التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

لكنها محاولة فاشلة ، وفي نفس الوقت فاضحة ، إذ كيف يخفى على ذي لبّ أنّ مثل هكذا مواجهة مما يمتنع مع قوم ناكرين ومستهزئين بموقف النبي الكريم ، إنهم رفضوا دعوته ولجّوا في معاندته ، وحاولوا بكل جهدهم في تقويض دعائم الدّعوة والكسر من شوكتها. ثم جاء يطالبهم الأجر عليها ، أو يرغّبهم في نصرته عليها. إن هذا إلّا احتمال موهون ، وإزراء بمقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنيع.

إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمدّ يد الوداد إلى أعداء الله ، حتى ولو كانوا ذوي قرابته ، فكيف يطالبهم الموادة في قرباه! إذ لا قرابة مع الشرك ، ولا رحم مع رفض التوحيد. قال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)(١).

وأما الذي ذكره دليلا على اختياره ، فليته لم يذكره ؛ إذ يتنافى ذلك تنافيا كليا مع ما لمسناه في الرجل من براعة في الأدب. هذا الإمام جار الله الزمخشري يصرّح بنقيض اختيار الطبري ويسلك مسلكا نزيها مشرّفا ، وتبعه على ذلك عامة أهل النظر والاختيار في التفسير.

قال : ما معنى قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ فأجاب بقوله :

قلت : جعلوا مكانا للمودّة ومقرّا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحبّ شديد ، تريد : أحبّهم وهم مكان حبّي ومحلّه.

قال : وليست «في» بصلة ـ أي متعلقة ـ للمودّة ، كاللّام إذا قلت : إلّا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلّا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى : مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى : قرابة. والمراد : أهل القربى.

قال : روي أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قرابتك ، هؤلاء الذين

__________________

(١) الممتحنة / ١.

٣٢١

وجبت علينا مودّتهم؟ قال : عليّ وفاطمة وابناهما. وأتبعها بروايات أخر في هذا الشأن ، جزاه الله عن آل محمد خير الجزاء (١).

٢ ـ تفسير العياشي

تأليف أبي النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي المتوفّى سنة (٣٢٠) كان من أعلام المحدثين ، سمع جماعة من شيوخ الكوفيّين والبغداديّين والقمّيّين. كانت داره معهد علم ودراسة ، وكانت محل روّاد الحديث بين ناسخ أو مقابل أو قار أو معلّق. وقد أنفق جميع تركة أبيه ـ ثلاثمائة ألف دينار ـ في طلب العلم وتحصيله وبثّه ونشره. قالوا : وكان أكثر أهل المشرق علما وأدبا وفضلا وفهما ونبلا في زمانه. وكان له مجلسان : مجلس للخواص ، ومجلس للعوام.

قال ابن النديم : إنه من بني تميم ، من فقهاء الشيعة الإمامية ، أوحد دهره وزمانه في غزارة العلم.

ولكتبه بنواحي خراسان شأن من الشأن. وهو شيخ أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي ، صاحب كتاب الرّجال. وكتبه ما ينوف على مائتي كتاب ورسالة. كان في حداثة سنّه عامّي المذهب ، ثم استبصر وخدم الإسلام في مصنفاته الكثيرة ، وعلمه الغزير.

وله كتاب «التفسير» ، جمع فيه المأثور من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير القرآن ، ولقد أجاد وأفاد ، وذكر الروايات بأسانيدها في دقّة واعتبار.

غير أنّ هذا التفسير لم يصل إلينا إلّا مبتورا. فقد بتره أولا ناسخه ؛ حيث أسقط

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٣٢٢

الأسانيد ، واقتصر على متون الأحاديث ، معتذرا بأنّه لم يجد في دياره من يكون عنده سماع أو إجازة من المؤلف ؛ فلذلك حذف الأسانيد واكتفى بالباقي. ومن ثم قال المولى المجلسي بشأنه : إنّ اعتذاره هذا أشنع من فعلته بحذف الأسانيد.

والجهة الأخرى في بتر الكتاب ، عدم العثور على الجزء الثاني من جزئي التفسير ، فإنّ هذا الموجود ينتهي إلى نهاية سورة الكهف ، ولم توجد بقيّته.

نعم هناك بعض المتقدمين ، نقلوا منه أحاديث بأسانيد كاملة ، كانت عندهم منه نسخة كاملة ، منهم الحافظ الكبير عبيد الله بن عبد الله الحاكم الحسكاني النيسابوري ، من أعلام القرن الخامس ، ومن شيوخ مشايخ العلّامة الطبرسي ، صاحب التفسير الأثري القيّم «مجمع البيان» وينقل عنه في تفسيره كثيرا. ففي «شواهد التنزيل» للحاكم الحسكاني كثير من روايات العياشي ، ينقلها فيه بالأسانيد التامّة (١).

منهجه في التفسير

إنه يسترسل في ذكر الآيات ، في ضمن أحاديث مأثورة ، عن أهل البيت عليهم‌السلام تفسيرا وتأويلا للآيات الكريمة. ولا يتعرّض لنقدها جرحا أو تعديلا ، تاركا ذلك إلى عهدة الأسناد الّتي حذفت مع الأسف. ويتعرّض لبعض القراءات الشاذّة المنسوبة إلى أئمة أهل البيت ، مما جاءت في سائر الكتب بأسانيد ضعاف ، أو مرسلة لا حجيّة فيها ، والقرآن لا يثبت بغير التواتر باتّفاق الأمّة.

نراه عند ما يتعرّض لقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى

__________________

(١) راجع : مقدمة تفسير العياشي المطبوع ، والذريعة للطهراني ، ج ٤ ، ص ٢٩٥. والكنى والألقاب للقمي ، ج ٢ ، ص ٤٩٠.

٣٢٣

وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(١) يسند إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه قرأها : «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» ثم قال : وكذلك كان يقرؤها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي رواية زرارة عنه عليه‌السلام : هي أوّل صلاة صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي وسط صلاتين بالنهار : صلاة الغداة ، وصلاة العصر.

وقال عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) : في الصلاة الوسطى ، قال : نزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فقنت فيها ، وتركها على حالها في السفر والحضر.

وعن زرارة ومحمد بن مسلم ، أنهما سألا أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية ، فقال : صلاة الظهر. وفيها فرض الله الجمعة ، وفيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم ، فيسأل خيرا إلّا أعطاه الله إيّاه.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : الصلاة الوسطى الظهر ، (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) : إقبال الرجل على صلاته ، ومحافظته على وقتها ، حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء.

وأخيرا يذكر تأويلا للآية : أنّ الصلوات الّتي يجب المحافظة عليها هم : رسول الله ، وعليّ ، وفاطمة ، وابناهما ، (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) : طائعين للأئمة عليهم‌السلام (٢).

كما أنه عند ما يروي عن الصادق عليه‌السلام تفسير «السبع المثاني» بسورة الحمد ، يعرج إلى نقل روايات تفسّر باطن الآية إلى الأئمة. قال : إنّ ظاهرها : الحمد ،

__________________

(١) البقرة / ٢٣٨.

(٢) تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١٢٧ ـ ١٢٨ ، رقم ٤١٦ ـ ٤٢١.

٣٢٤

وباطنها : ولد الولد. والسابع منها : القائم عليه‌السلام (١).

ومن ثم فإنه عند ما يرد في التأويل ، نراه غير مراع لضوابط التأويل الصحيح ، على ما أسلفنا بيانه ، من كونه مفهوما عاما منتزعا من الآية بعد إلغاء الخصوصيات ليكون متناسبا مع ظاهر اللفظ ، وإن كانت دلالته عليه غير بيّنة.

٣ ـ تفسير القمي

منسوب إلى أبي الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي المتوفّى سنة (٣٢٩) من مشايخ الحديث ، روى عنه الكليني وكان من مشايخه ، واسع العلم ، كثير التصانيف ، وكان معتمد الأصحاب. قال النجاشي : ثقة ثبت معتمد صحيح المذهب. وأكثر رواياته عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، أصله من الكوفة وانتقل إلى قم. يقال : إنه أول من نشر حديث الكوفيين بقم ، وهو أيضا ثقة على الأرجح ، حسن الحال.

وهذا التفسير ، المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي ، هو من صنع تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وهو تلفيق من إملاءات القمي ، وقسط وافر من تفسير أبي الجارود زياد بن المنذر السرحوب المتوفّى سنة (١٥٠) كان من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وهو رأس الجارودية من الزيديّة.

فكان ما أورده أبو الفضل في هذا التفسير من أحاديث الإمام الباقر ، فهو من طريق أبي الجارود ، وما أورده من أحاديث الإمام الصادق عليه‌السلام فمن طريق علي بن إبراهيم ، وأضاف إليهما بأسانيد عن غير طريقهما. فهو مؤلّف ثلاثي

__________________

(١) تفسير العياشي ، ج ٢ ، ص ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، سورة الحجر ، رقم ٣٣ ـ ٤١.

٣٢٥

المأخذ ، وعلى أيّ حال فهو من صنع أبي الفضل ، ونسب إلى شيخه ؛ لأن أكثر رواياته عنه ، ولعله كان الأصل فأضاف إليه أحاديث أبي الجارود وغيره ؛ لغرض التكميل.

وأبو الفضل هذا مجهول الحال ، لا يعرف إلّا أنه علويّ ، وربما كان من تلاميذ علي بن إبراهيم ؛ إذ لم يثبت ذلك يقينا ، من غير روايته في هذا التفسير عن شيخه القمي.

كما أن الإسناد إليه أيضا مجهول ، لم يعرف من الراوي لهذا التفسير عن أبي الفضل هذا.

ومن ثم فانتساب هذا التفسير إلى علي بن إبراهيم أمر مشهور لا مستند له. أما الشيخ محمد بن يعقوب الكليني ، فيروي أحاديث التفسير عن شيخه علي بن إبراهيم من غير هذا التفسير ، ولم نجد من المشايخ العظام من اعتمد هذا التفسير أو نقل منه.

منهجه في التفسير

يبدأ هذا التفسير بذكر مقدّمة يبيّن فيها صنوف أنواع الآيات الكريمة ، من ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدّم ومؤخّر ، وما هو لفظه جمع ومعناه مفرد ، أو مفرد معناه الجمع ، أو ماض معناه مستقبل ، أو مستقبل معناه ماض ، وما إلى ذلك من أنواع الآيات وليست بحاصرة.

وبعد ذلك يبدأ بالتفسير مرتّبا حسب ترتيب السور والآيات آية فآية ، فيذكر الآية ويعقبها بما رواه علي بن إبراهيم ، ويستمرّ على هذا النمط حتى نهاية سورة البقرة. ومن بدايات سورة آل عمران نراه يمزجه بما رواه عن أبي الجارود ، وكذا عن غيره من سائر الرواة ، ويستمر حتى نهاية القرآن.

٣٢٦

وهذا التفسير في ذات نفسه تفسير لا بأس به ، يعتمد ظواهر القرآن ويجري على ما يبدو من ظاهر اللفظ ، في إيجاز واختصار بديع ، ويتعرّض لبعض اللغة والشواهد التاريخية لدى المناسبة ، أو اقتضاء الضرورة. لكنّه مع ذلك لا يغفل الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت ، مهما بلغ الإسناد من ضعف ووهن ، أو اضطراب في المتن ؛ وبذلك قد يخرج عن أسلوبه الذاتي فنراه يذكر بعض المناكير مما ترفضه العقول ، ويتحاشاه أئمة أهل البيت الأطهار. لكنه قليل بالنسبة إلى سائر موارد تفسيره. فالتفسير في مجموعه تفسير نفيس لو لا وجود هذه القلّة من المناكير. وقد أشرنا إلى طرف من ذلك ، عند الكلام عن التفاسير المعزوّة إلى أئمة أهل البيت.

٤ ـ تفسير الحويزي (نور الثقلين)

تأليف عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي ، من محدّثي القرن الحادي عشر ، المتوفّى سنة (١١١٢). كان على مشرب الأخبارية ، كان محدّثا فقيها ، وشاعرا أديبا جامعا. سكن شيراز وحدّث بها ، وتتلمذ على يديه جماعة ، منهم السيد نعمة الله الجزائري ، وغيره.

إنه جمع ما عثر عليه من روايات معزوّة إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مما يرتبط نحو ارتباط بآي الذكر الحكيم ، تفسيرا أو تأويلا ، أو استشهادا أو تأييدا. وفي الأغلب لا مساس ذاتيا للحديث مع الآية في صلب مفهومها أو دلالتها ، وإنما تعرّض لها بالعرض لغرض الاستشهاد ، ونحو ذلك ، هذا فضلا عن ضعف الأسانيد أو إرسالها إلّا القليل المنقول من المجامع الحديثية المعتبرة.

وهو لا يستوعب جمع آي القرآن ، كما أنه لا يذكر النص القرآني ، سوى سرده للروايات تباعا ، حسب ترتيب الآيات والسور. ولا يتعرّض لنقد الروايات

٣٢٧

ولا علاج معارضاتها.

يقول المؤلف في المقدمة : «وأما ما نقلت مما ظاهره يخالف لإجماع الطائفة فلم أقصد به بيان اعتقاد ولا عمل ، وإنما أوردته ليعلم الناظر المطّلع كيف نقل وعمّن نقل ، ليطلب له من التوجيه ما يخرجه من ذلك ، مع أني لم أخل موضعا من تلك المواضع عن نقل ما يضاده ، ويكون عليه المعوّل في الكشف والإبداء» (١).

وبذلك يتخلّص بنفسه عن مأزق تبعات ما أورده في كتابه من مناقضات ومخالفات صريحة ، مع أسس قواعد المذهب الحنيف ، ويوكل النظر والتحقيق في ذلك إلى عاتق القارئ.

ونحن نرى أنه قصّر في ذلك ؛ إذ كان من وظيفته الإعلام والبيان لمواضع الإبهام والإجمال ، كما فعله المجلسي العظيم في بحار أنواره ؛ إذ ربّ رواية أوهنت من شأن الدين فلا ينبغي السكوت عليها والمرور عليها مرور الكرام ، مما فيه إغراء الجاهلين أحيانا ، أو ضعضعة عقيدة بالنسبة إلى مقام أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فلم يكن ينبغي نقل الرواية وتركها على عواهنها ، الأمر الّذي أوجب مشاكل في عقائد المسلمين.

من ذلك أنه يذكر في ذيل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)(٢) رواية مشوّهة موهونة ، وينسبه إلى الإمام الصادق عليه‌السلام : «فالبعوضة : أمير المؤمنين ، وما فوقها : رسول الله» (٣).

كما أنه ينقل أخبارا مشتملة على الغلوّ والوهن بشأن الأئمّة. ويسترسل في

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢. (مقدمة الكتاب).

(٢) البقرة / ٢٦.

(٣) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٧ ـ ٣٨.

٣٢٨

نقل الإسرائيليات والموضوعات كما في قصّة هاروت وماروت ، وأن الزهرة كانت امرأة فمسخت ، وأن الملكين زنيا بها. ونحو ذلك من الأساطير الإسرائيلية والأكاذيب الفاضحة (١) ، ملأ بها كتابه ، وشحنه شحنا بلا هوادة.

منهجه في التفسير

نعم إنه يسرد الروايات سردا تباعا من غير هوادة ، يذكر الرواية تلو الأخرى أيّا كان نمطها ، وفي أيّ بنية كانت صيغتها ، إنما يذكرها لأنها رواية تعرّضت لجانب من جوانب الآية بأيّ أشكال التعرض.

مثلا ـ في سورة النساء ـ يبدأ بذكر ثواب قراءتها ، فيذكر رواية مرسلة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ من قرأها فكأنما تصدق على كل من ورث ميراثا ، ولعل المناسبة أن السورة تعرضت لأحكام المواريث ، ثم يأتي لتفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)(٢) فيذكر رواية : أنّهم قرابة الرسول وسيّدهم أمير المؤمنين ، أمروا بمودّتهم فخالفوا ما أمروا به. لم نعرف وجه المناسبة بين هذا الكلام والآية الكريمة.

ثم يروي : أنّ حوّاء إنما سمّيت حوّاء ؛ لأنها خلقت من حيّ. فلو صح ، لكان الأولى أن يقال لها : حيّا. وهكذا يروي أن المرأة سمّيت بذلك ؛ لأنها مخلوقة من المرء ، أي الرجل ، لأنها خلقت من ضلع آدم. ثم يناقض ذلك بذكر رواية تنفي أن تكون خلقت من ضلع آدم ، بل إنها خلقت من فاضل طينته.

في حين أنّ الصحيح في فهم الآية : أنّ حوّاء خلقت من جنس آدم ليسكن

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٩١.

(٢) النساء / ١.

٣٢٩

إليها ، كما في قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها)(١).

ويذكر : أن النساء إنما سمّين نساء ؛ لان آدم أنس بحواء ، فلو كان كذلك لكان الأولى أن يقال لهن : «أنساء».

ويتعرّض بعد ذلك لكيفية تزاوج ولد آدم ، وينفي أن يكون قد تزوّج الذكر من كل بطن مع الأنثى من بطن آخر ؛ لأن ذلك مستنكر حتى عند البهائم. وبلغه أنّ بهيمة تنكّرت له أخته فنزا عليها ، فلما كشف عنها أنها أختها قطع غرموله (٢) بأسنانه وخرّ ميّتا.

وهكذا يذكر الروايات تباعا من غير نظر في الأسناد والمتون ، ولا مقارنتها مع أصول المذهب أو دلالة العقول.

ونحن نجلّ مقام الأئمة المعصومين عن الإفادة بمثل هذه التافهات الصبيانية ، الّتي تحطّ من مقامهم الرفيع ، فضلا عن منافاتها مع رفعة شأن القرآن الكريم.

نعم قد يوجد خلال هذه التافهات بعض الكلام المتين ؛ إذ قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط ، لكنه من خلط السليم بالسقيم ، الّذي يتحاشاه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

٥ ـ تفسير البحراني (البرهان)

هو السيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الحسينى البحراني الكتكاني. وهي قرية من قرى توبلى من أعمال البحرين توفّي سنة (١١٠٧). كان من المحدثين

__________________

(١) الروم / ٢١.

(٢) الغرمول : الذّكر.

٣٣٠

الأفاضل متتبعا للأخبار جمّاعا للأحاديث ، من غير أن يتكلّم فيها بجرح أو تعديل ، أو تأويل ما يخالف العقل أو النقل الصريح ، كما هو دأب أكثر الأخباريين المتطرّفين.

وفي تفسيره هذا يعتمد كتبا لا اعتبار بها أمثال : التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام الّذي هو من صنع أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد ، وأبي الحسن على بن محمد بن سيار ، الأسترآباديين ولم يعلم وجه انتسابه إلى الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام والتفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم بن هاشم القمي وهو من صنع أبي الفضل العباس بن محمد العلوي ، ونسب إلى القمي من غير وجه وجيه وكتاب «الاحتجاج» المنسوب إلى الطبرسي ولم يعرف لحدّ الآن وكتاب «سليم بن قيس الهلالي» ، المدسوس فيه ، وغير ذلك من كتب لا اعتبار فيها ، فضلا عن ضعف الإسناد أو الإرسال في أكثر الأحاديث التي ينقلها من هذه الكتب.

ومما يؤخذ على هذا التفسير أنه يسند القول في التفسير إلى الإمام المعصوم ، إسنادا رأسا ، في حين أنه وجده في كتاب منسوب إليه صرفا ، مثلا يقول : قال الإمام أبو محمد العسكري في تفسير الآية كذا وكذا ، الأمر الّذي ترفضه شريعة الاحتياط في الدين (١).

وهذا التفسير غير جامع للآيات ، وإنما تعرّض لآيات جاء في ذيلها حديث ، ولو في شطر كلمة. ومن ثم فهو تفسير غير كامل ، فضلا عن ضعف الأسانيد وإرسالها ، ووهن غالبية الكتب الّتي اعتمدها ، كما هو خال عن أيّ ترجيح أو تأويل ، عند مختلف الروايات ، ولدى تعارض بعضها مع بعض.

__________________

(١) راجع ـ مثلا ـ الجزء الأول صفحات ٧٣ و ٧٩ و ٨٧ و ٩١ ، وهو كثير منتشر في الكتاب.

٣٣١

منهجه في التفسير

بدأ المؤلف بمقدمة يذكر فيها فضل العلم والمتعلّم ، وفضل القرآن ، وحديث الثقلين ، والنهي عن تفسير القرآن بالرأي ، وإن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وأنه مشتمل على أقسام من الكلام ، وما إلى ذلك.

ويبدأ التفسير بعد المقدمات بمطلع جاء في مقدمة التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي ، من ذكر أنواع الآيات وصنوفها ، حسبما جاء في التفسير المنسوب إلى محمد بن إبراهيم النعماني ، وهى رسالة مجهولة النسب لم يعرف مؤلّفها لحد الآن.

وبعد ذلك يرد في تفسير الآيات حسب ترتيب السور فيذكر الآية أوّلا ثم يعقبها بما ورد في شأنها من حديث مأثور عن أحد الأئمة المعصومين ، من غير ملاحظة ضعف السند أو قوّته ، أو صحّة المتن أو سقمه.

نعم لا يعني ذلك أن الكتاب ساقط كله ، بل فيه من الأحاديث الغرر والكلمات الدرر ، الصادرة عن أهل بيت الهدى ومصابيح الدجى ، ما يروي الغليل ويشفي العليل. والكتاب بحاجة إلى تمحيص ونقد وتحقيق ، ليمتاز سليمه عن السقيم ، والصحيح المقبول عن الضعيف الموهون.

فالكتاب بمجموعته موسوعة فريدة ، جمعت في طيّها الآثار الكريمة الّتي زخرت بها ينابيع العلم والهدى ، يجدها الباحث اللبيب عند البحث والتنقيب ، في هذا التأليف الّذي جمع بين الغث والسمين.

٦ ـ الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور

لجلال الدين أبي الفضل ، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي المتوفّى سنة (٩١١). انحدر من أسرة كان مقرّها مدينة أسيوط. قيل : كانت الأسرة

٣٣٢

من أصل فارسي ، كانت تعيش في بغداد ، ثم ارتحلت إلى مصر.

كان جلال الدين من أكبر الحفّاظ والرواة ، جمّاعا للأحاديث ، مولعا بمطالعة الكتب والنقل عنها ، وبذلك أصبح رأسا في التأليف والتصنيف ، وجلّ تآليفه ذات فوائد جمّة شريفة ، مما يشهد بتبحّره وسعة اطّلاعه.

وقد ألّف السيوطي تفسيرا مبسّطا جمع فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها ، ثم اختصره بحذف الأسانيد ، وهو المعروف اليوم ب «الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور». يقول هو :

فلما ألّفت كتاب «ترجمان القرآن» وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وتمّ بحمد الله في مجلّدات. فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها ، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ، ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث ، دون الإسناد وتطويله ، فلخّصت منه هذا المختصر ، مقتصرا فيه على متن الأثر ، مصدّرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر ، وسميته ب «الدّر المنثور في التفسير بالمأثور» (١).

وكان قد شرع في تفسير أبسط وأوسع ، جامع بين فنون الكلام وأنواع التفسير ، لكنه لم يعرف اتمامه. يقول عنه : وقد شرعت في تفسير جامع لجميع ما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة ، والأقوال المقولة والاستنباطات والإشارات والأعاريب واللغات ونكت البلاغة ومحاسن البدائع وغير ذلك ؛ بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا ، وسمّيته ب «مجمع البحرين ومطلع البدرين». وهو الذي جعلت هذا الكتاب «الإتقان» مقدمة له. والله أسأل أن يعين على إكماله

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢.

٣٣٣

بمحمد وآله (١).

وقد اقتصر المؤلّف في الدرّ المنثور على مجرّد ذكر الروايات ذيل كل آية ، بلا أن يتكلم فيها أو يرجّح أو ينقد أو يمحّص. فهذا التفسير فريد في باب ، من حيث الاقتصار على نقل الآثار ، وتوسّعه في ذلك. ومع ذلك فإنه لم يتحرّ الصحّة ، وإنما جمع بين الغث والسمين ، وأورد فيه الكثير من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة ، عن لسان الأئمة السلف. ومن ثمّ فإن الأخذ منه يحتاج إلى إمعان نظر ودقّة وتمييز.

٧ ـ تفسير البرغاني (بحر العرفان)

للمولى صالح بن آغا محمد البرغاني القزويني الحائري المتوفّى حدود سنة (١٢٧٠).

له ثلاثة تفاسير : كبير في سبعة عشر مجلّدا ، مخطوط ، محفوظ في خزانة كتبه ، لدى ورثته بقزوين. ووسيط في تسعة مجلّدات. وصغير في مجلّد واحد.

استقصى فيه الأحاديث المرويّة عن الأئمة الأطهار في التفسير ، ورتّبها حسب ترتيب الآيات والسور ، ولكنّه إنما ذكر الروايات التي زعمها صالحة ، وترك ما زعمه باطلا ، صادرا من جراب النورة حسب تعبيره.

فنراه عند سرد روايات بدء النسل ، يقتصر على رواية التزاوج بالحوريّة والجنّية ، زاعما صحتها ، ويترك رواية تزاوج الذكر من حمل والأنثى من حمل آخر ، لزعم بطلانه.

فهو تفسير بالمأثور مع إعمال النظر في الأخذ والترك فحسب.

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

٣٣٤

نمط آخر من التفسير بالمأثور

هناك نمط آخر من التفسير بالمأثور ، يفسّر القرآن تفسيرا حسب المتعارف ، آية فآية وجملة فجملة ، وكلمة فكلمة ، حسبما يساعده اللغة والفهم العرفي ، لكنه يعتمد في حلّ معضلاته ورفع مبهماته على المأثور من الروايات فحسب ، لا غيرهنّ من أدوات التفسير ، بل وربما غلب الاعتماد على النقل على الاعتماد على العقل وإعمال النظر والرأي والاجتهاد ، فيظهر بمظهر التفسير النقلي أكثر من ظهوره بمظهر التفسير النظري الاجتهادي.

وهذا كتفسير المولى الفيض الكاشاني ، وتفسير الميرزا محمد المشهدي ، وتفسير شبّر ، مما كتب في عهد متقارب ، بعد سنة الألف من الهجرة.

وتفسير السمرقندي ، والثعلبي ، والثعالبي ، والبغوي ، وابن كثير ، والمحرّر الوجيز ، من تفاسير أهل السنة ، كتبت في القرون الوسطى من الهجرة.

إذ كل ذلك يعدّ من التفسير بالمأثور ، نظرا لكثرة الاعتماد على النقل في التفسير ، وقلّة النظر والاجتهاد. وإليك بعض الكلام عنها :

٨ ـ تفسير الصافي

للمولى محسن محمد بن المرتضى المعروف بالفيض الكاشاني ، المتوفّى (١٠٩١). هو المحدّث الفقيه والفيلسوف العارف ، ولد بكاشان ونشأ بها نشأة علمية راقية له تفسير كبير ومتوسط وموجز ، وسمّيت على الترتيب ب «الصافي والأصفى والمصفّى».

يعتبر تفسيره هذا مزجا من الرواية والدراية ، تفسيرا شاملا لجميع آي القرآن ، وقد اعتمد المؤلّف في نقل عباراته على تفسير البيضاوي ، ثم على نصوص الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت.

٣٣٥

وقدّم لتفسيره مقدّمة تشتمل على اثني عشر فصلا ، بحث فيها عن مختلف شئون القرآن وفضله وتلاوته وتفسيره وتأويله.

وتعتبر هذه المقدمة من أحسن المقدّمات التفسيرية ، التي أوضح فيها المؤلّف مواضع أهل التفسير في النقل والاعتماد على الرأي ، وما يجب توفّره لدى المفسّر عند تفسيره للقرآن ، من مؤهلات ضروريّة.

وهذه الفصول سمّاهن مقدمات : كانت المقدمة الأولى ـ بعد الديباجة ـ في نقل ما جاء في فضل القرآن ، والوصية بالتمسك به. والثانية في أن علم القرآن كله عند أهل البيت عليهم‌السلام ، هم يعلمون ظاهر القرآن وباطنه ، علما شاملا لجميع آي القرآن الكريم. والثالثة في أن جلّ القرآن وارد بشأن أولياء الله ومعاداة أعداء الله. والرابعة في بيان وجوه معاني الآيات من التفسير والتأويل ، والظهر والبطن ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك. والخامسة في المنع من التفسير بالرأي وبيان المراد منه. والسادسة في صيانة القرآن من التحريف.

والسابعة في أن القرآن تبيان لكل شيء ، فيه أصول معارف الدين ، وقواعد الشرع المبين. والثامنة في القراءات واعتبارها. والتاسعة في نزول القرآن الدفعي والتدريجي. والعاشرة في شفاعة القرآن وثواب تلاوته وحفظه. والحادية عشرة في التلاوة وآدابها. والثانية عشرة في بيان مصطلحات تفسيريّة اعتمدها المؤلّف في الكتاب.

وهذا التفسير ـ على جملته ـ من نفائس التفاسير الجامعة لجلّ المرويات عن أئمة أهل البيت إن تفسيرا أو تأويلا. وإن كان فيه بعض الخلط بين الغثّ والسمين.

٣٣٦

منهجه في التفسير

يعتمد اللغة أولا ، ثم الأعاريب أحيانا ، وبعد ذلك يتعرض للمأثور من روايات أهل البيت عليهم‌السلام ، معتمدا على تفسير القمي والعياشي ، وغيرها من كتب الحديث المعروفة. لكنه لا يتحرّى الصحة في النقل ، ويتخلّى بنفسه لمجرد ذكر مصدر الحديث ، الأمر الذي يؤخذ عليه ؛ حيث في بعض الأحيان نراه يذكر الحديث ، وكان ظاهره الاعتماد عليه ، مما يوجب إغراء الجاهل ، فيظنّه تفسيرا قطعيا للآية الكريمة ، وفيه من الإسرائيليات والروايات الضعاف الشيء الكثير.

وله في بعض الأحيان بيانات عرفانية قد تشبه تأويلات غير متلائمة مع ظاهر النص ، بل ومع دليل العقل والفطرة.

مثلا نراه عند ما يذكر قصة هاروت وماروت ـ حسب الروايات الإسرائيلية ـ وتبعا لما ذكره البيضاوي في تفسيره : أنهما شربا الخمر وسجدا للصنم وزنيا ، نراه يؤوّل ذلك تأويلا غريبا ، يقول : لعل المراد بالملكين : الروح والقلب ، فإنهما من العالم الروحاني ، أهبطا إلى العالم الجسماني ، لإقامة الحق ، فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا ، ووقعا في شبكة الشهوة ، فشربا خمر الغفلة ، وعبدا صنم الهوى ، وقتلا عقلهما الناصح لهما ، بمنع تغذيته بالعلم والتقوى ، ومحو أثر نصحه عن أنفسهما ، وتهيآ للزنى ببغي الدنيا الدنية التي تلي تربية النشاط والطرب فيها الكوكب المسمى بزهرة ، فهربت الدنيا منهما وفاتتهما ، لما كان من عاداتها أن تهرب من طالبيها ؛ لأنها متاع الغرور ، وبقي إشراق حسنها في موضع مرتفع ؛ بحيث لا تنالها أيدي طلّابها ، ما دامت الزهرة باقية في السماء. وحملهما حبها في قلبهما إلى أن وضعا طرائق من السحر ، وهو ما لطف مأخذه ودقّ ، فخيّرا للتخلّص منهما ، فاختارا بعد التنبّه وعود العقل إليهما أهون العذابين ، ثم رفعا

٣٣٧

إلى البرزخ معذّبين ، ورأسهما بعد إلى أسفل ، إلى يوم القيامة (١).

ولقد كان الأجدر به ـ وهو الفقيه النابه المحقق ـ أن ينبذ تلكم الروايات الإسرائيلية المشوهة ، حتى ولو كانت بصورة الرواية عن أهل البيت افتراء عليهم ، كان الأجدر به أن يتركها دون ارتكاب التأويل.

٩ ـ تفسير المشهدي (كنز الدقائق وبحر الغرائب)

للميرزا محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي المعروف بالمشهدي ؛ لأنه نشأ بمشهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام توفّي حدود سنة (١١٢٥). وتتلمذ على يد المولى محسن الفيض الكاشاني ، وسار على منهجه في التفسير.

وتفسيره هذا هو حصيلة ما سبقه من أمهات تفاسير أصحابنا الإمامية ، جمع فيه لباب البيان وعباب التعبير أينما وجده ، طيّ الكتب والتآليف السابقة عليه. فقد اختار حسن تعبير أبي سعيد الشيرازي البيضاوي ـ كما فعله أستاذه وشيخه المقدّم المولى الفيض الكاشاني من قبل ـ كما انتخب من أسلوب الطبرسي في «المجمع» ترتيبه وتبويبه ، مضيفا إليه ما استحسنه من «كشّاف» الزمخشري و «حواشي» العلامة الشيخ البهائي ، فصار تأليفه مجموعة من خير الأقوال وأحسن الآثار كما صرّح هو في مقدّمة تفسيره ، وحسبما جاء في تقريظ العلامة المجلسي ، والمحقق الخوانساري على الكتاب ، وراجع مقدّمتنا على التفسير.

وهذا التفسير جمع بين العقل والنقل ، فاعتمد المأثور من روايات معزوّة إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مردفا لها بما سنح له خاطره من رأي ونظر ، أو وجده في

__________________

(١) تفسير الصافي ، ج ١ ، ص ١٣٠ ، ذيل الآية رقم ١٠٣ ، من سورة البقرة.

٣٣٨

تأليف أو أثر ، ولم يدع مناسبة أدبية أو كلامية أو عرفانية إلّا أتى فيها ببيان ، منتهجا أثر شيخه الفيض في تفسير «الصافي».

وأما موقفه من الإسرائيليات والموضوعات فهو موضع الردّ والاجتناب عنها ، دون ذكر التفصيل ، مثلا يذكر في قصة هاروت وماروت ما يفنّدها ؛ حيث يقول : وما روي أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة ... فمحكيّ عن اليهود.

والخلاصة : كان لهذا التفسير مكانته في الجمع بين الرواية والدراية ، وإعطاء صورة واضحة للتفسير عند الإمامية ، ويشتمل على ما في كتب التفسير من اللغة والإعراب والبيان ، بشكل موجز رائع.

فهو تفسير جامع شامل لجوانب عدّة من الكلام ، حول تفسير آي القرآن ، الأمر الذي جعله فذّا في بابه ، وفردا في أسلوبه ، وممتازا على تفاسير جاءت إلى عرصة الوجود ، ذلك العهد.

وقد طبع عدة طبعات أنيقة في مفتتح هذا القرن ـ الخامس عشر للهجرة ـ أحسنها طبعة مؤسسة دار النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.

١٠ ـ تفسير ابن كثير

للحافظ عماد الدين ، أبي الفداء ، إسماعيل بن عمرو بن كثير ، الدمشقي الفقيه المؤرّخ الشافعي أخذ عن ابن تيمية ، وشغف بحبه ، وامتحن بسببه. قال ابن شهبة في طبقاته : إنه كانت له خصوصية بابن تيمية ، ومناضلة عنه ، واتّباع له في كثير من آرائه. وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق ، وامتحن بسبب ذلك وأوذي. توفّي سنة (٧٧٤) ، ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية. وكان قد كفّ بصره في آخر عمره الذي ناهز السبعين.

وهو صاحب التاريخ الذي سمّاه : «البداية والنهاية» فكان مؤرخا مفسرا

٣٣٩

كابن جرير الطبري.

وتفسيره هذا من أشهر ما دوّن في التفسير المأثور ، بل من أجوده ؛ حيث اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف ، ففسّر كلام الله تعالى بالأحاديث والآثار مسندة إلى أصحابها ، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحا وتعديلا ، ونقدا وتحليلا ، وقدم له بمقدمة طويلة ، تعرّض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلّق واتّصال بالقرآن وتفسيره. ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصّه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في مقدمته ، في أصول التفسير.

ويمتاز في طريقته في التفسير بأن يذكر الآية ، ثم يفسّرها بعبارة سهلة جزلة ، وإن أمكن توضيح الآية بآية أو آيات أخرى ذكرها ، وقارن بينهما حتى يتبيّن المعنى ويظهر المراد ، وهو شديد العناية وكثير الإحاطة بهذا الجانب من تفسير القرآن بالقرآن ، ولعل هذا الكتاب من أكثر ما عرف من كتب التفسير سردا للآيات المتناسبة ، ومقارنة بعضها مع البعض ، لكشف المعنى المراد.

وبعد ذلك يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي لها تعلّق بالآية ، ويبين ما يحتجّ به وما لا يحتجّ به منها ، ثم يردفها بأقوال الصحابة والتابعين ، ومن يليهم من علماء السلف.

ونجده أحيانا يرجّح بعض الأقوال على بعض ، ويضعّف بعض الروايات ، ويصحّح بعضا آخر منها ، ويعدل بعض الرواة ، ويجرح بعضا آخر ، وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بأصول نقد الحديث ، ومعرفة أحوال الرجال.

ومما يمتاز به أنّه ينبّه بين حين وآخر إلى ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات والموضوعات ، ويحذّر منها على وجه الإجمال تارة ، وعلى وجه التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى.

مثلا ، هو في قصة هاروت وماروت ، يراها متصادمة مع ما ورد من الدلائل

٣٤٠