التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

كلّه ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ، ويأجوج ومأجوج. ثم استرسل في ذكر أوصافه ، وما وهبه الله من العلم والحكمة ، وأوصاف الأقوام الذين لقيهم ، وما قال لهم ، وما قالوا له ، وفي أثناء ذلك يذكر ما لا يشهد له عقل ولا نقل. وقد سوّد بهذه الأخبار نحو أربعة صحائف من كتابه (١) ، وكذلك ذكر روايات أخرى في سبب تسميته بذي القرنين ، بما لا يخلو عن تخليط وتخبّط. وقد ذكر ذلك ـ عن غير ابن جرير ـ السيوطي في «الدرّ» ، قال : «وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والشيرازي في الألقاب ، وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبّه اليماني ـ وكان له علم بالأحاديث الأولى ـ أنه كان يقول : كان ذو القرنين رجلا من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر ، وإنما سمّي ذا القرنين ؛ أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ...» (٢) وأنا لا أشك في أن ذلك مما تلقاه وهب عن كتبهم ، وفيها ما فيها من الباطل والكذب ، ثم حملها عنه بعض التابعين ، وأخذها عنهم ابن إسحاق وغيره من أصحاب كتب التفسير والسير والأخبار. ولقد أجاد وأفاد الإمام الحافظ ابن كثير ، حيث قال في تفسيره : «وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبّه أثرا طويلا ، عجيبا في سير ذي القرنين ، وبنائه السد ، وكيفية ما جرى له ، وفيه طول ، وغرابة ، ونكارة ، في أشكالهم ، وصفاتهم وطولهم ، وقصر بعضهم ، وآذانهم. وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة ، لا تصحّ أسانيدها ، والله أعلم» (٣). وحتى لو صح الإسناد فيها ، فلا شك في أنها من الإسرائيليات ؛ لأنه لا تنافي بين الأمرين ، فهي صحيحة

__________________

(١) جامع البيان ، ج ١٦ ، ص ١٤ ـ ١٨.

(٢) الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢٤٢ ـ ٢٤٦.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ١٠٤. وتفسير البغوى ، ج ٣ ، ص ١٧٨.

٢٤١

إلى من رويت عنه ، لكنها في نفسها من قصص بني إسرائيل الباطل ، وأخبارهم الكاذبة.

ولو أن هذه الإسرائيليات وقف بها عند منابعها ، أو من حملها عنهم من الصحابة والتابعين ؛ لكان الأمر محتملا ، ولكن الإثم ، وكبر الكذب أن تنسب هذه الأخبار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو أنها كما أسلفنا كانت صحيحة في معناها ومبناها لما حل نسبتها إلى رسول الله أبدا ، فما بالك وهي أكاذيب ملفّقة ، وأخبار باطلة؟! و

قد روى ابن جرير وغيره عند تفسير قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ...) حديثا مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«حدثنا أبو كريب قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن ابن لهيعة ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن شيخين من تجيب ، أنهما انطلقا إلى عقبة بن عامر ، فقالا له : جئنا لتحدثنا ، فقال : كنت يوما أخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرجت من عنده ، فلقيني قوم من أهل الكتاب ، فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستأذن لنا عليه ، فدخلت عليه فأخبرته ، فقال : ما لي وما لهم ، ما لي علم إلّا ما علّمني الله ، ثم قال : اكسب لي ماء ، فتوضّأ ، ثم صلّى ، قال : فما فرغ حتى عرفت السرور على وجهه ، ثم قال : أدخلهم عليّ ، ومن رأيت من أصحابي ، فدخلوا ، فقاموا بين يديه ، فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا. وإن شئتم أخبرتكم ، قالوا : بلى ، أخبرنا ، قال : جئتم تسألون عن ذي القرنين ، وما تجدونه في كتابكم : كان شابّا من الرّوم ، فجاء ، فبنى مدينة مصر الإسكندرية ، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء ، فقال له : ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي ، ومدائن ، ثم علا به ، فقال : ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي ، ثم علا به ، فقال : ما ترى؟ قال : أرى الأرض ، قال : فهذا اليم محيط بالدنيا ، إن الله بعثني إليك تعلّم الجاهل ، وتثبت العالم ، فأتى به السدّ ، وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء ، ثم مضى به

٢٤٢

حتى جاوز يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به إلى أمة أخرى ، وجوههم وجوه الكلاب ، يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ؛ ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم» (١) ، ثم عقب ذلك بسرد المرويات في سبب تسميته بذي القرنين.

وذكر السيوطي في «الدر المنثور» (٢) مثل ذلك ، وقال : إنه أخرجه ابن عبد الحكم في «تاريخ مصر» ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في «الدلائل».

وكل هذا من الإسرائيليات التي دسّت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو شئت أن أقسم بين الركن والمقام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال هذا ، لأقسمت ، وابن لهيعة ضعيف في الحديث.

وقد كشف لنا الإمام الحافظ ابن كثير عن حقيقة هذه الرواية في تفسيره ، وأنحى باللائمة على ما رواها ، فقال : «وقد أورد ابن جرير هاهنا ، والأموي في مغازيه ، حديثا أسنده ـ وهو ضعيف ـ عن عقبة بن عامر : أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء ، فكان فيما أخبرهم به : أنه كان شابّا من الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ، وأنه علا به ملك في السماء وذهب به إلى السد ، ورأى أقواما وجوههم مثل وجوه الكلاب.» وفيه طول ونكارة ، ورفعه لا يصح ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.

والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتاب «دلائل النبوة» وذلك غريب منه ، فيه من النكارة أنه من الروم ، وإنما الذي كان من الروم

__________________

(١) جامع البيان ، ج ١٦ ، ص ٧ و ٨.

(٢) ج ٤ ، ص ٢٤١.

٢٤٣

الإسكندر الثاني ، وهو ابن فيلبس المقدوني ، الذي تؤرّخ به الروم ، وكان وزيره أرسطاطاليس ، الفيلسوف المشهور ، والله أعلم (١).

ومن هو ذو القرنين؟

قال أبو شهبة : والذي نقطع به أنه ليس الإسكندر المقدوني ؛ لأن ما ذكره المؤرخون في تاريخه لا يتفق وما حكاه القرآن الكريم عن ذي القرنين ، والذي نقطع به أيضا أنه كان رجلا مؤمنا صالحا ، ملك شرق الأرض وغربها ، وكان من أمره ما قصه الله تعالى في كتابه ، وهذا ما ينبغي أن نؤمن به ، ونصدقه. أما معرفة هويته ، وما اسمه؟ ، وأين ، وفي أي زمان كان؟ فليس في القرآن ، ولا في السنة الصحيحة ما يدلّ عليه ، على أن الاعتبار بقصّته ، والانتفاع بها ، لا يتوقّف على شيء من ذلك ، وتلك سمة من سمات القصص القرآني ، وخصيصة من خصائصه أنه لا يعني بالأشخاص ، والزمان ، والمكان ، مثل ما يعني بانتزاع العبرة منها ، والاستفادة منها ، فيما سيقت له.

٢٤ ـ الإسرائيليات في قصّة يأجوج ومأجوج

من الإسرائيليات التي اتسمت بالغرابة ، والخروج عن سنة الله في الفطرة ، وخلق بني آدم ما ذكره بعض المفسرين في تفاسيرهم ، عند قوله تعالى : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)(٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) ، ج ٣ ، ص ١٠٠.

(٢) الكهف / ٩٤.

٢٤٤

فقد ذكروا عن يأجوج ومأجوج الشيء الكثير من العجائب والغرائب ، قال السيوطي في «الدر المنثور» (١) : أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عدي ، وابن عساكر ، وابن النجار ، عن حذيفة قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يأجوج ، ومأجوج ، فقال : «يأجوج ومأجوج أمّة ، كل أمّة أربعمائة ألف أمّة ، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه ، كل حمل السلاح». قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا ، قال : «هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز». قلت : وما الأرز؟ قال : «شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ، ولا حديد. وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ، ويلتحف بالأخرى ، لا يمرّون بفيل ، ولا وحش ، ولا جمل ، ولا خنزير إلّا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدّمتهم بالشام وساقتهم يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية».

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره هذه الرواية وغيرها من الروايات الموقوفة ، وكذلك صنع القرطبي في تفسيره. وإذا كان بعض الزنادقة استباحوا لأنفسهم نسبة هذا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف استباح هؤلاء الأئمة ذكر هذه المرويات المختلقة المكذوبة على رسول الله في كتبهم؟!

وهذا الحديث المرفوع نص الإمام أبو الفرج ابن الجوزي ـ في موضوعاته وغيره ـ على أنه موضوع ، ووافقه السيوطي في «اللئالئ» (٢) فكيف يذكره في تفسيره ولا يعقّب عليه؟!

وحقّ له أن يكون موضوعا ، فالمعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ من أن يروى عنه مثل

__________________

(١) ج ٥ ، ص ٢٥٠ و ٢٥١.

(٢) اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ، ج ١ ، ص ١٧٣ فما بعد.

٢٤٥

هذه الخرافات. وفي كتب التفسير من هذا الخلط وأحاديث الخرافة شيء كثير ، ورووا في هذا عن عبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن مسعود ، وعن كعب الأحبار. ولكي تتأكّد أن ما رفع إلى رسول الله إنما هي إسرائيليّات ، وقد نسبت إلى النبي زورا وكذبا ، نذكر لك ما روي عن كعب ، قال : «خلق يأجوج ومأجوج ، ثلاثة أصناف : صنف كالأرز ، وصنف أربعة أذرع طول ، وأربعة أذرع عرض ، وصنف يفترشون آذانهم ، ويلتحفون بالأخرى ، يأكلون مشائم (١) نسائهم».

وعلى حين نراهم يذكرون من هول وعظم خلقهم ما سمعت ؛ إذ هم يروون عن ابن عباس رحمهما‌الله أنه قال : «إن يأجوج ومأجوج شبر ، وشبران ، وأطولهم ثلاثة أشبار ، وهم من ولد آدم» ، بل رووا عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثني الله ليلة أسري بي إلى يأجوج ومأجوج ، فدعوتهم إلى دين الله وعبادته فأبوا أن يجيبوني ، فهم في النار ، مع من عصى من ولد آدم وإبليس».

والعجب أن السيوطي قال عن هذا الحديث : إن سنده واه. ولا أدري لم ذكره مع وهاء سنده؟! قال في تفسيره : وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني والبيهقي في البعث ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وإنّ من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتاريس ، ومنسك».

قال : وأخرج أحمد ، والترمذي ـ وحسّنه ـ وابن ماجة ، وابن حبان ، والحاكم ـ وصحّحه ـ وابن مردويه والبيهقي في البعث ، عن أبي هريرة ، عن

__________________

(١) جمع مشيمة ، وهي ما ينزل مع الجنين حين يولّد ، وبها يتغذّى في بطن أمه.

٢٤٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن يأجوج ومأجوج يحفرون السدّ كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ، فستفتحونه غدا ، ولا يستثنى ، فإذا أصبحوا وجدوه قد رجع كما كان ، فإذا أراد الله بخروجهم على الناس قال الذي عليهم : ارجعوا ، فستفتحونه إن شاء الله ويستثنى (١) ، فيعودون إليه ، وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ، ويخرجون على الناس ، فيستقون المياه ، ويتحصّن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فترجع مخضّبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا من في الأرض ، وعلونا من في السماء ، قسوا ، وعلوّا ، فيبعث الله عليهم نغفا (٢) في أعناقهم فيهلكون» ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فو الذي نفس محمد بيده إنّ دواب الأرض لتسمن ، وتبطر ، وتشكر شكرا (٣) من لحومهم» (٤).

ومهما كان سند مثل هذا فهو من الإسرائيليات عن كعب وأمثاله ، وقد يكون رفعها إلى النبي غلطا وخطأ من بعض الرواة ، أو كيدا يكيد به الزنادقة اليهود للإسلام. وإظهار رسوله بمظهر من يروي ما يخالف القرآن ، فالقرآن قد نص بما لا يحتمل الشك على أنهم لم يستطيعوا أن يعلوا السدّ ، ولا أن ينقبوه ، قال تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً)(٥).

وإليك ما ذكره ابن كثير هنا في تفسيره ، قال بعد أن ذكر من رواه : وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة ، عن قتادة ، ثم قال : غريب لا يعرف إلّا من هذا

__________________

(١) يعنى يقول : «إن شاء الله» لأنها في معنى الاستثناء ، يعني إلّا أن يشاء الله تعالى.

(٢) النغف ـ محركة ـ : دود يكون في أنوف الإبل والغنم ، واحده : نغفة.

(٣) أي تسمن سمنا.

(٤) الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢٥١.

(٥) الكهف / ٩٧.

٢٤٧

الوجه ، وإسناده جيد قويّ ، ولكن متنه في رفعه نكارة ؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكّنوا من ارتقائه ، ولا من نقبه ؛ لإحكام بنائه وصلابته وشدّته. ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار ، أنهم قبل خروجهم يأتونه ، فيلحسونه ، حتى لا يبقى منه إلّا القليل ، فيقولون : غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان ، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلّا القليل ، فيقولون كذلك ، فيصبحون ، وهو كما كان ، فيلحسونه ويقولون : غدا نفتحه ، ويلهمون أن يقولوا : إن شاء الله ، فيصبحون ، وهو كما فارقوه ، فيفتحونه ، وهذا متجه. ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب ، فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ، ويحدثه ، فحدّث به أبو هريرة ، فتوهّم بعض الرواة عنه أنه مرفوع ، فرفعه ، والله أعلم (١).

ومن الإسرائيليات المستنكرة في هذا ما روي أن يأجوج ومأجوج خلقا من مني خرج من آدم ، فاختلط بالتراب ، وزعموا : أن آدم كان نائما فاحتلم ، فمن ثم اختلط منيه بالتراب. ومعروف أن الأنبياء لا يحتلمون ؛ لأن الاحتلام من الشيطان.

قال ابن كثير : وهذا قول غريب جدا ، لا دليل عليه ، لا من عقل ولا من نقل ، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب ، لما عندهم من الأحاديث المفتعلة ، والله أعلم (٢).

والخلاصة :

إن أصحاب الكهف ، وذا القرنين ، ويأجوج ومأجوج ، حقائق ثابتة لا شك ، وكيف لا؟ وقد أخبر بها الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولكن الذي ننكره أشد الإنكار هذه الخرافات والأساطير التي حيكت حولهم ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ١٠٥. وتفسير البغوي ، ج ٣ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٢.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ١٠٤.

٢٤٨

وتدسّست إلى المرويات الإسلامية ، والله ورسوله بريئان منها ، وإنما هي من أخبار بني إسرائيل وأكاذيبهم ، وتحريفاتهم.

٢٥ ـ الإسرائيليات في قصة بلقيس ملكة سبأ

ومن الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين ، عند تفسير قوله تعالى : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١).

فقد ذكر ابن جرير ، والثعلبي ، والبغوي ، والخازن ، وغيرهم «أن سليمان أراد أن يتزوّجها ، فقيل له : إن رجليها كحافر الحمار ، وهي شعراء الساقين ، فأمرهم ، فبنوا له هذا القصر على هذه الصفة ، فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها لتخوضه ، فنظر سليمان ، فإذا هي أحسن الناس قدما وساقا ، إلّا أنها كانت شعراء الساقين ، فكره ذلك ، فسأل الإنس ، ما يذهب هذا؟ قالوا : الموسى (٢) ، فقالت بلقيس : لم تمسّني حديدة قط ، وكره سليمان ذلك ، خشية أن تقطع ساقيها ، فسأل الجن ، فقالوا : لا ندري ، ثم سأل الشياطين فقالوا : إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء ، فاتخذوا لها النورة (٣) والحمام ، فكانت النورة والحمام من يومئذ» (٤).

__________________

(١) النمل / ٤٤.

(٢) المراد : الموسى التي تزيل الشعر.

(٣) مادة يزال بها الشعر.

(٤) كذب ظاهر ، كأن النورة والحمام لم يكونا إلّا لها ، وكأن سليمان عليه‌السلام لم يكن له همّ إلّا إزالة شعر ساقيها ، وهو تجنّ صارخ على الأنبياء ، وإظهارهم بمظهر المتهالك على النساء ومحاسنهنّ ، فقبّح الله اليهود.

٢٤٩

وقد روي هذا عن ابن عباس ـ رضوان الله عليه ـ ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدّي ، وابن جريج وغيرهم.

وروي أيضا أنها سألت سيدنا سليمان عن أمرين ، قالت له : أريد ماء ليس من أرض ولا من سماء!! فسأل سليمان الإنس ، ثم الجن ، ثم الشياطين ، فقالت الشياطين : هذا هيّن ، أجر الخيل ، ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية ، فأمر بالخيل فأجريت ، ثم أخذ العرق ، فملأ منه الآنية!! وسألته عن لون الله عزوجل فوثب سليمان عن سريره ، وفزع من السؤال ، وقال : لقد سألتني يا رب عن أمر ، إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك ، ولكن الله أنساه ، وأنساهم ما سألته عنه.

وأن الشياطين خافوا لو تزوّجها سليمان ، وجاءت بولد ، أن يبقوا في عبوديته ، فصنعوا له هذا الصرح الممرد (١) ، فظنته ماء ، فكشفت عن ساقيها لتعبره ، فإذا هي شعراء ، فاستشارهم سليمان ، ما يذهبه؟ فجعلت له الشياطين النورة (٢).

قال ابن كثير في تفسيره ، بعد أن ذكر بعض المرويات : والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد في صحفهم ، كرواية كعب ، ووهب ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد (٣) ، والغرائب ، والعجائب مما كان ، وما لم يكن ، ومما حرّف ، وبدّل ، ونسخ. وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه ، وأنفع ، وأوضح ، وأبلغ ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) الصرح : هو القصر المشيد المحكم البناء ، المرتفع في السماء ، والممرد : الناعم الأملس. القوارير : الزجاج الشديد الصفاء.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ٣٦٦. وتفسير البغوي ، ج ٣ ، ص ٤٢١ و ٤٢٢.

(٣) جمع آبدة ، وهي الأمور المشكلة البعيدة المعاني ، وأصل الآبدة : النافرة من الوحش التي يستعصى أخذها ، ثم شبّه بها الكلام المشكل العويص المعاني.

٢٥٠

والحق أن سليمان عليه‌السلام أراد ببنائه الصرح أن يريها عظمة ملكه ، وسلطانه ، وأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعطاه من الملك ، ومن أسباب العمران والحضارة ما لم يعطها ، فضلا عن النبوة التي هي فوق الملك ، والتي دونها أية نعمة ، وحاشا لسليمان عليه‌السلام وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكما يوافق حكمه ـ أي الله ـ ، فأوتيه أن يتحايل هذا التحايل ، حتى ينظر إلى ما حرّم الله عليه ، وهما ساقاها ، وهو أجلّ من ذلك وأسمى.

ولو لا أنها رأت من سليمان ما كان عليه من الدين المتين ، والخلق الرفيع ، لما أذعنت إليه لمّا دعاها إلى الله الواحد الحق ، ولما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب والشمس ، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

٢٦ ـ الإسرائيليات في هديّة ملكة سبأ لسيدنا سليمان

ومن الإسرائيليات ما ذكره كثير من المفسرين ، كابن جرير ، والثعلبي ، والبغوي ، وصاحب «الدر» ، في الهديّة التي أرسلتها بلقيس إلى سيدنا سليمان عليه‌السلام ، وإليك ما ذكره البغوي في تفسيره ، وذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(١).

قال البغوي :

فأهدت إليه وصفاء ووصائف. قال ابن عباس : ألبستهم لباسا واحدا كي لا يعرف الذكر من الأنثى. وقال مجاهد : ألبس الغلمان لباس الجواري ، وألبس

__________________

(١) النمل / ٣٥.

٢٥١

الجواري ألبسة الغلمان. واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس : مائة وصيف ، ومائة وصيفة (١). وقال مجاهد ومقاتل : مائتا غلام ، ومائتا جارية. وقال قتادة وسعيد بن جبير وغيرهما : أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير ، وديباج.

وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام ، وخمسمائة جارية ، فألبست الغلمان لباس الجواري ، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب ، وفي آذانهم أقراطا ، وشتوفا مرصعات بأنواع الجواهر. وألبست الجواري لباس الغلمان : الأقبية والمناطق ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة (٢) ، والغلمان على خمسمائة برذون (٣) ، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر ، وغواشيها من الديباج الملوّن. وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة ، وتاجا مكلّلا بالدر والياقوت. وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود ، وعمدت إلى حقّة ، فجعلت فيها درّة ثمينة غير مثقوبة ، وخرزة مثقوبة معوجّة الثقب. وأرسلت مع الهدية رجالا من عقلاء قومها ، وكتبت معهم كتابا إلى سليمان بالهديّة. وقالت : إن كنت نبيا فميّز لي بين الوصائف والوصفاء ، وأخبرني بما في الحقّة قبل أن تفتحها ، واثقب الدر ثقبا مستويا ، وأدخل خيطا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن.

ورووا أيضا : أن سليمان عليه‌السلام أمر الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ، ففعلوا ، ثم أمرهم أن يفرشوا الطريق من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانا واحدا ، بلبنات الذهب والفضة!! وأن يعدّوا في الميدان أعجب

__________________

(١) أي خادم ، وخادمة.

(٢) أنثى البغال.

(٣) البغل.

٢٥٢

دواب البر والبحر ، فأعدّوها. ثم قعد على سريره ، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ ، وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير ، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره ، فلما دنا القوم من الميدان ، ونظروا إلى ملك سليمان ، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة ، تقاصرت أنفسهم ، ورموا بما معهم من الهدايا. ثم كان أن استعان سليمان بجبريل والشياطين ، والأرضة في الإجابة عما سألته عنه (١).

ومعظم ذلك مما لا نشك أنه من الإسرائيليات المكذوبة (٢) ، وأي ملك في الدنيا يتسع لفرش تسعة فراسخ بلبنات الذهب والفضة؟!! وفي رواية وهب ما يدل على الأصل الذي جاءت منه هذه المرويّات. وأن من روى ذلك من السلف فإنما أخذه عن مسلمة أهل الكتاب. وما كان أجدر بكتب التفسير أن تنزّه عن مثل هذا اللغو والخرافات التي تدسست إلى الرواية الإسلامية فأساءت إليها.

٢٧ ـ الإسرائيليات في قصة الذبيح وأنه إسحاق

ومن الإسرائيليات ما يذكره كثير من المفسرين ، عند تفسير قوله تعالى :

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ

__________________

(١) تفسير البغوي ، ج ٣ ، ص ٤١٧ و ٤١٨.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ٣٦٣.

٢٥٣

لِلْجَبِينِ (١) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(٢).

فقد روى كثير من المفسرين ، منهم ابن جرير (٣) ، والبغوي (٤) ، وصاحب «الدر» (٥) في هذا روايات كثيرة ، عن بعض الصحابة والتابعين وكعب الأحبار : أن الذبيح هو إسحاق.

ولم يقف الأمر عند الموقوف على الصحابة والتابعين ، بل رفعوا ذلك زورا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روى ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن زيد بن حباب ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الذبيح إسحاق».

وهو حديث ضعيف ساقط لا يصح الاحتجاج به ؛ فالحسن بن دينار متروك ، وشيخه علي بن زيد بن جدعان منكر الحديث (٦).

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال

__________________

(١) أضجعه على جبينه على الأرض ، وللإنسان جبينان والجبهة بينهما.

(٢) الصافات / ٩٩ ـ ١١٣.

(٣) تفسير الطبري ، ج ٢٣ ، ص ٥١.

(٤) تفسير البغوي ، ج ٤ ، ص ٣٢.

(٥) تفسير الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٤.

(٦) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ١٧.

٢٥٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن داود سأل ربه مسألة ، فقال : اجعلني مثل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فأوحى الله إليه : إني ابتليت إبراهيم بالنار فصير ، وابتليت إسحاق بالذبح فصبر ، وابتليت يعقوب فصبر».

وبما أخرجه الدار قطني ، والديلمي في مسند الفردوس بسندهما عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الذبيح إسحاق».

وهي أحاديث لا تصحّ ولا تثبت ، وأحاديث الديلمي في مسند الفردوس شأنها معروف ، والدار قطني ربما يخرج في سننه ما هو موضوع (١).

وأخرج الطبراني في «الأوسط» ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، من طريق الوليد ابن مسلم ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي ، فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ، ولو لا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجّلت دعوتي ، إن الله تعالى لما فرّج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق : سل تعطه قال : أما والله لأتعجلنّها قبل نزغات الشيطان ، اللهم من مات لا يشرك بالله شيئا قد أحسن فاغفر له» (٢).

وعبد الرحمن بن زيد ، بن أسلم ، ضعيف ، ويروي المنكرات ، والغرائب فلا يحتج بمروياته وقال ابن كثير : الحديث غريب منكر ، وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة ، وهو قوله : «إن الله لما فرّج ...» وإن كان محفوظا ، فالأشبه أنه إسماعيل ، وحرّفوه بإسحاق ، إلى غير ذلك من الأخبار ، وفيها من الموقوف والضعيف ، والموضوع كثير. ومتى صح حديث مرفوع في أن الذبيح إسحاق

__________________

(١) انظر أعلام المحدّثين للأستاذ أبي شهبة.

(٢) تفسير الآلوسي ، ج ٢٣ ، ص ١٢٣.

٢٥٥

قبلناه ، ووضعناه على العين والرأس ، ولكنها كما رأيت لم يصح منها شيء.

والحق أن المرويات في أن الذبيح إسحاق هي من إسرائيليات أهل الكتاب ، وقد نقلها من أسلم منهم ، ككعب الأحبار. وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين تحسينا للظن بهم ، فذهبوا إليه. وجاء بعدهم العلماء فاغتروا بها ، وذهبوا إلى أن الذبيح إسحاق (١). وما من كتاب من كتب التفسير ، والسير ، والتواريخ إلّا ويذكر فيه الخلاف بين السلف في هذا ، إلّا أنّ منهم من يعقّب ببيان وجه الحق في هذا ؛ ومنهم من لا يعقّب اقتناعا بها ، أو تسليما لها.

وحقيقة هذه المرويات أنها من وضع أهل الكتاب ، لعداوتهم المتأصّلة من قديم الزمان للنبي الأمي العربي ، فقد أرادوا أن لا يكون لإسماعيل الجد الأعلى للنبي فضل أنه الذبيح حتى لا ينجرّ ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلى المسلمين.

تحريفهم للتوراة

ولأجل أن يكون هذا الفضل لجدهم إسحاق عليه‌السلام لا لأخيه إسماعيل حرّفوا التوراة في هذا ، ولكن الله أبى إلّا أن يغفلوا عما يدلّ على هذه الجريمة النكراء ؛ والجاني غالبا يترك من الآثار ما يدلّ على جريمته ، والحق يبقى له شعاع ، ولو خافت ، يدلّ عليه ، مهما حاول المبطلون إخفاء نوره ، وطمس معالمه. فقد حذفوا من التوراة لفظ «إسماعيل» ، ووضعوا بدله لفظ «إسحاق» ، ولكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن هذا التزوير ، وذاك الدسّ المشين.

نص التوراة

ففي التوراة (الإصحاح الثاني والعشرون ـ فقره ٢) : «فقال الرب : خذ ابنك

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ١٦ ـ ١٧.

٢٥٦

وحيدك الذي تحبه إسحاق ، واذهب إلى أرض المريا ، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ...» (١).

وليس أدل على كذب هذا ، من كلمة «وحيدك» ، وإسحاق عليه‌السلام لم يكن وحيدا قط! لأنه ولد ولإسماعيل نحو أربع عشرة سنة ، كما هو صريح توراتهم في هذا. وقد بقي إسماعيل عليه‌السلام حتى مات أبوه الخليل ، وحضر وفاته ، ودفنه ، وإليك ما ورد في هذا :

ففي سفر التكوين (الإصحاح السادس عشر الفقرة ١٦) ما نصه :

«وكان أبرام ـ يعني إبراهيم ـ ابن ست وثمانين سنة ، لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام» ، وفي سفر التكوين : (الإصحاح الحادي والعشرون فقرة ٥) ما نصه : «وكان إبراهيم ابن مائة سنة ، حين ولد له إسحاق ابنه».

وفي الفقرة (٩) وما بعدها ما نصه :

(٩) ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح (١٠) فقالت لإبراهيم : اطرد هذه الجارية وابنها ، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق (١١) فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه (١٢) فقال الله لإبراهيم : لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ، ومن أجل جاريتك ، في كل ما تقول سارة اسمع لقولها ، لأنه بإسحاق يدعى لك نسل (١٣) وابن الجارية أيضا سأجعله أمّة ، لأنه نسلك» (٢) إلى آخر القصة.

__________________

(١) وقد ذكرت القصة في التوراة في ١٤ فقرة ، فليرجع إليها من يشاء لتكون لنا الحجة عليهم ، من نفس كتابهم المقدس.

(٢) ويصدق هذا كتاب الله الشاهد على الكتب السماوية كلها ، قوله سبحانه حكاية لمقالة إبراهيم ، وإسماعيل عليهما‌السلام بعد أن بنيا البيت : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً

٢٥٧

فما قولكم يا أيها اليهود المحرفون؟! ، وكيف يتأتى أن يكون إسحاق وحيدا؟! مع هذه النصوص التي هي من توراتكم التي تعتقدون صحتها ، وتزعمون أنها ليست محرفة!! ، ثم ما رأيكم أيها المغترون بروايات أن الذبيح إسحاق ، بعد ما تأكدتم تحريف التوراة في هذا؟

وقد دل القرآن الكريم ، ودلت التوراة ، ورواية البخاري وغيره على أن الخليل إبراهيم عليه‌السلام أسكن هاجر وابنها عند مكان البيت المحرم ؛ حيث بنى فيما بعد ، وقامت مكة بجواره. وقد عبرت التوراة بأنهما كانا في برية فاران ، وفاران هي مكة ، كما يعبر عنها في العهد القديم. وهذا هو الحق في أن قصة الذبح كان مسرحها بمكة ومنى ، وفيها يذبح الحجاج ذبائحهم اليوم. وقد حرف اليهود النص الأول وجعلوه «جبل المريا» ، وهو الذي تقع عليه مدينة أورشليم القديمة ـ مدينة القدس اليوم ـ ليتم لهم ما أرادوا ، فأبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم!!

وقد ذكر ابن كثير : أن في بعض نسخ التوراة «بكرك» (١) بدل «وحيدك» وهو أظهر في البطلان ، وأدل على التحريف ؛ إذ لم يكن إسحاق بكرا للخليل بنص التوراة ، كما ذكرنا آنفا.

الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام

والحق أن الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام ، وهو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية ، والآثار عن الصحابة والتابعين ، ومنها ما له حكم الرفع بتقرير

__________________

مُسْلِمَةً لَكَ) ولو أن اليهود وعوا ما جاء في التوراة والقرآن ، لعلموا أنه ستكون أمة لها شأنها من نسل إسماعيل ، ولما حسدوا المسلمين على هذا الفضل.

(١) أول مولود يولد للشخص. راجع : تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ١٤.

٢٥٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له.

فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم ، وأئمة العلم والحديث ، منهم الصحابة النجباء ، والسادة العلماء : الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وسعيد بن المسيب ، والإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه‌السلام ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، وأبو عمرو ابن العلاء ، وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وهو إحدى الروايتين ، وأقواهما عن ابن عباس.

وفي «زاد المعاد» ، لابن القيم : أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم.

وهذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة ، نقلوه بالتواتر جيلا عن جيل ، وذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له.

قال : ولا خلاف بين النسّابين أن عدنان من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وإسماعيل هو القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل من عشرين وجها. قال ابن تيميّة : هذا القول متلقّى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : «إن الله أمر إبراهيم بذبح ابنه بكره» ، وفي لفظ «وحيده» ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غرّ هؤلاء أنه في التوراة التي بأيديهم : «اذبح ابنك إسحاق». قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ؛ لأنها تناقض قوله : «اذبح بكرك ووحيدك» ، ولكنّ اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبّوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختاروه لأنفسهم دون المسلمين ، ويأبى الله إلّا أن يجعل فضله لأهله.

وكيف يسوغ أن يقال : إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشّر أم إسحاق به ،

٢٥٩

وبابنه يعقوب ، قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(١).

فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ، وللولد ولد ، ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب عليه‌السلام داخل في البشارة ، ويدل عليه أيضا أن الله ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات ، ثمّ قال ـ بعدها ـ : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(٢). وهذا ظاهر جدّا في أن المبشّر به غير الأول ، بل هو كالنص فيه ، وغير معقول في أفصح الكلام وأبلغه أن يبشّر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح ، فتعيّن أن يكون الذبيح غيره.

وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ؛ ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمّه ، وإقامته لذكر الله ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمّه.

ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ؛ لكانت القرابين والنحر بالشام ، لا بمكة ، وأيضا فإن الله سبحانه سمّى الذبيح حليما ؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه ، ولمّا ذكر إسحاق سماه عليما : (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٣). وهذا إسحاق بلا ريب ؛ لأنه من امرأته وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل فمن السرية (٤) ، وأيضا فلأنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد ، فكان ابتلاؤهما بذبحه أمرا بعيدا ، وأما إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ... إلى آخر ما

__________________

(١) هود / ٧١.

(٢) الصافات / ١١٢.

(٣) الذاريات / ٢٨.

(٤) أي الجارية.

٢٦٠