التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

تَهْتَدُونَ)(١) ، وبذلك تظهر المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها مباشرة ، والآيات التي قبل ذلك.

أما ما ذكروه فليس هناك ما يشهد له من عقل ، ولا نقل صحيح ، بل هو يخالف الواقع الملموس ، والمشاهد المتيقن ، وقد أصبحت الصين وما وراءها معلوما كل شبر فيها ، فأين هم؟ ، ثم ما هذا النهر من الشهد؟! وما هذا النهر من الرمل؟! وأين هما؟! ثم أي فائدة تعود على الإسلام والمسلمين من التمسّك بهذه الروايات التي لا خطام لها ، ولا زمام؟! ، وما ذا يكون موقف الداعية إلى الإسلام في هذا العصر الذي نعيش فيه ، إذا انتصر لمثل هذه المرويات الخرافية الباطلة؟! إن هذه الروايات لو صحت أسانيدها لكان لها بسبب مخالفتها للمعقول ، والمشاهد الملموس ما يجعلنا في حلّ من عدم قبولها ، فكيف وأسانيدها ضعيفة واهية؟! وقد نبّهنا غير مرة أن كونها صحيحة السند فرضا لا ينافي كونها من الإسرائيليات.

١٥ ـ الإسرائيليات في نسبة الشرك إلى آدم وحواء

ومن الروايات التي لا تصحّ ، ومرجعها إلى الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها (٢) فَلَمَّا تَغَشَّاها (٣) حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا

__________________

(١) الأعراف / ١٥٨.

(٢) ليجد فيها سكن النفس وطمأنينة القلب.

(٣) أي : باشرها كما باشر الرجل زوجته.

٢٠١

أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١).

وهذه الآية تعتبر من أشكل آيات القرآن الكريم ؛ لأن ظاهرها يدل على نسبة الشرك لآدم وحواء ، وذلك على ما ذهب إليه جمهور المفسرين : من أن المراد بالنفس الواحدة : نفس آدم عليه‌السلام وبقوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) حواء. وقد أوّل العلماء المحققون الآية تأويلا يتّفق وعصمة الأنبياء في عدم جواز إسناد الشرك إليهم عليهم‌السلام كما سنبين ذلك.

الحديث المرفوع ، والآثار الواردة في هذا

وقد زاد الطين بلة ما ورد من الحديث المرفوع ، وبعض الآثار عن بعض الصحابة والتابعين ، في تفسير قوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقد اغترّ بهذه الروايات كثير من المفسرين ، كابن جرير (٢) ، والثعلبي ، والبغوي (٣) والقرطبي (٤) ، وإن كان قد ضعف الروايات ، ولم تركن نفسه إليها ، واعتبرها من الإسرائيليات ، وصاحب «الدر المنثور» (٥).

والعجيب أن مفسرا معروفا له في ردّ الموضوعات والإسرائيليات يد طولى ، وهو الآلوسي قد انخدع بهذه المرويات ، فقال : «وهذه الآية عندي من

__________________

(١) الأعراف / ١٨٩ و ١٩٠.

(٢) تفسير الطبرى ، ج ٩ ، ص ٩٧.

(٣) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٢٢١.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٣٣٨ و ٣٣٩.

(٥) الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ١٥١.

٢٠٢

المشكلات ، وللعلماء فيها كلام طويل ، ونزاع عريض ، وما ذكرناه هو الذي يشير إليه الجبائي ، وهو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات». ثم قال : «وقد يقال : أخرج ابن جرير عن الحبر : أن الآية نزلت في تسمية آدم ، وحواء ولديهما بعبد الحارث ، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي ، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرا للآية. وأنت قد علمت أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وأراه قد صحّ ، ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري ، في ميدان التأويل ، كما جرى غيره ، والله تعالى الموفق للصواب» (١).

وبعض المفسرين أعرض عن ذكر هذه المرويات ، وذلك كما صنع صاحب «الكشاف» ، وتابعه النسفي.

وبعض المفسرين عرض لها ، ثم بيّن عدم ارتضائه لها ، وذلك كما صنع القرطبي في تفسيره ، فقال : ونحو هذا مذكور في ضعيف الحديث ، وفي الترمذي وغيره ، وفي الإسرائيليات كثير ليس لها إثبات ، فلا يعول عليها من له قلب ، فإن آدم وحواء ، وإن غرّهما بالله الغرور ، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، على أنه قد سطر ، وكتب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خدعهما مرتين : خدعهما في الجنة ، وخدعهما في الأرض» (٢).

ولكن فارس هذه الحلبة وهو ابن كثير ، فقد نقد المرويات نقدا علميا أصيلا ، على مناهج المحدّثين وطريقتهم في نقد الرواة ، وبيّن أصل هذه المرويات ، وأن مرجعها إلى الإسرائيليات.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، ج ٩ ، ص ١٣٩ و ١٤٢.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٣٣٨.

٢٠٣

ولنذكر كلام ابن كثير بنصّه ، وبطوله لنفاسته ، وشدّة الحاجة إليه في هذا المقام ، قال : يذكر المفسرون هاهنا آثارا ، وأحاديث ، سأوردها وأبيّن ما فيها ، ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك ـ إن شاء الله ـ وبه الثقة.

قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد الصمد (قال) (١) : حدثنا عمر بن إبراهيم ، (قال) : حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«ولما ولدت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سمّيه عبد الحارث ، فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث ، فعاش ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» ، وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار ، عن عبد الصمد ابن عبد الوارث به (٢) ، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الصمد ، به ، وقال : هذا حديث حسن غريب ـ يعني انفرد به ـ راويه لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ، ولم يرفعه ، يعني لم ينسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الصمد مرفوعا ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد (٣) ، ولم يخرجاه ، ورواه الإمام أبو محمد ، ابن أبي حاتم ، في تفسيره ، عن أبي زرعة الرازي ، عن هلال بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم به ـ أي ببقية السند ـ مرفوعا ، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه ، في تفسيره ، من حديث شاذ بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم مرفوعا.

__________________

(١) جرت عادة المحدثين أن يحذفوا من الأسانيد لفظ (قال) خطّا ، ولكنهم ينطقون بها عند الرواية ، وقد ذكرناها خطّا حتى لا يشكل الأمر على قارئ السند.

(٢) يعني ببقية السند المذكور أولا.

(٣) أى صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم.

٢٠٤

قلت : ـ أي ابن كثير ـ وشاذ هو : هلال ، وشاذ لقبه.

والغرض : أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثّقه ابن معين ، وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعا.

الثاني : أنه قد روى من قول سمرة نفسه ، ليس مرفوعا ، كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، (قال) : حدثنا المعتمر عن أبيه ، (قال) : حدثنا بكر بن عبد الله ، عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب ، قال : «سمى آدم ابنه عبد الحارث».

والثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه ، قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع (قال) : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) ، قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم. وحدثنا (١) محمد بن عبد الأعلى : (قال) : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : قال الحسن : عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده ، يعني : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما). وحدثنا (٢) بشر (قال) : حدثنا يزيد ، (قال) : حدثنا سعيد عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا ، فهوّدوا ونصّروا (٣).

__________________

(١) القائل : وحدثنا هو ابن جرير.

(٢) راجع الهامش السابق.

(٣) فيه إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه ، أو يمجسانه» رواه البخاري ومسلم ، وما روي عن الحسن ـ رضي الله عنه ـ ليس اختلاف تضاد وإنما هو اختلاف تغاير في اللفظ ، والمدلول واحد أو متقارب.

٢٠٥

وقال ابن كثير : وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير ، وأولى ما حملت عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما عدل عنه هو ، ولا غيره ، ولا سيما مع تقواه لله ، وورعه.

فهذا يدلّك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب : من آمن منهم مثل كعب ، أو وهب بن منبه وغيرهما ، كما سيأتي بيانه ، إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع ، والله أعلم (١).

فأما الآثار فقال محمد بن إسحاق بن سيار ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : «كانت حواء تلد لآدم عليه‌السلام أولادا فيعبّدهم لله ، ويسميهم عبد الله ، وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس ، فقال : إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش ، قال : فولدت له رجلا ، فسماه عبد الحارث ، ففيه أنزل الله يقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إلى آخر الآية ، وقال العوفي عن ابن عباس ، قوله في آدم : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، إلى قوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) : شكّت أحملت أم لا؟ (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) ، الآية ، فأتاهما الشيطان ، فقال : هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة ، أم لا؟ ، وزيّن لهما الباطل ، إنه غوى مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين ، فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي ، لم يخرج سويا ، ومات كما مات الأول ، فسميا ولدهما عبد الحارث ، فذلك قوله : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) الآية.

وقال عبد الله بن المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٢٧٥ وتفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٢٢١ و ٢٢٢.

٢٠٦

ابن عباس في قوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) قال الله تعالى : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) آدم (حملت) ، أتاهما إبليس ـ لعنه الله ـ فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنّة ، لتطيعاني ، أو لأجعلنّ له قرني أيّل (١) ، فيخرج من بطنك ، فيشقه ، ولأفعلن ، ولأفعلن ، يخوّفهما ، فسمّياه (٢) عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت ، يعني الثانية فأتاهما ، فقال لهما مثل الأول ، فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت الثالثة ، فأتاهما أيضا فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمّياه عبد الحارث ، فذلك قوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما). رواه ابن أبي حاتم.

وقد نسب هذا الأثر إلى ابن عباس وجماعة من أصحابه : كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة. ومن الطبقة الثانية : قتادة ، والسدّي ، وغير واحد من السلف ، وجماعة من الخلف. ومن المفسرين من المتأخرين : جماعات لا يحصون كثرة. وكأنّ أصله مأخوذ من أهل الكتاب ؛ فإنّهم رووا عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، كما رواه ابن أبي حاتم ، قال : حدثنا أبي ، (قال) : حدثنا أبو الجماهر ، (قال) : حدثنا سعيد ـ يعني ابن بشير ـ عن عقبة ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، قال :

لمّا حملت حواء أتاها الشيطان ، فقال لها : أتطيعيني ويسلم لك ولدك؟ سمّيه عبد الحارث ، فلم تفعل فولدت ، فمات ، ثم حملت ، فقال لها مثل ذلك ، فلم تفعل ، ثم حملت الثالثة ، فجاءها فقال : إن تطيعيني يسلم ، وإلّا فإنه يكون بهيمة ، فهيّبهما ، فأطاعا.

__________________

(١) الأيّل بضم الهمزة وكسرها ، والياء فيها مشددة مفتوحة : ذكر الأوعال ، وهو التيس الجبلي.

(٢) بصيغة الأمر.

٢٠٧

قال : وهذه الآثار يظهر عليها ـ والله أعلم ـ أنها من آثار أهل الكتاب. ثمّ بيّن أن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام :

١. فمنها : ما علمنا صحته مما بأيدينا من كتاب أو سنة.

٢. ومنها : ما علمنا كذبه بما دلّ على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.

٣. ومنها : ما هو مسكوت عنه ، فهو المأذون في روايته

بقوله عليه‌السلام : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (١) ، وهو الذي لا يصدق ، ولا يكذب ، قال : وهذا الأثر من الثاني أو الثالث ، فيه نظر (٢).

قال : فأما من حدّث به من صحابي أو تابعي ، فإنه يراه من القسم الثالث ـ يعني ما يحتمل الصدق والكذب ـ وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق : آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك : المشركون من ذريته ؛ ولهذا قال الله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٣) فذكر آدم وحواء أوّلا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين ، وهو كالاستطراد من الشخص إلى الجنس. وهذا الذي ذهب إليه ابن كثير في تخريج الحديث والآثار ، هو الذي يجب أن يصار إليه ، وهو الذي ندين الله عليه ، ولا سيما أن التفسير الحق للآيتين لا يتوقّف على شيء مما روي.

والمحققون من المفسرين ؛ منهم من نحا منحى ابن كثير ، فجعل الآية الأولى

__________________

(١) قد تكلّمنا عن هذا الحديث ، وأنه من ضرب الأمثال ، كناية عن توسّعهم في الفساد والعيث في البلاد.

(٢) لا موضع لهذا الترديد ، بعد وضوح كونه أثرا مكذوبا محضا ، حيث الأنبياء معصومون لا يحتمل بشأنهم شائبة شرك بالله العظيم!

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٢٧٥ وتفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٢٢١ ، ط المنار.

٢٠٨

في آدم وحواء ، وجعل قوله : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) الآية في المشركين من ذرّيتهما ، أي جعلا أولادهما شركاء لله فيما آتاهما ، والمراد بهم : الجنس ، أي جنس الذكر والأنثى ، فمن ثم حسن قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالجمع ، ويكون هذا الكلام من الموصول لفظا المفصول معنى. ومنهم من جعل الآيتين في ذرية آدم وحواء ، أي خلقكم من نفس واحدة ، وهي نفس الذكر ، وجعل منها ، أي من جنسها زوجها ، وهي الأنثى ، فلما آتاهما صالحا ، أي بشرا سويّا كاملا ، جعلا أي الزوجان الكافران لله شركاء فيما آتاهما ؛ وبذلك أبد لا شكر الله كفرانا به وجحودا ، وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر ما في الآيتين. وهنالك تفاسير أخرى ، لسنا منها على ثلج ، ولا طمأنينة (١).

١٦ ـ الإسرائيليات في سفينة نوح

ومن الإسرائيليّات التي اشتملت عليها بعض كتب التفسير ، كتفسير ابن جرير ، و «الدر المنثور» ، وغيرهما ما روي في سفينة نوح عليه‌السلام فقد أحاطوها بهالة من العجائب والغرائب ، من أي خشب صنعت؟ وما طولها؟ وما عرضها؟ وما ارتفاعها؟ ، وكيف كانت طبقاتها؟ وذكروا خرافات في خلقة بعض الحيوانات من الأخرى ، وقد بلغ ببعض الرواة أنهم نسبوا بعض هذا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال صاحب «الدر» : وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رحمهما‌الله عن

__________________

(١) انظر تفاسير الكشّاف ، ج ٢ ، ص ١٨٦ و ١٨٧ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، ج ٧ ، ص ٣٣٧ وتفسير أبي السعود ، ج ٣ ، ص ٣٠٢ ـ ٣٠٤. وروح المعانى للآلوسي ، ج ٩ ، ص ١٣٧ ـ ١٤٢. والتبيان ، ج ٥ ، ص ٥٠ ومجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٧٨٠ ، وغيرها.

٢٠٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كانت سفينة نوح عليه‌السلام لها أجنحة ، وتحت الأجنحة إيوان» ، أقول : قبّح الله من نسب مثل هذا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأخرج ابن مردويه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم» وذكر : أن طول السفينة كان ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعا ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وبابها في عرضها ، ثم ذكر عن ابن عباس مثل ذلك : في طولها ، وارتفاعها ، ثم قال :

وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر ، عن ابن عباس : «أن نوحا لما أمر أن يصنع الفلك ، قال : يا رب ، وأين الخشب؟ ، قال : اغرس الشجر ، فغرس الساج عشرين سنة ، إلى أن قال : فجعل السفينة ستمائة ذراع طولها ، وستين ذراعا في الأرض ـ يعني عمقها ـ ، وعرضها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون (١) وأمر أن يطليها بالقار (٢) ، ولم يكن في الأرض قار ، ففجر الله له عين القار ؛ حيث تنحت السفينة ، تغلي غليانا ، حتى طلاها ، فلما فرغ منها جعل لها ثلاثة أبواب ، وأطبقها ، وحمل فيها السباع ، والدواب ، فألقى الله على الأسد الحمّى ، وشغله بنفسه عن الدواب ، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني ، ثم أطبق عليهما.

وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن الحسن ، قال : «كان طول سفينة نوح عليه‌السلام ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع» وإليك ما ذكره بعد هذا من العجب العجاب ، قال :

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس رحمهما‌الله قال : قال الحواريون لعيسى بن

__________________

(١) لا ندري بأي رواية نصدق ، أبرواية ابن عباس هذه ، أم بالسابقة ، وهذا الاضطراب أمارة الاختلاق ممن وضعوها أوّلا ، وأسندوها إلى ابن عباس وغيره.

(٢) في القاموس : القير ، والقار : شيء أسود تطلى به الإبل ، أو هو : الزفت.

٢١٠

مريم عليهما‌السلام لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة ، فحدّثنا عنها. فانطلق بهم ، حتى انتهى إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب ، قال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كعب حام بن نوح ، فضرب الكثيب بعصاه ، قال : قم بإذن الله ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه ، قد شاب ، قال له عيسى عليه‌السلام : هكذا هلكت؟! ، قال : لا ، مت وأنا شاب ، ولكنّني ظننت أنها الساعة ، فمن ثم شبت ، قال : حدّثنا عن سفينة نوح ، قال : كان طولها ألف ذراع ، ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، كانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح : أن اغمز ذنب الفيل ، فغمزه ، فوقع منه خنزير وخنزيرة!! ، فأقبلا على الروث ، فلما وقع الفأر جعل يخرّب السفينة بقرضه أوحى الله إلى نوح : أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفأر فأكلاه.

وفي رواية أخرى : أن الأسد عطس ، فخرج من منخره سنوران ، ذكر وأنثى ، فأكلا الفأر ، وأن الفيل عطس ، فخرج من منخره خنزيران ، ذكر وأنثى ، فأكلا أذي السفينة. وأنه لما أراد الحمار أن يدخل السفينة أخذ نوح بأذني الحمار ، وأخذ إبليس بذنبه ، فجعل نوح عليه‌السلام يجذبه ، وجعل إبليس يجذبه ، فقال نوح : ادخل شيطان ـ ويريد به الحمار ـ فدخل الحمار ، ودخل معه إبليس. فلما سارت السفينة جلس إبليس في أذنابها يتغنّى ، فقال له نوح عليه‌السلام : ويلك من أذن لك؟! قال : أنت!! قال : متى؟! قال : أن قلت للحمار : ادخل يا شيطان ، فدخلت بإذنك.

وزعموا أيضا : أن الماعز لما استصعبت على نوح أن تدخل السفينة فدفعها في ذنبها ، فمن ثم انكسر ، وبدا حياها ، ومضت النعجة فدخلت من غير معاكسة ، فمسح على ذنبها ، فستر الله حياها ـ يعني فرجها ـ وزعموا أيضا : أن سفينة نوح عليه‌السلام طافت بالبيت أسبوعا ، بل رووا عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن

٢١١

أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا ، وصلّت عند المقام ركعتين»!!

وهذا من تفاهات عبد الرحمن هذا ، وقد ثبت عنه من طرق أخرى ، نقلها صاحب التهذيب (ج ٦ ، ص ١٧٩) عن الساجي ، عن الربيع ، عن الشافعي ، قال : «قيل لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : حدّثك أبوك عن جدك ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن سفينة نوح طافت بالبيت ، وصلّت خلف المقام ركعتين؟»!! قال : نعم ، وقد عرف عبد الرحمن بمثل هذه العجائب المخالفة للعقل ، وتندر به العلماء. قال الشافعي فيما نقل في «التهذيب» أيضا : «ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا ، فقال : اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدّثك عن أبيه ، عن نوح»!

وأن لمّا رست السفينة على الجوديّ وكان يوم عاشوراء صام نوح ، وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا لله ، إلى غير ذلك من التخريفات والأباطيل (١) التي لا نزال نسمعها ، وأمثالها من العوامّ والعجائز ، وهذا لا يمكن أن يمتّ إلى الإسلام بصلة ، وإنا لننزّه المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يصدر عنه ما نسبوه إليه ، وإنما هي أحاديث خرافة اختلقها اليهود وأضرابهم على توالي العصور ، وكانت شائعة مشهورة في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام نشرها أهل الكتاب الذين أسلموا بين المسلمين ، وأوغل زنادقة اليهود وأمثالهم في الكيد للإسلام ونبيّه ، فزوّروا بعضها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما كنا نحب لابن جرير ، ولا للسيوطي ، ولا لغيرهما أن يسوّدوا صحائف كتبهم بهذه الخرافات والأباطيل. فاحذر منها أيها القارئ في أي كتاب من كتب التفسير وجدتها ، وألق بها دبر أذنيك ، وكن عن الحق منافحا وللباطل مزيّفا.

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١٢ ، ص ٢١ ـ ٢٩ ، والدر المنثور ، ج ٣ ، ص ٣٢٧ ـ ٣٣٥.

٢١٢

١٧ ـ الإسرائيليات في قصة يوسف عليه‌السلام

وقد وردت في قصة يوسف عليه‌السلام إسرائيليات ومرويّات مختلقة مكذوبة ، فمن ذلك ما أخرجه ابن جرير في تفسيره ، والسيوطي في «الدر المنثور» وغيرهما ، في قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(١).

قال السيوطي : وأخرج سعيد بن منصور ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي وابن حبان في «الضعفاء» ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه (٢) ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي معا في «الدلائل» ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :

«جاء بستانة يهودي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف عليه‌السلام ساجدة له ، ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يجبه بشيء ، فنزل جبريل عليه‌السلام وأخبره بأسمائها ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البستاني اليهودي ، فقال : «هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال : نعم ، قال : جربان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكفتان ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور (٣) ، رآها في أفق السماء ساجدة له. فلما قص يوسف على يعقوب ، قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله من

__________________

(١) يوسف / ٤.

(٢) تصحيح الحاكم على شرط الشيخين.

(٣) وهناك بعض الاختلاف في الأسماء. وقد جاءت ثلاثة عشر ، والضياء والنور هما الشمس والقمر. كناية عن أبويه.

٢١٣

بعد» ، فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها (١).

والذي يظهر لي أنه من الإسرائيليّات ، وألصقت بالنبي زورا ، ثم إنّ سيدنا يوسف رأى كواكب بصورها لا بأسمائها ، ثم ما دخل الاسم فيما ترمز إليه الرؤيا؟!

ومدار هذه الرواية على الحكم بن ظهير ، وقد ضعّفه الأئمة ، وتركه الأكثرون ، وقال الجوزجاني : ساقط (٢).

وقال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال» (٣) : قال ابن معين : ليس بثقة ، وقال مرة : ليس بشيء ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال مرة : تركوه ، ولعلّه لروايته حديث : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»!!

١٨ ـ الإسرائيليات في قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٤)

ومن الإسرائيليّات المكذوبة التي لا توافق عقلا ولا نقلا ما ذكر ابن جرير في تفسيره ، وصاحب «الدر المنثور» وغيرهما من المفسرين ، في قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فقد ذكروا في همّ يوسف عليه‌السلام ما ينافي عصمة الأنبياء وما يخجل القلم من تسطيره ، لو لا أن المقام مقام بيان وتحذير من الكذب على الله وعلى رسله ، وهو من أوجب الواجبات على أهل

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١٢ ، ص ٩٠ و ٩١ والدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٤.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٦٨ و ٤٦٩.

(٣) ميزان الاعتدال ، ج ١ ، ص ٢٦٨ ، ط السعادة.

(٤) يوسف / ٢٤.

٢١٤

العلم.

فقد رووا عن ابن عباس ـ رضوان الله عليه ـ أنه سئل عن همّ يوسف عليه‌السلام ما بلغ؟ قال : حلّ الهميان ـ يعنى السراويل ـ وجلس منها مجلس الخائن ، فصيح به ، يا يوسف لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش. ورووا مثل هذا عن علي رضى الله عنه وعن مجاهد ، وعن سعيد بن جبير.

ورووا أيضا في البرهان الذي رآه ، ولولاه لوقع في الفاحشة بأنه نودي : أنت مكتوب في الأنبياء ، وتعمل عمل السفهاء ، وقيل : رأى صورة أبيه يعقوب في الحائط ، وقيل : في سقف الحجرة ، وأنه رآه عاضّا على إبهامه ، وأنه لم يتعظ بالنداء ، حتى رأى أباه على هذه الحال. بل أسرف واضعو هذه الإسرائيليّات الباطلة ، فزعموا أنه لما لم يرعو من رؤية صورة أبيه عاضّا على أصابعه ، ضربه أبوه يعقوب ، فخرجت شهوته من أنامله! ولأجل أن يؤيّد هؤلاء الذين افتروا على الله ونبيه يوسف هذا الافتراء ، يزعمون أيضا : أن كل أبناء يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا ما عدا يوسف ، فإنه نقص بتلك الشهوة التي خرجت من أنامله ولدا ، فلم يولد له غير أحد عشر ولدا. بل زعموا أيضا في تفسير البرهان ، فيما روي عن ابن عباس : أنه رأى ثلاث آيات من كتاب الله : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)(٢) ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)(٣) ، وقيل : رأى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ

__________________

(١) الانفطار / ١٠ و ١١.

(٢) يونس / ٦١.

(٣) الرعد / ٣٣.

٢١٥

كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(١)!! ، ومن البديهي أن هذه الآيات بهذا اللفظ العربي لم تنزل على أحد قبل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان الذين افتروا هذا لا يعدمون جوابا ، بأن يقولوا : رأى ما يدل على معاني هذه الآيات بلغتهم التي يعرفونها ، بل قيل في البرهان : إنه أري تمثال الملك ، وهو العزيز ، وقيل : خياله (٢). وكل ذلك مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل وأكاذيبهم التي افتجروها على الله ، وعلى رسله ، وحمله إلى بعض الصحابة والتابعين : كعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، وأمثالهما.

وليس أدل على هذا ، مما روي عن وهب بن منبّه قال : «لما خلا يوسف وامرأة العزيز ، خرجت كفّ بلا جسد بينهما ، مكتوب عليها بالعبرانية : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، ثم انصرفت الكفّ ، وقاما مقامهما ، ثم رجعت الكف بينهما ، مكتوب عليها بالعبرانية (إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ، ثم انصرفت الكفّ ، وقاما مقامهما ، فعادت الكفّ الثالثة مكتوب عليها : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) وانصرفت الكف ، وقاما مقامهما فعادت الكف الرابعة مكتوب عليها بالعبرانية : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٣) ، فولّى يوسف عليه‌السلام هاربا (٤).

وقد كان وهب أو من نقل عنه وهب ذكيا بارعا ، حينما زعم أن ذلك كان مكتوبا بالعبرانية ؛ وبذلك أجاب عما استشكلناه ، ولكن مع هذا لن يجوز هذا

__________________

(١) الإسراء / ٣٢.

(٢) تفسير الطبري ، ج ١٢ ، ص ١٠٨ ـ ١١٤. والدر المنثور ، ج ٤ ، ص ١٣ و ١٤. وتفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٧٤ و ٤٧٥. وتفسير البغوى ، ج ٢ ، ص ٤١٨ ـ ٤٢٠.

(٣) البقرة / ٢٨١.

(٤) الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ١٤.

٢١٦

الكذب إلّا على الأغرار والسذّج من أهل الحديث. ولا ندري أي معنى يبقى للعصمة بعد أن جلس بين فخذيها ، وخلع سرواله؟! وما امتناعه عن الزّنى على مروياتهم المفتراة إلّا وهو مقهور مغلوب؟!

ولو أن عربيدا رأى صورة أبيه بعد مماته تحذّره من معصية لكفّ عنها ، وانزجر ، فأيّ فضل ليوسف إذا ، وهو نبي من سلالة أنبياء؟!!

بل أيّ فضل له فى عدم مقارفته الفاحشة ، بعد ما خرجت شهوته من أنامل قدميه؟! وما امتناعه حينئذ إلّا قسريّ جبريّ!!

ثم ما هذا الاضطراب الفاحش في الروايات؟! أليس الاضطراب الذي لا يمكن التوفيق بينها. وهذا من العلل التي ردّ المحدثون بسببها الكثير من المرويّات؟! لأنها أمارة من أمارات الكذب والاختلاق.

ثم كيف يتفق ما حيك حول نبي الله يوسف عليه‌السلام وقول الحق تبارك وتعالى عقب ذكر الهمّ : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(١) ، فهل يستحق هذا الثناء من حلّ التكّة ، وخلع السروال ، وجلس بين رجليها؟! ولا أدري أنصدق الله تبارك وتعالى أم نصدق كذبة بني إسرائيل ومخرفيهم؟!!

بل كيف يتفق ما روى هو وما حكاه الله عزوجل عن زليخا بطلة المراودة ، حيث قالت : (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٢) وهو اعتراف صريح من

__________________

(١) يوسف / ٢٤. قرئ في السبع بضم الميم وفتح اللام ، أي الذين اصطفاهم واختارهم لنبوته ورسالته ، وقرئ بكسر اللام ، أي الذين أخلصوا لله التوحيد والعبادة ، والمعنى الثاني لازم للأول ، فمن اصطفاء الله لا بد أن يكون مخلصا.

(٢) يوسف / ٥١.

٢١٧

البطلة التي أعيتها الحيل عن طريق التزيّن حينا ، والتودّد إليه بمعسول القول حينا آخر ، والإرهاب والتخويف حينا ثالثا ، فلم تفلح : (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١).

وانظر ما ذا كان جواب السيد العفيف ، الكريم ابن الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم : يوسف بن يعقوب ، بن إسحاق ، بن إبراهيم عليهم‌السلام : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢) وقصده عليه‌السلام بقوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ...) : تبرؤ من الحول والطول ، وأن الحول والقوّة إنّما هما من الله ، وسؤال منه لربّه ، واستعانة به على أن يصرف عنه كيدهنّ ، وهكذا شأن الأنبياء.

بل قد شهد الشيطان نفسه ليوسف عليه‌السلام في ضمن قوله ، كما حكاه الله سبحانه عنه بقوله : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٣) ، ويوسف بشهادة الحق السالفة من المخلصين.

وكذلك شهد ليوسف شاهد من أهلها (٤) ، فقال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)(٥) ، وقد أسفر

__________________

(١) يوسف / ٣٢.

(٢) يوسف / ٣٣ و ٣٤.

(٣) ص / ٨٢ و ٨٣.

(٤) قيل : كان رجلا عاقلا حكيما مجربا من خاصة الملك. وكان من أهلها ، وقيل : كان صبيا في المهد وكان ذلك إرهاصا بين يدي نبوة يوسف ، إكراما له.

(٥) يوسف / ٢٦ ـ ٢٨.

٢١٨

التحقيق عن براءة يوسف وإدانة زليخا ، امرأة العزيز.

فكيف تتفق كل هذه الشهادات الناصعة الصادقة ، وتلك الروايات المزوّرة؟!! وقد ذكر الكثير من هذه الروايات ابن جرير الطبري ، والثعلبي ، والبغوي ، وابن كثير ، والسيوطي ، وقد مر بها ابن كثير بعد أن نقلها حاكيا من غير أن ينبّه إلى زيفها ، وهذا غريب!!

ومن العجيب حقا أن ابن جرير يحاول أن يضعّف في تفسيره مذهب الخلف الذين ينفون هذا الزور والبهتان ، ويفسرون الآيات على حسب ما تقتضيه اللغة وقواعد الشرع ، وما جاء في القرآن والسنة الصحيحة الثابتة ، ويعتبر هذه المرويات التي سقنا لك زورا منها آنفا ؛ هى قول جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين يؤخذ عنهم (١) ، وكذلك تابعه على مقالته تلك الثعلبي والبغوي في تفسيريهما (٢)!!

وهذه المرويات الغثة المكذوبة التي يأباها النظم الكريم ، ويجزم العقل والنقل باستحالتها على الأنبياء عليهم‌السلام هي التي اعتبرها الطبري ومن تبعه «أقوال السلف»!!

بل يسير في خط اعتبار هذه المرويات ، فيورد على نفسه سؤالا ، فيقول : فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا وهو لله نبي؟! ثم أجاب بما لا طائل تحته ، ولا يليق بمقام الأنبياء (٣). قاله الواحدي في تفسيره «البسيط».

وأعجب من ذلك ما ذهب إليه الواحدي في «البسيط» قال : قال المفسرون

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١٢ ، ص ١١٠.

(٢) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٤٢٢.

(٣) تفسير الطبري ، ج ١٢ ، ص ١٠٩ و ١١٠.

٢١٩

الموثوق بعلمهم ، المرجوع إلى روايتهم ، الآخذون للتأويل ، عمن شاهدوا التنزيل : همّ يوسف عليه‌السلام بهذه المرأة همّا صحيحا ، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة منه.

وهي غفلة شديدة من هؤلاء الأئمة لا نرضاها ، ولو لا أنّنا ننزّه لساننا وقلمنا عن الهجر من القول ، وأنهم خلطوا في مؤلّفاتهم عملا صالحا وآخر سيئا لقسونا عليهم ، وحق لنا هذا ، والعصمة لله.

وهذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسرون : إما إسرائيليات وخرافات ، وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء ، الذي أرادوا بها النيل من الأنبياء والمرسلين ، ثم حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا ، وتلقّاها عنهم بعض الصحابة ، والتابعين.

وإما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة ، دسّها عليهم أعداء الأديان ، كي تروج تحت هذا الستار ؛ وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد ، وتعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة الصحيحة.

الفرية على المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله الله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ...)(١)

ولكي يؤيدوا باطلهم الذي ذكرناه آنفا ، رووا عن الصحابة والتابعين ما لا يليق بمقام الأنبياء ، واختلقوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زورا ، وقوّلوه ما لم يقله ، قال صاحب «الدر» :

وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ،

__________________

(١) يوسف / ٥٢.

٢٢٠