التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

يدلّ على أنها إسرائيليات مبتدعة ، وليس مرجعها إلى المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحق أبلج ، والباطل لجلج ، لا يتّفق عليه غالبا.

وسنكتفي بذكر الرواية الطويلة التي ذكرها ابن أبي حاتم ، في تفسيره بسنده ، عن وهب بن منبّه ، عن أبي عثمان المهدي عن سلمان الفارسي ـ رضوان الله عليه ـ وخلاصتها : «أنّ الحواريين لما سألوا عيسى بن مريم عليه‌السلام المائدة كره ذلك ، خشية أن تنزل عليهم ، فلا يؤمنوا بها ؛ فيكون فيها هلاكهم. فلمّا أبوابها إلّا أن يدعو لهم الله لكي تنزل دعا الله ، فاستجاب له ، فأنزل الله تعالى سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها ، وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء ، تهوي إليهم ، وعيسى عليه‌السلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها ، فما زال يدعو حتى استقرّت السفرة بين يديه ، والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة ، لم يجدوا رائحة مثلها قط ، وخرّ عيسى عليه‌السلام والحواريون سجّدا ، شكرا لله تعالى ، وأقبل اليهود ينظرون إليهم ، فرأوا ما يغمّهم ثم انصرفوا ، فأقبل عيسى عليه‌السلام ومن معه ينظرونها ، فإذا هي مغطاة بمنديل ، فقال عليه‌السلام : من أجرؤنا على كشفه ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه ، حتى نراها ، ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا : يا روح الله وكلمته ، أنت أولى بذلك ، فقام واستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلّاه ، فصلّى ركعات ، ثم بكى طويلا ، ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ، ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، وكشف عنها ، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير (١) ، وليس في

__________________

(١) أي قشر ، ففي رواية البغوي : ليس عليها فلوسها.

١٨١

جوفها شوك ، يسيل السمن (١) منها ، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكرّاث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات ، وفي رواية : على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد (٢). فقال شمعون ـ رأس الحواريين ـ لعيسى : يا روح الله وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا ، أم من طعام الجنة؟ ، فقال عيسى : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟! ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال له شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بهذا سؤالا (٣) يا ابن الصدّيقة ، فقال عيسى عليه‌السلام : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ، ولا من طعام الجنّة ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة.

فقالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحبّ أن يرينا الله آية في هذه الآية ، فقال عليه‌السلام : سبحان الله تعالى أما اكتفيتم؟! ثم قال : يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حيّة كما كنت ، فأحياها الله ، وعادت حيّة طريّة. يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشويّة ، فعادت ، ثم دعاهم إلى الأكل فامتنعوا ، حتى يكون هو البادئ ، فأبى ، ثم دعا لها الفقراء والزّمنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ؛ فيكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم : باسم الله تعالى ، واختتموه : بحمد الله. ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاثمائة

__________________

(١) أي الدهن لسمنها.

(٢) قديد : أي لحم مجفّف.

(٣) لعل مراده سؤال تعنت ؛ وأنهم لا يريدون بالسؤال أن يطعمهم الله من رزقه وخيره.

١٨٢

إنسان : بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منها شبعان يتجشأ. ونظر عيسى والحواريون ، فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء ، لم ينقص منها شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون ، فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل من أكل منها ، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم ، إلى يوم الممات (١).

وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل إليها بنو إسرائيل يسعون من كل مكان ، يزاحم بعضهم بعضا. فلما رأى ذلك ، جعلها نوبا تنزل يوما ولا تنزل يوما ، ومكثوا على ذلك أربعين يوما ، تنزل عليهم غبّا ، عند ارتفاع النّهار ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قالوا (٢) ارتفعت عنهم إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض ، حتى تتوارى عنهم (٣).

فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه‌السلام : أن اجعل رزقي لليتامى ، والمساكين ، والزّمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء ، وغمصوا ذلك ، حتى شكوا فيها في أنفسهم ، وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح ، والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين. فلما علم عيسى ذلك منهم قال : هلكتم وإله المسيح ، سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم ، فلما فعل ، وأنزلها عليكم رحمة ورزقا ، وأراكم فيها الآيات والعبر ، كذبتم بها ، وشككتم فيها ؛ فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلّا

__________________

(١) هذا مما يضعف القصة ويدل على الاختلاق ، وإلّا فكيف يطلبونها ، ثم يمتنعون عن الأكل ؛ لأن عيسى لم يبدأ به؟

(٢) من القيلولة : الراحة وسط النهار.

(٣) القرآن الكريم يدل دلالة واضحة على أن المائدة لم تنزل إلّا مرة واحدة ، وهذا يدل على تكرر نزولها ، وهذا أيضا يدل على اختلاق تفاصيل القصة ، وأنها من تزيّدات بني إسرائيل.

١٨٣

أن يرحمكم الله تعالى. وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه‌السلام : إنّي آخذ المكذّبين بشرطي ، فإنّي معذّب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فلما أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير ، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.

قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره : «هذا أثر غريب (١) جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا ليكون سياقة أتم ، وأكمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم».

ومن هذه الروايات الغريبة دخل البلاء على الإسلام والمسلمين ؛ لأن غالبها لا يصح ، ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل : «لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير ، وعامّتها عن الضعفاء».

وقال الإمام مالك : «شرّ العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس».

وقال ابن المبارك : «العلم : الذي يجيئك من هاهنا وهاهنا» يعني المشهور الذي رواه الكثيرون. رواها البيهقي في المدخل ، وروي عن الزهري أنه قال : «ليس من العلم ما لا يعرف ، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن» (٢).

والعمدة أنّ أصل القصة ثابت بالقرآن الذي لا شكّ فيه ، وإنما موضع الشك في كلّ هذه التزيّدات التي هي من الإسرائيليات.

__________________

(١) الغريب : ما تفرّد به رواته في كل السند أو بعضه ، ومنه الصحيح ، ومنه غير الصحيح وهو الغالب والكثير.

(٢) تدريب الراوي ، ص ١٩٢.

١٨٤

وقد ذكر المفسرون جميعا كل ما يدور حول قصّة المائدة ، وإن اختلفوا في ذلك قلّة وكثرة (١). والعجب أن أحدا لم ينبّه على أصل هذه المرويات ، والمنبع الذي نبعت منه ، حتى ابن كثير والآلوسي ـ وإن كان ابن كثير قد أشار من طرف خفيّ إلى عدم صحة معظم ما روي ـ ولعلهم اعتبروا ذلك مما يباح روايته ، ويحتمل الصدق والكذب ، فذكروه من غير إنكار له ؛ وكان عليهم أن ينزّهوا التفسير عن هذا وأمثاله.

وقد شكك في القصة الطويلة التي اختصرناها أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ، فقال : قلت : في هذا الحديث مقال ، ولا يصح من قبل إسناده (٢).

ثم عرض بعد لما روي مرفوعا ، وموقوفا ، وذكر ما قاله الإمام أبو عيسى الترمذي : من أن الموقوف أصحّ ، وأن المرفوع لا أصل له (٣).

قال أبو شهبة : ولأجل أن نكون على بيّنة من أن تفسير الآيات ، والانتفاع بها ، والاهتداء بهديها ليس متوقّفا على ما رووا من أخبار ، وقصص ، نفسر لك الآيات

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ، ج ٧ ، ص ٧٨ وتفسير الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٣٤٦ وتفسير الزمخشري ، ج ١ ، ص ٦٩٣ و ٦٩٤ والتفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ١٢٨ ـ ١٣٤ وتفسير أبي السعود عند تفسير الآيات ، ج ٣ ، ص ٩٦ ـ ٩٧ ، وتفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ١١٦ ـ ١١٩ وتفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٧٨ ـ ٨٠ والآلوسي ، ج ٧ ، ص ٦٢ ـ ٦٥ والقرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٦٩ ـ ٣٧٢ إلا أنه قال : في هذا الحديث مقال ، ولا يصح من قبل إسناده.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٧٢ ، ط الأولى.

(٣) هذه العبارة تطلق عند بعض المحدثين على ما هو موضوع وليس من شك في أن رفع هذا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان عمدا فهو كذب واختلاق عليه ، وإن كان غلطا وسهوا فهو ملحق بالوضع ، كما نبه إليه أئمة علوم الحديث كابن الصلاح وغيره.

١٨٥

تفسيرا صحيحا ، كما هو منهجنا في كل ما عرضنا له ، فأقول وبالله التوفيق :

قال الله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(١) إذ : ظرف لما مضى من الزمان ، وهو مفعول لفعل محذوف ، والتقدير : اذكر يا محمد ما حدث في هذا الزمن البعيد ليكون دليلا على صدق نبوتك ، فما كنت معهم ، ولا صاحبت أهل الكتاب ، ولم تكن قارئا ، ولا كاتبا.

الحواريّون : جمع حواريّ ، وهم المخلصون الأصفياء من أتباع عيسى عليه‌السلام ويطلق أيضا على الأصحاب المخلصين من أتباع الأنبياء.

المائدة : الخوان : الذي عليه الطعام ، فإن لم يكن عليها طعام فهو خوان. السماء : إما المعروفة أو المراد بها جهة العلوّ ، فإنّها قد تطلق ويراد بها كل ما علا.

وليس المراد بالاستفهام هو أصل الاستطاعة ، وأنهم ما كانوا يعلمون هذا ؛ لأن السائلين كانوا مؤمنين ، عارفين ، عالمين بالله وصفاته ، بل في أعلى درجات هذه الصفات. وإنما المراد بالسؤال : الإنزال بالفعل ، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب ، والمعنى : هل يجيبنا ربك ـ يا نبينا عيسى ـ إلى ذلك أم لا؟

وقال بعض العلماء : ليس ذلك بشك في الاستطاعة ، وإنما هو تلطّف في السؤال ، وأدب مع الله تعالى بهذه الصيغة المهذّبة ، كقول الرجل لآخر : هل تستطيع أن تعتبني على كذا ، وهو يعلم أنه يستطيع.

وأما قول من قال : إنه من قول من كان مع الحواريين ، فبعيد لخروجه عن ظاهر الآية ، ولا سيما أن تفسير الآية مستقيم غاية الاستقامة ، على ما ذكرنا.

وهذا السؤال إما لفقرهم وحاجتهم ، وإما لتعرف فضل نبيهم عيسى ،

__________________

(١) المائدة / ١١٢.

١٨٦

وفضلهم وكرامتهم عند ربهم.

وأما ما روي : أن عيسى أمرهم بصيام ثلاثين يوما ، ثم ليسألوا ربهم ما يشاءون ، فصاموا وسألوا ، فلست منه على ثلج (قالَ : اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ليس هذا شكا في إيمانهم ، وإنما هو أسلوب معهود ، حملا على التقوى ، كما قال تعالى في حق المؤمنين الصادقين ، من هذه الأمة المحمدية : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١) ، والمعنى : اتقوا الله ولا تسألوه ، فعسى أن يكون فتنة لكم ، وتوكّلوا على الله في طلب الرزق ، أو اتقوا الله ، ودعوا كثرة السؤال ، فإنكم لا تدرون ما يحلّ بكم عند اقتراح الآيات ؛ لأن الله سبحانه إنما يفعل الأصلح لعباده ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) من أهل الإيمان بالله ، ورسله ، ولا سيما أنه سبحانه آتاكم من الآيات ما فيه غنية عن غيره (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) بدءوا بالغذاء المادّي ، ثم ثنوا بالغذاء الروحي ، فقالوا : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) ، وهو مثل قول الخليل إبراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(٢).

(وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي نزداد علما ، ويقينا بصدقك ، وحقيقة رسالتك (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي المقرّبين المعترفين لله بالوحدانية ، ولك بالنبوة والرسالة ، أو من الشاهدين عليها لمن لم يرها ويعاينها.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا)(٣).

العيد : يوم الفرح والسرور ، (لِأَوَّلِنا) : لأول أمتنا (وَآخِرِنا) : لآخر أمتنا ،

__________________

(١) الأنفال / ١.

(٢) البقرة / ٢٦٠.

(٣) المائدة / ١١٤.

١٨٧

أو لنا ، ولمن بعدنا.

(وَآيَةً مِنْكَ) أي دليلا ، وحجّة على قدرتك ، على كل شيء ، وعلى إجابتك لدعوتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ، (وَارْزُقْنا) أي من عندك رزقا هنيئا لا كلفة فيه ، ولا تعب ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي خير من أعطى ورزق ؛ لأنك الغنيّ الحميد.

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١) ، أي (فَمَنْ يَكْفُرْ) ، أي يكذب بها من أمتك يا عيسى ، وعاندها ، فإني أعذّبه عذابا ، لا أعذّبه أحدا من عالمي زمانكم. وهذا على سبيل الوعيد لهم ، والتهديد. وليس في الآية ما يدلّ على أنهم كفروا ، ولا على أن غيرهم قد كفر بها ، ولا على أنهم استعفوا من نزول المائدة ، وإنما الذي دعا بعض المفسرين إلى هذه الأقوال ، ما سمعت من الروايات الإسرائيلية ، وها نحن قد فسرنا الآيات تفسيرا علميا صحيحا من غير حاجة ما إلى ما روي ، مما يدلّ دلالة قاطعة على أن مفسّر القرآن في غنية عن الإسرائيليات التي شوّهت جمال القرآن وجلاله.

١١ ـ الإسرائيليات في «سؤال موسى ربه الرؤية»

ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ، قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ، وَخَرَّ

__________________

(١) المائدة / ١١٥.

١٨٨

مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(١) ، فقد ذكر الثعلبي ، والبغوي ، وغيرهما عن وهب بن منبّه ، وابن إسحاق ، قالا :

«لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الدّوابّ ، والصواعق ، والظلمة ، والرعد ، والبرق وأحاط بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب ، وأمر الله ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى ، فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران (٢) البقر ، تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه. فهبطوا عليه أمثال الأسود ، لهم لجب (٣) بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف (ابن عمران) مما رأى ، وسمع ، واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي ، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه؟

فقال له خير الملائكة (٤) ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ، ثم أمر ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه. فهبطوا أمثال النسور ، لهم قصف ، ورجف ، ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح ، والتقديس كجلب الجيش العظيم ، ألوانهم كلهب النار. ففزع موسى ، واشتد فزعه ، وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة : مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه.

ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا ، فاعترضوا على موسى بن عمران.

__________________

(١) الأعراف / ١٤٣.

(٢) جمع ثور ، وهذا من سوء أدب بني إسرائيل مع الملائكة.

(٣) اللجب : تزاحم الأصوات. ويقال لصهيل الفرس ايضا.

(٤) هو جبريل عليه‌السلام.

١٨٩

فهبطوا عليه ، لا يشبههم شيء من الذين مرّوا به قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مرّوا به من قبلهم ؛ فاصطكت ركبتاه ، وارتعد قلبه ، واشتد بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت.

ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا ، فاعترضوا على موسى. فهبطوا عليه ، لهم سبعة ألوان ، فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ، لم ير مثلهم ، ولم يسمع مثل أصواتهم ؛ فامتلأ جوفه خوفا ، واشتد حزنه ، وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران مكانك ، حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه.

ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه. فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارا أشد ضوءا من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذ سبّحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم ، يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، رب العزة أبدا لا يموت. وفي رأس كل ملك منهم أربعة أوجه. فلما رآهم موسى رفع صوته ، يسبّح معهم حين سبّحوا ، وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك ، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجت احترقت ، وإن مكثت مت ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : قد أوشكت (١) يا ابن عمران أن يشتد خوفك ، وينخلع قلبك ، فاصبر للذي سألت.

ثم أمر الله أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة ، فلما بدا نور العرش ، انفرج

__________________

(١) لا أدري كيف يتفق هذا وما ذكر من قبل من شدة خوفه وفزعه في المرات الخمس وهذا من أمارات التهافت.

١٩٠

الجبل من عظمة الرب جلّ جلاله ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا ، يقولون : سبحان الملك القدوس ، رب العزة أبدا لا يموت ، بشدة أصواتهم. فارتج الجبل ، واندكت كل شجرة كانت فيه ، وخرّ العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ، ليس معه روحه ، فأرسل الله برحمته الروح ، فتغشّاه ، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى ، وجعله كهيئة القبّة ، لئلا يحترق موسى (١) ، فأقام موسى يسبّح الله ، ويقول : آمنت بك ربّي ، وصدقت أنه لا يراك أحد ، فيحيا ، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، ولا يعدلك شيء ، ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك ، الحمد لله لا شريك لك ، ما أعظمك ، وما أجلّك رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) ، وبعد أن ذكر الأقوال الكثيرة فيما تبدّى من نور الله ، قال : ووقع في بعض التفاسير : طارت لعظمته ستة أجبل ، وقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وودقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحراء (٢).

وهذه المرويات وأمثالها مما لا نشك أنها من إسرائيليات بني إسرائيل ، وكذبهم على الله ، وعلى الأنبياء ، وعلى الملائكة ، فلا تلق إليه بالا. وليس تفسير الآية في حاجة إلى هذه المرويات ، والآية ظاهرة واضحة.

ومن ذلك أيضا : ما ذكره الثعلبي ، والبغوي ، والزمخشري في تفاسيرهم عند قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي مغشيّا عليه ، وليس المراد ميتا كما قال قتادة.

__________________

(١) وهذا تهافت آخر ، وأمارة من أمارات الاختلاق ؛ أليس الله بقادر على حمايته من غير الروح ، والحجر؟

(٢) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ١٩٥ ـ ١٩٨.

١٩١

فقد قال البغوي ، في بعض الكتب : إن ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشيّ عليه ، فجعلوا يركلونه بأرجلهم ، ويقولون : يا ابن النساء الحيض ، أطمعت في رؤية رب العزة؟ (١)!! وذكر مثل هذا الزمخشري في تفسيره (٢).

وهذا وأمثاله مما لا نشك أنه من الإسرائيليات المكذوبة ، وموقف بني إسرائيل من موسى ، ومن جميع أنبياء الله معروف ، فهم يحاولون تنقيصهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وقال الآلوسي في تفسيره : «ونقل بعض القصّاصين ، أن الملائكة كانت تمرّ عليه حينئذ ، فيلكزونه بأرجلهم ، ويقولون : يا ابن النساء الحيض ، أطمعت في رؤية ربّ العزّة؟» وهو كلام ساقط لا يعوّل عليه بوجه ، فإن الملائكة عليهم‌السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل ، والغض في الخطاب (٣).

١٢ ـ الإسرائيليات في ألواح التوراة

ومن الإسرائيليات ما ذكره الثعلبي والبغوي ، والزمخشري ، والقرطبي والآلوسي وغيرهم ، عند تفسير قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ)(٤).

__________________

(١) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ١٩٨.

(٢) تفسير الكشّاف عند تفسير قوله تعالى : وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ، ج ٢ ، ص ١٥٥.

(٣) تفسير الآلوسي ، ج ٩ ، ص ٤٦ ، ط منير.

(٤) الأعراف / ١٤٥.

١٩٢

فقد ذكر في الألواح : مم هي؟ وما عددها؟ أقوالا كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن كعب ووهب ، من أهل الكتاب الذين أسلموا ، مما يشير إلى منبع هذه الروايات ، وأنها من إسرائيليات بني إسرائيل ، وفيها من المرويات ما يخالف المعقول والمنقول ، وإليك ما ذكره البغوي في هذا ، قال :

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ) ، يعني لموسى (فِي الْأَلْواحِ) ، قال ابن عباس :

يريد ألواح التوراة ، وفي الحديث : «كانت من سدر الجنة ، طول اللّوح اثنا عشر ذراعا» ، وجاء في الحديث : «خلق الله آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده» (١).

وقال الحسن : كانت الألواح من خشب ، وقال الكلبي : كانت من زبرجدة خضراء.

وقال سعيد بن جبير : كانت من ياقوت أحمر ، وقال الربيع : كانت الألواح من برد (٢).

وقال ابن جريج : كانت من زمرد ، أمر الله جبريل حتى جاء بها من عدن ، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر ، واستمد من نهر النور!!.

وقال وهب : أمر الله بقطع الألواح من صخرة صماء ، ليّنها الله له ، فقطعها بيده ، ثم شققها بيده ، وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر ، وكان ذلك في أوّل

__________________

(١) لم يخرج البغوي ـ كما هي عادته ـ الحديثين ولم يبرز سندهما ، وقد ذكر الآلوسي أن الحديث الأول رواه ابن أبي حاتم ، واختار القول به إن صح السند إليه ، وأما الحديث الثاني فقال : إنه مرويّ عن عليّ ، وعن ابن عمر ، وعن غيرهما من التابعين (تفسير الآلوسي ، ج ٧ ، ص ٥٧).

(٢) الظاهر أنها بضم الباء وسكون الراء : الثوب المختط ، وإلّا فلو كانت من يرد ـ بفتح الباء والراء ـ حبات الثلج فكيف يكتب عليها؟.

١٩٣

يوم من ذي القعدة ، وكانت الألواح عشرة أذرع ، على طول موسى!!.

وقال مقاتل ووهب : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) : كنقش الخاتم.

وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ الجزء منه في سنة ، لم يقرأها إلّا أربعة نفر : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى (١).

فكل هذه الروايات المتضاربة التي يردّ بعضها بعضا مما نحيل أن يكون مرجعها المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما هي من إسرائيليات بني إسرائيل ، حملها عنهم بعض الصحابة والتابعين بحسن نية ، وليس تفسير الآية متوقّفا على كل هذا الذي رووه. ومن ذلك : ما يذكره بعض المفسرين في قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) ، فقد جعلوا التوراة مشتملة على كلّ ما كان وكلّ ما يكون ، وهذا مما لا يعقل ، ولا يصدق ، فمن ذلك : ما ذكره الآلوسي في تفسيره ، قال : وما أخرجه الطبراني ، والبيهقي في «الدلائل» عن محمد بن يزيد الثقفي ، قال : اصطحب قيس بن خرشة ، وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين ، وقف كعب ، ثم نظر ساعة ، ثم قال : ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله.

فقال قيس : ما يدريك؟ فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به؟!.

فقال كعب : ما من الأرض شبر إلّا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى ، ما يكون عليه ، وما يخرج منه إلى يوم القيامة!!.

وهو من المبالغات التي روي أمثالها عن كعب ولا نصدّق ذلك ، ولعلها من الكذب الذي لاحظه عليه ، معاوية بن أبي سفيان على ما أسلفنا سابقا ، ولا يعقل قط أن يكون في التوراة كل أحداث الدنيا إلى يوم القيامة.

__________________

(١) لا أدري كيف يقبل عقل أنها حمل سبعين بعيرا ، وإذا لم يقرأها إلا أربعة ، فلما ذا أنزلها الله؟.

١٩٤

والمحققون من المفسرين سلفا وخلفا ، على أن المراد أن فيها تفصيلا لكل شيء ، مما يحتاجون إليه في الحلال والحرام ، والمحاسن والقبائح مما يلائم شريعة موسى وعصره ، إلّا فقد جاء القرآن الكريم بأحكام وآداب ، وأخلاق ، لا توجد في التوراة قط.

وقد ساق الآلوسي هذا الخبر ، للاستدلال به لمن يقول : إن كل شيء عام ، وكأنه استشعر بعده ، فقال عقبه : «ولعل ذكر ذلك من باب الرمز ، كما ندعيه في القرآن». (١) ولا بد أن نقول للآلوسي ومن لفّ لفّه : إنّ هذا مردود وغير مقبول ، ونحن لا نسلم بأن في القرآن رموزا ، وإشارات لأحداث ، وإن قاله البعض ، والحق أحق أن يتبع.

١٣ ـ إسرائيلية مكذوبة في سبب غضب موسى لما ألقى الألواح

ومن الإسرائيليات ما رواه ابن جرير في تفسيره ، والبغوي في تفسيره ، وغيرهما ، في سبب غضب سيدنا موسى عليه‌السلام حتى ألقى الألواح من يديه ؛ وذلك في قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ (٢) وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، ج ٩ ، ص ٥٦ و ٥٧ ، ط منير.

(٢) طرحها وألقى بها.

١٩٥

مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(١).

فقد روي عن قتادة أنه قال : نظر موسى في التوراة ، فقال : ربّ إني أجد في الألواح أمّة خير أمّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، اجعلهم أمّتي. قال : تلك أمة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمّة هم الآخرون ـ أي آخرون في الخلق ـ سابقون في دخول الجنة ، رب اجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمّة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمّة أناجيلهم في صدورهم ، يقرءونها ، وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا ، حتى إذا رفعوها ، لم يحفظوا شيئا ، ولم يعرفوه ، وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم ، قال : رب اجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمّة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول ، وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون فصول الضلالة ، حتى ليقاتلون الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمّة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها ، وكان من قبلهم إذا تصدّق بصدقة ، فقبلت منه بعث الله نارا فأكلتها ، وإن ردّت عليه تركت ، فتأكلها السباع والطير ، وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم ، قال : رب فاجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمّة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمّة ، إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ، رب اجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمّة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمّة هم المشفّعون ، والمشفوع لهم ، فاجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال قتادة : فذكر لنا أن نبي الله موسى نبذ الألواح ، وقال : اللهم اجعلني من أمّة محمد.

__________________

(١) الأعراف / ١٥٠.

١٩٦

لا شكّ أنّ آثار الوضع والاختلاق بادية عليه ، والسند مطعون فيه ، وهي أمور مأخوذة من القرآن ، والأحاديث ، ثم صيغت هذه الصياغة المريبة ، وجعلت على لسان موسى عليه‌السلام والظاهر المتعين أن إلقاء سيدنا موسى بالألواح إنما كان غضبا وحميّة لدين الله ، وغيرة لانتهاك حرمة توحيد الله تبارك وتعالى.

وإليك ما قاله ابن كثير في تفسيره (١) ، قال : ثم ظاهر السياق أنه ـ أي سيدنا موسى ـ ألقى الألواح غضبا على قومه ، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا ، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة. وقد ردّه ابن عطية ، وغير واحد من العلماء ، وهو جدير بالردّ ، وكأنه تلقّاه الناقل عن بعض أهل الكتاب ، وفيهم كذّابون ، ووضّاعون ، وأفّاكون ، وزنادقة.

وصدق ابن كثير فيما قال ، ويرجّح أن يكون من وضع زنادقتهم كي يظهروا الأنبياء بمظهر المتحاسدين ، لا بمظهر الإخوان المتحابّين.

وقال الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي مما اعتراه من الغضب والأسف ، حين أشرف على قومه ، وهم عاكفون على عبادة العجل ، وعلى أخيه في إهمال أمرهم ، قاله سعيد بن جبير ؛ ولذا قيل : «ليس الخبر كالمعاينة» ، ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح ، ولا يصح ، أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن ذلك لأمته ، وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى عليه‌السلام (٢).

ومما يؤيد أنه من وضع بعض الإسرائيليّين الدهاة : أن نحوا من هذا المروي عن قتادة قد رواه الثعلبي وتلميذه البغوي عن كعب الأحبار ، ولا خلاف إلّا في

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٢٤٨ وتفسير البغوى ، ج ٢ ، ص ٢٠٢.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٢٨٨.

١٩٧

تقديم بعض الفضائل وتأخير البعض الآخر ، إلّا أنه لم يذكر إلقاء الألواح في آخره :

«فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا وأمته قال : يا ليتني من أصحاب محمد ، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) إلى قوله : (دارَ الْفاسِقِينَ) : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(١) قال : فرضي موسى كل الرضاء.

١٤ ـ إسرائيليات وخرافات في بني إسرائيل

ومن الإسرائيليات والخرافات ما ذكره بعض المفسرين ، عند تفسير قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(٢).

فقد ذكر ابن جرير في تفسير (٣) هذه الآية خبرا عجيبا ، فقال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم ، وكفروا ، وكانوا اثني عشر سبطا ، تبرأ سبط منهم مما صنعوا ، واعتذروا وسألوا الله عزوجل أن يفرّق بينهم ، وبينهم ، ففتح الله لهم نفقا في الأرض ، فساروا ، حتى خرجوا من وراء الصين ، فهم هنالك حنفاء مسلمون ، يستقبلون قبلتنا.

__________________

(١) الأعراف / ١٤٤ و ١٤٥ و ١٥٩.

(٢) الأعراف / ١٥٩.

(٣) تفسير الطبري ، ج ٩ ، ص ٦٠.

١٩٨

قال ابن جريج : قال ابن عباس : فذلك قوله : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)(١).

ووعد الآخرة : عيسى بن مريم.

قال ابن جريج : قال ابن عباس : ساروا في السرب سنة ونصفا ، وقال ابن عيينة ، عن صدقة ، عن أبي الهذيل ، عن السدّي : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(٢) قال : قوم بينكم وبينهم نهر من شهد ، وقد وصف ابن كثير ما رواه ابن جرير : بأنه خبر عجيب!!

وقال البغوي في تفسيره (٣) : قال الكلبي ، والضحاك والربيع : هم قوم خلف الصين ، بأقصى الشرق ، على نهر مجرى الرمل ، يسمّى نهر أردن ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون بالليل ، ويسقون بالنهار ، ويزرعون ، لا يصل إليهم منا أحد ، وهم على دين الحق ، وذكر : أن جبريل عليه‌السلام ذهب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أسري به إليهم ، فكلّمهم ، فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا : لا ، فقال لهم : هذا محمد النبيّ الأميّ ، فآمنوا به ، فقالوا : يا رسول الله ، إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد ، فليقرأ عليه منّي السلام ، فردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على موسى وعليهم ، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ، وأمرهم بالصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون (٤) ، فأمرهم أن يجمعوا ، ويتركوا السبت. وقيل : هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأول أصح!!

__________________

(١) بني إسرائيل / ١٠٤.

(٢) الأعراف / ١٥٩.

(٣) تفسير البغوي ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٤) أي يعظمون السبت كاليهود.

١٩٩

وهي من خرافات بني إسرائيل ولا محالة ، والعجب من البغوي أن يجعل هذه الأكاذيب أصحّ من القول الآخر الذي هو أجدر بالقبول وأولى بالصحة ، ونحن لا نشك في أن ابن جريج وغيره ممن رووا ذلك ، إنما أخذوه عن أهل الكتاب الذين أسلموا ، ولا يمكن أبدا أن يكون متلقّيا عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال الآلوسي ، بعد ذكر ما ذكرناه : «وضعّف هذه الحكاية ابن الخازن ، وأنا لا أراها شيئا ، وأظنك لا تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض ، أو سلّما في السماء» (١).

التفسير الصحيح للآية

والذي يترجّح عندنا : أن المراد بهم أناس من قوم موسى عليه‌السلام اهتدوا إلى الحق ، ودعوا الناس إليه ، وبالحق يعدلون فيما يعرض لهم من الأحكام والقضايا ، وأنّ هؤلاء الناس وجدوا في عهد موسى ، وبعده ، بل وفي عهد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بيّن الله تبارك وتعالى بهذا : أن اليهود وإن كانت الكثرة الكاثرة فيهم تجحد الحق وتنكره ، وتجور في الأحكام ، وتعادي الأنبياء ، وتقتل بعضهم ، وتكذب البعض الآخر ، وفيهم من شكاسة الأخلاق والطباع ، ما فيهم ، فهنالك أمة كثيرة منهم : يهدون بالحق ، وبه يعدلون ، فهم لا يتأبّون عن الحق ، ففيه شهادة وتزكية لهؤلاء ، وتعريض بالكثرة الغالبة منهم ، التي ليست كذلك ، والتي جحدت نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن جحدها من طوائف البشر ، وناصبته العداوة والبغضاء ، وهو ما يشعر به قوله سبحانه قبل : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، ج ٩ ، ص ٨٤ و ٨٥.

٢٠٠