التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

عباس ـ رضوان الله عليه ـ : أن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال عليه‌السلام : «ملك من ملائكة الله موكّل بالسحاب ، بيديه مخراق من نار ، يزجر به السحاب ، يسوقه حيث أمره الله تعالى» ، قالوا : فما ذلك الصوت الذي نسمعه؟ قال : «صوته» قالوا : «صدقت».

وهذا الحديث إن صح يمكن حمله على التمثيل ، ولكن لا يطمئن القلب إليه ، ولا يكاد يصدق وروده عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما هو من إسرائيليات بني إسرائيل ألصقت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زورا ، ثم كيف يتلاءم ما روي مع قوله قبل : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) ، وقوله بعد : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ)(١) ، فالآية في بيان قدرة الله وعظمته في إحداث هذه الآيات الكونية ، على حسب ما خلقه الله في الكون من نواميس ، وأسباب عادية! وإنما المناسب أن نفسّر تسبيح «الرعد» بلسان الحال ، وعطف الملائكة على «الرعد» يقتضي أن يكون «الرعد» غيرها لما ذكرنا ، وكأن السر في الجمع بينهما بيان أنه تواطأ على تعظيم الله وتنزيهه الجمادات والعقلاء ، وأن ما لا يعقل منقاد لله وخاضع كانقياد العقلاء سواء بسواء ، ولا سيّما الملائكة الذين هم مفطورون على الطاعة والانقياد.

ومن الحق أن نذكر : أن بعض المفسرين كانت لهم محاولات جادّة ؛ بناء على ما كان من العلم بهذه الظواهر الكونية في عصرهم ، في تفسير : الرعد والبرق ، كابن عطية رحمه‌الله فقد قال : وقيل : إن «الرعد» ريح تخفق بين السحاب. وروى ذلك عن ابن عباس ، واعترض عليه أبو حيان ، واعتبر ذلك من نزغات الطبيعيين ، مع أن قول ابن عطية أقرب إلى الصواب من تفسير «الرعد» بصوت

__________________

(١) الرعد / ١٢ و ١٣.

٣٠١

«الملك» الذي يسوق السحاب ، والبرق بضوء مخراقه. وقد حاول الإمام الرازي التوفيق بين ما قاله المحققون من الحكماء ، وما ورد في هذه الأحاديث والآثار ، وقد أنكر عليه أبو حيان هذا أيضا.

ثم ذكر الآلوسي آراء الفلاسفة في حدوث الرعد ، والبرق ، وتكوّن السحاب ، وأنه عبارة عن أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء ، ثم تكثّفت بسبب البرد ، ولم يقدر الهواء على حملها ، فاجتمعت وتقاطرت ، ويقال لها : مطر.

هذا ، وقد أصابوا في تكوّن السحاب ونزول المطر ، فآخر ما وصل إليه العلم اليوم هو هذا. وأما في تكون الرعد ، والبرق ، فقد حاولوا ، وقاربوا ، وإن لم يصلوا إلى الحقيقة العلمية المعروفة اليوم.

وبعد أن ذكر الآلوسي الردود والاعتراضات على ما قاله الفلاسفة ، وهي ـ والحق يقال ـ لا تنهض أن تكون أدلة في ردّ كلامهم ، قال : وقال بعض المحققين : لا يبعد أن يكون في تكوّن ما ذكر أسباب عادية ، كما في الكثير من أفعاله تعالى ، وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم ـ جل شأنه ـ ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية ، فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة ، قال : وبهذا أنا أقول (١). ونحن أيضا بهذا نقول ، وكون الظواهر الكونية قد جعل الله نواميس خاصة لحدوثها ، لا ينافي قط أنه سبحانه الخالق للكون ، والمدبّر له سبحانه ، فهو ـ تعالى ـ هو الموجد لهذه النواميس ، وهو الموجد لهذه السنن التي يسير عليها الكون ، فإن بعض هذه النواميس والسنن أصبحت معلومة فإنكارها باسم الدين ، أو التشكيك فيها ـ ومنها تكوّن السحب ، وحدوث الرعد ، والبرق ،

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، ج ١٣ ، ص ١٠٦ و ١٠٧ ، ط منير.

٣٠٢

والصواعق ـ إنما يعود على الدين بالضعف ، ويضرّه أكثر من طعن أعدائه فيه.

أقوال الرسول عند سماع الرعد ورؤية البرق

وقد وردت أحاديث أخرى صحاح وحسان ، تبيّن ما كان يقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند حدوث هذه الظواهر الكونية ، وهي تدل على كمال المعرفة بالله ، وأنه سبحانه هو المحدث لها ، وأنها تدل على تنزيه الله ، وتعظيمه ، وحمده ؛ فقد أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن ابن عمر قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سمع صوت الرعد ، والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك» ، لأن احتمال الإهلاك والتعذيب بهذه الآيات الكونية أمر قريب ممكن.

وأخرج أبو داود في مراسيله ، عن عبد الله بن أبي جعفر : أن قوما سمعوا الرعد فكبّروا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سمعتم الرعد فسبّحوا ، ولا تكبّروا» ، وذلك لما فيه من التّأدب بأدب القرآن ، وأسلوبه ، في قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) ، ولأن دلالته على تنزيه الله من النقص والشريك أولى من دلالته على التعظيم. وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عباس أنه عليه‌السلام كان يقول إذا سمع الرعد : «سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم». وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن أبي هريرة قال : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سمع الرّعد قال : «سبحان من يسبّح الرعد بحمده».

فهذا هو اللائق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعصمته ، لا ما روي من أن الرعد ملك أو صوت زجره للسحاب ، وأن البرق أثر سوطه الذي يزجر به السحاب.

٣٠٣

رأي العلم في حدوث الرعد ، والبرق ، والصواعق

وإكمالا للفائدة : سنذكر ما وصل إليه العلم في حدوث هذه الظواهر الكونية ، فنقول ، وبالله التوفيق : يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي في كتابه «سنن الله الكونية» :

الرياح ، والكهربائية الجويّة

إن الكهربائية التي تتولّد في الهواء ـ والتي ذكرنا لك بعض مصادرها ـ يكتسبها السحاب عند تكوّنه على الأيونات التي تحملها تلك الكهربائية في الطبقات العليا الجويّة ، ولا يدرى الآن ، كيف يفصّل الله الأيونات السالبة ، من الأيونات الموجبة ، قبل تكاثف البخار عليها ، إن كان هناك فصل لهما؟ أم كيف يكون السحاب عظيم التكهرب إما بنوع من الكهرباء ، وإما بالنوع الآخر ، إذا حدث التكاثف على الأيونات ، وهي مختلطة. ومهما يكن من سر ذلك ، فإن السحاب مكهرب من غير شك ، كما أثبت ذلك فرانكلن لأول مرة في عام (١٧٥٢ م) وكما أثبت غيره ، عظم تكهربه بشتّى الطرق بعده ، وأنت تعرف أن نوعي الكهربائية يتجاذبان ، وأن الموجب والموجب ، أو السالب والسالب يتدافعان ، أو يتنافران ، كما تشاء أن تقول.

هذا التدافع أو التنافر من شأنه تفريق الكهربائية ، ثم إذا شاء الله ساق السحاب بالريح ، حتى يقترب السحاب الموجب ، من السحاب السالب قربا كافيا ، في اتّجاه أفقي ، أو في اتجاه رأسي أو فيما شاء الله من الاتجاهات ، فإذا اقتربا تجاذبا. ومن شأن اقترابهما هذا أن يزيد في كهربائية مجموع السحاب بالتأثير ، ولا يزالان يتجاذبان ، ويتقاربان ، حتى لا يكون محيص من اختلاطهما واتحاد كهربائيتهما أو من اتحاد كهربائيتهما من بعد ، وعندئذ تحدث شبه شرارة عظمى كهربائية ، هي

٣٠٤

البرق الذي كثيرا ما يرى في البلاد الكثيرة الأمطار.

و «المطر» نتيجة لازمة لحدوث ذلك الاتحاد الكهربائي ، سواء حدث في هدوء أو بالإبراق ، فإذا حدث بهدوء ، حدث بين القطيرات المختلفة في السحابتين ، فتجذب كل منها قرينتها أو قريناتها ، حتى تتحد ، وتكون قطرة فيها ثقل ، فتنزل ، وتكبر أثناء نزولها بما تكتسب من كهربائية ، وما تجتذب من قطيرات ، أثناء اختراقها السحاب المكهرب ، الذي يكون بعضه فوق بعض في السحاب الركام ، أما إذا حدث الاتحاد الكهربائي في شدة البرق ، وعنفه ، فإنه يحدث لا بين القطيرات ، ولكن بين الكتل من السحاب ، ويسهل حدوثه تخلخل الهواء ، أي قلة ضغطه في تلك الطبقات.

و «البرق» يمثّل قوة كهربائية هائلة ، تستطيع أن تكوّن فكرة عنها إذا عرفت أن شرارته قد تبلغ ثلاثة أميال ، في طولها أو تزيد ، وأن أكبر شرارة كهربائية أحدثها الإنسان لا تزيد عن بضعة أمتار.

فالحرارة الناشئة عن البرق لا شك هائلة ، فهي تمدّد الهواء بشدة ، وتحدث مناطق جوية عظيمة مخلخلة ، الضغط داخلها يعادل الضغط خارجها ، ما دام الهواء داخل المنطقة ساخنا ، حتى إذا تشعّعت حرارته وبردت تلك المناطق برودة كافية ، وما أسرع ما تبرد ، خفّ منها الضغط ، وصار أقل كثيرا من ضغط الطبقات الهوائية السحابية المحيطة بها ، فهجمت عليها فجأة بحكم الفرق العظيم بين الضغطين وتمدّدت فيها ، وحدث لذلك صوت شديد ، هو صوت الرعد وهزيمه ، هذا الصوت قد يكون له صدى بين كتل السحاب ، يتردّد ، فنسميه قعقعة الرعد ، أما صوت الشرارة الكهربائية البرقية ، فهو بدء الرعد ، ويكون ضعيفا بالنسبة لهزيمه وقعقعته ، لذلك تسمع الرعد ضعيفا في الأول ثم يزداد ، كأنما أوّله إيذان بتضخّمه ، كما قد تؤذن الطلقة الفردة بانطلاق بطاريات برمتها ، من المدافع

٣٠٥

الضخمة في الحروب. فالرعد يحدث لا عند اتحاد الكهربائيتين حين يحدث البرق فقط ، ولكن يحدث أكثره بعد ذلك عند تمدّد الكتل الهوائية الهاجمة في المنطقة المفرغة ، وهي إذا تمدّدت بردت برودة شديدة ، فيتكاثف ما فيها من البخار ، ومن كتل السحاب ، فينزل على الأرض إما مطرا ، وإما بردا ، حسب مقدار البرودة الحادثة في تلك المناطق ، وهذا هو السبب في أن الرعد والبرق يعقبهما في الغالب مطرات شديدة ، سواء أكانت المطرة مائية ، أم بردية ، وقطرات الماء أو حبات البرد تنمو بعد ذلك باختراقها كتل السحاب المتراكم ، تحت المنطقة التي حدث فيها التفريغ (١).

الصواعق

وقد يحدث التفريغ الكهربائي بين السحاب والأرض ، بدلا من بين السحاب والسحاب ، وهذا يكون عادة إذا كان السحاب عظيم الكهربائية ، قريبا من الأرض ، فإذا حدث التفريغ ظهر له كالعادة ضوء وصوت ، نسمّي مجموعهما بالصاعقة ، أي أن الصاعقة : تفريغ كهربائي بين السحاب والأرض ، إذا أصاب حيوانا أو نباتا أحرقه ، وهو يحدث أكثر ما يحدث بين الأجسام المدبّبة على سطح الأرض من شجر أو نحوه ، وبين السحاب ، ولذا كان من الخطأ الاستظلال بالشجر ، أو المظلات في العواصف ذات البرق ، على أن الإنسان قد استخدم سهولة حدوث التفريغ بين الأجسام المدببة ، والسحاب لوقاية الأبنية من الصواعق ، وذلك بإقامته على سطوحها قضبانا حديدية أو نحاسية ، مدبّبة الأطراف ، بحيث يكون طرف القضيب المدبّب أعلى قليلا من أعلى نقطة في البناء ، والطرف الآخر متّصلا بلوح فلزي مدفون في أرض رطبة ، ومن شأن

__________________

(١) سنن الله الكونية ، ص ١٥٨ ـ ١٦٠.

٣٠٦

الأطراف المدببة أن يكون كل منها بابا تخرج منه الكهربائية المتجمعة على السطح تدريجا إلى السحاب الذي يظلّه ، فيحدث التفريغ ، أي الاتحاد بين كهربائية الأرض ، وكهربائية السحاب تدريجا ، فيمتنع ذلك التفريغ الفجائي المعروف بالصاعقة ، على أنه إذا نزلت الصاعقة بالبناء رغم ذلك فالأرجح جدا أنها تصيب القضيب المدبّب أول ما تصيب ، وتنصرف الكهربائية إلى الأرض ، بدلا من أن تدكّ البناء ؛ ولذا يسمّى مثل هذا القضيب المدبّب الواصل إلى الأرض بصارفة الصواعق ، وقد وجدوا أن السطح الخارجي للقضيب هو الطريق الذي تمر به الكهربائية إلى الأرض ، لذلك كلما كان هذا السطح أكبر كان الصرف أعظم ، والبناء أحصن ؛ ولذا كانت الصفائح أفعل في حفظ الأبنية ، من مثل كتلتها من الأسلاك (١).

جبل «قاف» المزعوم ، وحدوث الزلازل

ومن ذلك ما ذكره بعضهم في تفسير قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)(٢) : فقد ذكر صاحب «الدر المنثور» وغيره ، روايات كثيرة عن ابن عباس ـ رضوان الله تعالى عليه ـ قال : «خلق الله من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ، ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلا يقال له : (قاف) ، سماء الدنيا مرفوعة عليه ، ثم خلق الله ـ تعالى ـ من وراء ذلك الجبل أيضا مثل تلك الأرض سبع مرات ، واستمر على هذا حتى عدّ سبع أرضين ، وسبعة أبحر ، وسبعة أجبل ، وسبع سماوات».

وهذا الأثر لا يصح سنده عن ابن عباس ، وفيه انقطاع ، ولعل البلاء فيه من المحذوف.

__________________

(١) سنن الله الكونية ، ص ١٦٢.

(٢) ق / ١.

٣٠٧

وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ عنه أيضا ، قال : خلق الله تعالى جبلا يقال له : قاف ، محيط بالعالم ، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فيحرك العرق الذي يلي تلك القرية ، فيزلزلها ، ويحرّكها ، ثم تحرّك القرية دون القرية.

وكل ذلك كما قال القرافي لا وجود له ، ولا يجوز اعتماد ما لا دليل عليه ، وهو من خرافات بني إسرائيل الذين يقع في كلامهم الكذب ، والتغيير ، والتبديل ، دسّت على السذّج من المفسّرين ، أو تقبّلوها بحسن نية. ورووها لغرابتها ، لا اعتقادا بصحتها ، ونحمد الله أن وجد في علماء الأمة من ردّ هذا الباطل ، وتنبّه له قبل أن تتقدّم العلوم الكونية ، كما هي عليه اليوم. ومن العجيب أن يتعقّب كلام القرافي ابن حجر الهيثمي ، فقال : ما جاء عن ابن عباس مروي من طرق خرّجها الحفاظ وجماعة ، ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه ، حكمه حكم المرفوع إلى النبي.

ولكن نقول للشيخ الهيثمي : إن تخريج من التزم الصحة ليس بحجّة ، وكم من ملتزم شيئا لم يف به ، والشخص قد يسهو ويغلط مع عدالته ، وأنظار العلماء تختلف ، والحاكم صحح أحاديث ، حكم عليها الذهبي وغيره بالوضع ، وكذلك ابن جرير أخرج روايات في تفسيره ، حكم عليها الحافظ بالوضع ، والكذب. ولو سلمنا إسنادها إلى ابن عباس ، فلا ينافي ذلك أن تكون من الإسرائيليات الباطلة ، الموضوعة عنه.

ثم إنا نقول للهيثمي ومن يرى رأيه : أي فائدة نجنيها من وراء هذه المرويّات التي لا تتقبّلها عقول تلاميذ المدارس ، فضلا عن العلماء؟!! اللهم إلّا أننا نفتح ـ بالانتصار لها ـ بابا للطعن في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا جاز هذا في عصور الجهل والخرافات فلا يجوز اليوم ، وقد أصبح روّاد الفضاء يطوفون حول

٣٠٨

الأرض ، ويرونها معلقة في الفضاء بلا عمد ، ولا جبال ، ولا بحار ، ولا صخرة استقرت عليها الأرض ، فهذه الإسرائيليات مخالفة للحسّ والمشاهدة قطعا ، فكيف نتعلق بها؟!

قال الآلوسي : والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي ، من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحسّ ، فقد قطعوا هذه الأرض ، برّها وبحرها ، على مدار السرطان مرات ، فلم يشاهدوا ذلك ، والطعن في صحة الأخبار ـ وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح ـ أهون من تكذيب الحسّ ، وأمر الزلازل لا يتوقّف أمرها على ذلك الجبل ، بل هي من الأبخرة ، المتولّدة من شدّة حرارة جوف الأرض ، طلبها الخروج ، مع صلابة الأرض ، فيحصل هذا الاهتزاز ، وإنكار ذلك مكابرة عند من له عرق من الإنصاف (١) ، ولا ندري لو أن الآلوسي عاش في عصرنا هذا ، ووقف على ما وقفنا عليه من عجائب الرحلات الفضائية ، ما ذا كان يقول؟ ، إنّ كلّ مسلم ينبغي أن يكون له من العقل الواعي المتفتح ، والنظر الثاقب البعيد.

وإليك ما قاله عالم ناقد ، سبق الآلوسي بنحو خمسة قرون (٢) : فقد قال في تفسيره عند هذه الآية : وقد روى عن السلف أنهم قالوا : (ق) : جبل محيط بجميع الأرض يقال له : جبل قاف ، وكأنّ هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم ، مما لا يصدق ، ولا يكذب. وعندي : أن هذا ، وأمثاله ، وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبّسون به على الناس أمر دينهم ، كما افتري في هذه الأمة ـ مع جلالة

__________________

(١) روح المعاني للآلوسي ، ج ٢٦ ، ص ١٢٠.

(٢) ابن كثير توفي سنة (٧٧٤ ه‍) والآلوسي توفي سنة (١٢٧٠ ه‍).

٣٠٩

قدر علمائها ، وحفّاظها ، وأئمتها ـ أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمّة بني إسرائيل مع طول المدى ، وقلّة الحفاظ النقاد فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته (١).

قال : وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب ، في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ـ ولله الحمد والمنة ـ ، حتى أن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمه‌الله أورد هنا أثرا غريبا ، لا يصح سنده عن ابن عباس ، ثم ساق السند ، والمتن الذي ذكرناه آنفا.

ثم قال : فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ـ أي راو سقط من رواته ـ والذي رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رحمهما‌الله في قوله عزوجل (ق) : هو اسم من أسماء الله عزوجل ، والذي ثبت عن مجاهد ـ وهو من تلاميذ ابن عباس الملازمين له ، الناشرين لعلمه ـ أنه حرف من حروف الهجاء ، كقوله تعالى : (ص) ، (ن) ، (حم) ، (طس) ، (الم) ، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس ـ رضوان الله عليه ـ (٢).

الإسرائيليات في تفسير (ن وَالْقَلَمِ)

ومن ذلك ما يذكر كثير من المفسرين في قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ) من أنه الحوت الذي على ظهره الأرض ، ويسمّى «اليهموت» ، وقد ذكر ابن جرير ، والسيوطي روايات عن ابن عباس ، منها : «أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ٢٢١. والبغوي ، ج ٤ ، ص ٢٢٠.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ٢٢١.

٣١٠

كائن ، ثم رفع بخار الماء ، وخلقت منه السماوات ، ثم خلق النون ، فبسطت الأرض عليه ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض (١) ، فأثبتت بالجبال. وقد روي عن ابن عباس أيضا : أنه الدواة ، ولعل هذا هو الأقرب ، والمناسب لذكر القلم. وقد أنكر الزمخشري ورود «نون» بمعنى الدواة ، في اللغة ، وروي عنه أيضا : أنه الحرف الذي في آخر كلمة (الرَّحْمنُ) ، وأن هذا الاسم الجليل فرق في (الر) و (حم) و (ن).

واضطراب النقل عنه يقلل الثقة بما روي عنه ، ولا سيما الأثر الأول عنه ، والظاهر أنه افتراء عليه ، أو هو من الإسرائيليات ألصق به.

وإليك ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية ، قال في أثناء كلامه على الأحاديث الموضوعة : ومن هذا حديث أن قاف : جبل من زمردة خضراء ، محيط بالدنيا كإحاطة الحائط بالبستان ، والسماء واضعة أكنافها عليه.

ومن هذا حديث : أن الأرض على صخرة ، والصخرة على قرن ثور ، فإذا حرّك الثور قرنه ، تحرّكت الصخرة ، فهذا من وضع أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء بالرسل. وقال الإمام أبو حيان في تفسيره : لا يصح من ذلك شيء ما عدا كونه اسما من أسماء حروف الهجاء (٢).

__________________

(١) تحركت ومالت.

(٢) والصحيح عندنا ـ على ما أسلفنا البحث فيه في التمهيد (ج ٥ ص ٣٠٥ ـ ٣١٤) ـ : أنّ هذه الحروف المقطّعة في اوائل السور ، هي إشارات رمزيّة إلى أسرار بين الله ورسوله ، ولم يهتد إليها سوى المأمونين على وحيه. ولو كان يمكن الاطّلاع عليها لغيرهم لم تكن حاجة إلى الرمز بها.

نعم لا يبعد اشتمالها على حكم وفوائد تزيد في فخامة مواضعها في مفتتحات السور ، حسبما احتملته قرائح العلماء ، فيما ذكروه من فوائد. والله العالم بحقائق أسراره.

٣١١

أشهر كتب التفسير بالمأثور

أهم كتب تفسير القدماء تعتمد المأثور في تفسير القرآن ، فيذكرون الآية ويعقّبونها بذكر أقوال السلف من الأئمة والصحابة والتابعين ، وأحيانا مع شيء من ترجيح بعض الأقوال ، أو زيادة استشهاد بآية أو رواية أو إنشاد شعر. وهذا ديدنهم في التفسير ، لا يتجاوزونه إلّا القليل. أما التّعرض بمعاني الفلسفة أو الكلام أو الأدب ، فشيء حصل مع تأخير عن العهد الأوّل ، ومن ثمّ فجلّ تفاسير القدماء هي من نمط التفسير بالمأثور ، وإليك أشهرها :

١ ـ جامع البيان للطبري

مؤلف هذا التفسير هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ، نسبة إلى طبرستان ، هو من أهل آمل ، من بلاد مازندران ـ إيران ـ ولد بها سنة (٢٢٤) ، ورحل في طلب العلم وهو شاب ، وطوّف الأقاليم ، فسمع بمصر والشام والعراق ، ثم ألقى رحله واستقرّ ببغداد ، ونشر علمه هناك ، إلى أن توفّي بها سنة (٣١٠).

كان الرجل خبيرا بالتاريخ وبأقوال السلف ، عالما فاضلا وناقدا بصيرا. وله بعض الاجتهاد في تفسيره ، وترجيح بعض الأقوال على بعض. وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير كما اعتبر أبا للتاريخ ؛ وذلك باعتبار جامعيّة تفسيره وسعته وشموله. ويذكر أقوال السلف بالأسانيد مما يستدعي الثقة به في نقله. لكنه قد أكثر في النقل عن الضعفاء والمجاهيل ، ولفيف من المعروفين بالكذب

٣١٢

والاختلاق ، ولا سيّما جانب إكثاره من نقل الإسرائيليات ، بما أفسد وشوّه وجه التفسير. الأمر الذي أخذ على تفسير ابن جرير ؛ حيث يذكر الروايات من غير تمييز بين صحيحها وسقيمها ، ولا تعرّض لبيان ضعيفها عن قويّها ، ولعله حسب أنّ ذكر السند ـ ولو لم ينصّ على درجة الرواية قوّة وضعفا ـ يرفع المؤاخذة والتبعات عن المؤلّف. في حين أنّ تفسيره هذا مشحون بالروايات الواهية والمنكرة ، والموضوعات والإسرائيليات ، ولا سيّما عند ما يتعرّض لذكر الملاحم والفتن ، وقصص الأنبياء بالذات.

نعم كان ابن جرير من المحدّثين المكثرين ، ومن الحشويّة الذين يحشون حقائبهم بالغثّ والسمين ، وممن وصفهم الإمام الشيخ محمد عبده بجنون التحديث. قال في ذيل آية البشارة لزكريا بيحيى : «ولو لا الجنون بالروايات مهما هزلت وسمجت لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل ، وليس في الكتاب ما يشير إليه. ولو لم يكن لمن يروي مثل هذه الروايات إلّا هذا لكفى في جرحه ، وأن يضرب بروايته على وجهه. فعفا الله عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية مما ينشر ...» (١)

ومن ثم فإنّ تفسير ابن جرير بحاجة إلى نقد فاحص وتمحيص شامل ، كاحتياج كثير من كتب التفسير المشتملة على الموضوع والقصص الإسرائيلي. وليس ذكر السند بعاذر له ، ولا يجري هنا قولهم : من أسند لك فقد حمّلك البحث عن رجال السند ، كما زعمه الأستاذ الذهبي (٢) ، لأنّ تجويز نشر مثل هذا الخضمّ من الموضوعات والإسرائيليات ، لعله ذنب لا يغفر ، كما نوّه عنه الإمام

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢١٢ و ٢١٥.

٣١٣

عبده.

وعلى أي تقدير ، فإنّ مثل تفسير ابن جرير يعدّ اليوم من خير كتب التفسير الجامعة لآراء السلف وأقوالهم ، ولولاه لربّما ضاعت أكثر هذه الآراء ، فهو من أمّهات التفاسير المعتمدة في النقل والتفسير بالمأثور. ونحن نعتمد صحة نقله ، وإن كان في المنقول على يديه كثير من الغثّ والفاسد ، مما ألزم علينا النقد والتمحيص.

منهجه في التفسير ونقد الآراء

إنه يذكر الآية أوّلا ، ثم يعقبها بتفسير غريب اللّغة فيها ، أو إعراب مشكلها ، إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، وربما يستشهد بأشعار العرب وأمثالهم. وبعد ذلك يأتي إلى تأويل الآية ، أي تفسيرها على الوجه الراجح ، فيأتي بحديث أو قول مأثور إن كان هناك رأي واحد. أما إذا ازدحمت الأقوال والآراء ، فعند ذلك يذكر كل تأويل على حدّه ، وربّما رجّح لدى تضارب الآراء أحدها وأتى بمرجّحاته إن لغة أو اعتبارا ، وربما فصّل الكلام في اللغة والإعراب ، واستشهاده بالشعر والأدب.

مثلا نراه عند قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١) يقول : وتأويل «سواء» : معتدل ، مأخوذ من التساوي ، كقولك : متساو هذان الأمران عندي ، وهما عندي سواء ، أي هما متعادلان عندي. ومنه قول الله ـ جلّ ثناؤه ـ : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ)(٢) يعني : أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم ، بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر. فكذلك قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) معتدل عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم : الإنذار

__________________

(١) البقرة / ٦.

(٢) الأنفال / ٥٨.

٣١٤

أم ترك الإنذار ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :

تعذّبني الشهباء نحو ابن جعفر

سواء عليها ليلها ونهارها

يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ؛ لأنه لا فتور فيه.

ومنه قول الآخر :

وليل يقول المرء من ظلماته

سواء صحيحات العيون وعورها

لأنّ الصحيح لا يبصر فيه إلّا بصرا ضعيفا من ظلمته.

وأما قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فإنّه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام ، وهو خبر ؛ لأنّه وقع موقع «أيّ» ، كما تقول : لا نبالي أقمت أم قعدت ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع «أيّ» ؛ وذلك أنّ معناه ـ إذا قلت ذلك ـ :

ما نبالي أيّ هذين كان منك ، فكذلك ذلك في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أيّ هذين كان منك إليهم ، حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل. وقد كان بعض نحويّي أهل البصرة يزعم أنّ حرف الاستفهام إنّما دخل مع «سواء» وليس باستفهام ؛ لأنّ المستفهم إذا استفهم غيره فقال : أزيد عندك أم عمرو ، مستثبت صاحبه أيّهما عنده ، فليس أحدهما أحقّ بالاستفهام من الآخر ، فلما كان قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية ، وقد بيّنّا الصواب في ذلك.

فتأويل الكلام : إذا معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوّتك من أحبار يهود المدينة ، بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنّك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك وأن يبيّنوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم ، أأنذرتهم أم لم تنذرهم فإنّهم

٣١٥

لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به.

كما حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك (١).

انظر إلى هذا التفصيل في مجال الأدب ، الّذي ينبؤك عن سعة اضطلاعه بالأدب وبأقوال النّحاة.

ونراه يقول في تأويل قوله ـ جلّ ثناؤه ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ)(٢) وأصل الختم : الطبع ، والخاتم : الطابع ، يقال : منه ختمت الكتاب ، إذا طبعته.

فإن قال لنا قائل : وكيف يختم على القلوب ، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف؟

قيل : فإنّ قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم ، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور ، فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع الّتي بها تدرك المسموعات ، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات ، نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.

فإن قال : فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها ، أهي مثل الختم الذي يعرف

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٨٦.

(٢) البقرة / ٧.

٣١٦

لما ظهر للأبصار أم هي بخلاف ذلك؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك ، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.

ثم ذكر قول مجاهد ، بإسناده عن الأعمش ، قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذا ، يعني الكفّ. فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه ، وقال بإصبعه الخنصر هكذا. فإذا أذنب ضم ، وقال بإصبع أخرى ـ فإذا أذنب ضم ، وقال بإصبع أخرى هكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ، قال : ثم يطبع بطابع. قال مجاهد ، وكانوا يرون أن ذلك الرّين.

وذكر قولا آخر لبعضهم : أن «الختم» هنا كناية عن تكبّرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق ، كما يقال : إن فلانا لأصمّ عن هذا الكلام ، إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهّمه تكبرا.

قال : والحق في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ما رواه أبو هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقل قلبه ، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه ، فذلك «الران» الذي قال الله ـ جلّ ثنائه ـ : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١).

فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها ، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عزوجل والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر منها مخلص. ثم أخذ في مناقشة القول الثاني ، وفصّل الكلام فيه على عادته في مناقشة الأقوال (٢).

__________________

(١) المطففين / ١٤.

(٢) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٨٧.

٣١٧

هذا منهجه في التفسير ، وهو من خير المناهج المعروفة في التفسير بالمأثور ، ومناقشة الآراء المتضاربة في التفسير. وحقا أنه طويل الباع في هذا المجال ، سواء في النقل أم في النقاش.

موقفه تجاه أهل الرأي في التفسير

أنه يقف في وجه أهل الرأي في التفسير موقفا عنيفا ، ويرى من إعمال الرأي في تفسير كلام الله مخالفة بيّنة لظاهر دلائل الشرع ، ويشدّد في ضرورة الرجوع إلى العلم المأثور عن الصحابة والتابعين ، وأنّ ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح. فمثلا عند ما تكلم عن قوله تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(١) نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف ، مع توجيهه للأقوال وتعرّضه للقراءات ، بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية ، ثم يعرّج بعد ذلك على من يفسّر القرآن برأيه ، وبدون اعتماد منه على شيء إلّا على مجرد اللغة ، فيفنّد قوله ويحاول إبطال رأيه. فيقول ما نصّه : «وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ، ممّن يفسّر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب ، يوجّه معنى قوله : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) إلى : وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث ، ويزعم أنه من العصر بمعنى المنجاة ، كما جاء في قول أبي زبيد الطائي :

صاديا يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود

أي المقهور.

وقول لبيد :

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم

وما كان وقّافا بغير معصّر

قال : وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه ، خلافه قول جميع أهل

__________________

(١) يوسف / ٤٩.

٣١٨

العلم من الصحابة والتابعين.

قال : وأمّا القول الذي روى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة ـ أن يعصرون بمعنى يحلبون ـ فقول لا معنى له ؛ لأنّه خلاف المعروف من كلام العرب ، وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس : إنّه عصر الأعناب والثمرات (١).

نزعته التعصبيّة

هو بالرغم من ادّعاء ابن أخته محمد بن العباس أبى بكر الخوارزمي أنه شيعيّ (٢) نراه يقف عند دلائل الآيات الكريمة على فضيلة من فضائل آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موقف أهل النصب ، محاولا إخفاء تلك الفضيلة.

من ذلك تأويله آية المودّة في القربى (٣) في قريش ، لتحمي النبيّ وتمنعه شرّ الأعداء ، ونفى بشدة أن يكون المقصود هم أهل بيته الأطيبين.

قال : الآية خطاب مع قريش لتحفظ قرابته فيهم فتحميه وتمنعه شرّ الأعداء ، فقد طلب إليهم الموادّة لكونهم ذوي رحم له ، حتى وإن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. فقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرابة في جميع قريش ، فلمّا كذّبوه وأبوا أن

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١٢ ، ص ١٣٨.

(٢) يقول الخوارزمي :

بآمل مولدي وبنو جرير

فأخوالي ، ويحكي المرء خاله

فها أنا رافضي عن تراث

وغيري رافضي عن كلاله

لكن ياقوت الحموي يفنّد هذا الزعم ، يقول : وكذب ، لم يكن أبو جعفر رافضيّا ، وإنما حسدته الحنابلة فرموه بذلك ، فاغتنمها الخوارزمي متبجّحا به. وكان سبّابا رافضيا مجاهرا بذلك. (معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٥٧).

(٣) الشورى / ٢٣.

٣١٩

يبايعوه ، قال : يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ، لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم.

ثم ذكر وجوها ثلاثة أخر : طلب الموادة مع قرابته أهل بيته ، وطلب القربى إلى الله والزلفى لديه تعالى ، وصلة الأرحام بعضهم مع بعض. ثم يحاول ترجيح الوجه الّذي ذكره على هذه الوجوه الثلاثة ، ويستند في ترجيحه إلى موضع «في» في قوله : (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). يقول : إذ لا وجه معروفا لدخول «في» في هذا الموضع. وكان ينبغى على سائر الوجوه أن يكون التنزيل «إلّا مودة القربى» أو «المودة بالقربى» أو «ذا القربى» على الترتيب.

قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل ، قول من قال : معناه قل لا أسألكم عليه أجرا ـ يا معشر قريش ـ إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم الّتي بيني وبينكم ، وإنما قلت : هذا التأويل أولى بتأويل الآية ، لدخول «في» في قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال : إلّا أن تودّوا قرابتي أو تقربوا إلى الله ، لم يكن لدخول «في» في الكلام في هذا الموضع وجه معروف ؛ ولكان التنزيل «إلّا مودّة القربى» إن عنى به الأمر بمودّة قربى الرسول ، أو «إلّا المودّة بالقربى» أو «ذا القربى» إن عنى به التودّد والتقرّب. وفي دخول «في» في الكلام أوضح دليل على أنّ معناه : إلّا مودّتي في قرابتي منكم ، وأنّ الألف واللام في المودّة أدخلتا بدلا من الإضافة. وقوله «إلّا» في هذا الموضع استثناء منقطع ، ومعنى الكلام : «قل لا أسألكم عليه أجرا ، لكنّي أسألكم المودّة في القربى» (١).

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٥ ، ص ١٥ ـ ١٧.

٣٢٠