التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

ولم أسلّطك على قلبه ، فنزل ، فنفخ تحت قدمه نفخة ، قرح ما بين قدميه إلى قرنه ، فصار قرحة واحدة ، وألقى على الرماد ، حتى بدا حجاب قلبه ، فكانت امرأته تسعى إليه ، حتى قالت له : أما ترى يا أيوب قد نزل بي والله من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف ، فأطعمك ، فادع الله أن يشفيك ، ويريحك ، قال : ويحك ، كنا في النعيم سبعين عاما ، فاصبري حتى نكون في الضرّ سبعين عاما ، فكان في البلاء سبع سنين ، ودعا ، فجاء جبريل عليه‌السلام يوما فأخذ بيده ، ثم قال : قم ، فقام ، فنحّاه عن مكانه ، وقال : أركض برجلك ، هذا مغتسل بارد وشراب ، فركض برجله ، فنبعت عين ، فقال : اغتسل ، فاغتسل منها ، ثم جاء أيضا ، فقال : أركض برجلك فنبعت عين أخرى ، فقال له : اشرب منها ، وهو قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) ، وألبسه الله حلّة من الجنة.

فتنحّى أيوب ، فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته ، فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله ، أين المبتلى الذي كان هنا؟ لعل الكلاب ذهبت به ، أو الذئاب ، وجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك ، أنا أيوب!! قد ردّ الله عليّ جسدي ، وردّ الله عليه ماله ، وولده عيانا ومثلهم معهم (١).

قال : وأخرج أحمد في الزهد ، عن عبد الرحمن بن جبير رضى الله عنه ، قال : ابتلى أيوب بماله ، وولده ، وجسده ، وطرح في المزبلة ، فجاءت امرأته تخرج ، فتكتسب عليه ما تطعمه ، فحسده الشيطان بذلك ، فكان يأتي أصحاب الخير والغنى ، فيقول : اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم ، فإنها تعالج صاحبها ، وتلمسه بيدها ، فالناس يتقذرون طعامكم من أجلها ، فجعلوا لا يدنونها منهم ، ويقولون :

تباعدي ونحن نطعمك ، ولا تقربينا.

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٣١٥ و ٣١٦.

٢٨١

وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم الكثير من هذه الروايات في تفسيريهما ، منها : ما هو موقوف ، وبعضها مرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك ذكر ابن جرير ، والبغوي ، وغيرهما ، عند تفسير قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)(١) الكثير من الإسرائيليات.

فقد رويا قصة أيوب وبلائه عن وهب بن منبّه ، في بضع صحائف ، وقد التبس فيها الحق بالباطل ، والصدق بالكذب (٢).

وقال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية : «وقد روي عن وهب بن منبّه في خبره ـ يعني أيوب ـ قصة طويلة ، ساقها ابن جرير ، وابن أبي حاتم بالسند عنه ، وذكرها غير واحد من متأخّري المفسرين ، وفيها غرابة ، تركناها لحال الطول.

ومن العجيب أن الحافظ ابن كثير وقع فيما وقع فيه غيره في قصة أيوب ، من ذكر الكثير من الإسرائيليات ولم يعقب عليه (٣) ، مع أن عهدنا به أنه لا يذكر شيئا من ذلك إلّا وينبّه على مصدره ، ومن أين دخل في الرواية الإسلامية ، ولا أظن أنه يرى في هذا أنه مما تباح روايته!!

فقد ذكر أنه يقال : إنه أصيب بالجذام في سائر بدنه ، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه ، يذكر بهما الله عزوجل حتى عافه الجليس ، وصار منبوذا في ناحية من البلد ، ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه غير زوجته ، وتحمّلت في بلائه ما تحمّلت ، حتى صارت تخدم الناس ، بل قد باعت شعرها بسبب ذلك ، ثم قال :

__________________

(١) الأنبياء / ٨٣ و ٨٤.

(٢) تفسير البغوي ، ج ٣ ، ص ٢٥٦ ـ ٢٦٤.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ١٨٨ ـ ١٩٠.

٢٨٢

وقد روي ، أنه مكث في البلاء مدة طويلة ، ثم اختلفوا في السبب المهيّج له على هذا الدعاء ، فقال الحسن ـ يعني البصري ـ وقتادة : ابتلي أيوب عليه‌السلام سبع سنين وأشهرا ؛ ملقى على كناسة بني إسرائيل ، تختلف الدواب في جسده ، ففرّج الله عنه ، وأعظم له الأجر ، وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبّه : مكث في البلاء ثلاث سنين ، لا يزيد ولا ينقص. وقال السدّي : تساقط لحم أيوب ، حتى لم يبق إلّا العصب والعظام. ثم ذكر قصة طويلة.

ثم ذكر ما رواه ابن أبي حاتم بسنده ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد ، إلّا رجلين من إخوانه ، كانا من أخص إخوانه له ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم ـ والله ـ لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم یرحمه‌الله ، فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب عليه‌السلام : ما أدري ما تقول ، غير أن الله عزوجل يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان ، فيذكر ان الله ، فأرجع إلى بيتي ، فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلّا في حق. قال : وكان يخرج في حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده ، حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه : أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب».

وقال ابن كثير : رفع هذا الحديث غريب جدا (١) ، وقال الحافظ ابن حجر : وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وصحّحه ابن حبان

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ١٨٩.

٢٨٣

والحاكم ، بسند عن أنس : أن أيوب ... ثم ذكر مثل ذلك.

والمحققون من العلماء على أن نسبة هذا إلى المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إما من عمل بعض الوضّاعين الذين يركبون الأسانيد للمتون ، أو من غلط بعض الرواة ، وأن ذلك من إسرائيليات بني إسرائيل وافتراءاتهم على الأنبياء. على أن صحة السند في مصطلحهم لا تنافي أن أصله من الإسرائيليات ، وابن حجر على مكانته في الحديث ربما يوافق على تصحيح ما يخالف الأدلة العقلية والنقلية ، كما فعل في قصة الغرانيق ، وهاروت وماروت ، وكل ما روي موقوفا أو مرفوعا لا يخرج عما ذكره وهب بن منبه ، في قصة أيوب ، التي أشرنا إليها آنفا ، وما روي عن ابن إسحاق أيضا ، فهو مما أخذ عن وهب ، وغيره.

وهذا يدلّ أعظم الدلالة على أن معظم ما روي في قصة أيوب مما أخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا ، وجاء القصّاصون المولعون بالغرائب ، فزادوا في قصة أيوب ، وأذاعوها ، حتى اتخذ منها الشحّاذون ، والمتسوّلون وسيلة لاسترقاق قلوب الناس ، واستدرار العطف عليهم.

الحق في هذه القصة

وقد دل كتاب الله الصادق ، على لسان نبيه محمد الصادق ، على أن الله تبارك وتعالى ابتلى نبيه أيوب عليه‌السلام في جسده ، وأهله ، وماله ، وأنه صبر حتى صار مضرب الأمثال في ذلك ، وقد أثنى الله عليه هذا الثناء المستطاب ، قال عز شأنه : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، فالبلاء مما لا يجوز أن يشك فيه أبدا ، والواجب على المسلم أن يقف عند كتاب الله ، ولا يتزيّد في القصة كما تزيّد زنادقة أهل الكتاب ، وألصقوا بالأنبياء ما لا يليق بهم ، وليس هذا بعجيب من بني إسرائيل الذين لم يتجرّءوا على أنبياء الله ورسله فحسب ، بل تجرّءوا على

٢٨٤

الله تبارك وتعالى ونالوا منه ، وفحشوا عليه ، ونسبوا إليه ما قامت الأدلة العقلية والنقلية المتواترة على استحالته عليه سبحانه وتعالى من قولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)(١) ، وقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا)(٢) ، عليهم لعنة الله.

والذي يجب أن نعتقده أنه ابتلي ، ولكن بلاءه لم يصل إلى حدّ هذه الأكاذيب ، من أنه أصيب بالجذام (٣) ، وأن جسمه أصبح قرحة ، وأنه ألقي على كناسة بني إسرائيل ، يرعى في جسده الدود ، وتعبث به دواب بني إسرائيل ، أو أنه أصيب بمرض الجدري.

وأيوب عليه‌السلام أكرم على الله من أن يلقى على مزيلة ، وأن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته ، ويفزّزهم منه ، وأي فائدة تحصل من الرسالة ، وهو على هذه الحال المزرية ، التي لا يرضاها الله لأنبيائه ورسله؟.

والأنبياء إنما يبعثون من أوساط (٤) قومهم ، فأين كانت عشيرته فتواريه ، وتطعمه؟! بدل أن تخدم امرأته الناس ، بل وتبيع ضفيرتيها في سبيل إطعامه!!

بل أين كان أتباعه ، والمؤمنون منه ، فهل تخلّوا عنه في بلائه؟! وكيف والإيمان ينافي ذلك؟!

الحق أن نسج القصة مهلهل ، لا يثبت أمام النقد ، ولا يؤيده عقل سليم ، ولا نقل صحيح ، وأن ما أصيب به أيوب من المرض إنما كان من النوع غير المنفر ،

__________________

(١) آل عمران / ١٨١.

(٢) المائدة / ٦٤.

(٣) الجذام : مرض من أخبث الأمراض ، وأقذرها.

(٤) خيارهم وأكرمهم نسبا وعشيرة.

٢٨٥

والمقزّز ، وأنه من الأمراض التي لا يظهر أثرها على البشرة ، كالروماتيزم ، وأمراض المفاصل ، والعظام ونحوها. ويؤيد ذلك أن الله لما أمره أن يضرب الأرض بقدمه ، فضرب فنبعت عين ، فاغتسل منها وشرب ، فبرأ بإذن الله.

قال العلّامة الطبرسي : قال أهل التحقيق : إنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها ، لأنّ في ذلك تنفيرا. فأمّا المرض والفقر وذهاب الأهل ، فيجوز أن يمتحنه الله بذلك (١).

٣٢ ـ الإسرائيليات في قصة (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ)

ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين كالطبري ، والثعلبي ، والزمخشري ، وغيرهم في تفسير قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ)(٢).

فقد زعموا أن «إرم» مدينة ، وذكروا في بنائها وزخارفها ما هو من قبيل الخيال ، ورووا في ذلك أنه كان لعاد ابنان : شداد ، شديد ، فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ، فسمع بذكر الجنة ، فقال : أبني مثلها ، فبنى «إرم» في بعض صحاري عدن ، في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة ، وسورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت. ولما تم بناؤها سار إليها بأهب (٣) مملكته ، فلما كان منها مسيرة يوم

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ٧٨.

(٢) الفجر / ٦ ـ ٨.

(٣) جمع أهبه ، والأهبة ـ بضم الهمزة ـ العدّة كما في القاموس.

٢٨٦

وليلة بعث الله تعالى صيحة من السماء ، فهلكوا.

وروى وهب بن منبّه عن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ، فوقع عليها ـ يعني مدينة «إرم» ـ ، فحمل منها ما قدر عليه ، وبلغ خبره معاوية ، فاستحضره ، وقص عليه ، فبعث إلى كعب الأحبار ، فسأله عنها فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانه أحمر ، أشقر ، قصير ، على حاجبه خال ، ثم التفت ، فأبصر ابن قلابة ، فقال : هذا والله ذاك الرجل (١).

وهذه القصة موضوعة ، كما نبّه إلى ذلك الحفاظ ، وآثار الوضع لائحة عليه ، وكذلك ما روي : أن «إرم» مدينة دمشق ، وقيل : مدينة الإسكندرية. قال السيوطي في «الدر المنثور» : وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، قال : «إرم» هي دمشق ، وأخرج ابن جرير ، وعبد بن حميد ، وابن عساكر عن سعيد المقبري مثله ، وأخرج ابن عساكر ، عن سعيد بن المسيب ، مثله ، قال : وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : «إرم» هي الإسكندرية (٢).

وكل ذلك من خرافات بني إسرائيل ، ومن وضع زنادقتهم ، ثم رواها مسلمة أهل الكتاب فيما رووا ، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين ، وألصقت بتفسير القرآن الكريم.

قال ابن كثير في تفسيره : ومن زعم أن المراد بقوله : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) : مدينة إما دمشق ، أو إسكندرية ، أو غيرهما ، ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على

__________________

(١) انظر الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٧٤٨ ، عند تفسير هذه الآية ، وتفسير البغوي ، ج ٤ ، ص ٤٨٢ ، والنسفي ، والخازن عند تفسير هذه الآية.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٤٧.

٢٨٧

هذا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) أن جعل بدلا أو عطف بيان؟ (١) ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ ، ثم المراد : إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ ، لا أنّ المراد : الإخبار عن مدينة أو إقليم ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية ، من ذكر مدينة يقال لها : إرم ذات العماد ، مبنية بلبن الذهب والفضة ، وأن حصباءها لآلىء وجواهر ، وترابها بنادق المسك ... فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين ، من وضع بعض زنادقتهم ، ليختبروا بذلك القول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك. وقال فيما روي عن ابن قلابة : فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك ، أو أصابه نوع من الهوس ، والخيال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وهذا ما يقطع بعدم صحته (٢). وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة ، والطامعين ، والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة ، والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل ، في صرفها في بخاخير ، وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات ، ويطنزون بهم.

والصحيح في تفسير الآية ؛ أن المراد (بعاد ، إرم ذات العماد) قبيلة عاد المشهورة ، التي كانت تسكن الأحقاف ، شمالي حضرموت ، وهي عاد الأولى ، التي ذكرها الله سبحانه في سورة النجم ، قال سبحانه : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) ، ويقال لمن بعدهم : عاد الآخرة ، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص ، بن سام ، بن

__________________

(١) أي لفظ ، إرم ، بدل من عاد أو عطف بيان.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

٢٨٨

نوح. قاله ابن إسحاق وغيره ، وهم الذين بعث فيهم رسول الله هودا عليه‌السلام فكذّبوه ، وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ، ومن آمن معه منهم ، وأهلكهم (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟)(١).

وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون ، فقوله تعالى : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) ، بدل من «عاد» أو عطف بيان زيادة تعريف بهم ، وقوله تعالى : (ذاتِ الْعِمادِ) ؛ لأنهم كانوا في زمانهم أشد الناس خلقة ، وأعظمهم أجساما ، وأقواهم بطشا. وقيل : ذات الأبنية التي بنوها ، والدور ، والمصانع التي شادوها. وقيل : لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشّعر التي ترفع بالأعمدة الغلاظ الشداد. والأوّل أصح وأولى ، فقد ذكرهم نبيّهم هود بهذه النعمة ، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة الله ـ تبارك وتعالى ـ الذي خلقهم ومنحهم هذه القوة ، فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢) ، وقال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(٣) ، وقوله هنا : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي القبيلة المعروفة المشهورة التي لم يخلق مثلها في بلادهم ، وفي زمانهم ، لقوّتهم ، وشدّتهم ، وعظم تركيبهم.

ومهما يكن من تفسير ذات العماد : فالمراد القبيلة ، وليس المراد مدينة ،

__________________

(١) الحاقّة / ٦ ـ ٨.

(٢) الأعراف / ٦٩.

(٣) فصلت / ١٥.

٢٨٩

فالحديث في السورة إنما هو عمّن مضى من الأقوام الذين مكّن الله لهم في الأرض ، ولمّا لم يشكروا نعم الله عليهم ، ولم يؤمنوا به وبرسله ، بطش بهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ففيه تخويف لكفار مكة ، الذين هم دون هؤلاء في كل شيء ، وتحذيرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.

ما روي في عظم طولهم

وليس معنى قوتهم ، وعظم خلقهم ، وشدة بطشهم أنهم خارجون عن المألوف في الفطرة ، فمن ثم لا نكاد نصدّق ما روي في عظم أجسامهم ، وخروج طولهم عن المألوف المعروف ، حتى في هذه الأزمنة ، فقد روى ابن جرير في تفسيره ، وابن أبي حاتم وغيرهما عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن «إرم» قبيلة من عاد ، كان يقال لهم : ذات العماد ، كانوا أهل عمود ، (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) ، قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا (١) طولا في السماء ، وهذا من جنس ما روي في العماليق. وأغلب الظن عندنا أن من ذكر لهم ذلك هم أهل الكتاب الذين أسلموا ، وأنه من الإسرائيليات المختلفة.

وأيضا لا نكاد نصدّق ، ما روي عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا ، فقد روى ابن أبي حاتم ، قال : حدّثنا أبي ، قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، قال : حدثني معاوية ابن صالح ، عمن حدّثه ، عن المقدام بن معديكرب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه ذكر (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) فقال : «كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة ، فيحملها على كاهله ، فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم» (٢). ولعل البلاء ، والاختلاق فيه من

__________________

(١) حوالي ستة أمتار أو تزيد.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ٥٠٧.

٢٩٠

المجهول ، وروى مثله ابن مردويه (١).

وأخزى الله من نسب مثل هذا الباطل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا نشك أن هذا من عمل زنادقة أهل الكتاب وغيرهم ، الذين عجزوا أن يقاوموا سلطان الإسلام ، فسلكوا في محاربته مسلك الدس ، والاختلاق ، بنسبة أمثال هذه الخرافات إلى المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّا لنعجب لمسلم يقبل أمثال هذه المرويات التي تزري بالإسلام ، وتنفر منه ، ولا سيّما في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم ، والمعارف ، وأصبح ذكر مثل هذا يثير السخرية ، والاستنكار والاستهزاء.

الإسرائيليات والخرافات فيما يتعلق بعمر الدنيا وبدء الخلق ، وأسرار الوجود ، وتعليل بعض الظواهر الكونية

ومن الإسرائيليات والموضوعات التي اشتملت عليها كتب التفسير وغيرها كثير مما يتعلق بعمر الدنيا وبدء الخلق ، وأسرار الوجود ، وأسباب الكائنات ، وتعليل بعض الظواهر الكونية تعليلا باطلا غير صحيح ، وقد جاء معظمه موقوفا على الصحابة والتابعين ، وجاء بعضه مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهنا تكون الطّامة ؛ لأن هذه الروايات متهافتة باطلة ، فنسبتها إلى المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطورة بمكان.

وكأنّ هؤلاء الذين وضعوها وألصقوها بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زورا ؛ كانوا يدركون ببعد نظرهم أنّه سيأتي اليوم الذي تتكشّف فيه الحقائق العلميّة لهذه الأمور الكونيّة ، ومعرفة التعليلات الصحيحة لسنن الله في الكون ، فنسبوا إليه هذه الخرافات ، كي يشكّكوا في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه ما ينطق عن الهوى ، ويقلّلوا الثقة بالأنبياء ، وهم قوم من الزنادقة الذين جمعوا بين الزندقة ، والعلم ،

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٤٧.

٢٩١

والمعرفة ببعض الظواهر ، والعلوم الكونية ، وهم أعظم الطوائف كيدا للإسلام ، لخبث نياتهم ، وإحكام كيدهم.

ولا ندري ما ذا يكون موقف الداعي إلى الله في المجتمعات العلمية ، والبيئات المتحضرة إذا ووجه بمثل هذه الروايات الباطلة التي تغضّ من شأن الإسلام ، وهو منها براء؟

ولو أن هذه المرويات صحّت أسانيدها لربما كان للمتمسكين بها ، والمنتصرين لها بعض المعذرة ، أما وهي ضعيفة أسانيدها ، واهية مخارجها ، فالواجب ردّها ولا كرامة. نعم ، إنّ معظم هذه المرويات في الأمور الكونيّة تخالف مخالفة ظاهرة ، المقررات والحقائق العلمية التي أصبحت في حكم البديهيات والمسلمات ككرويّة الأرض ، ودورانها ، وسبب حدوث الخسوف والكسوف ونحوها ، والانتصار لهذه المرويّات التي تصادم الحقائق العلمية الثابتة ، مما يعود على الإسلام بالضرر والنقص ، وينفر منه المفكرون وذوو العلم ، والمعرفة ، بل هي أضرّ على الإسلام من طعن أعدائه فيه.

ما يتعلق بعمر الدنيا

فقد ذكروا في

عمر الدنيا أنه سبعة آلاف سنة ، وأن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعث في آخر السادسة ، فقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع في كتابه «الموضوعات» ، وأحر به أن يكون مختلقا مكذوبا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكذلك جاء بعض هذه الأخبار موقوفا على ابن عباس رحمهما‌الله ورد ذكر ذلك في كتب التفسير ، وبعض كتب الحديث ، وكتب التواريخ ونحوها ، وقد قال السيوطي : إنها صحيحة.!!

٢٩٢

ولا ندري ما ذا يقول المنتصرون لمثل هذه الأباطيل ، فيما هو ثابت من أن عمر الدنيا أضعاف أضعاف ذلك ، حتى أصبح ذلك من البديهيّات المسلّمات ، وإن التمسّك بمثل هذه الروايات أضرّ على الدين من طعن أعدائه.

ولو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث ـ كما يقولون ـ في آخر المائة السادسة ، لقامت القيامة من زمن مضى ، فظهر أن الواقع والمشاهدة يكذبان ذلك أيضا ، ويردّانه.

ما يتعلق بخلق الشمس والقمر

ومن ذلك أيضا : ما ذكره ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والثعلبي ، وغيرهم من المفسرين ، عند تفسير قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)(١).

فقد رووا عن ابن عباس أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن الله لما أبرم خلقه ، فلم يبق من خلقه غير آدم عليه‌السلام ، خلق شمسا من نور عرشه ، فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا ، فإنه خلقها مثل الدنيا ، ما بين مشارقها ومغاربها ، وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحوّلها قمرا ، فإنه خلقها مثل الشمس في الضوء ، وإنما يرى الناس صغرهما لشدة ارتفاعهما ، ولو تركهما الله كما خلقهما في بدء الأمر لم يعرف الليل من النهار ، ولا النهار من الليل ، ولكان الأجير ليس له وقت يستريح فيه ، ولكان الصائم لا يدري إلى متى يصوم ، ومتى يفطر ، إلى أن قال : فأرسل جبريل ، فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات ، وهو يومئذ شمس فمحا عنه الضوء ، وبقي فيه النور ، فذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) فالسواد الذي ترونه في القمر هو أثر ذلك المحو».

__________________

(١) الإسراء / ١٢.

٢٩٣

وكذلك روى هذا الباطل ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وسنده واه ؛ لأن فيه نوح بن أبي مريم ، وهو وضّاع دجّال ، وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع والاختلاق (١) ، ومنشؤه من الإسرائيليات التي ألصقت بالنبي زورا ، وفيه من الركاكة اللفظية ، والمعنوية ما يشهد بوضعه على النبي ، وليس عليه شيء من نور النبوة.

وما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتعرض للكونيات بهذا التفصيل ، ولما سئل عن الهلال لم يبدو صغيرا ثم يكبر ، حتى يصير بدرا ، ثم يصغر؟ ، أجاب بالفائدة ، فقال : (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) لأنّ بالأهلّة تعرف السنون ، والمشهور ، وعليها تتوقف مصالح الناس الدينية والدنيوية ، فبها يعرفون حجّهم ، وصومهم ، وإخراج زكاتهم ، وحلول آجال ديونهم ونحوها ، وليس من الحكمة التعرّض لمثل هذه الكونيّات بالتفصيل ، فتركها لعقول الناس ، وإدراكاتهم أولى ، ولا سيّما أنه لا يتوقف على معرفة الأمّة لمثل هذه الأمور فائدة دينية ، والقرآن والسنة النبويّة حينما يعرضان للحديث عن الكونيّات يكون غرضهما انتزاع العبرة ، والاستدلال بما أودع فيهما على وجود الله ـ جل وعلا ـ ووحدانيته ، وقدرته ، وعلمه ، وسائر صفاته ، ولذلك لا نقف فيما صح وثبت من الأحاديث على مثل هذه التفصيلات التي نجدها في الآثار الضعيفة ، والإسرائيليات الباطلة.

ما يتعلق بتعليل بعض الظواهر الكونية

ومن ذلك ما يذكره بعض المفسرين ، وما يوجد في بعض كتب الحديث في غروب الشمس ، وأنها إذا غربت ابتلعها حوت ، وما يتعلق بالسماوات ، والأجرام السماوية ، ومن أي الجواهر هي ؛ والأرض وعلام استقرت ، وأنها على ظهر

__________________

(١) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ، ج ١ ، ص ٢٤ وما بعدها.

٢٩٤

حوت ، وما يذكرونه في تعليل برودة الآبار في الصيف ، وسخونتها في الشتاء ، وعن منشأ الرعد والبرق ، وعن منشأ السحاب ، إلى نحو ذلك مما لا نصدّق وروده عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وما ورد منه موقوفا ، فمرجعه إلى الإسرائيليات الباطلة ، أو إلى الزنادقة الذين أرادوا أن يظهروا الإسلام بمظهر الدين الخرافي الذي ينافي العلم ، والسنن الكونية.

فقد روي عن أبي أمامة الباهلي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «وكلّ بالشمس تسعة أملاك ، يرمونها بالثلج كل يوم ، لو لا ذلك ما أتت على شيء إلّا أحرقته» رواه الطبراني.

ومن أحد رواته عقير بن معدان ، وهو ضعيف جدا ، ولو أن الحديث صحيح السند ، أو ثابت ، لتمحّلنا ، وقلنا : إنه من قبيل التمثيل ، أما وهو بهذا الضعف فلتلق به دبر آذاننا.

وعن ابن عمر ، قال : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل : أرأيت الأرض على ما هي؟ قال : «الأرض على الماء» قيل : الماء على ما هو؟ قال : «على صخرة» فقيل : الصخرة على ما هي؟ قال : «هي على ظهر حوت يلتقي طرفاه بالعرش»!! قيل : الحوت على ما هو؟ قال : «على كاهل ملك ، قدماه على الهواء». رواه البزّار عن شيخه عبد الله بن أحمد ، يعني ابن شبيب ، وهو ضعيف. وعن الربيع بن أنس قال : «السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : صخرة ، والثالثة : حديد ، والرابعة : نحاس ، والخامسة : فضة ، والسادسة : ذهب ، والسابعة : ياقو». رواه الطبراني في «الأوسط» هكذا موقوفا على الربيع ، وفيه أبو جعفر الرازي ، وثّقه أبو حاتم وغيره ، وضعّفه النسائي وغيره (١).

__________________

(١) مجمع الزوائد للهيثمي ، ج ٨ ، ص ١٣١.

٢٩٥

وروى الطبراني في «الأوسط» بسنده ، فقال : حدّثنا محمد بن يعقوب الأهوازي الخطيب ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد السلمي ، قال : حدثنا أبو عمران الحراني ، قال : حدثنا ابن جريج عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، أن خزيمة بن ثابت ـ وهو ليس بالأنصاري المشهور ـ كان في عير لخديجة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان معه في تلك العير ، فقال له : يا محمد ، أرى فيك خصالا ، وأشهد أنك النبي الذي يخرج من تهامة ، وقد آمنت بك ، فإذا سمعت بخروجك أتيتك. فأبطأ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى كان يوم فتح مكة أتاه ، فلما رآه قال : «مرحبا بالمهاجر الأول» و....

ثم قال : يا رسول الله ، أخبرني عن ضوء النهار ، وظلمة الليل ، وعن حرّ الماء في الشتاء ، وعن برده في الصيف ، وعن البلد الأمين ، وعن منشأ السحاب ، وعن مخرج الجراد ، وعن الرعد والبرق ، وعن ما للرجل من الولد ، وما للمرأة؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما ظلمة الليل ، وضوء النهار ، فإن الشمس إذا سقطت تحت الأرض ، فأظلم الليل لذلك ، وإذا أضاء الصبح ، ابتدرها سبعون ألف ملك ، وهي تقاعس كراهية أن تعبد من دون الله ، حتى تطلع ، فتضيء ، فيطول الليل بطول مكثها ، فيسخن الماء لذلك. وإذا كان الصيف ، قلّ مكثها ، فبرد الماء لذلك. وأما الجراد ، فإنه نثرة حوت في البحر ، يقال له : «الأبوات» ، وفيه يهلك. وأما منشأ السحاب ، فإنه ينشأ من قبل الخافقين ، ومن بين الخافقين تلجمه الصبا والجنوب ، ويستدبره الشمال والدبور. وأما الرعد ، فإنه ملك بيده مخراق (١) يدني القاصية ، ويؤخّر الدانية ، فإذا رفع برقت ، وإذا زجر رعدت ، وإذا ضرب

__________________

(١) المخراق : خرق تفتل ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا ، والمراد هنا آلة تزجر بها الملائكة السحاب.

٢٩٦

صعقت. وأما ما للرجل من الولد ، وما للمرأة ، فإن للرجل العظام ، والعروق ، والعصب ، وللمرأة اللحم ، والدم ، والشعر. وأما البلد الأمين ، فمكة».

وقال الهيثمي في «زوائد» : رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه يوسف بن يعقوب أبو عمران ، ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته ، ولم يذكر تضعيفه عن أحد! (١).

والحق أن الذهبي حكم ببطلان هذا الخبر ، وقال : إن راويه عن يوسف بن يعقوب مجهول ، وهو محمد بن عبد الرحمن السلمي المذكور ، وأحر به أن يكون باطلا ، ولقد صدق الإمام الحافظ أبو عبد الله الذهبي ، الذي أبان لنا قيمة هذه المرويات الباطلة ، منذ بضعة قرون.

وإليك ما قاله الذهبي بنصّه ، قال يوسف بن يعقوب أبو عمران عن ابن جريج ، بخبر باطل طويل ، وعنه إنسان مجهول واسمه عبد الرحمن السلمي ، قال الطبراني : حدثنا محمد بن يعقوب الأهوازى الخطيب.

ثم ذكر الإسناد الذي ذكرته آنفا ، وبعض المتن إلّا أنه قال : «إن خزيمة بن ثابت الأنصارى» ، وقال : ذكره أبو موسى في الطوالات ، وروى بعضه عبدان الأهوازي ، عن السلمي هذا (٢).

فكيف يقول الهيثمي : ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته ، ولم ينقل تضعيفه عن أحد؟!! إنه ـ والله ـ العجب!! وقد وافق الذهبي فيما قاله الإمام الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (٣) ، فقد ذكر ما ذكره الذهبي ، غير أنه قال ، عن

__________________

(١) مجمع الزوائد ، ج ٨ ، ص ١٣٢.

(٢) ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، ج ٣ ، ص ٣٣٥ ، ترجمة رقم ٢٨٦٦ ، ط السعادة.

(٣) ج ٦ ، ص ٣٣٠ ، ط الهند.

٢٩٧

جابر بن عبد الله : أن خزيمة بن ثابت ـ وليس بالأنصاري ـ كان في عير لخديجة ، وذكر القصة السابقة.

وما ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» من أنه ليس بالأنصاري هو الصحيح ، فهو خزيمة بن حكيم السلمي ، ويقال له : ابن ثابت أيضا ، كان صهر خديجة أم المؤمنين ، فهو غير خزيمة بن ثابت الأنصاري ، المشهور بأنه ذو الشهادتين قطعا (١).

ومما يروى في مثل هذا ، ما روي عن صباح بن أشرس ، قال : «سئل ابن عباس عن المد والجزر ، فقال : إن ملكا موكّلا بناموس البحر ، فإذا وضع رجله فاضت ، وإذا رفعها غاضت» ، قال الهيثمي : رواه أحمد ، وفيه من لم أعرفه ، أقول : والبلاء غالبا ، إنما يكون من المجاهيل.

وعن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المجرة التي في السماء هي عرق حية تحت العرش» ، رواه الطبراني في «المعجم الكبير» و «الأوسط» ، وقال : لا يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا بهذا الإسناد ، وفيه : عبد الأعلى بن أبي سحرة ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات ، أقول : والبلاء من هذا الذي لا يعرف.

وعن جابر بن عبد الله ـ رضوان الله عليه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معاذ ، إني مرسلك إلى قوم أهل عناد ، فإذا سئلت عن المجرة التي في السماء فقل : هي لعاب حية تحت العرش» رواه الطبراني ، وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف (٢) ، أقول : وأحر بمثل هذا أن لا يروى إلّا من طريق ضعيف.

وكل هذا الذي ذكرناه ، وأمثاله مما لا نصدق وروده عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الإصابة ، ج ١ ، ص ٤٢٧ ، ترجمة ٢٢٥٨.

(٢) مجمع الزوائد ، ج ٨ ، ص ١٣٥.

٢٩٨

وإنما هو من أكاذيب بني إسرائيل وخرافاتهم ، أو من وضع الزنادقة الخبثاء ، وألصق بالنبي زورا ، وما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتكلم في الكونيات ، والفلكيات ، وأسباب الكائنات بهذا التفصيل ، كما حقّقنا لك آنفا. وفي هذه المرويّات من السذاجة العلمية ، والتفاهات ، ما لا يليق بعاقل ، فضلا عن أعقل العقلاء ، الذي ما كان ينطق عن الهوى.

وأيضا فهذه التعليلات لا تتّفق هي والمقررات العلمية المستقرة الثابتة ، التي أصبحت في حكم اليقينيّات اليوم. ولا ندري ، كيف يكون حال الداعية إلى الإسلام اليوم في البلاد المتقدمة في العلم والمعرفة إذا لهج بمثل هذه الأباطيل التي تضرّ بالدين أكثر مما ينال منه أعداؤه؟ ولو أن هذه المرويّات كانت في كتب معتمدة من كتب الحديث ، والرواية التي تعنى بذكر الأحاديث الصحيحة والحسنة ، لكان للمنتصرين لها بعض العذر. أما وهي كما علمت غير معتدّ بها لضعف أسانيدها ، ومخالفتها للعقل ، والعلم اليقيني ، فاضرب بها عرض الحائط ولا كرامة.

ما ذكره المفسرون في الرعد والبرق في كتبهم

ومعظم كتب التفاسير بالمأثور وغيره ذكرت : أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب ، وأن الصوت المسموع صوت زجره السحاب ، أو صوت تسبيحه ، وأن البرق أثر من المخراق الذي يزجر به السحاب ، أو لهب ينبعث منه ، على أن المخراق من نار ، وذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)(١) الآية ، ويكاد لم يسلم من ذلك أحد منهم ، إلّا أن منهم من يحاول أن يوفّق بين ظاهر الآية وما قاله الفلاسفة الطبيعيون في الرعد

__________________

(١) الرعد / ١٣.

٢٩٩

والبرق ، فيؤوّل الآية ، ومنهم من يبقي الآية على ظاهرها ، وينحى باللائمة على الفلاسفة وأضرابهم ؛ الذين قاربوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه العلماء في العصر الحديث. ففي تفسير الخازن (١) قال أكثر المفسرين : على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، والصوت المسموع منه تسبيحه ، ثم أورد على هذا القول أن ما عطف عليه ، وهو قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) يقتضي أن يكون المعطوف عليه مغايرا للمعطوف ، لأنه الأصل ، ثم أجاب : بأنه من قبيل ذكر الخاص قبل العام تشريفا!

وقد بسّط الآلوسي في تفسيره ـ كما هي عادته ـ الأقوال في الآية ، وذكر أن للعلماء في إسناد التسبيح إلى الرعد قولين : أن في الكلام حذفا ، أي سامعو الرعد ، أو أن الإسناد مجازي من قبيل الإسناد إلى السبب والحامل عليه ، والباء في «بحمده» للملابسة ، أي يسبّح السامعون لذلك الصوت متلبّسين بحمد الله ، فيقولون : سبحان الله ، والحمد لله.

ومن العلماء من قال : إن تسبيح الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال ، حيث شبّه دلالة الرعد على قدرة الله وعظمته ، وإحكام صنعته ، وتنزيهه عن الشريك والعجز ، بالتسبيح والتنزيه ، والتحميد اللفظي ، ثم استعار لفظ يسبّح لهذا المعنى. وقالوا : إن هذا المعنى أنسب.

وكل هذا من العلماء في الحقيقة تخلّص من حمل الآية على ظاهرها ، وأن المراد بالرعد : الملك الموكّل بالسحاب. ثم قال الآلوسي : والذي اختاره أكثر المحدثين أن الإسناد حقيقي ؛ بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب. فقد روى أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وآخرون عن ابن

__________________

(١) ج ٣ ، ص ٧٠.

٣٠٠