التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

قال (١).

وشهد شاهد من أهلها

وروى ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة ، فقال له عمر : إنّ هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان يهوديا ، فأسلم وحسن إسلامه ، وكان من علمائهم ، فسأله : أيّ ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ ، فقال : إسماعيل ـ والله ـ يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم. وهذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه. قال ابن كثير في تفسيره : «والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت ، وأصح ، وأقوى ، والله أعلم» (٢).

قال أبو شهبة : وبعد هذا التحقيق والبحث ، يتبيّن لنا أن الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه‌السلام ، وأن ما روي من أنه إسحاق ، المرفوع منه إمّا موضوع ، وإمّا ضعيف لا يصحّ الاحتجاج به ، والموقوف منه على الصحابة أو على التابعين إن صح سنده إليهم هو من الإسرائيليات التي رواها أهل الكتاب الذين أسلموا ، وأنها في أصلها من دسّ اليهود ، وكذبهم ، وتحريفهم للنصوص حسدا منهم. فقاتلهم الله أنّى يؤفكون.

وقد جاز هذا الدسّ اليهودي على بعض كبار العلماء كابن جرير (٣) ، والقاضي عياض ، والسهيلي ، فذهبوا إلى أنه إسحاق ، وتحيّر بعضهم في

__________________

(١) زاد المعاد ، ج ١ ، ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ١٨.

(٣) جامع البيان ، ج ٢٣ ، ص ٥٤ ـ ٥٥.

٢٦١

الروايات فتوقف ، كالسيوطي وابن الأثير (١) وحاول بعضهم الجمع بينها فزعم أن الذّبح وقع مرّتين ، والحق : ما وضّحناه لك ، فلا تجوّز ، ولا تتوقّف ولا تقل بالتكرار ، والله الهادي إلى الحق.

٢٨ ـ الإسرائيليات في قصة إلياس عليه‌السلام

ومن الإسرائيليات التي اشتملت عليها بعض كتب التفسير ما ذكروه في قصة إلياس عليه‌السلام عند تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

فقد روى البغوي ، والخازن ، وصاحب «الدر» ، وغيرهم ، عن ابن عباس ، والحسن ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، مرويات تتعلق بإلياس عليه‌السلام.

قال صاحب «الدر المنثور» : أخرج ابن عساكر ، عن الحسن رضى الله عنه في قوله : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، قال : إن الله تعالى بعث إلياس إلى بعلبك ، وكانوا قوما يعبدون الأصنام ، وكانت ملوك بني إسرائيل متفرقة على العامة ، كل ملك على ناحية يأكلها ، وكان الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويقتدي برأيه ، وهو على هدى من بين أصحابه ، حتى وقع إليهم قوم من عبدة الأصنام ، فقالوا له : ما يدعوك إلّا إلى الضلالة والباطل ، وجعلوا يقولون له : اعبد هذه الأوثان التي تعبد

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٨٠. والكامل في التاريخ ، ج ١ ص ١٠٨ ـ ١١١.

(٢) الصافات / ١٢٣ ـ ١٣٢.

٢٦٢

الملوك ، وهم على ما نحن عليه ، يأكلون ، ويشربون ، وهم في ملكهم يتقلّبون ، وما تنقص دنياهم من ربهم الذي تزعم أنه باطل ، وما لنا عليهم من فضل. فاسترجع إلياس ، فقام شعر رأسه ، وجلده ، فخرج عليه إلياس.

قال الحسن : وإن الذي زيّن لذلك الملك امرأته ، وكانت قبله تحت ملك جبار ، وكان من الكنعانيين في طول وجسم وحسن ، فمات زوجها فاتخذت تمثالا على صورة بعلها من الذهب ، وجعلت له حدقتين من ياقوتتين ، وتوّجته بتاج مكلّل بالدر والجوهر ، ثم أقعدته على سرير ، تدخل عليه ، فتدخّنه ، وتطيبه ، وتسجد له ، ثم تخرج عنه. فتزوجت بعد ذلك هذا الملك الذي كان إلياس معه. وكانت فاجرة قد قهرت زوجها ، ووضعت البعل في ذلك البيت ، وجعلت سبعين سادنا (١) ، فعبدوا البعل. فدعاهم إلياس إلى الله فلم يزدهم ذلك إلّا بعدا ، فقال إلياس : اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلّا الكفر بك ، وعبادة غيرك ، فغيّر ما بهم من نعمتك. فأوحى الله إليه : إني قد جعلت أرزاقهم بيدك ، فقال : اللهم أمسك عنهم القطر ثلاث سنين ، فأمسك الله عنهم القطر. وأرسل إلى الملك فتاه اليسع ، فقال : قل له : إن إلياس يقول لك : إنك اخترت عبادة البعل على عبادة الله ، وأتبعت هوى امرأتك ، فاستعد للعذاب والبلاء. فانطلق اليسع ، فبلغ رسالته للملك ، فعصمه الله تعالى من شر الملك ، وأمسك الله عنهم القطر ، حتى هلكت الماشية والدواب ، وجهد الناس جهدا شديدا. وخرج إلياس إلى ذروة جبل ، فكان الله يأتيه برزق ، وفجر له عينا معينا لشرابه وطهوره. حتى أصاب الناس الجهد ، فأرسل الملك إلى السبعين ، فقال لهم : سلوا البعل أن يفرج ما بنا ، فأخرجوا أصنامهم ، فقربوا لها الذبائح ، وعطفوا عليها ، وجعلوا يدعون ، حتى طال

__________________

(١) هو الذي يقوم بخدمة الأصنام.

٢٦٣

ذلك بهم ، فقال لهم الملك : إن إله إلياس كان أسرع إجابة من هؤلاء. فبعثوا في طلب إلياس ، فأتى ، فقال : أتحبون أن يفرج عنكم؟ قالوا : نعم ، قال : فأخرجوا أوثانكم. فدعا إلياس عليه‌السلام ربه أن يفرج عنهم ، فارتفعت سحابة مثل الترس (١) ، وهم ينظرون ، ثم أرسل الله عليهم المطر ، فتابوا ورجعوا.

قال : وأخرج ابن عساكر ، عن كعب ، قال : «أربعة أنبياء اليوم أحياء ، اثنان في الدنيا : إلياس والخضر ، واثنان في السماء : عيسى وإدريس».

قال : وأخرج ابن عساكر ، عن وهب ، قال : دعا إلياس عليه‌السلام ربه ، أن يريحه من قومه ، فقيل له : انظر يوم كذا وكذا ، فإذا رأيت دابة لونها مثل لون النار فاركبها. فجعل يتوقع ذلك اليوم ، فإذا هو بشيء قد أقبل على صورة فرس ، لونه كلون النار ، حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه ، فانطلق به ، فكان آخر العهد به ، فكساه الله الريش ، وكساه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، فصار في الملائكة عليهم‌السلام.

قال : وأخرج ابن عساكر ، عن الحسن رضى الله عنه قال : إلياس عليه‌السلام موكل بالفيافي.

والخضر عليه‌السلام بالجبال ، وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى (٢) ، وأنهما يجتمعان كل عام بالموسم.

قال : وأخرج الحاكم ، عن كعب ، قال : كان إلياس صاحب جبال وبرية يخلو فيها ، يعبد ربه عزوجل ، وكان ضخم الرأس ، خميص البطن ، دقيق الساقين ، في صدره شامة حمراء ، وإنما رفعه الله إلى أرض الشام ، لم يصعد به إلى السماء ، وهو الذي

__________________

(١) ما يلبسه المحارب.

(٢) يعني النفخة الأولى في الصور.

٢٦٤

سماه الله ذا النون (١).

وكل هذا من أخبار بني إسرائيل وتزيّداتهم ، واختلاقاتهم ، وما روي منها عن بعض الصحابة والتابعين ، فمرجعه إلى مسلمة أهل الكتاب ككعب ، ووهب وغيرهما ، وقد رأيت كيف تضارب وتناقض كعب ووهب ، فكعب يقول : لم يصعد به إلى السماء ، ويزعم أنه ذو النون ، ووهب يقول : إنه رفعه إلى السماء ، وصار في عداد الملائكة عليهم‌السلام وأن بعض الروايات تقول : إنه الخضر ، والبعض الآخر يقول : إنه غير الخضر ، إلى غير ذلك من الاضطرابات والأباطيل ، كزعم مختلق الروايات الأولى : «أن الله أوحى إلى إلياس إني قد جعلت أرزاقهم بيدك». بينما في بعض الروايات الأخرى : أن الله أبى عليه ذلك مرّتين ، وأجابه في الثالثة ، وهكذا الباطل يكون مضطربا لجلجا ، وأما الحق فهو ثابت أبلج.

ولم يقف الأمر عند نقل هذه الإسرائيليات عمن ذكرنا ، بل بلغ الافتراء ببعض الزنادقة والكذابين إلى نسبة ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي يؤيد به أكاذيب بني إسرائيل وخرافاتهم ، وكي يعود ذلك بالطعن على صاحب الرسالة العامة الخالدة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال السيوطي في «الدر» : وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخضر هو إلياس».

وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في «الدلائل» وضعفه عن أنس رضى الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فنزلنا منزلا ، فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفورة ، المثاب لها ، فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله ثلاثمائة ذراع وأكثر ، فقال : من أنت؟ قلت : أنس ، خادم

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٨٠ و ٢٨١.

٢٦٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : أين هو؟ قلت : هو ذا يسمع كلامك ، قال : فأته وأقرئه مني السلام ، وقل له : أخوك إلياس يقرئك السلام. فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته ، فجاء حتى عانقه ، وقعدا يتحدثان ، فقال له : يا رسول الله ، إني إنما آكل في كل سنة يوما ، وهذا يوم فطري فكل أنت وأنا ، فنزلت عليهما مائدة من السماء ، وخبز وحوت وكرفس ، فأكلا ، وأطعماني ، وصليا العصر ، ثم ودّعني وودّعته ، ثم رأيته مرّ على السحاب نحو السماء.

قال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال الإمام الذهبي : بل هو موضوع ، قبّح الله من وضعه ، قال ـ أي الذهبي ـ : وما كنت أحسب ولا أجوّز أن الجهل يبلغ بالحاكم أن يصحّح مثل هذا.

وأخلق بهذا أن يكون موضوعا ، كما قاله الإمام الحافظ الناقد الذهبي.

٢٩ ـ الإسرائيليات في قصّة داود عليه‌السلام

ومن الإسرائيليات التي تخلّ بمقام الأنبياء ، وتنافي عصمتهم ، ما ذكره بعض المفسرين في قصة سيدنا داود عليه‌السلام عند تفسير قوله تعالى :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ. إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها (١) وَعَزَّنِي (٢) فِي الْخِطابِ. قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ

__________________

(١) أكفلنيها : ضمها إلي.

(٢) عزني : غلبني في القول لقوته ، وجاهه وضعفي.

٢٦٦

وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(١).

فقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبغوي ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢) من الأخبار ما تقشعرّ منه الأبدان ، ولا يوافق عقلا ، ولا نقلا ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، ووهب بن منبّه ، وكعب الأحبار ، والسدّي ، وغيرهم ما محصّلها : أن داود عليه‌السلام حدّث نفسه ؛ إن ابتلي أن يعتصم ، فقيل له : إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلي فيه ، فخذ حذرك ، فقيل له : هذا اليوم الذي تبتلي فيه ، فأخذ الزبور (٣) ، ودخل المحراب ، وأغلق بابه ، وأقعد خادمه على الباب ، وقال : لا تأذن لأحد اليوم. فبينما هو يقرأ الزبور ، إذ جاء طائر مذهّب يدرج بين يديه ، فدنا منه ، فأمكن أن يأخذه ، فطار فوقع على كوّة المحراب ، فدنا منه ليأخذه ، فطار ، فأشرف عليه لينظر أين وقع ، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض ، فلما رأت ظله نفضت شعرها ، فغطّت جسدها به ، وكان زوجها غازيا في سبيل الله ، فكتب داود إلى رأس الغزاة : أن اجعله في حملة التابوت (٤) ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم ، وإما أن يقتلوا ، فقدّمه في حملة التابوت ، فقتل. وفي بعض هذه الروايات الباطلة : أنه فعل ذلك ثلاث مرات ، حتى قتل في الثالثة ، فلمّا انقضت عدّتها ، خطبها داود عليه‌السلام ، فتسوّر عليه الملكان ، وكان ما كان ، مما حكاه

__________________

(١) ص / ٢١ ـ ٢٥.

(٢) ج ٥ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

(٣) كتاب داود عليه‌السلام.

(٤) صندوق فيه بعض مخلفات أنبياء بني إسرائيل ، فكانوا يقدمونه بين يدى الجيش كي ينصروا.

٢٦٧

الله تعالى.

ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة عن بعض الصحابة والتابعين ، ومسلمة أهل الكتاب ، بل جاء بعضها مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال صاحب «الدر» : وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم بسند ضعيف ، عن أنس رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن داود عليه‌السلام حين نظر إلى المرأة ، قطع (١) على بني إسرائيل ، وأوصى صاحب الجيش ، فقال : إذا حضر العدو فقرّب فلانا بين يدي التابوت» ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت ، لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم معه الجيش ، فقتل ، وتزوج المرأة ، ونزل الملكان على داود عليه‌السلام فسجد ، فمكث أربعين ليلة ساجدا ، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه ، فأكلت الأرض جبينه ، وهو يقول في سجوده : «ربّ زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب ، ربّ إن لم ترحم ضعف داود ، وتغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثا في المخلوق من بعده. فجاء جبريل عليه‌السلام من بعد أربعين ليلة ، فقال : يا داود إن الله قد غفر لك ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة ، فقال : يا ربّ دمي الذي عند داود ، قال جبريل : ما سألت ربك عن ذلك ، فإن شئت لأفعلن ، فقال : نعم ، ففرح جبريل ، وسجد داود عليه‌السلام ، فمكث ما شاء الله ، ثم نزل ، فقال : قد سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه ، فقال : قل لداود : إن الله يجمعكما يوم القيامة ، فيقول له : هب لي دمك الذي عند داود ، فيقول : هو لك يا رب ، فيقول : فإن لك في الجنة ما شئت ، وما اشتهيت عوضا. وقد رواها البغوي

__________________

(١) هي هكذا في «الدر المنثور» وفي تفسير البغوي. ولعلها قطع.

٢٦٨

أيضا عن طريق الثعلبي (١) ، والرواية منكرة مختلقة على الرسول. وفي سند هذه الرواية المختلقة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن لهيعة ، وهو مضعف في الحديث ، وفي سندها أيضا يزيد بن أبان الرقاشي ، كان ضعيفا في الحديث.

وقال فيه النسائي ، والحاكم أبو أحمد : إنه متروك ، وقال فيه ابن حبان : كان من خيار عباد الله ، من البكّائين بالليل ، غفل عن حفظ الحديث شغلا بالعبادة ، حتى كان يقلب كلام الحسن يجعله عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا تحل الرواية عنه إلّا على جهة التعجب (٢).

وقال العلامة ابن كثير في تفسيره (٣) : «وقد ذكر المفسرون هاهنا قصة ؛ أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتّباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي ، عن أنس رضى الله عنه ، ويزيد وإن كان من الصالحين ، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة».

ومن ثم يتبين لنا كذب رفع هذه الرواية المنكرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا نكاد نصدق ورود هذا عن المعصوم ، وإنما هي اختلاقات ، وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب ، وهل يشك مؤمن عاقل يقرّ بعصمة الأنبياء ، في استحالة صدور هذا عن داود عليه‌السلام ، ثم يكون على لسان من؟ على لسان من كان حريصا على تنزيه إخوانه الأنبياء عما لا يليق بعصمتهم ، وهو نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومثل هذا التدبير السّيّئ ، والاسترسال فيه على ما رووا ، لو صدر من رجل من سوقة

__________________

(١) تفسير البغوي ، ج ٤ ، ص ٥٢ ـ ٥٩ والدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ١١ ، ص ٣٠٩.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ٣١.

٢٦٩

الناس وعامتهم ، لاعتبر هذا أمرا مستهجنا مستقبحا ، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس ، زكت نفسه ، وطهرت سريرته ، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وهو الأسوة الحسنة لمن أرسل إليهم؟!!

ولو أن القصة كانت صحيحة لذهبت بعصمة داود ، ولنفرت منه الناس ، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان به ، فلا يحصل المقصد الذي من أجله أرسل الرسل ، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله تعالى في شأنه : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)؟ قال ابن كثير في تفسيرها : «وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عزوجل بها وحسن مرجع ، وهو الدرجات العالية في الجنة لنبوّته وعدله التام في ملكه ، كما جاء في الصحيح : «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يقسطون في أهليهم ، وما ولوا» ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أحب الناس إليّ يوم القيامة وأقربهم مني مجلسا إمام عادل ، وإن أبغض الناس إليّ يوم القيامة ، وأشدهم عذابا إمام جائر» رواه أحمد ، والترمذي (١).

ولكي يستقيم هذا الباطل قالوا : إن المراد بالنعجة هي المرأة ، وأن القصة خرجت مخرج الرمز والإشارة ، ورووا : أن الملكين لما سمعا حكم داود ، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة ، قالا له : وما جزاء من فعل ذلك؟ قال : يقطع هذا ، وأشار إلى عنقه. وفي رواية : «يضرب من هاهنا ، وهاهنا ، وهاهنا» وأشار إلى جبهته ، وأنفه ، وما تحته ، فضحكا ، وقالا ، «أنت أحق بذلك منه ، ثم صعدا».

وذكر البغوي في تفسيره وغيره ، عن وهب بن منبه : أن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة ، لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا ، وكان أصاب

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ص ٣٢.

٢٧٠

الخطيئة ، وهو ابن سبعين سنة ، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام : يوم للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوم لنسائه ، ويوم يسيح في الفيافي ، والجبال ، والسواحل ، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب ، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ، فيساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي ، فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكي ، ويبكي معه الشجر ، والرمال ، والطير ، والوحش ، حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكي ، وتبكي معه الجبال ، والحجارة ، والدواب ، والطير ، حتى تسيل من بكائهم الأودية ، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكي ، وتبكي معه الحيتان ، ودواب البحر وطير الماء والسباع (١). والحق : أن الآيات ليس فيها شيء مما ذكروا ، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، وهي التي عليها المعول ، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه ، ولا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.

وما أحسن ما قال الإمام القاضي عياض : «لا تلتفت إلى ما سطّره الأخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدّلوا ، وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ، والذي نص عليه في قصة داود : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) وليس في قصة داود ، وأوريا خبر ثابت (٢).

والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي ، قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم ، وقد روي عن الامام

__________________

(١) تفسير البغوي ، ج ٤ ، ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٧١

أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلّدته مائة وستين جلدة ، وذلك حد الفرية على الأنبياء (١) ، وهو كلام مقبول ومروىّ عن الامام الصادق عليه‌السلام أيضا (٢).

التفسير الصحيح الآيات

وإذا كان ما روي من الإسرائيليات الباطلة التي لا يجوز أن تفسّر بها الآيات ، فما التفسير الصحيح لها إذا؟

والجواب : أن داود عليه‌السلام كان قد وزّع مهام أعماله ، ومسئولياته نحو نفسه ، ونحو الرعية على الأيام ، وخصّ كل يوم بعمل ، فجعل يوما للعبادة ، ويوما للقضاء وفصل الخصومات ، ويوما للاشتغال بشئون نفسه وأهله ، ويوما لوعظ بني إسرائيل.

ففي يوم العبادة بينما كان مشتغلا بعبادة ربه في محرابه ، إذ دخل عليه خصمان تسوّرا عليه من السور ، ولم يدخلا من المدخل المعتاد ، فارتاع منهما ، وفزع فزعا لا يليق بمثله من المؤمنين ، فضلا عن الأنبياء المتوكّلين على الله غاية التوكّل ، الواثقين بحفظه ، ورعايته ، وظن بهما سوءا ، وأنهما جاءا ليقتلاه ، أو يبغيا به شرا ، ولكن تبين له أن الأمر على خلاف ما ظن ، وأنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه. فلما قضى بينهما ، وتبين له أنهما بريئان مما ظنه بهما ، استغفر ربه ، وخرّ ساجدا لله تعالى تحقيقا لصدق توبته والإخلاص له ، وأناب إلى الله غاية

__________________

(١) لأن حد القذف لغير الأنبياء ثمانين ، فرأى رضى الله عنه تضعيفه بالنسبة إلى الأنبياء وفي الكذب عليهم رمى لهم بما هم برآء منه ، ففيه معنى القذف لداود بالتّعدّي على حرمات الأعراض والتحايل في سبيل ذلك.

(٢) راجع الطبرسي ، ج ٨ ، ص ٤٧٢. والبحار ، ج ١٤ ، ص ٢٩ رقم ٦.

٢٧٢

الإنابة.

ومثل الأنبياء في علوّ شأنهم ، وقوّة ثقتهم بالله والتوكّل عليه أن لا تعلّق نفوسهم بمثل هذه الظنون بالأبرياء ، ومثل هذا الظنّ وإن لم يكن ذنبا في العادة ، إلا أنه بالنسبة للأنبياء يعتبر خلاف الأولى والأليق بهم ، وقديما قيل : «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين» ، فالرجلان خصمان حقيقة ، وليسا ملكين كما زعموا ، والنعاج على حقيقتها ، وليس ثمة رموز ولا إشارات. وهذا التأويل هو الذي يوافق نظم القرآن ويتّفق وعصمة الأنبياء ، فالواجب الأخذ به ، ونبذ الخرافات والأباطيل ، التي هي من صنع بني إسرائيل ، وتلقّفها القصّاص وأمثالهم ممن لا علم عندهم ، ولا تمييز بين الغثّ والسمين.

٣٠ ـ الإسرائيليات في قصة سليمان عليه‌السلام

ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ)(١).

وقد ذكر الكثير منها في تفاسيرهم ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والثعلبي ، والبغوي ، وغيرهم. وذكر كل ما روي من ذلك من غير تمييز بين الصحيح والضعيف ، والغثّ والسمين ، السيوطي ، في «الدر المنثور» وليته إذ فعل نقد كل رواية ، وبيّن منزلتها من القبول والرد ، وما هو من الإسرائيليات ، وما ليس منها. قال السيوطي في «الدر» : أخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، بسند قوي عن ابن عباس قال :

__________________

(١) ص / ٣٤.

٢٧٣

أراد سليمان عليه‌السلام أن يدخل الخلاء (١) ، فأعطى الجرادة خاتمه ، وكانت جرادة امرأته ، وكانت أحب نسائه إليه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان ، فقال لها : هاتي خاتمي ، فأعطته ، فلما لبسه ، دانت له الجن ، والإنس ، والشياطين ، فلما خرج سليمان عليه‌السلام من الخلاء ، قال لها : هاتي خاتمي ، فقالت : قد أعطيته سليمان ، قال : أنا سليمان ، قالت : كذبت ، لست سليمان ، فجعل لا يأتي أحدا يقول له : أنا سليمان إلا كذّبه ، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة ، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله عزوجل وقام الشيطان يحكم بين الناس ، فلما أراد الله تعالى أن يرد على سليمان عليه‌السلام سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان ، فأرسلوا إلى نساء سليمان عليه‌السلام فقالوا لهنّ : أيكون من سليمان شيء؟ قلن : نعم ، إنه يأتينا (٢) ونحن حيّض ، وما كان يأتينا قبل ذلك! فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع ، فكتبوا كتبا فيها سحر ، ومكر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أثاروها (٣) ، وقرءوها على الناس ، قالوا : بهذا كان يظهر سليمان على الناس ، ويغلبهم. فأكفر الناس سليمان ، فلم يزالوا يكفرونه ، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم ، فطرحه في البحر ، فتلقته سمكة ، فأخذته ، وكان سليمان عليه‌السلام يعمل على شط البحر بالأجر. فجاء رجل ، فاشترى سمكا ؛ فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم ، فدعا سليمان عليه‌السلام فقال له : تحمل لي هذا السمك ، ثم انطلق إلى منزله ، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم ، فأخذها سليمان عليه‌السلام ، فشق بطنها ، فإذا الخاتم في جوفها ، فأخذه ، فلبسه ، فلما لبسه دانت له

__________________

(١) المرحاض.

(٢) يباشرنا.

(٣) أخرجوها.

٢٧٤

الإنس والجن والشياطين ، وعاد إلى حاله ، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر ، فأرسل سليمان عليه‌السلام في طلبه ، وكان شيطانا مريدا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما ، فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص ، فاستيقظ ، فوثب ، فجعل لا يثبت في مكان من البيت إلّا أن دار معه الرصاص ، فأخذوه ، وأوثقوه ؛ وجاءوا به إلى سليمان عليه‌السلام ، فأمر به ، فنقر له في رخام ، ثم أدخل في جوفه ، ثم سد بالنحاس ، ثم أمر به ، فطرح في البحر ، فذلك قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ...) ، يعني الشيطان الذي كان تسلّط عليه.

وقد روى السيوطي في «الدر» روايات أخرى ، عن ابن عباس وقتادة ، في أن هذا الشيطان كان يسمّى صخرا. وروي عن مجاهد : أن اسمه آصف ، وأن سليمان سأله : كيف تفتنون الناس؟! فقال الشيطان : أرني خاتمك أخبرك ، فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان ، وذهب ملكه ، وقعد آصف على كرسيه ، حتى كان ما كان من أمر السمكة ، والعثور على الخاتم ، ورجوع ملك سليمان إليه.

غير أن في رواية قتادة ، ومجاهد أن الشيطان لم يسلط على نساء سليمان ، ومنعهن الله منه ، فلم يقربهن ، ولم يقربنه (١).

ونحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل ، وأباطيلهم ، وما نسب إلى ابن عباس وغيره إنّما تلقوها عن مسلمة أهل الكتاب. وليس أدل على هذا مما ذكره السيوطي في «الدر» بالإسناد إلى ابن عباس قال : أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي؟ ، حتى سألت عنهنّ كعب الأحبار ـ وحاشاه أن يسأله ـ.

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٣٠٩ ـ ٣١١.

٢٧٥

وذكر منها : وسألته عن قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) قال : الشيطان أخذ خاتم سليمان عليه‌السلام الذي فيه ملكه ، فقذف به في البحر ، فوقع في بطن سمكة ، فانطلق سليمان يطوف إذ تصدّق عليه بتلك السمكة فاشتواها ، فأكلها ، فإذا فيها خاتمه ، فرجع إليه ملكه (١).

وكذا ذكرها مطوّلة جدا : البغوي في تفسيره ، عن محمد بن إسحاق ـ وحاشاه ـ عن وهب بن منبّه (٢).

قال الإمام القاضي عياض في «الشفا» : «ولا يصح ما نقله الأخباريون من تشبّه الشيطان به ، وتسلّطه على ملكه ، وتصرّفه في أمته بالجور في حكمه ؛ لأن الشياطين لا يسلّطون على مثل هذا ، وقد عصم الأنبياء من مثله» (٣) وكذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره (٤) ، قال بعد أن ذكر الكثير منها :

وهذه كلها من الإسرائيليات ، ومن أنكرها ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، قال : حدّثنا محمد بن العلاء ، وعثمان بن أبي شيبة ، وعلى بن محمد ، قالوا : حدثنا أبو معاوية قال : أخبرنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) قال : أراد سليمان عليه‌السلام أن يدخل الخلاء. ثم ذكر الرواية التي ذكرناها أولا ، قال : لكنه حديث مفترى والظاهر أنه من افتراءات أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه‌السلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ؛

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٣١٠.

(٢) تفسير البغوي ، ج ٤ ، ص ٦١ ـ ٦٤.

(٣) الشفا ، ج ٢ ، ص ١٦٢.

(٤) ج ٤ ، ص ٣٥ ـ ٣٦.

٢٧٦

ولهذا كان في هذا السياق منكرات ، من أشدها ذكر النساء. فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجنّي لم يسلّط على نساء سليمان ، بل عصمهن الله عزوجل منه ، تشريفا ، وتكريما لنبيه عليه‌السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى الله عنه كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ، وجماعة آخرين ، وكلها متلقاة عن أهل الكتاب ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

قال أبو شهبة : وهذه الأحاديث كلها أكاذيب ، وتلفيقات. ولكن بعض الكذبة من بني إسرائيل كان أحرص ، وأبعد غورا من البعض الآخر ، فلم يتورّط فيما تورّط فيه البعض ، من ذكر تسلّط الشيطان على نساء داود عليه‌السلام وذلك حتى يكون لما لفّقه ، وافتراه ، بعض القبول عند الناس. أما البعض الآخر فكان ساذجا في كذبه ، مغفّلا في تلفيقه ، فترك آثار الجريمة بيّنة واضحة ، وبذلك اشتمل ما لفّقه على دليل كذبه.

ومن العجيب أن الإمام السيوطي نبّه في كتابه «تخريج أحاديث الشفا» أنها إسرائيليات ، تلقّاها أهل الحديث عن أهل الكتاب. وليته نبّه إلى ذلك في التفسير.

والحق أن نسج القصة مهلهل ، عليه أثر الصنعة والاختلاق ، ويصادم العقل السليم ، والنقل الصحيح في هذا.

وإذا جاز للشيطان أن يتمثّل برسول الله سليمان عليه‌السلام ، فأي ثقة بالشرائع تبقى بعد هذا؟! وكيف يسلّط الله الشيطان على نساء نبيه سليمان ، وهو أكرم على الله من ذلك؟! وأيّ ملك أو نبوة يتوقف أمرهما على خاتم يدومان بدوامه ، ويزولان بزواله؟! وما عهدنا في التاريخ البشري شيئا من ذلك.

وإذا كان خاتم سليمان عليه‌السلام بهذه المثابة ؛ فكيف يغفل الله شأنه في كتابه الشاهد على الكتب السماوية ، ولم يذكره بكلمة؟! وهل غيّر الله ـ سبحانه ـ خلقة

٢٧٧

سليمان في لحظة ، حتى أنكرته أعرف الناس به ، وهي زوجته جرادة؟!!

الحق أن نسج القصة مهلهل ، لا يصمد أمام النقد ، وأن آثار الكذب والاختلاق بادية عليها.

نسبة بعض هذه الأكاذيب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وقد تجرّأ بعض الرواة ، أو غلط ، فرفع بعض هذه الإسرائيليات إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال السيوطي في «الدر المنثور» ، وأخرج الطبراني في «الأوسط» (١) ، وابن مردويه بسند ضعيف ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ولد لسليمان ولد ، فقال للشيطان : تواريه من الموت ، قالوا : نذهب به إلى المشرق ، فقال : يصل إليه الموت ، قالوا : فإلى المغرب ، قال : يصل إليه الموت ، قالوا : إلى البحار ، قال : يصل إليه الموت ، قالوا : نضعه بين السماء والأرض ، قال : نعم ، ونزل عليه ملك الموت ، فقال : إني أمرت بقبض نسمة طلبتها في البحار ، وطلبتها في تخوم الأرض فلم أصبها ، فبينا أنا قاعد أصبتها ، فقبضتها ، وجاء جسده ، حتى وقع على كرسي سليمان ، فهو قول الله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ)».

وهذا الحديث موضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد يكون ذلك من عمل بعض الزنادقة ، أو غلط بعض الرواة ، وقد نبّه على وضعه الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ، وقال : يحيى ـ يعني ابن كثير ـ يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم ، ولا ينسب إلى نبي الله سليمان ذلك ، ووافقه السيوطي على وضعه (٢) ، ولا يشك

__________________

(١) يعني في كتابه «المعجم الأوسط».

(٢) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ، ج ٢ ، ص ٢٢١.

٢٧٨

في وضع هذا إلّا من يشك في عصمة الأنبياء عن مثله ، وأحر بمثل هذا أن يكون مختلقا على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى نبي الله سليمان عليه‌السلام ، وإنما هو من إسرائيليات بني إسرائيل وأكاذيبهم.

والصحيح في تفسير الفتنة هنا حسبما ذكرناه في التمهيد ، ج ٣ ، ص ٤٤٣ و ٤٤٤ أنّ سليمان عليه‌السلام قال يوما لأصحابه : لأطوفنّ الليلة على نسائي لتلد كل واحدة غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله. قال ذلك قاطعا بالأمر ، فقد تمنّى ما لم يكن في استطاعته إلّا أن يشاء الله. فأراد الله تنبيهه على بادرته تلك ، فطاف عليهنّ كلّهنّ لم تحمل منهنّ سوى واحدة ، وجاءت بسقط ميت (١).

٣١ ـ الإسرائيليات في قصة أيوب عليه‌السلام

ومن القصص التي تزيّد فيها المتزيّدون ، واستغلها القصّاصون ، وأطلقوا فيها لخيالهم العنان : قصة سيدنا أيوب عليه‌السلام ، فقد رووا فيها ما عصم الله أنبياءه عنه. وصوّروه بصورة لا يرضاها الله لرسول من رسله.

فقد ذكر بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٢). ذكر السيوطي في «الدر المنثور» وغيره ، عن قتادة رضى الله عنه في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٤٧٥.

(٢) ص / ٤١ ـ ٤٤.

٢٧٩

أَيُّوبَ ...) ، قال : ذهاب الأهل والمال ، والضرّ الذي أصابه في جسده ، قال : ابتلى سبع سنين وأشهرا ، فألقي على كناسة بني إسرائيل ، تختلف الدواب في جسده ، ففرّج الله عنه ، وأعظم له الأجر ، وأحسن.

قال : وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن ابن عباس رحمهما‌الله ، قال : إن الشيطان عرج إلى السماء فقال : يا رب سلّطني على أيوب عليه‌السلام ، قال الله : قد سلطتك على ماله ، وولده ، ولم أسلّطك على جسده ، فنزل ، فجمع جنوده ، فقال لهم : قد سلّطت على أيوب عليه‌السلام فأروني سلطانكم ، فصاروا نيرانا ، ثم صاروا ماء ، فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب ، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق ، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه ، وطائفة إلى أهله ، وطائفة إلى بقره ، وطائفة إلى غنمه ، وقال : إنه لا يعتصم منكم إلّا بالمعروف ، فأتوه بالمصائب ، بعضها على بعض ، فجاء صاحب الزرع ، فقال : يا أيّوب ، ألم تر إلى ربك ، أرسل على زرعك عدوا ، فذهب به. وجاء صاحب الإبل ، وقال : ألم تر إلى ربك ، أرسل على إبلك عدوا ، فذهب بها. ثم جاء صاحب البقر ، فقال : ألم تر إلى ربك أرسل على بقرك عدوا ، فذهب بها. وتفرّد هو ببنيه ، جمعهم في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ، ويشربون ، إذ هبّت ريح ، فأخذت بأركان البيت ، فألقته عليهم ، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام ، فقال : يا أيوب ، ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ، ويشربون ، إذ هبّت ريح ، فأخذت بأركان البيت ، فألقته عليهم. فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم ، وشرابهم. فقال له أيوب : أنت الشيطان ، ثم قال له : أنا اليوم كيوم ولدتني أمي ، فقام ، فحلق رأسه ، وقام يصلّي ، فرنّ إبليس رنّة سمع بها أهل السماء ، وأهل الأرض ، ثم خرج إلى السماء ، فقال : أي رب ، إنه قد اعتصم ، فسلّطني عليه ، فإني لا أستطيعه إلّا بسلطانك ، قال : قد سلّطتك على جسده ،

٢٨٠