التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

ولعلّ الحديث الوارد : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم» (١) ناظر إلى هذا النوع من المسكوت عنه في شرعنا ، لا نعلم صدقه عن كذبه ؛ لأنّهم خلطوا الحقّ بالباطل. فلو صدّقناه فلعله الباطل ، أو كذّبناه فلعله الحقّ. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به ، أو بباطل فتصدّقوا به» (٢).

وهكذا قال عبد الله بن مسعود :

«لا تسألوا أهل الكتاب ، فإنّهم لن يهدوكم ـ أي لن يخلصوا لكم النصح ـ وقد أضلّوا أنفسهم ، فتكذّبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل» (٣).

وعليه فيجب الحذر فيما لم نجد صدقه ولا كذبه في المأثور من شرعنا الإسلاميّ ويلزم إجراء قواعد النقد والتمحيص ـ التثبّت ـ فيما وجدناه في كتب القوم من آثار وأخبار.

هذه قصّة يوسف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت مواضع عبوها في القرآن وترك الباقي ، وقد تعرّض لتفاصيلها العهد القديم. وهكذا سائر قصص الأنبياء ، وفيها الغثّ والسمين.

نماذج من إسرائيليات مبثوثة في التفسير

سبق القول بأن في التفسير من الإسرائيليات طامّات وظلمات ، أصبحت مثارا للشكّ والطعن والتقوّل على الإسلام ومقدّساته. ويرجع أكثر اللّوم على الأوائل الذين زجّوا بتلكم الأساطير اليهوديّة وغيرها في التفسير والحديث

__________________

(١) جامع البخاري ، ج ٩ ، ص ١٣٦.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ٣٨٧.

(٣) فتح الباري بشرح البخاري ، ج ١٣ ، ص ٢٥٩.

١٤١

والتاريخ ، وهكذا تساهل أهل الحديث في جمع وثبت تلكم الإسرائيليّات في كتبهم ، أمثال أبي جعفر الطبري ، وجلال الدين السيوطي ، وأضرابهما من أرباب كتب التفسير بالمأثور.

وقد أخذ على تفسير ابن جرير ، أنّه يذكر الروايات من غير بيان وتمييز بين صحيحها وسقيمها ، ولعلّه كان يحسب أنّ ذكر السند ـ ولو لم ينصّ على درجة الرواية قوّة وضعفا ـ يخلي المؤلّف عن المؤاخذة والتبعات. وتفسيره هذا مشحون بالروايات الواهية والمنكرة والموضوعات والإسرائيليّات ، وذلك فيما يذكره في الملاحم والفتن وفي قصص الأنبياء ، وحتى في مثل قصص نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في قصة زينب بنت جحش ، على ما يرويها القصّاص والمبطلون ، وأمثالها كثير.

كما أخذ على تفسير «الدرّ المنثور» ، أنّه وإن عزى الروايات إلى مخرجيها ، لكن لم يبيّن منزلتها من الصحة والضعف أو الوضع ، وليس كل قارئ يمكنه معرفة ذلك بمجرد ذكر السند أو المصدر المخرج منه ، ولا سيّما في عصورنا المتأخّرة. ولعلّه أيضا من المحدّثين الذين يرون أن إبراز السند أو المخرج يخلي من العهدة والتبعة. وفي الكتاب إسرائيليّات وبلايا كثيرة ، ولا سيّما في قصص الأنبياء ؛ وذلك مثل ما ذكره في قصّة هاروت وماروت ، وفي قصّة الذبيح وأنّه إسحاق ، وفي قصّة يوسف ، وفي قصّة داود ، وسليمان ، وفي قصّة إلياس. وأسرف في ذكر المرويّات في بلاء أيّوب. ومعظمها مما لا يصحّ ولا يثبت ، وإنّما هو من الإسرائيليات التي سردها بنو إسرائيل وأكاذيبهم على الأنبياء.

وهذان التفسيران هما الأساس لبثّ ونشر الإسرائيليّات ، فيما تأخر من كتب التفسير. وسنعرض منها نماذج :

١٤٢

١ ـ الإسرائيليات في قصّة هاروت وماروت (١)

روى السيوطي في «الدر المنثور» ، في تفسير قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ)(٢) روايات كثيرة وقصصا عجيبة ، رويت عن ابن عمر ، وابن مسعود ، وعليّ ، وابن عباس ، ومجاهد ، وكعب ، والربيع ، والسدّي. رواها ابن جرير الطبري في تفسيره ، وابن مردويه ، والحاكم ، وابن المنذر ، وابن أبي الدنيا ، والبيهقي ، والخطيب في تفاسيرهم وكتبهم (٣).

وخلاصتها : أنه لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أيّ ربّ ، هذا العالم إنّما خلقتهم لعبادتك ، وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر ، وقتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنى ، وشرب الخمر ، فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم ، فقيل لهم : إنهم في غيب ، فلم يعذروهم. وفي بعض الروايات : أن الله قال لهم : لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم ، قالوا : سبحانك ، ما كان ينبغي لنا. وفي رواية أخرى : قالوا : لا ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري ، وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وركّبت فيهما الشهوة ، وأمرا أن يعبدا الله ، ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال

__________________

(١) تركنا القلم هنا بيد الدكتور محمد بن محمد أبي شهبة في كتابه «الإسرائيليّات والموضوعات» فقد استوفى هذا الجانب استيفاء كاملا واستقصى الإسرائيليّات بشكل رتيب ، ومن ثم فقد اكتفينا على ما ذكره ، مع شيء من التصرّف والتلخيص أو الزيادة أحيانا. راجع : كتابه من ص ١٥٩ إلى ص ٣٠٥.

(٢) البقرة / ١٠٢.

(٣) الدرّ المنثور ، ج ١ ، من ص ٩٧ ـ ١٠٣. وتفسير ابن جرير ، ج ١ ، ص ٣٦٢ ـ ٣٦٧ ، ط بولاق.

١٤٣

الحرام ، والسرقة ، والزنى وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا ، يحكمان بين الناس بالحقّ ، وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها فى سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب وأنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول ، وأنهما أراداها (١) على نفسها ، فأبت إلّا أن يكونا على أمرها ودينها ، وأنهما سألاها عن دينها ، فأخرجت لهما صنما ، فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فصبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها ، فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، فأبت إلّا أن يكونا على دينها ، وأن يعبدا الصنم الذي تعبده ، فأبيا ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، او تقتلا النفس ، أو تشربا هذا الخمر. فقالا : كلّ هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، وسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها (٢). فمر بهما إنسان ، وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما ، فقتلاه ، فلمّا أن ذهب عنهما السكر ، عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة ، وأرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا. وكشف الغطاء فيما بينهما ، وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب ، وعرفوا أنّ من كان في غيب فهو أقل خشية ؛ فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض. فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ؛ قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا ، أو عذاب الآخرة ، فقالا : أمّا عذاب الدنيا فينقطع ، ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما بها يعذّبان معلّقين بأرجلهما. وفي بعض الروايات ، أنهما علّماها الكلمة التي يصعدان بها إلى السماء ، فصعدت ، فمسخها الله ، فهي هذا الكوكب المعروف

__________________

(١) راوداها عن نفسها.

(٢) أي فعلا بها الفاحشة.

١٤٤

بالزهرة (١).

ويذكر السيوطي أيضا في كتابه ؛ ما رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه (٢) ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة : أنها قدمت عليها امرأة من دومة الجندل ، وأنها أخبرتها أنها جيء لها بكلبين أسودين فركبت كلبا ، وركبت امرأة أخرى الكلب الآخر ، ولم يمض غير قليل ، حتى وقفتا ببابل. فإذا هما برجلين معلّقين بأرجلهما ، وهما هاروت وماروت ، واسترسلت المرأة التي قدمت على عائشة في ذكر قصّة عجيبة غريبة.

ويذكر ايضا : أن ابن المنذر أخرج من طريق الأوزاعي ، عن هارون بن رباب ، قال : دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل قد ثنّيت له وسادة ، وهو متّكئ عليها ، فقالوا : هذا قد لقي هاروت وماروت ، فقلت هذا ، قالوا نعم ، فقلت : حدّثنا رحمك الله ، فأنشأ الرجل يحدّث بقصة عجيبة غريبة (٣).

وكل هذا من خرافات بني إسرائيل ، وأكاذيبهم التي لا يشهد لها عقل ، ولا نقل ، ولا شرع ، ولم يقف بعض رواة هذا القصص الخرافي الباطل عند روايته عن بعض الصحابة والتابعين ، ولكنهم أوغلوا باب الإثم ، والتجنّي الفاضح ، فألصقوا هذا الزور إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفعوه إليه. فقد قال السيوطيّ : أخرج سعيد ، وابن جرير ، والخطيب في تاريخه ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع ، انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت : لا ، مرّتين أو ثلاثا ، ثم

__________________

(١) الزهرة ، كرطبة ـ يعني بضم الزاي وفتح الهاء ـ : نجم في السماء كما في القاموس وغيره.

(٢) تصحيح الحاكم غير معتد به ؛ لأنه معروف أنه متساهل في الحكم بالتصحيح ، كما قال ابن الصلاح وغيره. وقد صحّح أحاديث تعقّبها الإمام الذهبي وحكم عليها بالوضع.

(٣) الدر المنثور ، ص ١٠١ وتفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٣٦٦.

١٤٥

قلت : قد طلعت. قال : لا مرحبا بها ، ولا أهلا. قلت : سبحان الله!! نجم مسخّر ، سامع ، مطيع!! قال : ما قلت لك إلّا ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : إن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا : لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال : فاختاروا ملكين منكم ، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت ، فنزلا ، فألقى الله عليهم الشبق. قلت : وما الشبق؟ قال : الشهوة ، فجاءت امرأة يقال لها : الزهرة ، فوقعت في قلبيهما ، فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ، ثم قال أحدهما للآخر : هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال : نعم فطلباها لأنفسهما ، فقالت : لا أمكّنكما حتى تعلّماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء ، وتهبطان ، فأبيا ، ثم سألاها أيضا ، فأبت ، ففعلا ، فلمّا استطيرت طمسها الله كوكبا ، وقطع أجنحتهما. ثم سألا التوبة من ربّهما ، فخيّرهما بين عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة ، فأوحى الله إليهما : أن ائتيا «بابل» (١). فانطلقا إلى بابل ، فخسف بهما ، فهما منكوسان بين السماء والأرض ، معذّبان إلى يوم القيامة.

ثمّ ذكر أيضا رواية أخرى ، مرفوعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تخرج في معناها عما ذكرنا (٢) ، ولا ينبغي أن يشك مسلم عاقل فضلا عن طالب حديث في أن هذا موضوع على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهما بلغت أسانيده من الثبوت ، فما بالك إذا كانت أسانيدها واهية ، ساقطة ، ولا تخلو من وضّاع ، أو ضعيف ، أو مجهول؟! ونصّ على وضعه أئمة الحديث!!

__________________

(١) بابل : بلد من بلاد العراق قرب الكوفة والحلة.

(٢) الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٩٧ وتفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

١٤٦

وقد حكم بوضع هذه القصّة الإمام أبو الفرج ابن الجوزي (١) ، ونصّ الشهاب العراقي على أنّ من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذّبان على خطيئتهما مع الزهرة ، فهو كافر بالله تعالى العظيم (٢). وقال الإمام القاضي عياض في «الشفا» : وما ذكره أهل الأخبار ، ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت ، لم يرد فيه شيء لا سقيم (٣) ، ولا صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس.

وكذلك حكم بوضع المرفوع من هذه القصّة الحافظ عماد الدين ابن كثير. وأما ما ليس مرفوعا فبيّن أنّ منشأه روايات إسرائيلية أخذت عن كعب وغيره ألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام. قال ابن كثير في تفسيره بعد أن تكلم على الأحاديث الواردة في هاروت وماروت ، وأن روايات الرفع غريبة جدّا : «وأقرب ما يكون في ذلك أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن كعب الأحبار ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر ، عن كعب : ورفع مثل هذه الإسرائيليات إلى النبي كذب واختلاق ، ألصقه زنادقة أهل الكتاب ، زورا وبهتانا. وذكر مثل ذلك في البداية والنهاية» (٤).

قال أبو شهبة : وهذا الذي قاله ابن كثير هو الحق الذي لا ينبغي أن يقال غيره. وليس أدلّ على هذا من أن ابن جرير رواها بالسند الذي ذكره ابن كثير ، وبغيره عن ابن عمر ، عن كعب الأحبار (٥). ولكن بعض الرواة غلطا ، أو لسوء نية رفعها

__________________

(١) الموضوعات ، ج ١ ، ص ١٨٧.

(٢) روح المعاني ، ج ١ ، ص ٣٤١.

(٣) لعله أراد به الضعيف ، واعتبر ما روى مرفوعا ساقطا عن الاعتبار.

(٤) البداية والنهاية ، ج ١ ، ص ٣٧.

(٥) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٣٦٣.

١٤٧

ونسبها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا ردّها المحققون من المفسرين الذين مهروا في معرفة أصول الدين ، وأبت عقولهم أن تقبل هذه الخرافات كالإمام الرازي ، وأبي حيان ، وأبي السعود ، والآلوسي.

ثم هذه من ناحية العقل غير مسلّمة ، فالملائكة معصومون عن مثل هذه الكبائر ، التي لا تصدر إلّا من عربيد. وقد أخبر الله عنهم بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون. كما ورد في بعض الروايات التي أشرنا إليها آنفا ردّ لكلام الله ، و

في رواية أخرى : أن الله قال لهما : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت بنا يا ربّ ما عصيناك!! ، وردّ كلام الله كفر ، ننزّه عنه من له علم بالله وصفاته ، فضلا عن الملائكة.

ثم كيف ترفع الفاجرة إلى السماء ، وتصير كوكبا مضيئا؟! وما النجم الذي يزعمون أنه «الزهرة» ، وزعموا أنه كان امرأة ، فمسخت؟ إلّا في مكانه ، من يوم أن خلق الله السماوات والأرض.

وهذه الخرافات التي لا يشهد لها نقل صحيح ، ولا عقل سليم هي كذلك مخالفة لما صار عند العلماء المحدثين أمرا يقينيا ، ولا أدري ما ذا يكون موقفنا أمام علماء الفلك ، والكونيّات ، إذا نحن لم نزيّف هذه الخرافات ، وسكتنا عنها ، أو انتصرنا لها؟!.

وإذا كان بعض العلماء المحدثين (١) مال إلى ثبوت مثل هذه الروايات التي لا نشك في كذبها ، فهذا منه تشدّد في التمسك بالقواعد ، من غير نظر إلى ما يلزم من الحكم بثبوت ذلك من المحظورات. ونحن لا ننكر أن بعض أسانيدها صحيحة أو حسنة ، إلى بعض الصحابة أو التابعين ، ولكن مرجعها ومخرجها من

__________________

(١) هو الحافظ ابن حجر ، وتابعه السيوطي.

١٤٨

إسرائيليات بني إسرائيل ، وخرافاتهم ، والراوي قد يغلط ، وبخاصة في رفع الموقوف ، وقد حققنا هذا في مقدمات البحث ، وأنّ كونها صحيحة في نسبتها ، لا ينافي كونها باطلة في ذاتها. ولو أنّ الانتصار لمثل هذه الأباطيل يترتّب عليه فائدة ما ؛ لغضضنا الطرف عن مثل ذلك ، ولما بذلنا غاية الجهد في التنبيه إلى بطلانها ، ولكنّها فتحت على المسلمين باب شر كبير ، يجب أن يغلق.

قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكريّ عليه‌السلام وقد سئل عن الذي يقوله الناس بشأن الملكين هاروت وماروت ، وأنهما عصيا الله ، قال : «معاذ الله من ذلك ، إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى.

فقد قال الله عزوجل فيهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(١).

وقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) ـ يعني الملائكة ـ (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٢).

وقال ـ في الملائكة ـ : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(٣).

وهكذا سأل الخليفة المأمون العباسي الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام عمّا يرويه الناس من أمر «الزهرة» وأنها كانت امرأة ، فتن بها هاروت وماروت ، وما

__________________

(١) التحريم / ٦.

(٢) الأنبياء / ١٩ ـ ٢٠.

(٣) الأنبياء / ٢٦ ـ ٢٨.

١٤٩

يرويه الناس من أمر «سهيل» ، وأنه كان عشّارا باليمن.

فقال الإمام : كذبوا في قولهم : إنّهما كوكبان ، وإنّما كانتا دابّتين من دوابّ البحر. وغلط الناس إنّهما كوكبان ، وما كان الله تعالى ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ، ثم يبقيهما ما بقيت السماء والأرض.

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية : كان بعد نوح عليه‌السلام قد كثرت السحرة والمموّهون ، فبعث الله تعالى ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم وبردّ كيدهم. فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله ، وأمرهم أن يقفوا به على السحر وأن يبطلوه ، ونهاهم أن يسحروا به الناس. وهذا كما يدلّ على السّم ما هو ، وعلى ما يدفع به غائلته. ثم يقال لمتعلّم ذلك : هذا السّمّ فمن رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا ، وإيّاك أن تقتل بالسّم أحدا.

وقال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام بشأن الشياطين في الآية :

لما مات سليمان النبيّ عليه‌السلام وضع الشيطان السحر وكتبه في كتاب ثم طواه ، وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ، من أراد كذا فليعمل كذا ، ثم دفنه تحت سرير سليمان ، ثم استثاره لهم فقرأه ، فقال الكافرون : ما كان سليمان يغلبنا إلّا بهذا ، فقال الله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ـ بأعمال السحر ـ (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(١).

إذن فليس في الآية ما يدلّ ـ ولو من بعد ـ على هذه القصة المنكرة ، وليس

__________________

(١) راجع : تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني ، ج ١ ، ص ١٣٦ ـ ١٣٨. البقرة / ١٠٢.

١٥٠

السبب في نزول الآية ذلك ، وإنّما السبب أنّ الشياطين في ذلك الزمن السحيق كانوا يسترقون السمع من السماء ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفّقونها ، ويلقونها إلى كهنة اليهود وأحبارهم. وقد دوّنها هؤلاء في كتب يقرءونها ، ويعلّمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه‌السلام حتى قالوا : هذا علم سليمان وما تمّ لسليمان ملكه إلّا بهذا العلم ، وبه يسخّر الإنس ، والجن ، والريح التي تجري بأمره. وهذا من افتراءات اليهود على الأنبياء ، فأكذبهم الله بقوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(١).

ثم عطف عليه : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ...) فالمراد بما أنزل هو «علم السحر» الذي نزلا ليعلّماه الناس ، حتى يحذروا منه ، فالسبب في نزولهما هو تعليم الناس أبوابا من السحر ، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر والنبوة ، وأن سليمان لم يكن ساحرا ، وإنما كان نبيّا مرسلا من ربّه. وقد احتاط الملكان غاية الاحتياط ، فما كان يعلّمان أحدا شيئا من السحر حتى يحذّراه ، ويقولا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي بلاء واختبار ، فلا تكفر بتعلّمه والعمل به. وأما من تعلّمه للحذر منه ، وليعلم الفرق بينه وبين النبوّة والمعجزة ؛ فهذا لا شيء فيه ، بل هو أمر مطلوب ، مرغوب فيه ، إذا دعت الضرورة إليه. ولكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة ، بل كانوا يفرّقون به بين المرء وزوجته ، وذلك بإذن الله ومشيئته.

وقد دلت الآية على أن تعلّم السحر لتحذير الناس من الوقوع فيه والعمل به مباح ، ولا إثم فيه ، وأيضا تعلّمه لإزالة الاشتباه بينه وبين المعجزة والنبوة مباح ، ولا إثم فيه. وإنّما الحرام والإثم في تعلّمه أو تعليمه للعمل به ، فهو مثل ما قيل :

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

__________________

(١) لأن تعلم السحر للعمل به كفر.

١٥١

واليهود ـ عليهم غضب الله ـ لما جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يعلمون أنّه النبيّ الذي بشّرت به التوراة ، حتى كانوا يستفتحون به على المشركين قبل ميلاده وبعثته ، فلمّا جاءهم ما عرفوا ، كفروا به ، ونبذوا كتابهم التوراة ، وكتاب الله القرآن وراء ظهورهم ، وبدل أن يتّبعوا الحقّ المبين ، اتّبعوا السحر الذي توارثوه عن آبائهم والذي علّمتهم إياه الشياطين. وكان الواجب عليهم أن ينبذوا السحر ، ويحذّروا الناس من شرّه ؛ وذلك كما فعل الملكان : هاروت وماروت من تحذير الناس من شروره ، والعمل به. وهذا هو التفسير الصحيح للآية ، لا ما زعمه المبطلون الخرفون ؛ وبذلك يحصل التناسق بين الآيات ، وتكون الآية متآخية متعانقة. ولا أدري ما الصلة بين ما رووه من إسرائيليات ، وبين قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ...)(١).

والعجب أن مثل ابن جرير حوّم حول ما ذكرناه في تفسير الآية ، ثم لم يلبث أن ذكر ما ذكر (٢).

والخلاصة : على القارئ أن يحذر من هذه الإسرائيليات ، سواء وجدها في كتاب تفسير ، أو حديث أو تاريخ أو مواعظ ، أو أدب أو ....

٢ ـ إسرائيليّة في المسوخ من المخلوقات

ويوغل بعض زنادقة أهل الكتاب ، فيضعون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرافات في خلق بعض أنواع الحيوانات التي زعموا أنها مسخت. ولو أن هذه الخرافات

__________________

(١) البقرة / ١٠٢.

(٢) تفسير ابن جرير ، ج ١ ، ص ٣٥٩ و ٣٦٠.

١٥٢

نسبت إلى كعب الأحبار وأمثاله أو إلى بعض الصحابة والتابعين ، لهان الأمر ، ولكن عظم الإثم أن ينسب ذلك إلى المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا اللّون من الوضع والدسّ من أخبث وأقذر أنواع الكيد للإسلام ونبيّ الإسلام.

فقد قال السيوطي بعد ما ذكر طامّات وبلايا في قصّة هاروت وماروت ، من غير أن يعلّق عليها بكلمة :

أخرج الزبير بن بكار في الموفّقيات ، وابن مردويه ، والديلمي ، عن عليّ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن المسوخ (١) ، فقال : هم ثلاثة عشر : الفيل ، والدبّ ، والخنزير ، والقرد ، والجرّيث (٢) ، والضبّ ، والوطواط ، والعقرب ، والدعموص ، والعنكبوت ، والأرنب ، وسهيل ، والزهرة. فقيل : يا رسول الله ، وما سبب مسخهن؟ ـ وإليك التخريف والكذب الذي نبرئ ساحة رسول الله منهما ـ فقال :

أمّا الفيل فكان رجلا جبارا لوطيا ، لا يدع رطبا ولا يابسا. وأمّا الدبّ فكان مؤنثا يدعو الناس إلى نفسه. وأمّا الخنزير فكان من النصارى الذين سألوا المائدة ، فلما نزلت كفروا. وأمّا القردة فيهود اعتدوا في السبت. وأمّا الجرّيث فكان ديوثا (٣) ، يدعو الرجال إلى حليلته. وأمّا الضب فكان أعرابيا يسرق الحاج بمحجنه. وأمّا الوطواط فكان رجلا يسرق الثمار من رءوس النخل. وأمّا العقرب فكان رجلا لا يسلم أحد من لسانه. وأمّا الدعموص (٤) فكان نمّاما يفرق بين

__________________

(١) جمع مسخ ، أي الممسوخ من حالة إلى حالة أخرى.

(٢) في القاموس «الجرّيث كسكّيت : سمك».

(٣) الديوث : الذي لا يغار على زوجته.

(٤) الدعموص ـ بضم الدال ـ : دويبة أو دودة سوداء ، تكون في الغدران إذا أخذ ماؤها في النضوب.

١٥٣

الأحبّة. وأمّا العنكبوت فامرأة سحرت زوجها. وأمّا الأرنب فامرأة كانت لا تطهر من حيضها. وأمّا سهيل فكان عشّارا باليمن. وأمّا الزهرة فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت وماروت!!

ألا قبّح الله من وضع هذا الزور والباطل ، ونسبه إلى من لا ينطق عن الهوى.

ومما لا يقضي منه العجب أن السيوطي ذكر هذا الهراء من غير سند ، ولم يعقّب عليه بكلمة استنكار. ومثل هذا لا يشكّ طالب علم في بطلانه ، فضلا عن عالم كبير. وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع ، وقد ذكره السيوطي في «اللّئالئ» ، وتعقّبه بما لا يجدي ، وكان من الأمانة العلمية أن يشير إلى هذا.

وبعد هذا الكذب والتخريف ينقل السيوطي ما رواه الطبراني في الأوسط بسند ـ ضعيف ـ كذا قال ، عن عمر بن الخطاب ، قال : جاء جبرئيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير حينه ، ثم ذكر قصة طويلة في وصف النار ، وأن النبيّ بكى ، وجبريل بكى ، حتى نوديا : لا تخافا إن الله أمّنكما أن تعصياه (١). وأغلب الظن : أنه من الإسرائيليّات التي دسّت في الرواية الإسلامية.

٣ ـ الإسرائيليّات في بناء الكعبة : البيت الحرام والحجر الأسود

وكذلك أكثر السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢) :

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ١ ، ص ١٠٢ و ١٠٣.

(٢) البقرة / ١٢٧.

١٥٤

من النقل عن الأزرقي ، وأمثاله من المؤرّخين والمفسّرين الذين هم كحاطبي ليل ، ولا يميّزون بين الغثّ والسمين ، والمقبول والمردود ، في بناء البيت ، ومن بناه قبل إبراهيم ؛ أهم الملائكة أم آدم؟ والحجر الأسود ؛ ومن أين جاء؟ وما ورد في فضلهما. وقد استغرق في هذا النقل الذي معظمه من الإسرائيليّات التي أخذت عن أهل الكتاب بضع عشرة صحيفة (١) ، لا يزيد ما صح منها أو ثبت عن عشر هذا المقدار.

قال أبو شهبة : ولو أنه اقتصر على الرواية التي رواها البخاري في صحيحه (٢) ، ورواها غيره من العلماء ، لأراحنا وأراح نفسه ، ولما أفسد العقول ، وسمّم النفوس بكل هذه الإسرائيليّات ، التي نحن في غنية عنها ، بما تواتر من القرآن ، وثبت من السنة الصحيحة. وفي الحق : أن ابن جرير كان مقتصدا في الإكثار من ذكر الإسرائيليّات في هذا الموضع ، وإن كان لم يسلم منها ، وذكر بعضها ؛ وذلك مثل ما رواه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة قال : إني مهبط معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ، ويصلّى عنده ، كما يصلّى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان ، رفع ، فكان الأنبياء يحجّونه ، ولا يعلمون مكانه (٣) ، حتى بوّأه الله إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلمه ، مكانه ، فبناه من خمسة أجبل : من حراء ، وثبير ، ولبنان ، وجبل الطور ، وجبل الخمر.

وأعجب من ذلك ما رواه بسنده عن عطاء بن أبي رباح ، قال : «لما أهبط الله آدم من الجنة كان رجلاه في الأرض ، ورأسه في السماء!! يسمع كلام أهل السماء ،

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ١ ، ص ١٢٥ ـ ١٣٧.

(٢) صحيح البخاري ـ كتاب أحاديث الأنبياء ـ باب «واتخذ الله إبراهيم خليلا».

(٣) ولا أدري كيف يحجّونه ولا يعلمون مكانه؟

١٥٥

ودعاءهم ، يأنس إليهم ؛ فهابته الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها ، وفي صلاتها فخفضه إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته ، فوجّه إلى مكّة ، فكان موضع قدمه قرية ، وخطوه مفازة ، حتى انتهى إلى مكّة ، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن ، فلم يزل يطوف به ، حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم فبناه ؛ فذلك قول الله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)(١) إلى غير ذلك مما مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل وخرافاتهم.

ولم يصح في ذلك خبر عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرحم الله الإمام الحافظ ابن كثير ، فقد بيّن لنا منشأ معظم هذه الروايات التي هي من صنع بني إسرائيل ، ودسّ زنادقتهم ، فقد قال فيما رواه البيهقي في «الدلائل» ، من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعث الله جبريل إلى آدم ، فأمره ، ببناء البيت ، فبناه آدم ، ثم أمره بالطواف به ، وقال له : أنت أول الناس ، وهذا أول بيت وضع للناس».

قال ابن كثير : إنه من مفردات ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، والأشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص ، ويكون من الزاملتين (٢) اللتين أصابهما يوم اليرموك ، من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدّث بما فيهما (٣).

وقال في «بدايته» : ولم يجيء في خبر صحيح عن المعصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه‌السلام ، ومن تمسّك في هذا بقوله : (مَكانَ الْبَيْتِ) فليس بناهض

__________________

(١) تفسير ابن جرير ، ج ١ ، ص ٤٢٨ و ٤٢٩. الحج / ٢٦.

(٢) الزاملة : البعير الذي يحمل عليه المتاع.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٣٨٣ وتفسير البغوي ، ج ١ ، ص ١١٥ وفتح الباري ، ج ٦ ، ص ٣١٠.

١٥٦

ولا ظاهر ، لأن مراده : مكانه المقدّر في علم الله تعالى ، المقرّر في قدرته ، المعظّم عند الأنبياء موضعه ، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم (١).

٤ ـ الإسرائيليات في قصة التابوت

ومن الإسرائيليات التي التبس فيها الحق بالباطل ما ذكره غالب المفسرين في تفاسيرهم ، في قصة طالوت ، وتنصيبه ملكا على بني إسرائيل ، واعتراض بني إسرائيل عليه ، وإخبار نبيهم لهم بالآية الدالة على ملكه ، وهي التابوت ؛ وذلك عند قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢).

فقد ذكر ابن جرير ، والثعلبي ، والبغوي ، والقرطبي ، وابن كثير ، والسيوطي في «الدر» ، وغيرهم في تفاسيرهم ، كثيرا من الأخبار عن الصحابة والتابعين ، وعن وهب بن منبّه ، وغيره من مسلمة أهل الكتاب في وصف «التابوت» ، وكيف جاء ، وعلام يشتمل؟ ، وعن «السكينة» وكيف صفتها؟

فقد ذكروا في شأن التابوت أنه كان من خشب الشمشاد (٣) ، نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين ، كان عند آدم إلى أن مات ، ثم عند شيث ، ثم توارثه أولاده ، إلى

__________________

(١) البداية والنهاية ، ج ١ ، ص ١٦٣ وج ٢ ، ص ٢٩٩.

(٢) البقرة / ٢٤٨.

(٣) في «البغوي» بالمعجمتين والدال المهملة ، وفي «القرطبي» بالمعجمة ثم ميم ثم سين مهملة آخره راء ، وفي بعض التفاسير ، والذال المعجمة.

١٥٧

إبراهيم ، ثم كان عند إسماعيل ، ثم يعقوب ، ثم كان في بني إسرائيل ، إلى أن وصل إلى موسى عليه‌السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ، فكان عنده إلى أن مات. ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت شمويل ، وكان عندهم حتى عصوا ، فغلبوا عليه ؛ غلبهم عليه العمالقة.

وهذا الكلام وإن كان محتملا للصدق والكذب ، لكنّنا في غنية ، ولا يتوقّف تفسير الآية عليه.

وقال بعضهم : إن التابوت إنما كان في بني إسرائيل ، ولم يكن من عهد آدم عليه‌السلام ، وأنه الصندوق الذي كان يحفظ فيه موسى عليه‌السلام التوراة. ولعل هذا أقرب إلى الحقّ والصواب.

وكذلك أكثروا من النقل في «السكينة» ، فروي عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : هي ريح فجوج (١) هفّافة ، لها رأسان ووجه كوجه الإنسان.

وقال مجاهد : حيوان كالهرّ ، لها جناحان وذنب ، ولعينيه شعاع ، إذا نظر إلى الجيش انهزم.

وقال محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبّه : «السكينة» رأس هرّة ميّتة ، إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر. وهذا من خرافات بني إسرائيل وأباطيلهم.

وعن وهب بن منبّه أيضا قال : «السكينة» روح من الله تتكلم ، إذا اختلفوا في شيء تتكلّم ، فتخبرهم ببيان ما يريدون.

وعن ابن عباس : «السكينة» طست من ذهب ، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء ، أعطاه الله موسى عليه‌السلام.

__________________

(١) شديد المرور في غير استواء ، ولا أدري كيف يكون للريح رأسان ، ووجه كوجه الإنسان؟.

١٥٨

والحق أنه ليس في القرآن ما يدل على شيء من ذلك ، ولا فيما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما هذه من أخبار بني إسرائيل التي نقلها إلينا مسلمة أهل الكتاب ، وحملها عنهما بعض الصحابة والتابعين ، ومرجعها إلى وهب بن منبّه ، وكعب الأحبار ، وأمثالهما.

قال أبو شهبة : والذي ينبغي أن تفسّر به «السكينة» أن المراد بها الطمأنينة ، والسكون الذي يحلّ بالقلب ، عند تقويم التابوت أمام الجيش. فهي من أسباب السكون ، والطمأنينة ؛ وبذلك تقوى نفوسهم ، وتشتدّ معنوياتهم ؛ فيكون ذلك من أسباب النصر. فهو مثل قوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ...)(١) ، أي طمأنينته ، وما ثبت به قلبه ، ومثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)(٢) ، وقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها ...)(٣). فالمراد ب «السكينة» طمأنينة القلوب ، وثبات النفوس.

٥ ـ الإسرائيليّات في قصّة قتل داود جالوت

ومن الإسرائيليّات ما يذكره المفسرون في قصّة قتل داود ـ وهو جندي صغير في جيش طالوت ـ جالوت الملك الجبّار ؛ وذلك عند تفسير قوله تعالى :

__________________

(١) التوبة / ٤٠.

(٢) الفتح / ٤.

(٣) الفتح / ٢٦.

١٥٩

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(١).

فقد ذكر الثعلبي ، والبغوي ، والخازن ، وصاحب «الدر المنثور» ، وغيرهم ، في تفاسيرهم ، ما خلاصته : أنه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت ـ ملك بني إسرائيل ـ إيشا : أبو داود ، في ثلاثة عشر ابنا له ، وكان داود أصغرهم ، وكان يرمي بالقذافة (٢) فلا يخطئ ، وأنه ذكر لأبيه أمر قذافته تلك ، وأنه دخل بين الجبال ، فوجد أسدا فأخذ بأذنيه ، فلم يهجه ، وأنه مشى بين الجبال ، فسبّح ، فما بقي جبل حتى سبّح معه ، فقال له أبوه : أبشر فإن هذا خير أعطاك الله تعالى إياه.

فأرسل جالوت إلى طالوت أن أبرز إليّ ، أو أبرز إليّ من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي ، وإن قتلته فلي ملككم. فشقّ ذلك على طالوت ، فنادى في عسكره : من قتل جالوت زوّجته ابنتي ، وناصفته ملكي. فهاب الناس جالوت ، فلم يجبه أحد.

فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى ، فدعا الله في ذلك ، فأتى بقرن فيه دهن القدس ، وتنّور من حديد ، فقيل : إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه ، فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ، ولا يسيل على وجهه ، بل يكون على رأسه كالإكليل (٣) ، ويدخل هذا التنّور فيملؤه ، ولا يتقلقل فيه.

__________________

(١) البقرة / ٢٥١.

(٢) شيء يقذف به كالمقلاع فلا يخطئ هدفه.

(٣) ما يلبسه الملوك على رءوسهم.

١٦٠