التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس ـ رضوان الله عليه ـ قال : لما جمع الملك النسوة قال لهن : أنتنّ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قلن : (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(١) ، قال يوسف : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، فغمزه جبريل عليه‌السلام فقال : ولا حين هممت بها؟ فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٢).

قال : وأخرج ابن جرير عن مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والسدّي مثله ، وأخرج الحاكم في تاريخه ، وابن مردويه والديلمي عن أنس رضى الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال : لما قال يوسف ذلك قال له جبريل عليه‌السلام : ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، قال : وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله.

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر في قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال جبريل : ولا حين حللت السراويل؟ إلى غير ذلك من المرويّات المكذوبة ، والإسرائيليات الباطلة ، التي خرّجها بعض المفسرين الذين كان منهجهم ذكر المرويّات ، وجمع أكبر قدر منها ، سواء منها ما صحّ وما لم يصحّ. والأخباريون الذين لا تحقيق عندهم للمرويات ، وليس أدل على ذلك من أنها لم يخرجها أحد من أهل الكتب الصحيحة ، ولا أصحاب الكتب المعتمدة الذين يرجع إليهم في مثل هذا.

__________________

(١) يوسف / ٥١.

(٢) يوسف / ٥٣.

٢٢١

القرآن يردّ هذه الأكاذيب

وقد فات هؤلاء الدسّاسين الكذّابين أن قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ...) الآيتين (١) ، ليس من مقالة سيدنا يوسف عليه‌السلام وإنما هو من مقالة امرأة العزيز ، وهو ما يتّفق وسياق الآية ، ذلك : أن العزيز لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن ، قال له : ارجع إلى ربك ، فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن؟ فأحضر النسوة ، وسألهن ، وشهدن ببراءة يوسف ، فلم تجد امرأة العزيز بدّا من الاعتراف ، فقالت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) إلى قوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) فكل ذلك من قولها ؛ ولم يكن يوسف حاضرا ثمّ ، بل كان في السجن ، فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك في مجلس التحقيق الذي عقده العزيز؟.

وقد انتصر لهذا الرأي الذي يوائم السياق والسباق الإمام الشيخ محمّد عبده ، في تفسير «المنار». وهو آخر ما رقمه في تفسير القرآن.

وهكذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) :

تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ، ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر. وإنما راودت هذا الشاب مراودة ، فامتنع ؛ فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإنّ النفس تتحدّث ، وتتمنّى ؛ ولهذا راودته ؛ لأن (النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلّا من عصمه الله تعالى (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) يوسف / ٥٢ و ٥٣.

٢٢٢

قال : وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام ، وقد حكاه الماوردي في تفسيره ، وجعله أوّل الوجهين في تفسير الآية.

وبعد أن ذكر بعض ما ذكره ابن جرير الذي ذكرناه آنفا عن ابن عباس ، وتلاميذه ، وغيره قال : والقول الأول أقوى وأظهر ؛ لأن سياق الكلام كلّه من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف عليه‌السلام عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك (١).

التفسير الصحيح لقوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها)

قال أبو شهبة : والصحيح في تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أن الكلام تمّ عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) وليس من شك في أن همّها كان بقصد الفاحشة ، (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

الكلام من قبيل التقديم والتأخير ، والتقدير : ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، فقوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) ، جواب «لو لا» مقدم عليها ، ومعروف في العربية أن «لو لا» حرف امتناع لوجود ، أي امتناع الجواب لوجود الشرط ؛ فيكون «الهمّ» ممتنعا ؛ لوجود البرهان الذي ركّزه الله في فطرته. والمقدم إما الجواب ، أو دليله ، على الخلاف في هذا بين النحويين ، والمراد بالبرهان : هو حجة الله الباهرة الدالة على قبح الزّنى ، وهو شيء مركوز في فطر الأنبياء. ومعرفة ذلك عندهم وصل إلى عين اليقين ، وهو ما نعبّر عنه بالعصمة ، وهي التي تحول بين الأنبياء والمرسلين ، وبين وقوعهم في المعصية.

ويرحم الله الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام حيث قال : البرهان : النبوة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٨١ ـ ٤٨٢. وراجع تفسير الماوردي ، ج ٣ ، ص ٤٧. والمنار ، ج ١٢ ، ص ٣٢٣.

٢٢٣

التي أودعها الله في صدره ، حالت بينه وبين ما يسخط الله عزوجل.

وهذا هو القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء ، ويدعو إليه السابق واللاحق. وأما كون جواب «لو لا» لا يجوز أن يتقدم عليها ، فهذا أمر ليس ذا خطر ، حتى نعدل عن هذا الرأي الصواب ، إلى التفسيرات الأخرى الباطلة ، لهمّ يوسف عليه‌السلام ، والقرآن هو أصل اللغة ، فورود أيّ أسلوب في القرآن يكفي في كونه أسلوبا عربيا فصيحا ، وفي تأصيل أيّ قاعدة من القواعد النحوية ، فلا يجوز لأجل الأخذ بقاعدة نحوية ، أن نقع في محظور لا يليق بالأنبياء كهذا. والصحيح أنّ الجواب محذوف بقرينة المذكور ، وهو ما تقدم على «لولا» ؛ ليكون ذلك قرينة على الجواب المحذوف.

وقيل : إن ما حصل من «همّ يوسف» كان خطرة ، وحديث نفس بمقتضى الفطرة البشرية ، ولم يستقر ، ولم يظهر له أثره. قال البغوي في تفسيره : «قال بعض أهل الحقائق : الهمّ همّان : همّ ثابت ، وهو إذا كان معه عزم ، وعقد ، ورضا ، مثل همّ امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به. وهمّ عارض ، وهو الخطرة ، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل همّ يوسف عليه‌السلام والعبد غير مأخوذ به ، ما لم يتكلّم به أو يعمل» (١) ، وقيل : همّت به همّ شهوة وقصد للفاحشة ، وهمّ هو بضربها. ولا أدري كيف يتفق هذا القول ، وقوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

والقول الجزل الفحل هو ما ذكرناه أوّلا ، وصرّحت به الرواية الصحيحة عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام. والسرّ في إظهاره في هذا الأسلوب ـ والله أعلم ـ : تصوير المشهد المثير المغري العرم ، الذي هيّأته امرأة العزيز لنبي الله يوسف ، وأنه لو لا عصمة الله له ، وفطرته النبوية الزكيّة ، لكانت

__________________

(١) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٤١٩.

٢٢٤

الاستجابة لها ، والهمّ بها أمرا محقّقا. وفي هذا تكريم ليوسف ، وشهادة له بالعفّة البالغة ، والطهارة الفائقة.

١٩ ـ الإسرائيليات في سبب لبث يوسف في السجن

ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين في مدة سجن يوسف عليه‌السلام وفي سبب لبثه في السجن بضع سنين ، وذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(١).

فقد ذكر ابن جرير ، والثعلبي ، والبغوي ، وغيرهم أقوالا كثيرة في هذا ، فقد قال وهب بن منبّه : أصاب أيوب البلاء سبع سنين ، وترك يوسف في السجن سبع سنين ، وعذّب بختنصر يجول في السباع سبع سنين (٢).

وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربك. قيل له : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا ، لأطيلنّ حبسك ، فبكى يوسف ، وقال : يا ربّ أنسى قلبي كثرة البلوى ؛ فقلت كلمة ، ولن أعود.

وقال الحسن البصري : دخل جبريل عليه‌السلام على يوسف في السجن ، فلمّا رآه يوسف عرفه ، فقال له : يا أخا المنذرين ، إني أراك بين الخاطئين! فقال له جبريل : يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ، ويقول لك : أما استحيت مني أن استشفعت بالآدميين؟! فو عزّتي وجلالي لألبثنّك في السجن

__________________

(١) يوسف / ٤٢.

(٢) لا ندري ما المناسبة بين نبي الله ، وبختنصر الذي أذلّ اليهود وسباهم؟.

٢٢٥

بضع سنين ، فقال يوسف : وهو في ذلك عني راض ، قال : نعم ، قال : إذا لا أبالي.

وقال كعب الأحبار : قال جبريل ليوسف : إن الله تعالى يقول : من خلقك؟ قال : الله عزوجل قال : فمن حببك إلى أبيك؟ قال : الله ، قال : فمن نجاك من كرب البئر؟ قال : الله ، قال فمن علّمك تأويل الرؤيا؟ قال الله ، قال : فمن صرف عنك السوء ، والفحشاء؟ قال : الله ، قال : فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ (١). فلما انقضت سبع سنين ـ قال الكلبي : وهذه السبع سوى الخمسة (٢) التي قبل ذلك ـ جاءه الفرج من الله ، فرأى الملك ما رأى من الرؤيا العجيبة ، وعجز الملأ عن تفسيرها ، تذكّر الساقي يوسف ، وصدق تعبيره للرؤى ، فذهب إلى يوسف ، فعبّرها له خير تعبير ؛ فكان ذلك سبب نجاته من السجن ، وقول امرأة العزيز : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).

وأغلب الظن عندنا أن هذا من الإسرائيليات ، فقد صوّرت سجن يوسف على أنه عقوبة من الله لأجل الكلمة التي قالها ، مع أنه عليه‌السلام لم يقل هجرا ، ولا منكرا ، فالأخذ في أسباب النجاة العاديّة ، وفي أسباب إظهار البراءة والحق ، لا ينافي قط التوكّل على الله تعالى. والبلاء للأنبياء ليس عقوبة ، وإنما هو لرفع درجاتهم ، وليكونوا أسوة وقدوة لغيرهم ، في باب الابتلاء. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل».

وقد روى ابن جرير هاهنا حديثا مرفوعا ، فقال : حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن

__________________

(١) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٤٢٨.

(٢) بعض المفسرين لا يكتفي بالسبع بل يضم إليها خمسا قبل ذلك. ولا أدري ما مستنده في هذا؟ وظاهر القرآن لا يشهد له. ولو كان كذلك لصرّح به القرآن ، أو أشار إليه.

٢٢٦

عباس مرفوعا ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لم يقل ـ يعني يوسف ـ الكلمة التي قالها ، ما لبث في السجن طول ما لبث ، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله».

ولو أن هذا الحديث كان صحيحا أو حسنا ؛ لكان للمتمسّكين بمثل هذه الإسرائيليات التي أظهرت سيدنا يوسف بمظهر الرجل المذنب المدان وجهة ، ولكن الحديث شديد الضعف ، لا يجوز الاحتجاج به أبدا.

قال الحافظ ابن كثير : «وهذا الحديث ضعيف جدا (١) ؛ لأن سفيان بن وكيع ـ الراوي عنه ابن جرير ـ ضعيف ، وإبراهيم بن يزيد أضعف منه أيضا ، وقد روى عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما ، وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل (٢) ، ولو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن ، والله أعلم» (٣). وقد تكلّف بعض المفسرين للإجابة عما يدل عليه هذا الحديث. وحاله كما سمعت. بل تكلّف بعضهم ، فجعل الضمير في «فأنساه» ليوسف ، وهو غير صحيح ، لأنّ الضمير يعود إلى الذي نجا منهما ؛ بدليل قوله تعالى بعد ذلك : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ...) فالذي تذكر هو الذي أنساه الشيطان ، والذي يجب أن نعتقده أن يوسف عليه‌السلام مكث في السجن ـ كما قال الله تعالى ـ بضع سنين.

والبضع : من الثلاث إلى التسع ، أو إلى العشر ، من غير تحديد للمدة ، فجائز أن تكون سبعا ، وجائز أن تكون تسعا ، وجائز أن تكون خمسا ، ما دام ليس هناك نقل صحيح عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك نعتقد أنه لم يكن عقوبة على كلمة ،

__________________

(١) الضعيف جدا لا يحتج به لا في الأحكام ولا في الفضائل ، فما بالك في مثل هذا؟

(٢) لأن المرسل احتج به بعض المحدّثين إذا تضافر أما في مثل هذا الذي فيه إدانة بعض الأنبياء ، وإلقاء اللوم عليه فلا.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٧٩.

٢٢٧

وإنما هو بلاء ورفعة درجة.

٢٠ ـ الإسرائيليات في شجرة طوبى

ومن الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(١).

فمن ذلك ما رواه ابن جرير بسنده ، عن وهب ، قال : إن في الجنة شجرة يقال لها : طوبى ، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، زهرتها رياض ، وورقها برود ، وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووحلها مسك ؛ يخرج من أصلها أنهار الخمر ، واللبن ، والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة ، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم ، يقودون نجبا (٢) مزمومة بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح حسنا ، ووبرها كخز المرعزي من لينه ، عليها رحال (٣) ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب ، وثيابها من سندس ، وإستبرق ، فينيخونها ، ويقولون : إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه ، وتسلّموا عليه. قال : فيركبونها في أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش ، نجبا من غير مهنة ، يسير الرجل إلى جنب أخيه ، وهو يكلّمه ، ويناجيه ، لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى ، ولا برك (٤) راحلة برك الأخرى ، حتى أن الشجرة لتتنحّى عن طريقهم ، لئلّا تفرق بين الرجل وأخيه. قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم ، فيسفر لهم عن وجهه

__________________

(١) الرعد / ٢٩.

(٢) أي إبلا كراما.

(٣) الرحال : ما يوضع على البعير ليركب عليه.

(٤) البرك : الصدر.

٢٢٨

الكريم ، حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : «اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، وحقّ لك الجلال والإكرام. قال : فيقول تعالى عند ذلك : أنا السلام ، ومنّي السلام ، وعليكم السلام ، حقّت رحمتي ، ومحبّتي ، مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب ، وأطاعوا أمري. قال : فيقولون : ربنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك حق قدرك ، فأذن لنا في السجود قدّامك. قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ، ولا عبادة ، ولكنها دار ملك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم ، فإنّ لكل رجل منكم أمنيّته. فيسألونه ، حتى أن أقصرهم أمنيّة ليقول : ربّي تنافس أهل الدنيا في دنياهم ، فتضايقوا فيها ، ربّ فآتني كل شيء كانوا فيه ، من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا ، فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك أمنيتك ، ولقد سألت دون منزلتك ، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي ؛ لأنه ليس في عطائى نكد ، ولا قصر يد. قال : ثم يقول : أعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال. قال : فيعرضون عليهم حتى يقضوهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة ، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة ، على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة ، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة ، متظاهرة ، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين ، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة. وليس في الجنة لون إلّا وهو فيهما ، ولا ريح ولا طيب إلّا قد عبق بهما ، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة ، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة ، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض من ياقوتة حمراء ، تريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ، ويرى هو لهما مثل ذلك. ثم يدخل إليهما فتحييانه وتقبّلانه ، وتعانقانه ، وتقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك. ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة ، حتى

٢٢٩

ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدّت له (١).

وقد وصف ابن كثير في تفسيره هذا الأثر بأنه غريب عجيب وساقه. وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده ، عن وهب أيضا ، وزاد زيادات أخرى (٢).

٢١ ـ الإسرائيليات في إفساد بني إسرائيل

ومن الإسرائيليات في كتب التفسير ما يذكره بعض المفسرين عند قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٣).

وليس من قصدنا هنا تحقيق مرّتي إفسادهم ، ومن سلط عليهم في كلتا المرتين ، فلذلك موضع آخر (٤).

__________________

(١) تفسير الطبري ، عند تفسير هذه الآية ، ج ١٣ ، ص ١٤٨ (ط ٢) ، الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٦٠.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٥١٣. وتفسير البغوي ، ج ٣ ، ص ١٨.

(٣) الإسراء / ٤ ـ ٨.

(٤) الذي نرجّحه أن العباد ذوي البأس الشديد الذين نكلوا بهم ، وأذلوهم ، وسبوهم ، هم

٢٣٠

وإنما الذي يتّصل ببحثنا بيان ما روي من الإسرائيليات في هاتين المرتين ، واسم من سلط عليهم ، وصفته وكيف كان ، وإلى مصار أمره ، وقد كانت معظم الروايات في بيان العباد ذوى البأس الشديد الذين سلطوا عليهم ، تدور حول «بختنصر» البابلي. وقد أحاطوه بهالة من العجائب والغرائب ، والمبالغات التي لا تصدق. وقد أخرج هذه الروايات ابن جرير في تفسيره ـ وأكثر منها جدا (١) ـ وابن أبي حاتم والبغوي (٢) ، وغيرهم ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وعن سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وعن السدّي ، وعن وهب بن منبّه ، وابن إسحاق ، وغيرهم. وخرّجها من غير ذكر أسانيدها ، مع عزوها إلى مخرجيها السيوطي في «الدر المنثور» (٣).

وفيها ـ ولا شك ـ الكثير من أكاذيب بني إسرائيل التي اختلقها أسلافهم ، وتنوقلت عليهم ، ورواه أخلافهم من مسلمة أهل الكتاب الذين أسلموا ، وأخذها عنهم بعض الصحابة والتابعين تحسينا للظن بهم ، ورواها من غير تنبيه إلى ما فيها.

وفي هذه الأخبار الإسرائيلية ما يحتمل الصدق والكذب ، ولكن الأولى عدم الاشتغال به ، وأن لا نفسر القرآن به ، وأن نقف عند ما قصّه الله علينا ، من غير أن نفسد جمال القرآن وجلاله ، بمثل هذه الإسرائيليات.

__________________

بختنصر وجنوده ، وأن الآخرين الذين أساءوا وجوههم ، ودخلوا المسجد الأقصى هم «طيطوس» الروماني وجيوشه ، فقد أساموهم سوء العذاب ، وتأمل في قوله : «وإن عدتم عدنا» فإنه يدل على أنهم سيعودون ثم يفسدون ، فيرسل الله لهم من يسومهم العذاب ألوانا.

(١) تفسير الطبري ، ج ١٥ ، ص ١٦ ـ ٣٤.

(٢) تفسير البغوي ، ج ٥ ، ص ١٤٤ ـ ١٥٤.

(٣) ج ٤ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٦.

٢٣١

وقد أكثر ابن جرير هنا من النقل عن ابن إسحاق ، وفي بعضها روى عن ابن إسحاق عمن لا يتّهم ، عن وهب بن منبّه (١) ، وفي بعضها بسنده عن وهب بن منبّه في ذكر ابن إسحاق ، وبذلك وقفنا على من كان المصدر الحقيقي لهذه المرويات ، وأنه وهب ، وأمثاله ، من مسلمة أهل الكتاب.

وقد سوّد ابن جرير بضع صفحات من كتابه في النقل عن ابن إسحاق وعن وهب ، ولا أحب أن أنقل هذا بنصه ، فإنّ في ذلك تسويدا للصفحات ، ولكني سأذكر البعض ؛ ليكون القارئ لهذا التفسير على حذر من مثل ذلك.

قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق قال : «كان مما أنزل الله على موسى (٢) في خبره عن بني إسرائيل ، وفي أحداثهم ، ما هم فاعلون بعده ، فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)(٣) إلى قوله : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً).

فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم متعطفا عليهم ، محسنا إليهم ، فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى ، مما أنزل بهم في ذنوبهم ، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع : أن ملكا منهم كان يدعى صديقة ، وكان الله إذا ملك الملك عليهم بعث نبيا يسدّده ، ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدّث إليه في أمرهم لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة ، والأحكام التي فيها ، وينهونهم

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١٥ ، ص ٢٩.

(٢) المراد أنزل معناه لا لفظه ، فالتوراة لم تكن بالعربية ، ولا كان لسان موسى عليه‌السلام عربيا.

(٣) الإسراء / ٤.

٢٣٢

عن المعصية ، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة. فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعياء بن أمصيا ، وذلك قبل مبعث زكريا ، ويحيى وعيسى ، وشعياء الذي بشّر بعيسى ، ومحمد ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل ، وبيت المقدس زمانا ، فلما انقضى ملكه ، عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم «سنجاريب» ملك بابل ، ومعه ستمائة ألف راية (١) ، فأقبل سائرا ، حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض ، في ساقه قرحة ، فجاء النبي شعياء ، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن «سنجاريب» ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده ، ستمائة ألف راية ، وقد هابهم الناس ، وفرقوا (٢) منهم. فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبي الله ، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به؟ كيف يفعل الله بنا ، وبسنجاريب وجنوده؟ فقال له النبي عليه‌السلام : لم يأتني وحي ، أحدث إليّ في شأنك ، فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته ، فإنك ميت.

ثم استرسل ابن جرير في الرواية ، حتى استغرق ذلك أربع صفحات كبار من كتابه (٣) ، لا يشك الناظر فيها أنها من أخبار بني إسرائيل ، وفيما ذكره ابن جرير عن ابن إسحاق الصدق ، والكذب ، والحق ، والباطل ولسنا في حاجة إليه في تفسير الآيات.

وفي الإفساد الثاني ـ ومن سلط عليهم ـ روى ابن جرير أيضا ، قال : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه ، قالا : حدثنا

__________________

(١) من المبالغات التي لا تصدق ، وكن على ذكر مما نقلناه عن العلامة ابن خلدون فيما سبق.

(٢) أي خافوا.

(٣) ج ١٥ ، ص ١٨ ـ ٢١.

٢٣٣

إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثنا ابن عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه. وحدّثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتّهم ، عن وهب بن منبّه اليماني ـ واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول ـ يعني وهب بن منبه.

قال الله تبارك وتعالى لأرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل : يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك. ولأمر عظيم اختبأتك ، فبعث الله «أرميا» إلى ذلك الملك من بني إسرائيل ، يسدّده ، ويرشده ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه ، وبين الله ، قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم ، ونسوا ما كان الله سبحانه وتعالى صنع بهم ، وما نجاهم من عدوّهم «سنجاريب» وجنوده ، فأوحى الله إلى أرمياء : أنت ائت قومك من بني إسرائيل ، واقصص عليهم ما آمرك به ، وذكّرهم نعمتي عليهم ، وعرّفهم أحداثهم.

واسترسل وهب بن منبه فيما يذكره من أخبار بني إسرائيل ، حتى استغرق ذلك من تفسير ابن جرير ثلاث صفحات كبار (١) إلى غير ذلك ، مما ذكره ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغيرهما ، من قصص عجيب غريب في «بختنصر» هذا ، وما خرب من البلاد وما قتل من العباد.

الكذب على رسول الله بنسبة هذه الإسرائيليات إليه

ولو أن هذه الإسرائيليات والأباطيل وقف بها عند رواتها من أهل الكتاب الذين أسلموا ، أو عند من رواها عنهم من الصحابة والتابعين لهان الأمر ، ولكن عظم الإثم أن تنسب هذه الإسرائيليات إلى المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صراحة ، ولا أشك أن هذا الدسّ من عمل زنادقة اليهود.

__________________

(١) ج ١٥ ، ص ٢٩ ـ ٣٣.

٢٣٤

روى ابن جرير في تفسيره ، قال : حدثنا عصام بن داود بن الجرّاح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إن بني إسرائيل لما اعتدوا ، وعلوا ، وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك فارس (بختنصر) ، وكان الله ملّكه سبعمائة سنة (١) ، فسار إليهم ، حتى دخل بيت المقدس ، فحاصرها ، وفتح ، وقتل على دم زكريا سبعين ألفا ، ثم سبى أهلها ، وبني الأنبياء ، وسلب حلي بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ، ومائة ألف عجلة من حلي ، حتى أوردها بابل» (٢) ، قال حذيفة : فقلت يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ، قال : أجل ، بناه سليمان بن داود من ذهب ، ودر ، وياقوت ، وزبرجد ، وكان بلاطة من ذهب ، وبلاطة من فضة ، وعمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخّر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار (بختنصر) بهذه الأشياء ، حتى دخل بها بابل ، فأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة ، تعذّبهم المجوس ، وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء ، وأبناء الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس ـ يقال له : (كورش) وكان مؤمنا ـ أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم ، فسار (كورش) ببني إسرائيل ، وحلي بيت المقدس ، حتى ردّه إليه.

فأقام بنو إسرائيل مطيعين الله مائة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلّط الله عليهم (بطيانموس) ، فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر ، فغزا بني إسرائيل ، حتى أتاهم

__________________

(١) وأي جرم أعظم من أن ينسب هذا التخريف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

(٢) مبالغات وأكاذيب تنزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها.

٢٣٥

بيت المقدس ، فسبى أهلها ، وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم : يا بني إسرائيل ، إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء ، فعادوا في المعاصي ، فسيّر الله عليهم السباء الثالث ، ملك رومية ، يقال له : (فاقس بن اسبايوس) (١) فغزاهم في البر والبحر فسباهم ، وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويردّه المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة ، وسبعمائة سفينة ، يرسي بها على «يافا» ، حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين. والغريب من ابن جرير ، كيف استجاز أن يذكر هذا الهراء ، وهذه التخريفات عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان عليه أن يصون كتابه عن أن يسوّده بأمثال هذه المرويات الباطلة (٢).

قال الإمام الحافظ ابن كثير :

«وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطوّلا ، وهو حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث ، والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره ، وإمامته ، وقد صرّح شيخنا أبو الحجاج المزي بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب ـ يعني كتاب تفسير ابن جرير ـ وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية ، لم أر تطويل الكتاب بذكرها ؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ولله الحمد ، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ، ولا رسوله إليهم ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا ، سلط الله عليهم عدوّهم ،

__________________

(١) في تفسير البغوي «قاقس بن استيانوس».

(٢) تفسير الطبري ، ج ١٥ ، ص ١٧ ـ ١٨

٢٣٦

فاستباح بيضتهم ، وسلك خلال بيوتهم ، وأذلّهم ، وقهرهم جزاء وفاقا ، وما ربّك بظلّام للعبيد ، فإنّهم كانوا قد تمرّدوا وقتلوا خلقا كثيرا من الأنبياء والعلماء (١).

قال أبو شهبة : وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يصار إليه في الآية ، والقصص القرآني لا يعني بذكر الأشخاص ، ولا الأماكن ؛ لأن الغرض منه العبرة ، والتذكير ، والتعليم والتأويل. والذي دلّت عليه الآية أنهم أفسدوا مرتين في الزمن الأوّل ، وظلموا وبغوا ، فسلّط الله عليهم في الأولى من أذلهم وسباهم ، ولا يعنينا أن يكون هذا (سنجاريب) أو (بختنصر) وجيشه ؛ إذ لا يترتّب على العلم به فائدة تذكر ، وسلّط الله عليهم في الثانية من أذلهم ، وساء وجوههم ، ودخل المسجد الأقصى ، فأفسد فيه ، ودمّر ، ولا يعنينا أن يكون هذا الذي نكل بهم هو (طيطوس) الروماني أو غيره ؛ لأن المراد من سياق قصته : ما قضاه الله على بني إسرائيل أنهم أهل فساد ، وبطر ، وظلم ، وبغي ، وأنهم لما أفسدوا وطغوا ، وتجبّروا سلّط الله عليهم من عباده من نكل بهم ، وأذلّهم ، وسباهم ، وشرّدهم ، ثم إن الآيات دلّت أيضا على أن بني إسرائيل لا يقف طغيانهم ، وبغيهم ، وإفسادهم عند المرتين الأوليين ، بل الآية توحي بأن ذلك مستمر إلى ما شاء الله ، وأن الله سيسلط عليهم من يسومهم العذاب ، ويبطش بهم ، ويرد ظلمهم وعدوانهم ، قال عز شأنه : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا)(٢) ، أليس في قوله هذا إنذار ووعيد لهم إلى يوم القيامة؟! بلى.

وما يؤكد هذا الإنذار والوعيد قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ٢٥. وتفسير البغوي ، ج ٣ ، ص ٩٧ ـ ١٠٥.

(٢) الإسراء / ٨.

٢٣٧

رَحِيمٌ)(١) ، فهل يسلط الله عليهم اليوم من يردّ ظلمهم وبغيهم ، وطردهم أهل فلسطين من ديارهم ، واغتصاب الديار ، واستذلال العباد ، واستهانتهم بالقيم الخلقية ، والحقوق الإنسانية؟.

ذلك ما نرجو ، وما ذلك على المسلمين بعزيز ، لو وحّدوا الكلمة ، وجمعوا الصفوف ، وأخذوا الحذر والأهبة ، وأعدوا لهم العدة ، فاللهم حقّق وأعن.

٢٢ ـ الإسرائيليات في قصة أصحاب الكهف

ومن قصص الماضين التي أكثر فيها المفسرون من ذكر الإسرائيليّات قصّة أصحاب الكهف ، فقد ذكر ابن جرير ، وابن مردويه ، وغيرهما الكثير من أخبارهم التي لا يدلّ عليها كتاب الله تعالى ، ولا يتوقف فهم القرآن وتدبّره عليها.

فمن ذلك ما ذكره ابن جرير في تفسيره ، عن ابن إسحاق ، صاحب السيرة في قصّتهم ، فقد ذكر نحو ثلاث ورقات ، وذكر عن وهب بن منبّه ، وابن عباس ومجاهد أخبارا كثيرة أخرى (٢) ، وكذلك ذكر السيوطي في «الدر المنثور» (٣) ، الكثير ممّا ذكره المفسرون عن أصحاب الكهف ، عن هويّتهم ، ومن كانوا؟ وفي أي زمان ومكان وجدوا؟ وأسمائهم؟ واسم كلبهم؟ وأ هو قطمير أم غيره؟ وعن لونه أهو أصفر أم أحمر؟ بل روى ابن أبي حاتم من طريق سفيان ، قال : رجل بالكوفة يقال له : عبيد ـ وكان لا يتّهم بالكذب ـ قال : رأيت كلب أصحاب الكهف

__________________

(١) الأعراف / ١٦٧.

(٢) تفسير الطبري ، ج ١٥ ، ص ١٣٣ وما بعدها.

(٣) الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢١١ ـ ٢١٨.

٢٣٨

أحمر ، كأنه كساء أنبجاني (١) ، ولا أدري كيف كان لا يتّهم بالكذب ، وما زعم كذب لا شك فيه ، فهل بقي كلب أصحاب الكهف حتى الإسلام؟! وكذلك ذكروا أخبارا غرائب في الرقيم ، فمن قائل : إنه قرية ، وروى ذلك عن كعب الأحبار ، ومن قائل : إنه واد بفلسطين ، بقرب أيلة ، وقيل : اسم جبل أصحاب الكهف إلى غير ذلك. مع أن الظاهر أنه كما قال كثير من السلف : إنه الكتاب أو الحجر الذي دوّن فيه قصّتهم وأخبارهم ، أو غير ذلك ، مما الله أعلم به ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، أي مرقوم ، وفي الكتاب الكريم : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ)(٣).

وفي هذه الأخبار : الحق والباطل ، والصدق والكذب ، وفيها ما هو محتمل للصدق والكذب ، ولكن فيما عندنا غنية عنه ، ولا فائدة من الاشتغال بمعرفته وتفسير القرآن به ، كما أسلفنا ، بل الأولى والأحسن أن نضرب عنه صفحا ، وقد أدّبنا الله بذلك ؛ حيث قال لنبيه بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب في عدد أصحاب الكهف : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٤).

وغالب ذلك ما أشرنا إليه وغيره متلقّى عن أهل الكتاب الذين أسلموا. وحمله عنهم بعض الصحابة والتابعين لغرابته والعجب منه ، قال ابن كثير في تفسيره : «وفي تسميتهم بهذه الأسماء ، واسم كلبهم ، نظر في صحته والله أعلم ـ

__________________

(١) نسبة إلى أنبج بلد تعرف بصنع الأكسية.

(٢) المطففين / ١٩ و ٢٠.

(٣) المطففين / ٨ و ٩.

(٤) الكهف / ٢٢.

٢٣٩

فإن غالب ذلك متلقّى من أهل الكتاب ، وقد قال تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي سهلا هيّنا لينا ، فإنّ الأمر في معرفة ذلك لا يترتّب عليه كبير فائدة (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي فإنّهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم ، رجما بالغيب ، أي من غير استناد إلى كلام معصوم ، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه ، فهو المقدّم على كلّ ما تقدّمه من الكتب والأقوال» (١).

٢٣ ـ الإسرائيليات في قصة ذي القرنين

ومن الإسرائيليات التي طفحت بها بعض كتب التفسير ما يذكرونه في تفاسيرهم ، عند تفسير قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً ...)(٢) و

قد ذكر ابن جرير في تفسيره بسنده ، عن وهب بن منبّه اليماني ـ وكان له علم بالأحاديث الأولى ـ أنه كان يقول : «ذو القرنين رجل من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر ، وإنما سمّي ذا القرنين ؛ أن (٣) صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، فلما بلغ وكان عبدا صالحا ، قال الله عزوجل له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمّتان بينهما طول الأرض كلّه ، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض

__________________

(١) تفسير ابن كثير عند قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، ج ٣ ، ص ٧٨.

(٢) الكهف / ٨٣ وما بعدها.

(٣) أي لأن.

٢٤٠