التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

فدعا طالوت بني إسرائيل ، فجرّبهم ، فلم يوافقه منهم أحد ، فأوحى الله إلى نبيهم : أن في ولد «إيشا» من يقتل الله به جالوت. فدعا طالوت إيشا ، فقال : أعرض هذا على بنيك ، فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري (١) ، فجعل يعرضهم على القرن ، فلا يرى شيئا ، فقال لإيشا : هل بقي لك ولد غيرهم؟ فقال : لا ، فقال نبي هذا الزمان : يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم ، فقال الله : كذب ، فقال هذا النبي لإيشا : إن الله كذّبك!!.

فقال إيشا : صدق الله ، يا نبي الله ، إن لي ابنا صغيرا ، يقال له : داود ، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته ، فخلّفته في الغنم يرعاها ، وهو فى شعب كذا وكذا. وكان داود رجلا قصيرا ، مسقاما ، مصفارا ، أزرق ، أمعر (٢) ، فدعاه طالوت ، ويقال : بل خرج إليه ، فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها ، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ، ولا يخوض بهما الماء ، فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه ، هذا يرحم البهائم ، فهو بالناس أرحم. فدعاه ، ووضع القرن على رأسه ، ففاض ـ يعني من غير أن يسيل على وجهه ـ فقال طالوت : هل لك أن تقتل جالوت ، وأزوّجك ابنتي ، وأجري خاتمك في ملكي؟ ، قال : نعم ، قال : وهل آنست من نفسك شيئا تتقوّى به على قتله؟ قال : نعم ، وذكر بعض ذلك.

فأخذ طالوت داود ، وردّه إلى عسكره. وفي الطريق مرّ داود بحجر ، فناداه يا

__________________

(١) جمع سارية ، وهي العمود ، أي أنهم كالعمد الطويلة.

(٢) أمعر : قليل الشعر ، أو نحيف الجسم ، وهذا من أكاذيب بني إسرائيل ، ورميهم الأنبياء بأبشع الصفات. فقاتلهم الله أنى يؤفكون ، وما كان لأبيه وقد أخبره داود بما ذكره أول القصة ، أن ينتقصه ، ويصفه بهذه الأوصاف.

١٦١

داود احملني ، فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا ، فحمله في مخلاته ، ثم مرّ بآخر ، فناداه قائلا : إنه حجر موسى الذي قتل به ملك كذا ، فأخذه في مخلاته ، ثم مرّ بحجر ثالث ، فناداه قائلا له : احملني ، فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت ، فوضعه في مخلاته.

فلما تصافوا للقتال ، وبرز جالوت ، وسأل المبارزة ، انتدب له داود ، فأعطاه طالوت فرسا ، ودرعا ، وسلاحا ، فلبس السلاح ، وركب الفرس ، وسار قريبا ، ثم لم يلبث أن نزع ذلك ، وقال لطالوت : إن لم ينصرني الله لم يغن عني هذا السلاح شيئا!! ، فدعني أقاتل جالوت كما أريد ، قال : فافعل ما شئت ، قال : نعم.

فأخذ داود مخلاته ، فتقلّدها ، وأخذ المقلاع ، ومضى نحو جالوت. وكان جالوت من أشد الرجال ، وأقواهم ، وكان يهزم الجيش وحده ، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد (١) ، فلما نظر إلى داود ألقى الله في قلبه الرعب. وبعد مقاولة بينهما ، وتوعّد كل منهما الآخر أخرج داود حجرا من مخلاته ، ووضعه في مقلاعه ، وقال : باسم إله إبراهيم ، ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ، ووضعه في مقلاعه ، ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله يعقوب ، ووضعه في مقلاعه ؛ فصارت كلها حجرا واحدا ودوّر داود المقلاع ، ورمى به ، فسخر له الله الريح ، حتى أصاب الحجر أنف البيضة ، فخلص إلى دماغه ، وخرج من قفاه ، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا ، وهزم الله تعالى الجيش ، وخرّ جالوت قتيلا. فأخذه

__________________

(١) البيضة : ما يلبسه المحارب على رأسه ، وهذا من أكاذيبهم ، وتخريفاتهم ، ولا أدري ولا أي عاقل يدري كيف يمكن لجالوت أن يحارب ، وعلى رأسه هذا القدر من الحديد؟. أي نحو مائة وخمسين كيلوجراما من الحديد ، ولعل الرطل في زمانهم كان أثقل من رطلنا اليوم ، فيكون حمل على رأسه ما يزيد على ثلاثة قناطير من الحديد. ومما ذكروه في وصفه أن ظله كان ميلا ، وهذا ولا شك خرافة.

١٦٢

يجره ، حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرح جيش طالوت فرحا شديدا ، وانصرفوا إلى مدينتهم سالمين ، والناس يذكرون بالخير داود.

فجاء داود طالوت ، وقال له : أنجز لي ما وعدتني ، فقال : وأين الصّداق؟ فقال له داود : ما شرطت عليّ صداقا غير قتل جالوت ، ثم اقترح عليه طالوت أن يقتل مائتي رجل من أعدائهم ، ويأتيه بغلفهم (١) ، ففعل ، فزوّجه طالوت ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود ، وأحبّوه ، وأكثروا ذكره ؛ فحسده طالوت ، وعزم على قتله. فأخبر ابنة طالوت رجل من أتباعه ، فحذّرت داود ، وأخبرته بما عزم أبوها عليه. وبعد مغامرة من طالوت لقتل داود ، ومكيدة وحيلة من داود ، أنجى الله داود منه. فلما أصبح الصباح ، وتيقّن طالوت أن داود لم يقتل ، خاف منه ، وتوجّس خيفة ، واحتاط لنفسه ، ولكن الله أمكن داود منه ثلاث مرات ، ولكن لم يقتله. ثم كان أن فرّ داود من طالوت في البرية ، فرآه طالوت ذات يوم فيها ، فأراد قتله ، ولكن داود دخل غارا ، وأمر الله العنكبوت ، فنسجت عليه من خيوطها ؛ وبذلك نجا من طالوت ، ولجأ إلى الجبل ، وتعبّد مع المتعبّدين.

فطعن الناس في طالوت بسبب داود ، واختفائه ، فأسرف طالوت في قتل العلماء والعباد ، ثم كان أن وقعت التوبة في قلبه ، وندم على ما فعل ، وحزن حزنا طويلا ، وصار يطلب من يفتيه أنّ له توبة فلم يجد ، حتى دلّ على امرأة عندها اسم الله الأعظم ، فذهب إليها ، وأمن روعها فانطلقت به إلى قبر «شمويل» ، فخرج من قبره وأرشده إلى طريق التوبة ، وهو أن يقدّم ولده ونفسه في سبيل الله حتى يقتلوا ، ففعل. وجاء قاتل طالوت إلى داود ليخبره بقتله ، فكانت مكافأته على ذلك

__________________

(١) الغلفة ـ بضم الغين ـ : القطعة التي تقطع من الصبي عند الختان.

١٦٣

أنّ قتله. وأتى بنو إسرائيل إلى داود ، وأعطوه خزائن طالوت ، وملّكوه على أنفسهم. وقد استغرق ذلك من تفسير البغوي بضع صحائف (١).

قال أبو شهبة : وفي هذا الذي ذكروه الحق والباطل ، والصدق ، والكذب ، ونحن في غنية عنه بما في أيدينا من القرآن والسنّة وليس في كتاب الله ما يدلّ على ما ذكروه ، ولسنا في حاجة إلى شيء من هذا في فهم القرآن وتدبّره ، فلا تلق إليه بالا ، وارم به دبر أذنيك ، فإنّ فيه تجنّيا على من اصطفاه الله ملكا عليهم ، وكذبا على نبي الله داود.

وأمّا الإمام العلامة ابن كثير ، فقد أعرض عن ذكره ، ونبّه إلى أنه من الإسرائيليات ، فقال في قوله تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) : ذكروا في الإسرائيليّات (٢) أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به. فأصابه ، فقتله ، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوّجه ابنته ، ويشاطره نعمته ، ويشركه في أمره ، فوفى له ، ثم آل الملك إلى داود عليه‌السلام مع ما منحه الله من النبوة العظيمة ؛ ولهذا قال تعالى : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الذي كان بيد طالوت ، (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة بعد شمويل ، (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) من العلم الذي اختصه به عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٣٠٣ وتفسير البغوى ، ج ١ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) ويؤكّد أنّه من الإسرائيليّات أن هذا جلّه مأخوذ من التوراة : انظر التوراة ـ سفر صمويل الأول ـ الإصحاح ١٦ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ يحصل لك اليقين بهذا.

١٦٤

٦ ـ الإسرائيليّات في قصص الأنبياء والأمم السابقة

وقد جاء في كتب التفسير ـ على اختلاف مناهجها ـ إسرائيليّات كواذب ، ومرويّات بواطل ، لا يحصيها العدّ ، وذلك فيما يتعلق بقصص الأنبياء والمرسلين والأمم والأقوام السابقين. وقد رويت عن بعض الصحابة ، والتابعين وتابعيهم ، وورد بعضها مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذبا ، وزورا.

وهذه المرويات والحكايات لا تمّت إلى الإسلام ، وإنما هي من خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم ، وافتراءاتهم على الله ، وعلى رسله ، رواها عن أهل الكتاب الذين أسلموا ، أو أخذها من كتبهم بعض الصحابة والتابعين ، أو دسّت عليهم ، بل فيها ما حرفوا لأجله التوراة ، وذلك مثل ما فعلوا في قصة إسحاق بن إبراهيم ، وأنه هو الذبيح ، كما سيأتى.

ولا يمكن استقصاء كل ما ورد من الإسرائيليات ، وإلّا لاقتضى هذا مجلدات كبارا ، ولكني سأكتفي بما هو ظاهر البطلان ، ولا يتّفق وسنن الله في الأكوان ، وما يخلّ بالعقيدة الصحيحة في أنبياء الله ورسله التي يدل عليها العقل السليم ، والنقل الصحيح.

٧ ـ ما ورد في قصّة آدم عليه‌السلام

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ)(١) فمن تلك الإسرائيليّات ما رواه ابن جرير (٢) في تفسيره بسنده عن وهب بن

__________________

(١) البقرة / ٣٦.

(٢) هذا ابن جرير ، وقد شك في اللفظ الذي سمعه ممن أخذ عنه : أهو ذريّته أم زوجته؟ فيذكر

١٦٥

منبّه قال : لما أسكن الله آدم وذريّته أو زوجته ـ الشك من أبي جعفر ، وهو في أصل كتابه «وذريته» ـ ونهاه عن الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعّبة بعضها في بعض ، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم (١) ، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته ، فلما أراد إبليس أن يستزلّهما دخل في جوف الحيّة ، وكانت للحيّة أربعة قوائم ، كأنها بختيّة (٢) من أحسن دابّة خلقها الله. فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس ، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، فجاء بها إلى حواء ، فقال : انظري إلى هذه الشجرة ، ما أطيب ريحها ، وأطيب طعمها ، وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها ، ثم ذهبت بها إلى آدم ، فقالت له مثل ذلك ، حتى أكل منها ؛ فبدت لهما سوءاتهما. فدخل آدم في جوف الشجرة ، فناداه ربه : يا آدم أين أنت؟ قال : أنا هنا يا رب. قال : ألا تخرج؟ قال : أستحيي منك يا رب. قال : ملعونة الأرض التي خلقت منها ، لعنة يتحوّل ثمرها شوكا. ثم قال : يا حواء ، أنت التي غررت عبدي ، فإنك لا تحملين حملا إلّا حملتيه كرها ، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا. وقال للحية : أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي ، ملعونة أنت لعنة تتحوّل قوائمك في بطنك ، ولا يكن لك رزق إلّا التراب ، أنت عدوّة بني آدم ، وهم أعداؤك. قال عمرو : قيل لوهب : وما كانت الملائكة تأكل!! قال : يفعل الله ما يشاء (٣). قال ابن جرير : وروى ابن عباس نحو هذه القصة.

__________________

ذلك رعاية للأمانة في الرواية ، والظاهر لفظ «زوجته» لأن آدم عليه‌السلام لم تكن له ذريّة في الجنة.

(١) وكيف والملائكة لا تأكل ولا تشرب؟.

(٢) وهي الأنثى من الجمال البخت. والذكر البختيّ ، وهي جمال طوال الأعناق.

(٣) هذا تهرّب من الجواب ، وعجز عن تصحيح هذا الكذب الظاهر.

١٦٦

ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس ، وعن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة نحو هذا الكلام (١) ، وفي السند أسباط عن السدي ، وعليهما تدور الروايات.

وكذلك ذكر السيوطي في «الدر المنثور» ما رواه ابن جرير وغيره في هذا ، مما روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، ولكنه لم يذكر الرواية عن وهب بن منبّه (٢) ، وأغلب كتب التفسير بالرأي ذكرت هذا أيضا. وكل هذا من قصص بني إسرائيل الذي تزيّدوا فيه ، وخلطوا حقا بباطل ، ثم حمله عنهم الضعفاء من الصحابة والتابعين ، وفسّروا به القرآن الكريم.

ولقد أحسن ابن جرير ، فقد أشار بذكره الرواية عن وهب إلى أن ما يرويه عن ابن عباس ، وابن مسعود ، إنما مرجعه إلى وهب وغيره من مسلمة أهل الكتاب ، ويا ليته لم ينقل شيئا من هذا ، ويا ليت من جاء بعده من المفسرين صانوا تفاسيرهم عن مثل هذا. وفي رواية ابن جرير الأولى ما يدل على أن الذين رووا عن وهب وغيره كانوا يشكّون فيما يروونه لهم ، فقد جاء في آخرها : (قال عمرو (٣) : قيل لوهب : وما كانت الملائكة تأكل؟! قال : يفعل الله ما يشاء) فهم قد استشكلوا عليه ؛ كيف أن الملائكة تأكل؟! وهو لم يأت بجواب يعتدّ به.

ووسوسة إبليس لآدم عليه‌السلام لا تتوقف على دخوله في بطن الحية ؛ إذ الوسوسة لا تحتاج إلى قرب ولا مشافهة ، وقد يوسوس إليه وهو على بعد أميال منه. والحية خلقها الله يوم خلقها على هذا ، ولم تكن لها قوائم كالبختي ، ولا شيء من

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ١٨٦ و ١٨٧.

(٢) الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٥٣.

(٣) هو عمرو بن عبد الرحمن بن مهرب ، الراوي عن وهب.

١٦٧

هذا (١).

ما نسب إلى ابني آدم لما قتل أحدهما الآخر

ومن ذلك : ما ذكره بعض المفسرين كابن جرير الطبري في تفسيره ، والسيوطي في تفسيره «الدر المنثور» في قصة ابني آدم : قابيل ، وهابيل ؛ وقتل أولهما الآخر ، ما روي عن كعب : أن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم ، وعن وهب : أن الأرض نشفت دم ابن آدم المقتول ، فلعن ابن آدم الأرض ؛ فمن أجل ذلك لا تنشف الأرض دما بعد دم هابيل إلى يوم القيامة. وأن قابيل حمل هابيل سنة في جراب على عنقه ، حتى أنتن وتغيّر ، فبعث الله الغرابين ، قتل أحدهما الآخر ، فحفر له ، ودفنه برجليه ومنقاره ، فعلم كيف يصنع بأخيه. مع أن القرآن عبّر بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب من غير تراخ. قال تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ)(٢).

وروى أيضا : أنه لما قتله اسودّ جسده ، وكان أبيض ، فسأله آدم عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلا. قال : بل قتلته فلذلك اسودّ جسدك ، إلى نحو ذلك.

فكل هذا وأمثاله ـ عدا ما جاء في القرآن ـ من إسرائيليّات بني إسرائيل ، وقد جاءت بعض الروايات صريحة عن كعب ، ووهب. وما جاء عن ابن عباس ، ومجاهد وغيرهما ، فمرجعه إلى أهل الكتاب الذين أسلموا (٣).

__________________

(١) انظر التوراة ـ سفر التكوين ـ الإصحاح الثالث لتزداد يقينا أنه من الإسرائيليات ، وليس منه شيء عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) المائدة / ٣١.

(٣) تفسير الطبري ، ج ٦ ، ص ١١٨ ، عند قوله تعالى في سورة المائدة : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ

١٦٨

ما نسب إلى آدم عليه‌السلام من قول الشعر

ومن الإسرائيليات ما رواه ابن جرير في تفسيره ، وما ذكره السيوطي في «الدر» : من أن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر ، مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه ، فأتى على رأس المائة ، فقيل له : حياك الله ، وبياك ، وبشر بغلام ، فعند ذلك ضحك.

وكذلك ما ذكره من أن آدم عليه‌السلام رثى ابنه بشعر ، روى ابن جرير عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم ، فقال :

تغيرت البلاد ، ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغير كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه المليح

قال السيوطي : وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال : لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم عليه‌السلام : وذكر البيتين السابقين باختلاف قليل.

فأجابه إبليس عليه اللعنة :

تنح عن البلاد وساكنيها

فبي في الخلد ضاق بك الفسيح

وكنت بها وزوجك في رخاء

وقلبك من أذى الدنيا مريح

فما انفكت مكايدتي ومكري

إلى أن فاتك الثمن الربيح (١)

وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في كتابه «ميزان الاعتدال» ، وقال : إن الآفة فيه من المخرمي أو شيخه (٢).

وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق ، والأنبياء لا يقولون الشعر ، وصدق

__________________

آدَمَ ...) الآيات ـ الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٧٥.

(١) تفسير الطبري ، ج ٦ ، ص ١٢٢ والدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٧٦ و ٢٧٧.

(٢) الإسرائيليّات والموضوعات ، ص ١٨٣.

١٦٩

الزمخشري حيث قال : «روى أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت. وما الشعر إلّا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر» (١).

وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)(٢).

وقال الآلوسي في تفسيره : وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس أنه قال : «من قال : إنّ آدم عليه‌السلام قال شعرا فقد كذب ، إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء. ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسريانية ، فلم يزل ينقل ، حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية ، فنظر فيه ، فقدّم وأخّر ، وجعله شعرا عربيا. وذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا ، أو إقواء ، أو ارتكاب ضرورة. والأولى عدم نسبته إلى يعرب ؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة (٣).

قال أبو شهبة : والحق أنه شعر في غاية الركاكة ، والأشبه أن يكون هذا الشعر من اختلاق إسرائيلي ، ليس له من العربية إلا حظّ قليل ، أو قصّاص يريد أن يستولي على قلوب الناس ، بمثل هذا الهراء.

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ٦٢٦.

(٢) يس / ٦٩.

(٣) روح المعاني ، ج ٦ ، ص ١٠٣. وراجع : القرطبى ، ج ٦ ، ص ١٤٠.

١٧٠

٨ ـ الإسرائيليات في عظم خلق الجبّارين وخرافة عوج بن عوق

ومن الإسرائيليّات التي اشتملت عليها كتب التفسير ، ما يذكره بعض المفسرين ، عند تفسير قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها)(١).

فقد ذكر الجلال السيوطي في «الدرّ» كثيرا من الروايات في صفة هؤلاء القوم ، وعظم أجسادهم ، مما لا يتفق وسنّة الله في خلقه ، ويخالف ما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، وذلك مثل ما أخرجه ابن عبد الحكم عن أبي ضمرة قال : استظل سبعون رجلا من قوم موسى في خفّ رجل من العماليق!! ومثل ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن يزيد بن أسلم قال : بلغني أنه رؤيت ضبع وأولادها رابضة في فجاج عين رجل من العماليق!! ومثل ما رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال : أمر موسى أن يدخل مدينة الجبّارين ، فسار بمن معه ، حتى نزل قريبا من المدينة ، وهي «أريحاء» فبعث إليهم اثني عشر نقيبا ، من كل سبط منهم عين ، ليأتوه بخبر القوم ، فدخلوا المدينة ، فرأوا أمرا عظيما من هيبتهم ، وجسمهم وعظمهم ، فدخلوا حائطا ـ أي بستانا ـ لبعضهم ، فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار ، فنظر إلى آثارهم فتبعهم ، فكلما أصاب واحدا منهم أخذه ، فجعله في كمّه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم ، فنثرهم بين يديه ، فقال الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا ، اذهبوا فأخبروا صاحبكم ، قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم ، فقال : اكتموا عنا ، فجعل الرجل يخبر أخاه وصديقه ، ويقول : اكتم عنّي ، فأشيع في عسكرهم ، ولم يكتم منهم إلّا رجلان : يوشع بن نون ، وكالب بن يوحنا ، وهما اللذان أنزل الله فيهما : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ

__________________

(١) المائدة / ٢٢.

١٧١

يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ)(١).

ويروي ابن جرير بسنده ، عن مجاهد ، نحوا مما قدّمنا ، ثم يذكر أن عنقود عنبهم لا يحمله إلّا خمسة أنفس ، بينهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمّانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة (٢) ، إلى غير ذلك من الإسرائيليّات الباطلة.

خرافة عوج بن عوق (٣)

ومن الإسرائيليات الظاهرة البطلان ، التي ولع بذكرها بعض المفسرين والأخباريين ، عند ذكر الجبارين : قصة عوج بن عوق ، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع ، وأنه كان يمسك الحوت ، فيشوبه في عين الشمس ، وأن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه ، وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح ، وأن موسى كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في الهواء عشرة أذرع ، فأصاب كعب عوج فقتله ، فكان جسرا لأهل النيل سنة ، إلى نحو ذلك من الخرافات ، والأباطيل التي تصادم العقل والنقل ، وتخالف سنن الله في الخليقة. ولا أدري كيف يتّفق هذا الباطل ، هو ، وقول الله تبارك وتعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(٤).

__________________

(١) المائدة / ٢٣.

(٢) تفسير الطبري ، ج ٦ ، ص ١١٢ ، والدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٧٠.

(٣) منهم من يقول : ابن عوق ، ومنهم من يقول : ابن عنق كما ذكر ابن كثير ، وفي القاموس : «وعوج بن عوق بضمهما ـ أي العينين ـ رجل ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى ، وذكر من عظم خلقه شناعة».

(٤) هود / ٤٢ ـ ٤٣.

١٧٢

اللهم إلّا إذا كان عوج أطول من جبال الأرض!!

فمن تلك الروايات الباطلة المخترعة ما رواه ابن جرير بسنده عن أسباط ، عن السدّي ، في قصّة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل ، وبعث موسى النقباء الاثني عشر ، وفيها : فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له : عوج ، فأخذ الاثني عشر ، فجعلهم في حجزته (١) ، وعلى رأسه حملة حطب ، وانطلق بهم إلى امرأته ، فقال : انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا ، فطرحهم بين يديها ، فقال : ألا أطحنهم برجلي؟ ، فقالت امرأته : بل خلّ عنهم ، حتى يخبروا قومهم بما رأوا ، ففعل ذلك. وكذلك ذكر مثل هذا وأشنع منه غير ابن جرير والسيوطي بعض المفسّرين والقصّيصين ، وهي كما قال ابن قتيبة : أحاديث خرافة ، كانت مشهورة في الجاهلية ، ألصقت بالحديث بقصد الإفساد (٢).

وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في تفسيره ، قال : وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه‌السلام ، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا ، وثلث ذراع ، تحرير الحساب ، وهذا شيء يستحى من ذكره ، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله خلق آدم ، وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» ، ثم ذكروا : أن هذا الرجل كان كافرا ، وأنه كان ولد زنية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه. وهذا كذب وافتراء ، فإن الله تعالى ذكر : أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

__________________

(١) الحجزة : موضع التكة من السروال.

(٢) تأويل مختلف الحديث ، ص ٢٨٤ وروح المعانى ، ج ٦ ، ص ٩٥.

١٧٣

الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)(١). وقال تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ)(٢). وقال تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(٣) ، وإذا كان ابن نوح الكافر غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق ، وهو كافر ، وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ، ولا شرع ، ثم في وجود رجل يقال له : عوج بن عنق ، نظر ، والله أعلم (٤).

وقال ابن قيم الجوزية ، بعد أن ذكر حديث عوج : «وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث ، وكذب على الله ، وإنما العجب ممن يدخل هذا في كتب العلم من التفسير وغيره ، فكل ذلك من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء ، والسخرية بالرسل وأتباعهم».

قال أبو شهبة : وسواء أكان عوج بن عوق شخصيّة وجدت حقيقة ، أو شخصيّة خياليّة ، فالذي ننكره هو : ما أضفوه عليه من صفات وما حاكوه حوله من أثواب الزور والكذب والتجرّؤ ، على أن يفسر كتاب الله بهذا الهراء. وليس في نص القرآن ما يشير إلى ما حكوه وذكروه ، ولو من بعد ، أو وجه الاحتمال ، ثم أين زمن نوح من زمن موسى عليه‌السلام وما يدل عليه آية : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها)(٥) كان في زمن موسى قطعا ، ولا مرية في هذا ، فهل طالت الحياة بعوج حتى زمن موسى؟! بل قالوا : إن موسى هو الذي قتله ، ألا لعن الله اليهود ، فكم من علم أفسدوا وكم من خرافات وأباطيل

__________________

(١) نوح / ٢٦.

(٢) الشعراء / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٣) هود / ٤٣.

(٤) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٣٨.

(٥) المائدة / ٢٢.

١٧٤

وضعوا (١).

٩ ـ الإسرائيليات في قصّة التيه

فمن هذه الأخبار العجيبة التي رويت في قصّة التيه ، ما رواه ابن جرير بسنده عن الربيع ، قال : لمّا قال لهم القوم ما قالوا ، ودعا موسى عليهم ، أوحى الله إلى موسى : إنها محرمة عليهم أربعين سنة ، يتيهون في الأرض ، فلا تأس على القوم الفاسقين ، وهم يومئذ ستمائة ألف مقاتل ؛ فجعلهم فاسقين بما عصوا ، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ سنة ، أو دون ذلك ، يسيرون كل يوم جادّين ، لكي يخرجوا منها ، حتى يمسوا وينزلوا ، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا ، وأنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم ، فأنزل عليهم المنّ والسلوى (٢) ، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم ، ينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. وسأل موسى ربّه أن يسقيهم ، فأتى «بحجر الطور» ، وهو حجر أبيض ، إذا ما أنزل القوم ضربه بعصاه ، فيخرج منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط منهم عين ، قد علم كل أناس مشربهم. وكذلك روى : أن ثيابهم ما كانت تبلى ، ولا تتسخ. وكذلك نقل بعض المفسرين كالزمخشري وغيره : بأنهم كانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا.

وكذلك ذكروا أن الحجر كان من الجنة ، ولم يكن حجرا أرضيا. ومنهم من قال : كان على هيئة رأس إنسان. ومنهم من قال : كان على هيئة رأس شاة. وقيل :

__________________

(١) الإسرائيليّات والموضوعات ، ص ١٨٧.

(٢) المن : شيء كالعسل كان ينزل على الشجر من السماء فيأخذونه ويأكلونه ، والسلوى : طير كالسّماني.

١٧٥

كان طوله عشرة أذرع ، وله شعبتان تتقدان في الظلام ، إلى غير ذلك من تزيّدات بني إسرائيل. وليس في القرآن ما يدلّ على هذا الذي ذكروه في وصف الحجر ، مع أنه لو أريد بالحجر الجنس ، وأن يضرب أي حجر ما ؛ لكان أدل على القدرة ، وأظهر في الإعجاز.

وقد لاحظ ابن خلدون ـ من قبل ـ المغالط التي تدخل في مثل هذه المرويّات ، فقال في مقدّمته المشهورة :

اعلم أن فنّ التاريخ فنّ عزيز المذهب ، جم الفوائد ، شريف الغاية ؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سيرهم ، والملوك في دولهم ، وسياستهم ، حتى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا ، فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ، ومعارف متنوعة ، وحسن نظر وتثبّت ، يفضيان بصاحبهما إلى الحق ، وينكّبان به عن المزلّات والمغالط ؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النقل ، ولم تحكم أصول العادة ، وقواعد السياسة ، وطبيعة العمران ، والأحوال في الاجتماع الإنساني ، ولو قيس الغائب منها بالشاهد ، والحاضر بالذاهب ، فربّما لم يؤمن فيها من العثور ، ومزلّة القدم ، والحيد عن جادّة الصدق ، وكثيرا ما وقع للمؤرّخين ، والمفسّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات ، والوقائع ؛ لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّا أو سمينا ، ولم يعرضوها على أصولها ، ولا قاسوها بأشباهها ، ولا سبروها بمعيار الحكمة ، والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلّوا عن الحق ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ، ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال ، والعساكر إذا عرضت في الحكايات ؛ إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ، ولا بدّ من ردّها إلى الأصول ، وعرضها على القواعد. وهذا : كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل ، وأن موسى أحصاهم في التيه ، بعد

١٧٦

أن أجاز من كان يطيق حمل السلاح خاصّة من ابن عشرين ، فما فوقها ، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون ، ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام ، واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش ، لكل مملكة حصة من الحامية تتسع لها ، وتقوم بوظائفها ، وتضيق عما فوقها ، تشهد بذلك العوائد المعروفة ، والأحوال المألوفة. ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير ، يشهد لذلك : ما كان من غلب بخت نصر لهم ، والتهامه بلادهم ، واستيلائه على أمرهم ، وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم ، وهو من بعض عمّال مملكة فارس. وكانت ممالكهم بالعراقين ، وخراسان ، وما وراء النهر ، والأبواب ، أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير ، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبا منه. وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرين ألفا ، كلهم متبوع ، على ما نقله «سيف». قال : وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف. وعن عائشة ، والزهري : أن جموع رستم التي حفّ بهم سعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا كلهم متبوع.

وأيضا : فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد ، لاتّسع نطاق ملكهم ، وانفسح مدى دولتهم ، فإن العمالات والممالك في الدول ، على نسبة الحامية ، والقبيل القائمين بها في قلّتها وكثرتها حسبما نبيّن ذلك في فصل الممالك من الكتاب الأوّل (١) ، والقوم لم تتّسع ممالكهم إلى غير الأردن ، وفلسطين من الشام ، وبلاد يثرب ، وخيبر ، من الحجاز ، على ما هو المعروف.

وأيضا : فالذي بين موسى وإسرائيل ، إن هو إلّا أربعة آباء ، على ما ذكره المحققون ، فإن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث ـ بفتح الهاء وكسرها ـ بن

__________________

(١) يريد بالكتاب الأول من «مقدمته المشهورة» وقد قسمها إلى فصول.

١٧٧

لاوى ـ بكسر الواو وفتحها ـ بن يعقوب وهو : إسرائيل ، هكذا نسبه في التوراة. والمدة بينهما على ما نقله المسعودي ، قال : دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط ، وأولادهم ، حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا ، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه‌السلام إلى التيه ، مائتين وعشرين سنة ، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة. ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد!! وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده ، فبعيد أيضا ؛ إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلّا أحد عشر أبا ، ولا يتشعّب النسل في أحد عشر من الولد إلى هذا العدد الذي زعموه ، اللهم إلّا المئين والآلاف ، فربما يكون. وأما أن يتجاوز هذا إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد ، واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد ، والقريب المعروف تجد زعمهم باطلا ، ونقلهم كاذبا.

قال : والذي ثبت في «الإسرائيليّات» أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصة ، وأن مقرباته كانت ألفا ، وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه. هذا هو الصحيح من أخبارهم ، ولا يلتفت إلى خرافات العامة منهم ، وفي أيام سليمان عليه‌السلام ، وملكه كان عنفوان دولتهم ، واتساع ملكهم (١).

وهذا الفصل من النفاسة بمكان ؛ فلذلك حرصنا على ذكره ؛ لأنه يفيدنا في رد الكثير من الإسرائيليّات التي وقعت فيها المغالط ، والأخبار الباطلة ، والخرافات التي كانت سائدة في العصور الأولى.

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ، ص ٩ ـ ١١.

١٧٨

١٠ ـ الإسرائيليات في : «المائدة التي طلبها الحواريّون»

ومن الإسرائيليات التي ذكرها المفسرون عند تفسير قوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا ، وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ ، وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١).

وقد اختلف العلماء في المائدة ، أنزلت أم لا؟ وجمهور العلماء ـ سلفا وخلفا ـ على نزولها. وهذا هو ظاهر القرآن ، فقد وعد الله ، ووعده محقّق لا محالة. وذهب الحسن ومجاهد إلى أنها لم تنزل ؛ وذلك لأن الله سبحانه لمّا توعّدهم على كفرهم ، بعد نزولها بالعذاب البالغ غاية الحدّ ، خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا ، وقالوا : لا نريدها فلم تنزل ، ولا ندري ما الحامل لهم على هذا؟!.

وقد أحيطت المائدة بأخبار كثيرة ، أغلب الظن أنها من الإسرائيليّات ، رويت عن وهب بن منبّه ، وكعب ، وسلمان ، وابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي ، وعطاء وغيرهم ، بل رووا في ذلك حديثا عن عمّار بن ياسر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنها نزلت خبزا ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ، ولا يدّخروا لغد». وفي رواية : بزيادة «ولا يخبئوا ، فخانوا وادّخروا ، ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير». ورفع مثل هذا إلى النبي غلط ، ووهم من أحد الرواة على ما نرجح. فقد روى هذا ابن جرير في تفسيره مرفوعا ، وموقوفا ، والموقوف أصح ، وقد نص على أن

__________________

(١) المائدة / ١١٢ ـ ١١٥.

١٧٩

المرفوع لا أصل له الإمام أبو عيسى الترمذي ، فقال بعد أن روى الروايات المرفوعة : «هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد ، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث الحسن بن قزعة» ، وبعد أن ذكر رواية موقوفة عن أبي هريرة ، قال : «وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا» (١).

وقد اختلفت المرويات في هذا ، فروى العوفي عن ابن عباس : أنها خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا ، إذا شاءوا. وقال عكرمة عن ابن عباس : كانت المائدة سمكة ، وأريغفة (٢). وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم.

وقال كعب الأحبار : نزلت المائدة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض ، عليها كل الطعام إلّا اللحم.

وقال وهب بن منبّه : أنزلها من السماء على بني إسرائيل ، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاءوا من ضروب شتّى ، فكان يقعد عليها أربعة آلاف ، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم ، فلبثوا على ذلك ما شاء الله عزوجل.

وقال وهب أيضا : نزل عليهم أقرصة من شعير ، وأحوات (٣) ، وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ، ثم يخرجون ، ثم يجيء آخرون فيأكلون ، ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم ، وأفضلوا. وهكذا لم يتّفق الرواة على شيء ، مما

__________________

(١) سنن الترمذي ، ج ٤ ، ص ٣٢٥.

(٢) التصغير للتقليل هنا.

(٣) أحوات : جمع حوت ، في القاموس : الحوت : السمك ، جمعه : أحوات ، وحوتة ، وحيتان.

١٨٠