التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

النمط الأول

التفسير بالمأثور

يعتمد التفسير النقلي أو التفسير بالمأثور على ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل أولا ، ثم على ما نقل عن المعصوم : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمة من خلفائه المرضيين عليهم‌السلام ، وبعده على المأثور من الصحابة الأخيار والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم ، ممّا جاء بيانا وتوضيحا لجوانب أبهم من القرآن.

وكان إدراج ما روي عن التابعين في التفسير بالمأثور ، من جهة أنّ أقدم كتب التفسير بالمأثور كتفسير ابن جرير وغيره اعتمد على أقوال التابعين وآرائهم في التفسير ، على نحو اعتماده على المأثور من المعصوم. فنراهم قد أردفوا ما نقل عن التابعين إلى جنب المنقول عن الصحابة ، بل إلى جنب أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمة عليهم‌السلام.

ولنتكلم عن أنحاء التفسير بالمأثور ، ومقدار صحته ، ومدى اعتباره ، في

٢١

عالم التفسير :

١ ـ تفسير القرآن بالقرآن

لا شك أنّ أتقن مصدر لتبيين القرآن هو القرآن نفسه ؛ لأنّه ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض (١) ـ كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ حيث ما جاء منه مبهما في موضع منه ، قد جاء مفصّلا ومبيّنا في موضع آخر ، بل وفي القرآن تبيان لكل شيء جاء مبهما في الشريعة ، فلأن يكون تبيانا لنفسه أولى. ومن ذلك جاء قولهم : «القرآن يفسر بعضه بعضا» كلام معروف.

وتفسير القرآن بالقرآن على نمطين : منه ما أبهم في موضع وبيّن في موضع آخر ـ فكان أحدهما متناسبا مع الآخر تناسبا معنويّا أو لفظيّا ـ كما في قوله تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ)(٢) وقد جاء تبيين هذه الليلة المباركة بليلة القدر في سورة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٣) وقد بيّن في سورة البقرة أنها واقعة في شهر رمضان : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(٤).

فقد تبين من مجموع ذلك : أن القرآن نزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان.

ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا

__________________

(١) نهج البلاغة ، خ ١٣٣ ، ص ١٩٢ (صبحي صالح).

(٢) الدخان / ١ ـ ٣.

(٣) القدر / ١.

(٤) البقرة / ١٨٥.

٢٢

دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(١) ما هذه الحيلولة وكيف هي ، وهو تهديد لاذع بأولئك الزائفين المتمرّدين عن الشريعة والدين.

وهذا الإبهام يرتفع عند مراجعة قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢). فعرفنا أنها نسيان الذات ، فالذي يجعل من شريعة الله وراء ظهره ، إنما حرم نفسه ونسي حظّه ، فقد تاه في غياهب ضلالة الجهل والعمى.

وهكذا قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها. وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٣) ما هو المقصود من «الأرض» هنا في هذه الآية ، وكيف يقع نقصانها؟

أمّا الأرض فالمقصود منها هو العمران منها ، وليس المراد هي الكرة الأرضيّة. ويشهد لذلك قوله تعالى بشأن المحاربين المفسدين في الأرض : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا. أَوْ يُصَلَّبُوا. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤). فإنّ النفي من الأرض ، يراد به الإبعاد عن العمران ليظل حيرانا بين البراري والقفار.

أما كيف يقع النقصان؟ فقد فسّره الإمام أبو جعفر محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام وكذا ولده الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام بفقد العلماء ، وأن عمارة الأرض

__________________

(١) الأنفال / ٢٤.

(٢) الحشر / ١٩.

(٣) الرعد / ٤١.

(٤) المائدة / ٣٣.

٢٣

سوف تزول وتندثر عند ذهاب علمائها وخيار أهلها ، وهكذا ورد تفسير الآية بذلك عن ابن عباس (١).

ومن هذا النمط أيضا قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(٢).

ما هذه الأمانة التي كان الإنسان صالحا لحملها ، دون سائر المخلوق؟

فجاءت آية أخرى تفسّرها بالخلافة : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٣).

ثمّ ما هذه الخلافة الّتي منحت للإنسان ، وحظي بها هذا المخلوق دون سائر الخلق؟

كانت آية ثالثة تفسر الخلافة بقدرة الإبداع وإمكان التصرّف في ساحة الوجود : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(٤)(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٥) فقدرة الإنسان التسخيريّة وإمكان تصرّفه في عالم الوجود ، علوّه وسفله ، هي قدرته الإبداعيّة الّتي تمثّل قدرة الله الحاكمة على عالم الوجود بذاته المقدّسة.

فجاءت كل آية تفسّر أختها ، والقرآن يفسّر بعضه بعضا.

__________________

(١) راجع : تفسير البرهان للبحراني ، ج ٢ ، ص ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٢) الأحزاب / ٧٢.

(٣) البقرة / ٣٠.

(٤) لقمان / ٢٠.

(٥) الجاثية / ١٣.

٢٤

والنمط الآخر من تفسير القرآن بالقرآن ، كان ما جاء فيه البيان غير مرتبط ظاهرا لا معنويّا ولا لفظيّا مع موضع الإبهام من الآية الأخرى ، سوى إمكان الاستشهاد بها لرفع ذلك الإبهام.

مثال ذلك ، آية السرقة ؛ حيث أبهم فيها موضع قطع اليد ، فقد بيّن الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه‌السلام أنّه من موضع الأشاجع (مفصل أصول الأصابع) مستشهدا لذلك بقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(١) حيث إنّ السارق إنّما جنى على نفسه ؛ فتعود عقوبته إلى ما يمسّه من الأعضاء ، وبما أن مواضع السجود لله تعالى ، لا يشركه فيها أحد ، وراحة الكف من مواضع السجود لله ، فلا موضع للقطع فيها (٢).

وجميع الآيات التي بظاهرها التشبيه ، يفسّرها قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٣) حيث إنّها تنفي التشبيه على الإطلاق ، فلا بدّ هناك في آيات التشبيه من تأويل صحيح ، يوضّحه العقل السليم.

٢ ـ تفسير القرآن بالسنّة

لا شك أن مجموعة أحكام الشريعة وفروع مسائلها ، جاءت تفاصيل عمّا أبهم في القرآن وأجمل من عموم وإطلاق. وهكذا ما ورد في لسان المعصوم وفعله وتقريره ، بيانا لمختلف أبعاد الشريعة ، هي بيانات عمّا جاء في القرآن من

__________________

(١) الجنّ / ١٨.

(٢) راجع : تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٣) الشورى / ١١.

٢٥

رؤوس الأحكام والأخلاق والآداب.

قال الله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(١). فقد كانت وظيفة النبيّ الأساسيّة هي بيان وتبيين ما جاء في الذكر الحكيم ، وكل ما صدر عنه في بيان أبعاد الشريعة ، فإنّما هو تفسير للقرآن الكريم.

هذا فضلا عمّا سئل عن معاني القرآن ، حيثما أبهم على الصحابة ، فبيّنه لهم في شرح وتبيين ، على ما أسلفنا في الكلام عن التفسير المأثور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهكذا ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تفسيرا لما أبهم أو تفصيلا لما أجمل في القرآن الكريم. وقد تكلّمنا عن دور أهل البيت في التفسير في فصل خاص.

٣ ـ تفسير القرآن بقول الصحابي

ونحن قد تكلّمنا عن قيمة تفسير الصحابي الّذي تربّى في أحضان الرسالة ، وقد أخذ العلم مباشرة من منهله العذب السائغ ، وكان ممن تفقّه على يده الكريمة ، وتحت هديه وإرشاده المستقيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ أنّهم ـ أي صحابته الأخيار ـ أقرب الناس فهما إلى معاني القرآن الحكيمة ، وأهداهم إلى معالمه الرشيدة.

هذا ابن مسعود يقول : «كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات ، لم يجاوزهنّ حتى

__________________

(١) النحل / ٤٤.

٢٦

يعلم معانيهنّ والعمل بهنّ» (١).

وهذا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «وإنما هو تعلّم من ذي علم ... علم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي» (٢).

إلى غير ذلك من تصريحات تنبؤك عن مدى حرصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تعليم صحابته وتثقيفهم الثقافة الإسلامية القرآنية الكاملة.

٤ ـ تفسير القرآن بقول التابعي

لا شك أنّ التابعين هم أمسّ جانبا بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعلماء من صحابته الأخيار ، وكانوا أقرب فهما لمعاني القرآن الكريم ؛ حيث قربهم بأصول معاني اللغة الفصحى غير المتحوّرة ، الباقية على صفوها الأوّل ، كما كانت الحوادث والوقائع المقترنة بنزول الآيات ، والموجبة أحيانا للنزول ، كانت تلك الحوادث والأسباب والموجبات في متناولهم القريب ، كما كان باب الفهم والسؤال لديهم مفتوحا ، وبالتّالي كان باب العلم بأسباب النّزول وفهم معاني القرآن والسؤال عن مواضع الإبهام فيه منفتحا لهم بمصراعين ، الأمر الذي لم يحظ بها من تأخر من أرباب التفسير.

هذا ، ومع ذلك إنما نعتبر قول التابعي شاهدا ومؤيّدا ، وليس حجّة على الإطلاق ، كما كان حديث المعصوم عليه‌السلام حجة برأسه ، أو قول الصحابي بالنسبة وفي الغالب الأكثر حجة معتبرة ، فإنّما يقع قول التابعي في الدرجة الثالثة من

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٧ و ٣٠.

(٢) نهج البلاغة ، خ ١٢٨ ، ص ١٨٦ (صبحى صالح).

٢٧

الاعتبار ، وليس على إطلاقه.

٢٨

آفات التفسير بالمأثور

علمنا أن التفسير النقلي يشمل ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن ، وما كان تفسيرا للقرآن بالسنّة ، وما كان موقوفا على الصحابة ، أو المروي عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن بعد وضوح الدلالة ، أو بما ثبت من السنّة الصحيحة فذلك ممّا لا خلاف فيه ولا شك يعتريه ؛ لأنه من أحسن الطرق إلى فهم معاني كلامه تعالى ، وأمتنها وأتقنها.

وأما ما أضيف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى أحد الأئمة الأطهار ، وكان في سنده ضعف أو في متنه وهن ، فذلك مردود غير مقبول ، ما دام لم تصح نسبته إلى المعصوم.

وأما تفسير القرآن بالمروي عن الصحابة والتابعين ، فقد تسرّب إليه الخلل ، وتطرّق إليه الضعف والوهن الكثير ، إلى حدّ كاد يفقدنا الثقة بكل ما روي من ذلك ـ كما قال الأستاذ الذهبي (١) ـ حيث وفرة أسباب الضعف والوهن في ذلك الخضمّ من المرويّات ، في كتب التفسير المعزوّة إلى الصحابة والتابعين. وقد

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٥٦.

٢٩

خلط سليمها بسقيمها ؛ بحيث خفي وجه الصواب.

ولقد كانت كثرة المروي من ذلك كثرة جاوزت الحدّ ، وبخاصّة ما إذا وجدنا التناقض وتضارب الأقوال ، وكثيرا ما تضادّ ما نسب إلى شخص واحد ، كالمرويات عن ابن عباس ، كان ذلك من أكبر عوامل زوال الثقة بها أو بالأكثرية الساحقة منها ، الأمر الذي يستدعي التثبّت لديها ، وإمعان النظر والبحث والتمحيص.

هذا الإمام أحمد بن حنبل يصرّح بأنه لم يثبت في التفسير شيء ، يقول : ثلاث كتب لا أصل لها : المغازي ، والملاحم ، والتفسير. قال المحققون من أصحابه : مراده أنّ الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متّصلة (١).

وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول : لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلّا شبيه بمائة حديث (٢). مراده : عدم صحّة الإسناد إليه في الكثير من المرويّات عنه.

وهذا الكلام ، وإن كان مبالغا فيه ، إلّا أنّه يدلّنا على مبلغ ما دخل في التفسير النقلي من الروايات المكذوبة المصطنعة ، فضلا عن الضعاف والمراسيل.

وعلى أيّ تقدير فأسباب الوهن في التفسير النقلي تعود إلى الأمور الثلاثة التالية :

أوّلا : ضعف الأسانيد وإرسالها أو حذفها رأسا ؛ مما يوجب القدح في التفسير بالمأثور.

وثانيا : كثرة الوضع والدسّ والتزوير في الحديث والتفسير ، بما أوجب

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ١٨٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٠٩.

٣٠

زوال الثقة به.

وثالثا : وفرة الإسرائيليّات في التفسير والتاريخ بما شوّه وجه التفسير.

ولنتكلّم عن هذه الأمور الثلاثة في شيء من التوضيح :

١ ـ ضعف الأسانيد

مما أوجب الوهن في وجه التفسير النقلي ، ضعف الأسانيد بكثرة المجاهيل أو ضعاف الحال أو الإرسال أو حذف الإسناد رأسا ، وما إلى ذلك مما يوجب ضعف الطريق في الحديث المأثور.

هذا إذا كنّا نرافق علماء الأصول ـ أصول الفقه ـ في أساليبهم في توثيق الأسانيد أو تضعيفها ، وجرينا معهم على غرار ما نجري في فقه الأحكام ، وملاحظة شرائط استنباطها من دلائل الكتاب والسنّة. فإن كانت الشرائط هناك تجري هنا ـ في باب التفسير ـ أيضا ، كانت نفس الأساليب واجبة الاتّباع ، غير أنّ باب التفسير يختلف عن الفقه اختلافا في الجذور.

الفقه : استنباط أحكام وتكاليف ترجع إلى عمل المكلّفين ، إما فعلا أو تركا ، إلزاما أو رجحانا. فلا بد للفقيه من أن يستوثق في الاستنباط ، ويبني الفروع على أصول متينة. والاستيثاق والاطمئنان إنّما يحصلان بحصول الظن الغالب المعتبر شرعا وعقلائيا ؛ فيجب عليه اتباعه ، وإن لم يحصل له القطع واليقين ؛ لأنّ ظنّه هذا حجّة معتبرة.

أما التفسير ـ وكذا التاريخ ـ فليس الأمر كذلك ؛ حيث طريق الاستيثاق والحجّية تختلف أساليبه عن أساليب الفقه. إذا لا حجّية تعبّديّة هنا ، كما كانت حجّة تعبّدا هناك. فإنّ دليل التعبّد قاصر الشمول هنا ؛ إذ لا عمل يوجب التعبّد فيه.

٣١

إنما هو عقيدة وركون نفس ، إن حصلت أسبابه حصل ، وإلّا فلا ، ولا معنى للتعبّد في العقيدة والرأي أو في وقوع حادثة أو عدم وقوعها.

مثلا : لا معنى للتعبّد بأن تفسير الآية الفلانية كذا ؛ إذ التفسير : كشف القناع عن وجه اللفظ المبهم ، فإن ارتفع الإبهام وانكشف المعنى ، أصبح موضع القبول والإذعان به ، وإن لم يرتفع الإبهام ، فلا موضع للقبول والإذعان تعبّدا محضا.

وهذا نظير الأحداث التاريخية ، إنما يذعن بها إذا حصل الاطمئنان الشخصي بوقوعها من أي سبب كان ، ولا يمكن التعبّد بوقوع حدث تاريخي إطلاقا.

وهذا معنى قولهم : لا اعتبار بالخبر الواحد في باب التفسير والتاريخ والعقائد ؛ إذ لا يوجب علما ولا عملا ، حيث المطلوب في هذه الأبواب هو العلم ، الذي لا يحصل بخبر الواحد بمجرده ، كما لا عمل ـ فعلا أو تركا ـ هنا ، كي يستدعي الخبر الواحد التعبّد به. ومن ثمّ اختص باب التعبّد في اعتبار الخبر الواحد بالفقه ؛ حيث العمل هناك محضا.

إذن فما قيمة الحديث ـ الخبر الواحد ـ في باب التفسير وكذا التاريخ؟ الأمر الذي يجب الإمعان فيه : قيمة الخبر الواحد في باب التفسير والتاريخ إنما هي بملاحظة المتن الوارد فيه ، دون مجرد السّند. فإن كان مضمون الخبر ـ وهو محتوى الحديث الوارد ـ ما يعالج دفع مشكلة إبهام في الأمر ، فنفس المتن شاهد على صدقه ، وإلّا فلا دليل على التعبّد به.

فالحديث المأثور عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أحد الأئمة عليهم‌السلام أو أحد الصحابة العلماء أو التابعين الكبار ، إن كان يزيد في معرفة أو يرفع من إبهام في اللفظ أو المعنى فهو شاهد صدقه ؛ ذلك أنهم أعرف بمواضع النزول وأقرب تناولا فيه ؛ حيث قرب عهدهم به ، أو أنهم حضروا الحادثة فنقلوها.

وللعقلاء طريقتهم في قبول خبر الثقة بل من لم يظهر فسقه علانية

٣٢

فيعتمدونه ؛ وعليه جاء قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(١) ، فقد أقرّ العقلاء على قبولهم للنبإ ما لم يكن الآتي به متجاهرا بالفسق ، ممن لا يتورّع الكذب ، ولا يخاف الله في سرّه وعلانيته.

فمن عرف بالصدق والأمانة قبل نبؤه ، ومن عرف بالكذب والخيانة ترك ، ومن كان مجهولا تريّثنا ، فإن ظهرت منه دلائل الصدق قبلناه وإلّا رفضناه.

إذن فشرط قبول الخبر احتفافه بقرائن الصدق : من وجوده في أصل معتبر ، وكون الراوي معروفا بالصدق والأمانة ، وعلى الأقلّ غير معروف بالكذب والخيانة ، وسلامة المتن واستقامته ، مما يزيد علما أو يزيل شكّا. وأن لا يخالف معقولا أو منقولا ثابتا في الدين والشريعة ، الأمر الذي إذا توفّر في حديث أوجب الاطمئنان به وإمكان ركون النفس إليه ؛ وعليه فلا يضرّه حتى الإرسال في السند إن وجدت سائر شرائط القبول.

٢ ـ الوضع في التفسير

كان الوضع والتزوير من أهمّ أسباب الوهن في التفسير المأثور. فقد كانت الدواعي متوفرة للدّسّ والاختلاق في المأثور من التفسير ، إلى جنب الوضع في الحديث ، فهناك أسباب سياسيّة وأخرى مذهبيّة وكلاميّة ، وربما عاطفيّة ، كانت عن قصور النظر لا عن سوء نيّة. والعمدة أنّ القرآن كان المحور الأساسي الذي يدور عليه رحى الدين والسياسة والسلوك آنذاك ، فلا بدّ لكل منتحلي مسلك من المسالك أن يتشبّث بعرى القرآن ، ويجعل من آياته الكريمة وسيلة ناجعة ، لبلوغ

__________________

(١) الحجرات / ٦.

٣٣

أهدافه إن خيرا وإن شرا ، الأمر الذي جعل من سوق الكذب والتزوير في التفسير والحديث رابحة ذلك العهد.

وقد بدئ ذلك على يد معاوية ، حيث كان يجعل الجعائل على وضع الحديث أو قلبه تمشية لسياسته الغاشمة ذلك الحين (١) ، وراج ذلك طول عهد الأمويين وبعدهم العباسيين ؛ حيث أخذ بالتوسع والاطّراد.

قال الأستاذ الذهبي : وكان مبدأ ظهور الوضع في سنة إحدى وأربعين بعد وفاة الإمام أمير المؤمنين حين اختلف المسلمون سياسيّا ، وتفرّقوا شيعا ، ووجد من أهل البدع والأهواء من روّجوا لبدعهم وتعصّبوا لأهوائهم. ودخل في الإسلام من تبطّن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له وتضليل أهله. فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة ورغباتهم الخبيثة (٢).

قال الأستاذ أبو ريّة : وقد أجمع الباحثون والعلماء المحققون ، على أنّ نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته ، ثم اشتد الاختراع واستفاض بعد مبايعة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة تامّة ، حتى ذرّ قرن الشيطان الأموي ليغتصب الخلافة من صاحبها ، ويجعلها حكما أمويا. وقد كان وا أسفاه! (٣)

وفي ذلك يقول الإمام الشيخ محمد عبده : وتوالت الأحداث بعد الفتنة

__________________

(١) راجع : شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٤ ، ص ٦٣ ، وسيأتي ذلك عند الكلام عن الوضع للسياسة.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٥٨.

(٣) أضواء على السنّة المحمّدية ، ص ١١٨.

٣٤

الكبرى ، ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ما عقدوا ، وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين! غير أنّ بناء الجماعة قد انصدع ، وانفصمت عرى الوحدة بينهم ، وتفرّقت بهم المذاهب في الخلافة ، وأخذت الأحزاب في تأييد آرائهم ، كل ينصر رأيه على رأى خصمه بالقول والعمل ، وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل ، وغلا كل قبيل (١).

أهم أسباب الوضع

ذكروا لوضع الحديث والكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أصحابه الخيار والأئمة الأطهار أسبابا كثيرة ، نأتي على أهمّها :

١ ـ ما وضعه الزنادقة اللّابسون لباس الإسلام غشّا ونفاقا ، وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق بين المسلمين. قال حمّاد بن زيد : وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث. قال أبو ريّة : هذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبها (٢) ، وإلّا فقد أكثر الزنادقة من وضع الأحاديث في أعداد هائلة. فهذا عبد الكريم بن أبي العوجاء ـ وكان خال معن بن زائدة وربيب حماد بن سلمة ، وكان يدسّ الأحاديث في كتب حماد ـ فلما أخذ وأتي به إلى محمد بن سليمان بن على ، فأمر بضرب عنقه لزندقته ، فلما أيقن بالقتل قال : والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلّ فيها الحرام.

__________________

(١) رسالة التوحيد ، (ط ١) ، ص ٧ ـ ٨.

(٢) الأضواء ، ص ١٢١.

٣٥

ولقد فطّرتكم في يوم صومكم وصوّمتكم في يوم فطركم. فهذا زنديق واحد يضع آلاف حديث ، فكيف بغيره وهم كثيرون. وأيضا روى حماد بن زيد عن جعفر بن سليمان ، قال : سمعت المهدي يقول : أقرّ عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربعمائة حديث ، فهى تحوّل في أيدي الناس.

كما روى ابن الجوزي بإسناده إلى حماد بن زيد ، يقول : وضعت الزنادقة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة عشر ألف حديث (١).

وأخرج جلال الدين السيوطي بإسناده إلى ابن مبارك ، أنه قال بشأن حديث فضائل السور المعزوّة إلى أبي بن كعب : أظنّ الزنادقة وضعته (٢) ؛ وذلك تشويها لسمعة القرآن الكريمة.

وذكر ابن الجوزي أن جماعة من الكذّابين ندموا على كذبهم وتنصّلوا من ذلك. فقد حدّث عن أبي شيبة ، قال : كنت أطوف بالبيت ورجل من قدّامي يقول : اللهم اغفر لي ، وما أراك تفعل! فقلت : يا هذا قنوطك أكثر من ذنبك؟! فقال : دعني ، فقلت : أخبرني ، فقال : إني كذبت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسين حديثا ، وطارت في الناس ، ما أقدر أن أردّ منها شيئا وقال ابن لهيعة : دخلت على شيخ وهو يبكي فقلت : ما يبكيك؟ فقال : وضعت أربعمائة حديث أدرجتها إدراجا مع الناس ، فلا أدري كيف أصنع؟! (٣)

__________________

(١) الموضوعات لابن الجوزي ، ج ١ ، ص ٣٧ ـ ٣٨.

(٢) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ، ج ١ ، ص ٢٦٧ ، وراجع : الموضوعات ، ج ١ ، ص ٢٤١.

(٣) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٤٩.

٣٦

٢ ـ الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه. فإنّ المذاهب والآراء لما تشعّبت ، جعل كل فريق يستفرغ ما بوسعه لإثبات مذهبه ودعم عقيدته ، لا سيّما بعد ما فتح باب المجادلة والمناظرة في المذاهب والآراء. ولم يكن المقصود من ذلك إلّا إفحام الجانب الآخر مهما بلغ ثمن ذلك ، ولو بالحطّ من كرامة الدين.

فقد روى ابن الجوزي بإسناده إلى الدار قطني عن أبي حاتم ابن حبان ، قال : سمعت عبد الله بن علي يقول : سمعت محمد بن أحمد بن الجنيد يقول : سمعت عبد الله بن يزيد المعرّي يقول عن رجل من أهل البدع رجع عن بدعته ، فجعل يقول : انظروا هذا الحديث ممّن تأخذونه ، فإنّا كنّا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا.

وبإسناده إلى ابن لهيعة قال : سمعت شيخا من الخوارج تاب ورجع ، وهو يقول : إن هذه الأحاديث دين ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فإنّا كنّا إذا هوينا أمرا صيّرناه حديثا. وعن آخر ، قال : كنّا إذا اجتمعنا استحسنّا شيئا جعلناه حديثا (١). قال أبو ريّة : وليس الوضع لنصرة المذاهب محصورا في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول ، بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه.

من ذلك ما رواه الأحناف ، قدحا في الشافعي ومدحا لأبي حنيفة ، بإسناد رفعوه إلى أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يكون في أمّتي رجل يقال له : محمد بن إدريس ، أضرّ على أمّتي من إبليس. ويكون في أمتي رجل يقال له : أبو حنيفة ، هو سراج أمّتي».

__________________

(١) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٣٨ ـ ٣٩.

٣٧

وقد رواه الخطيب مقتصرا على ما ذكروه في أبي حنيفة ، وقال : موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي ، وهكذا حدّث به في بلاد خراسان ثم حدّث به في العراق ، وزاد فيه : «وسيكون في أمّتي رجل يقال له : محمد بن إدريس ، فتنته أضرّ على أمّتي من فتنة إبليس».

قال أبو ريّة : وهذا الإفك مما لا يحتاج إلى بيان بطلانه ، ومع هذا تجد فقهاء الأحناف المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهيّة شقّ الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمّة ويسكنون إليه ، بل يستدلّون به على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة.

الأمر الذي اضطرّ الشافعيّة إزاء ذلك أن يضعوا في إمامهم حديثا يفضّلونه على كل إمام ، وهذا نصّه : «أكرموا قريشا فإنّ عالمها يملأ طباق الأرض علما». وأنصار الإمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا الحديث : «يخرج الناس من المشرق إلى المغرب ، فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة». وأحاديث مشابهة وضعوها بهذا الشأن (١).

هذا فضلا عن الدسّ والتزوير فى الأحاديث لنصرة المذهب.

هذا أبو العباس القرطبي ـ في شرح صحيح مسلم ـ يقول : أجاز بعض فقهاء أهل الرأي ، نسبة الحكم الذي دلّ عليه القياس الجليّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسبة قوليّة. فيقولون في ذلك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذا وكذا ؛ ولهذا نرى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنّها موضوعة ؛ لأنها تشبه فتاوي الفقهاء ،

__________________

(١) أضواء على السنة المحمّدية ، ص ١٢٢. وراجع : الغدير (ج ٥ ، ص ٢٧٧ ـ ٢٨٨) للعلامة الأميني تجد فصلا مشبعا بهذه المدسوسات من المناقب والمكرمات.

٣٨

ولا تليق بجزالة كلام سيّد المرسلين ، كما لا يقيمون لها أسنادا.

قال أبو شامة في مختصر كتابه «المؤمّل» : مما يفعله شيوخ الفقه في الأحاديث النبوية والآثار المرويّة ، كثرة استدلالهم بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه ، نصرة لقولهم ، وينقصون في ألفاظ الحديث ، وتارة يزيدون فيه. قال : وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد (١).

٣ ـ شدّة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس. فقد تساهل الوعّاظ وعلماء الأخلاق في تصحيح ما يروونه بهذا الشأن ، وربما تنازل بعضهم فأجاز الاختلاق في ذلك ، ما دام الغرض هو هداية الناس ، وليس إغواءهم. فقد كان الوضع لله ، وبرّر بعضهم ذلك بأنه إنما كذب لرسول الله ولم يكذب عليه.

يقول أبو ريّة عن العبّاد والصوفية : إنه راجت عليهم الأكاذيب وحدّثوا عن غير معرفة ولا بصيرة ، فيجب أن لا يعتمد على الأحاديث التي حشيت بها كتب الوعظ والرقائق والتصوّف ، من غير بيان تخريجها ودرجتها. ولا يختص هذا الحكم بالكتب التي لا يعرف لمؤلّفها قدم في العلم ، ككتاب «نزهة المجالس» المملوء بالأكاذيب في الحديث وغيره. بل إنّ كتب أئمة العلماء ك «الإحياء للغزالي» لا تخلو من الموضوعات الكثيرة (٢).

قلت : وهكذا بعض كتب الوعظ والإرشاد عندنا ، ككتاب «الأنوار النعمانية» للسيد نعمة الله الجزائري ، مملوء بالأكاذيب والمخاريق ، ومثله كتاب «خزائن الجواهر» للشيخ علي أكبر النهاوندي فيه من المخاريق الطامّات. وأيضا كتب

__________________

(١) المختصر ، ص ٢١ ، (الأضواء ، ص ١٢٢).

(٢) الأضواء ، ص ١٢٢ ـ ١٢٣.

٣٩

المقاتل والمراثي من المتأخرين ، ككتاب «محرق القلوب» للمولى مهدي النراقي ، وكتاب «أسرار الشهادة» لآقا بن عابد الدربندي المملوء بالأكاذيب والطامّات. وأمثال هذه الكتب كثير مع الأسف ، كتبتها أيدي أناس ضعاف العقول ، ممن تساهلوا في أمر الدين ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، سامحهم الله.

أخرج ابن الجوزي بإسناده إلى محمود بن غيلان قال : سمعت مؤمّلا يقول : حدّثني شيخ بفضائل سور القرآن الذي يروى عن أبي بن كعب. فقلت للشيخ : من حدّثك؟ قال : حدّثني رجل بالمدائن وهو حيّ ، فصرت إليه. فقال : حدّثني شيخ بواسط وهو حيّ ، فصرت إليه. فقال : حدّثني شيخ بالبصرة ، فصرت إليه. فقال : حدثني شيخ بعبادان ، فصرت إليه. فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوم من المتصوّفة ومعهم شيخ. فقال : هذا الشيخ حدّثني. فقلت : يا شيخ من حدّثك؟ فقال : لم يحدّثني أحد ، ولكنّا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن ، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا وجوههم إلى القرآن (١).

ومن ثمّ قال يحيى بن سعيد القطان : لم نر الصالحين في شىء أكذب منهم في الحديث.

وأوّله مسلم بأنّه يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب (٢).

قال القرطبي في «التذكار» لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن ، وغير ذلك من فضائل الأعمال ، وقد ارتكبها جماعة كثيرة وضعوا الحديث حسبة ـ كما زعموا ـ يدعون الناس إلى فضائل الأعمال ، كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي

__________________

(١) الموضوعات ، ج ١ ، ص ٢٤١. واللئالئ المصنوعة للسيوطي ، ج ١ ، ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) مقدمة صحيح مسلم ؛ الحديث ، رقم ٤٠ ، ج ١ ، ص ١٣ ـ ١٤.

٤٠