لمناحي الحياة كلها.

على أنّ الأرجح أنّ الآيات المرتبطة بأعمال المكلفين ارتباطا تكليفيا في حياتهم ، تزيد على الخمسمائة ، بكثير ، وهي إلى الألفين آية أقرب منها إلى الخمسمائة ، ذلك أنا لو أمعنّا النظر في سائر الآيات ، وحققنا من فحواها العام ، مثلا : كان قوله تعالى ـ بشأن المرأة ـ : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(٢) ناظرا إلى جانب نفسيتها الخاصّة الرقيقة الفارهة ، وقصورها الذاتي عن الخوض في خضمّ معارك الحياة ، وهي نظرة علمية بشأن نفسيّة المرأة أبداها

__________________

(١) على ما ذكره الفاضل المقداد في مقدمة كتابه «كنز العرفان» ج ١ ، ص ٥. لكن جاء في فهرس آيات الاحكام لابن العربي أنها نحو من ثمانمائة آية (ج ٤ ، ص ١٩٩٤ ـ ٢٠٩٨). غير أنا لو نظرنا إلى القرآن من زاوية عنايته الخاصة بمسائل السياسة والاجتماع ، والتي أغفلها السلف ، واعتنى بها المتأخّرون ، لارتفعت أعداد آيات الأحكام إلى ما ينوف على الألفين آية.

(٢) الزخرف / ١٨.

٣٥٤

القرآن الكريم.

لكن يستفاد من ذلك ـ فقهيّا ـ أنها لا تصلح لتصدّي الشئون الإدارية الشائكة من ذوات التشابك والتصادم العنيف ؛ ومنها : أمور القضاء ، التي هي بحاجة إلى حدّة وشدة ، من ورائهما تعقّل واختيار حرّ ؛ حيث المرأة بطبيعتها أسيرة عاطفتها وأحاسيسها الرقيقة العاطفية الحادّة ، مما تجرف بها عن إمكان الخوض في معركة قضايا ذوات شجون ، وهي بحاجة إلى صلابة وصمود ووعي ، واختيار فكري تام.

المرأة تنظر إلى الحياة كمظاهر للزينة ، وتبهرها زبرجتها ، ومن ثم فجلّ اهتمامها التبرّج بمباهج الحياة الناعمة. أما هي في خضمّ معاركها فضعيفة ، خائرة القوى ، لا تستطيع إبداء ما في ضميرها إبداء كاملا لدى خصامها هي مع غيرها ، فكيف بها وهي تريد الفصل في خصومات الآخرين.

وقد استفدنا من هذه الآية ، عدم جواز تصدّيها لمنصب القضاء ، وهي من المئات الآيات التي أغفلت في كتب آيات الأحكام المعروفة.

أهم كتب آيات الأحكام

لا شك أنّ السنّة إلى جنب القرآن ، تفسير لجانب آيات أحكامه ، فما صدر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيّنته الصحابة الخيار والأئمة الأطهار ، هي تفاسير فقهية ، ورثته الأمة كابرا عن كابر ، ولكن بشكل غير مدوّن. وقد كان الصحابة والتابعون ، وكذا من بعدهم من علماء وفقهاء ، يراجعون القرآن فيما أشكل عليهم من أحكام وتكاليف وفرائض. وكانت الخلافات بين الصحابة وكذا بين التابعين وهكذا غيرهم من العلماء ، كانت ترجع إلى كيفية فهم النص القرآني في الفرائض

٣٥٥

وغيرها ، والشواهد على ذلك كثير.

وظلّ الأمر على ذلك إلى عهد ظهور أئمّة المذاهب والفقهاء المستنبطين من الكتاب والسنة. وفيه وجدت حوادث للمسلمين لم يسبق لمن تقدّم عليهم حكم عليها ؛ حيث لم تكن في عهدهم ولم تكن مورد ابتلائهم حينذاك ، وهي التي اصطلحوا على تسميتها ب «المسائل المستحدثة» ولا تزال تتجدّد مسائل هي تمس حياة المسلمين ، في مختلف شئونهم الفردية والاجتماعية ، السياسية والإدارية وغيرها. وهي كثير في كثير.

فكان كل فقيه ينظر في القرآن قبل كل شيء ليحلّ تلك المشاكل ، ويجيب على تلكم المسائل ، في ظل توجيهاته الكريمة ، ويحكم عليها بالحكم الذي ينقدح في ذهنه ، ويعتقد أنه الصحيح في رأيه ، ويدعمه بما لديه من أدلة وبراهين. وهذه الاستنباطات كان منها ما يتفق فيه آراء الفقهاء ، وكان منها ما تختلف. ولكن من غير أن تظهر منهم بادرة تعصّب في هذا الاختلاف ، وإنما هو مجرد اختلاف نظر ، قابل للتفاهم والتشاور أحيانا ؛ لأن الكل كانوا ينشدون الحق ويطلبون حكم الله الصحيح ، وليس بعزيز على الواحد منهم ـ وهم جميعا يخلصون العمل لله ـ أن يرجع إلى رأي مخالفه إن ظهر له الحق في جانبه.

وكان من نتيجة تلكم الخلافات في استنباط مباني الأحكام من القرآن الكريم ، أن دوّنت كتب مخصّصة لعرض الخلاف والوفاق ، في فهم معاني آيات الأحكام.

أحكام القرآن ـ للجصّاص الحنفي

هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصّاص ، توفّي سنة (٣٧٠). كان إمام الحنفيّة في وقته وإليه انتهت رئاسة الأصحاب. صاحب التآليف الكثيرة ،

٣٥٦

منها : أحكام القرآن ، كتبه على مباني مذهب أبي حنيفة ، ويعدّ من أهم الكتب المدوّنة في الموضوع ، ولعله أبسط الكتب في ذلك ، وقد تعرّض فيه لجوانب كثيرة من معاني آيات الأحكام في صورة مسهبة ، ومستوعبة كل جوانب الكلام ، بعيدا عن التعصّب المذهبي في غالب ما يكتبه ، وإن كان الأستاذ الذهبي قد رماه بالتعصّب لمذهب أبي حنيفة ، وتحامله على سائر الأئمة. لكنّا لم نر تحاملا منه ولا تعصّبا أعمى وإنما هو بيان الحق ، حسبما يراه.

مثلا عند ما تعرّض لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) نجده يحاول أن يجعل الآية دالّة على أنّ من دخل في صوم التطوع لزم اتمامه (٢).

وقد عدّ الذهبي ذلك منه تعسّفا وتعصّبا لرأي أبي حنيفة في ذلك (٣).

قلت : لا تعسّف ولا تعصّب ، بعد ظهور الآية في ذلك ، نظرا لإطلاق لفظها ، وهو مذهب المالكية أيضا. وعند الشّافعي وأحمد الإتمام مسنون (٤).

والاختلاف في قضاء صوم التطوّع إذا لم يكن عن عذر ، ناشئ عن اختلاف الأحاديث في ذلك (٥). والجصاص رجّح القضاء استنادا إلى ظاهر إطلاق الآية ، فلم يكن هناك تعسّف ؛ لأنه استناد إلى ظاهر الدليل ، كما لم يكن تعصّبا لمذهب أبي حنيفة بعد ذهاب مالك إليه أيضا.

وأما عند الشيعة الإمامية فهو بالخيار في صوم التطوع ما بينه وبين الزوال ،

__________________

(١) البقرة / ١٨٧.

(٢) أحكام القرآن للجصاص ، ج ١ ، ص ٢٧٤ ـ ٢٨٥.

(٣) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ٤٤٠.

(٤) الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٥٥٨.

(٥) راجع : ابن رشد الأندلسي ، في بداية المجتهد ، ج ١ ، ص ٣٢٢.

٣٥٧

ويكره بعد الزوال (١).

وعند ما تعرّض لقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ)(٢) قال الذهبي : نجده يحاول أن يستدلّ بالآية من عدّة وجوه ، على أنّ للمرأة أن تعقد نفسها بغير الولي وبغير إذنه (٣).

وهذا أيضا استظهار لطيف من الآية الكريمة ، ولعل الآخرين غفلوها ، على أنّ مسألة الولاية إنما تكون على الأبكار غير المتزوجات ؛ وذلك على القول به ، والمشهور عدم الولاية إطلاقا. نعم هو مندوب إليه.

وعند ما تعرّض لقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)(٤) وقوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)(٥) قال الذهبي : نجده يحاول أن يأخذ من مجموع الآيتين دليلا لمذهب أبي حنيفة ، القائل بوجوب دفع المال لليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، وإن لم يؤنس منه الرشد (٦).

نعم هنا تعسّف في الرأي ؛ لأنه أخذ بإطلاق الآية الأولى وحملها على ما بعد هذا السنّ ؛ وذلك لاتفاق الفقهاء على الاشتراط بإيناس الرشد قبل ذلك ، فما لم يبلغ خمسا وعشرين ، لا يدفع إليه ما لم يؤنس منه الرشد ، وأما إذا بلغها فيدفع

__________________

(١) راجع : الخلاف للشيخ الطوسي ، ج ١ ، ص ٤٠٠ ، م ٨٣.

(٢) البقرة / ٢٣٢.

(٣) أحكام القرآن للجصّاص ، ج ١ ، ص ٤٠٠.

(٤) النساء / ٢.

(٥) النساء / ٦.

(٦) أحكام القرآن ، ج ٢ ، ص ٤٩.

٣٥٨

إليه مطلقا ؛ وذلك عملا بالآيتين.

وهذا تعسّف في الاستدلال ؛ لأنه حمل للظاهر على بعض صوره من غير دليل ، على أنّ الإطلاق في الآية الأولى يجب تقييده بالآية الثانية ، وحمل المطلق على المقيّد ليس إبطالا للمطلق ، كما زعمه الجصّاص.

ومما أخذ عليه الذهبي حملته على مخالفيه ؛ بحيث لا يعفّ لسانه عنهم. قال : ثم إن الجصّاص مع تعصّبه لمذهبه وتعسّفه في التأويل ، ليس عفّ اللسان مع الإمام الشافعي ، ولا مع غيره من الأئمة.

وكثيرا ما نراه يرمي الشافعي وغيره من مخالفي الحنفية بعبارات شديدة ، لا تليق من مثل الجصّاص ، فمثلا عند ما تعرّض لآية المحرّمات من النساء نجده يعرض الخلاف الّذي بين الحنفية والشافعية ، في حكم من زنى بامرأة ، هل يجوز التزويج ببنتها أو لا؟

وتمسك الشافعي بأن الحرام لا يحرم الحلال ، ثم ذكر مناظرة له مع سائل سأله : كيف تحرم بنت المنكوحة ولا تحرم بنت المزني بها؟ فأجابه الشافعي بأن ذاك حلال وهذا حرام ، ولم يزد في الفرق بينهما على ذلك. وهنا يقول الجصّاص : فقد بان أن ما قاله الشافعي وما سلمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه. ثم يقول : ما ظننت أن أحدا ممن ينتدب لمناظرة خصم ، يبلغ به الإفلاس من الحجاج ، إلى أن يلجأ إلى مثل هذا ، مع سخافة عقل السائل وغباوته (١).

وفي هذا الكلام إهانة بموضع الشافعي ، وفرضه فيمن لا يعتدّ بشأنهم.

__________________

(١) أحكام القرآن ، ج ٢ ، ص ١١٨.

٣٥٩

قلت : لا شك أنّ استدلال الشّافعي هنا ضعيف ؛ إذ كثير من المحرّمات حرمن المحلّات ، كما في مسألة اللواط يحرّم أخته وأمه وبنته على اللاطي ، وكالعقد على المعتدّة والدخول بها ، والزنى بذات البعل.

وحديث «الحرام لا يحرّم الحلال» وارد فيمن أحل له فرج ثم زنى بأمها أو بنتها (١) فهو ناظر إلى السابق ، أي الحلال الفعلي لا الحلال الشأني. ومن الغريب أن الشافعي هنا أخذ بالقياس مع الفارق.

وهكذا أخذ عليه الذهبي ميله إلى مذهب الاعتزال ، وكذا تحامله على معاوية.

أما ميله إلى الاعتزال فلأنه نفى إمكان رؤيته تعالى ، وحمله أخبار الرؤية على العلم لو صحت (٢).

قلت : وهذا من كمال فضله ؛ حيث حكّم العقل على النقل ، وهو دأب المحصّلين.

وأما تحامله على معاوية فمن ثبات عقيدته وصلابته في دينه. إنّ معاوية بغى على إمام زمانه وخرج عليه بالسيف ، فعلى كل مسلم منابذته والتحامل عليه بالسيف ، فضلا عن اللسان. وسكوت بعض السلف في ذلك مراوغة خبيثة.

يقول الذهبي : إننا نلاحظ على الجصّاص أنه تبدو منه البغضاء لمعاوية ، ويتأثّر بذلك في تفسيره ، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) ـ إلى

__________________

(١) راجع : المسألة (٢٨) من أحكام المصاهرة ، من العروة الوثقى.

(٢) أحكام القرآن للجصاص ، ج ٣ ، ص ٤ ـ ٥.

٣٦٠