التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

قال الإمام مالك بشأنه : كان ابن جريج حاطب ليل ، لا يبالي من أين يأخذ.

وعن أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريج : قال فلان وقال فلان وأخبرت ، جاء بمناكير. وإذا قال : أخبرني وسمعت ، فحسبك به.

وقال الدارقطني ، تجنّب تدليس ابن جريج ، فإنه قبيح التدليس ، لا يدلّس إلّا فيما سمعه من مجروح (١).

مبدأ نشر الإسرائيليّات

قد عرفت منع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مراجعة أهل الكتاب ، منعه الباتّ ، حتى الاستنساخ من كتبهم فضلا عن الرجوع إلى أقاويلهم. ومن ثمّ لم يكن يجرأ أحد من الصحابة أن يراجع أهل الكتاب أو يأخذ عنهم شيئا من الأخبار ، وذلك ما دام النبيّ على قيد الحياة.

وفي حديث عمر الآنف ، لمّا زجره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على استنساخه عن كتب القوم ، قام وقال متندّما على ما فرط منه : «رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبك رسولا» (٢) ..

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ٤٠٢ ـ ٤٠٦.

(٢) حدّث عمر عن نفسه ، قال : انتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا في يدك يا عمر؟ قلت : كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌حتى احمرّت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقال : يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا. ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة ، فلا تهوّكوا ، ولا يغرّنكم المتهوّكون. فقمت وقلت : رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبك نبيّا

١٢١

وهكذا انتهج المسلمون منهجا سليما عن شوب أكدار أهل الكتاب ، مدّة حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومدّة أيام أبي بكر ، وطرفا من أيّام عمر.

ثم لمّا توسّعت رقعة الإسلام وفاضت بلاد المسلمين بكثرة الوافدين ، وفيهم الأجانب عن روح الإسلام ، ممّن لا معرفة له بأصول الشريعة ، نرى أنّ هذا السّد المنيع قد أزيل ، وجعلت أكاذيب أهل الكتاب تتسرّب بين المسلمين ، ولم تزل تتوسّع دائرتها مع توسّع البلاد.

هذا كعب الأحبار ، أتى بخزعبلاته في هذا العهد ، وأبدى عبد الله بن عمرو بن العاص بمفترياته عن زاملتيه أيضا في هذا العهد ، كما كظّ أبو هريرة بمخاريقه في هذا الدور المتأخّر عن حياة الرسول. وهكذا نرى عمر بن الخطاب قد أذن لتميم بن أوس الداري أن يقصّ قصصه قائما في المسجد النبويّ ، علانية على رءوس الأشهاد في هذا العهد (١) ، كما أصاخ بأذنيه لمخاريق كعب. يقول ابن كثير بعد ما ساق الروايات في أن الذّبيح هو إسحاق : وهذه الأقوال كلّها مأخوذة عن

__________________

(تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٦٧) و

روى أحمد بإسناده عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر بن الخطاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك! قال : فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال عبد الله بن ثابت : فقلت لعمر : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عمر : رضينا بالله تعالى ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا. قال : فسرى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظّي من الأمم وأنا حظّكم من النبيين.

(مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦)

(١) سير أعلام النبلاء ، ج ٢ ، ص ٤٤٧.

١٢٢

كعب الأحبار ، فإنّه لما أسلم في الدولة العمريّة جعل يحدّث عمر عن كتبه قديما ، فربّما استمع له عمر ، فترخّص الناس في استماع ما عنده ، ونقلوا ما عنده عنه ، غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمّة حاجة إلى حرف واحد مما عنده (١).

فقد كان العقد الثاني بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد رواج القصص الأسطورية والإسرائيليات ، حسبما قال الدكتور أبو شهبة : إنّ بدعة القصّ قد حدثت في آخر عهد الفاروق : عمر بن الخطاب (٢).

وهل كان هناك نكير على هذا الفعيل؟

كان عمر بين حين وآخر يشدّد النكير على هذا الصنيع ، ولكن من غير تداوم عليه ، فكان هناك ـ رغم تشديد عمر ـ أناس يقومون بنسخ أو ترجمة كتب العهد القديم ، والتّحديث عنها بين المسلمين ، أما المراجعة إلى أهل الكتاب والقصّ على الناس فقد تعارف وشاع ذلك العهد.

أخرج الحافظ أبو يعلى الموصلي عن خالد بن عرفطة ، قال : كنت جالسا عند عمر ، إذ أتي برجل مسكنه السوس (٣). فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال : نعم. قال : وأنت النازل بالسوس؟ قال : نعم. فضربه بقناة معه. فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين؟! فقال له عمر : اجلس ، فجلس ، فقرأ عليه : بسم الله الرحمن الرحيم. (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ، ج ٤ ، ص ١٧.

(٢) الإسرائيليات والموضوعات ، ص ٨٩.

(٣) سوس : مدينة شوش التي بها قبر دانيال ، من أرض خوزستان.

١٢٣

مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(١) ، فقرأها عليه ثلاثا وضربه ثلاثا. فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟ قال : مرني بأمرك أتّبعه ، قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ، ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس ، فلئن بلغني عنك أنّك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكتك عقوبة.

ثم قال له عمر : اجلس ، فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم. فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا في يدك يا عمر؟! قلت : كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى احمرّت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيّكم؟ ، السلاح السلاح. فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «يا أيّها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة ، فلا تهوّكوا ولا يغرنّكم المتهوّكون». قال عمر : فقمت وقلت : رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبك رسولا ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويقرب من ذلك ما أخرجه الحافظ أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي عن جبير بن نضير ، حدّثهم ، قال : إن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر ، فأرسل إليهما في من أرسل من أهل حمص ، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة (٢) ، فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين ، يقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة ، وإن نهانا عنها رفضناها. فلما قدما عليه قالا : إنّا بأرض أهل الكتاب ، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعرّ منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك؟ فقال : لعلّكما كتبتما منه شيئا! فقالا : لا. قال عمر : سأحدّثكما :

__________________

(١) يوسف / ١ ـ ٣.

(٢) صلاصفة : جمع صلصفة هي الصحيفة.

١٢٤

انطلقت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديّا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال : نعم ، فأتيت بأديم فأخذ يملي عليّ حتى كتبت في الأكراع (١). فلمّا رجعت ، قلت : يا نبي الله ـ وأخبرته ـ قال : ائتني به. فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض ما يحبّ. فلمّا أتيت به قال : اجلس اقرأ عليّ. فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا هو يتلوّن. فتحيّرت من الفرق (٢) ، فما استطعت أن أجيز منه حرفا. فلما رأى الذي بي رفعه (٣) ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : لا تتّبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوّكوا (٤) ، حتى محاه عن آخره حرفا حرفا.

قال عمر : فلو علمت أنّكما كتبتما شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمّة. قالا : والله ما نكتب منه شيئا أبدا. فخرجا بصلاصفتهما ، فحفرا لها ، فلم يألوا أن يعمّقا ، ودفناها ، فكان آخر العهد منها (٥).

ولكن هل أثّر تشديد عمر في الحدّ عن مراجعة أهل الكتاب؟

إنه لم يشدّد على مراجعتهم ، وإنما شدّد على الكتابة من كتبهم كما شدّد على كتابة الحديث. ومن ثمّ نراه قد أجاز للداري أن يقصّ على الناس ، كما شاع القصّ في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلا عن سائر المساجد ذلك العهد.

__________________

(١) الأكراع : جمع الكرع : مقدم عظم الساق ، والمقصود : العظام الرقيقة.

(٢) الفرق : الفزع.

(٣) أي أخذه منّي.

(٤) الهوك : الحمق.

(٥) راجع : تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٦٧ ـ ٤٦٨.

١٢٥

وهكذا سار على منهجه في إجازة القصّ في المساجد ، من جاء بعده من الخلفاء. وأصبح ذلك مرسوما إسلاميا فيما بعد ، كما حثّ عليه معاوية في إجازته لكعب أن يقصّ على الناس حسبما عرفت.

وبعد ، فإنّ عصر الصحابة وهي الفترة بين وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظهور التابعين في عرصة الفتيا والتفسير كان عصر نشوء الإسرائيليّات وتسرّبها في التفسير والحديث ، فضلا عن التاريخ ، ذلك أنّ غالبيّة الشئون التاريخيّة كانت ممّا يرجع عهدها إلى تاريخ الأمم الماضية والأنبياء الماضين ، وكان المرجع الوحيد لدى العرب حينذاك لمعرفة أحوالهم وتواريخهم هي التوراة وأهل الكتاب ، فكانوا يراجعونهم ويأخذون عنهم بهذا الشأن.

قال الأستاذ الذهبي : نستطيع أن نقول : إنّ دخول الإسرائيليّات في التفسير ، أمر يرجع إلى عهد الصحابة ، وذلك نظرا لاتّفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في ذكر بعض المسائل (١) مع فارق واحد ، هو الإيجاز في القرآن والبسط والإطناب في التوراة والإنجيل. ولقد كان الرجوع إلى أهل الكتاب ، مصدرا من مصادر التفسير عند الصحابة (٢). فكان الصحابي إذا مرّ على قصّة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلا إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرّض له ، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في الإسلام ، وحملوا إلى

__________________

(١) للأستاذ عبد الوهاب النجّار في «قصص الأنبياء» محاولة في استخراج قصص القرآن من التوراة ، ومقارنة بين ما جاء في القرآن بصورة موجزة ، وجاءت في التوراة (العهد القديم) مبسطة.

(٢) لا نصادقه في هذا الرأي ، وإنما كان يراجع أهل الكتاب من قلّت بضاعته من الأصحاب.

١٢٦

أهله ما معهم من ثقافة دينيّة ، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص (١).

ونحن إذ نصادق الذهبي في أن الصحابة ـ على وجه الإجمال ـ كانوا يراجعون أهل الكتاب ، فيما أبهم عليهم من قصص القرآن ، وكان أولئك يلقون إليهم ما كان لديهم من قصص وأساطير.

لكن لا نصادقه في حكمه ذلك على الصحابة على وجه العموم ؛ إذ كان علماء الصحابة يأبون الرجوع إلى غيرهم من ذوي المعلومات الكاسدة ، بل كانوا يستنكرون من يراجعهم في قليل أو كثير ؛ حيث وفرة المعلومات الصحيحة لدى علماء الأصحاب الكبار. وقد كان مستقاها مساءلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهبط الوحي ومعدن علوم الأوّلين والآخرين ، فلم يدعوا صغيرة ولا كبيرة إلّا سألوا عنها الرسول الكريم.

هذا ابن عباس حبر الأمّة وترجمان القرآن ينادي برفيع صوته : هلّا من مستفهم أو مستعلم. ويستنكر على أولئك الذين يراجعون أهل الكتاب ولديهم الرصيد الأوفر من ذخائر العلوم. فقد كان ابن عباس يسيء الظنّ بأهل الكتاب حتى المسلمة منهم.

روى البخاري بإسناده إلى ابن عباس ، كان يقول :

«يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب (٢). وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا هو من عند الله ليشتروا به

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٦٩.

(٢) لم يشب ، أي كان محفوظا عن الدسّ فيه ، فهو كلام الله الخالص ، من غير أن تشوّهه يد التدليس.

١٢٧

ثمنا قليلا. أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم» (١).

وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، سفط العلم وباب مدينة علم الرسول ، وكذا عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وأمثالهم من أوعية العلم ، لم يحتمل بشأنهم الرجوع إلى كتابيّ قطّ. وهذا معلوم بالضرورة من التاريخ.

نعم إنما كان يراجع أهل الكتاب من الأصحاب ، من لا بضاعة له ولا سابقة علم ، أمثال عبد الله بن عمر بن العاص ، وعبد الله بن عمرو بن الخطاب ، وأبي هريرة وأضرابهم ، من المفلّسين المعوزين.

وقد سمعت مراجعة عبد الله بن عمرو بن العاص إلى أهل الكتاب ولا سيّما زاملتيه اللتين زعم أنه عثر عليهما في واقعة اليرموك ، وكذا أبو هريرة تربية كعب الأحبار.

وقد ذكر أصحاب التراجم : أن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان ممن نشر علم كعب ، وكان راوية له.

هذا عماد الدين ابن كثير عند كلامه عن قصّة هاروت وماروت يحكم بوضع هذه القصّة ، وأنّ منشأها روايات إسرائيليّة تدور حول ما نقله عبد الله بن عمر بن الخطاب عن كعب الأحبار ، وهي مما ألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام ، وأنّ روايات الرفع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غريبة جدّا ، قال :

«وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة ، ج ٩ ، ص ٢٣٧. وج ٣ ، ص ١٣٦ ، باب لا تسألوا أهل الكتاب.

١٢٨

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار. وهكذا روى ابن جرير بإسناده إلى سالم أنه سمع ابن عمر يحدّث عن كعب الأحبار» (١).

وهذا أبو هريرة يراجع كعبا وعبد الله بن سلام في معرفة الساعة في يوم الجمعة ، لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّي ، يسأل الله تعالى شيئا إلّا أعطاه إياه (٢) ، فيجيباه بأنها آخر ساعة من نهار يوم الجمعة ، فيرد عليهما كيف وهي ساعة لا ينبغي الصلاة فيها. فيراجع كعب التوراة ويرى الحقّ مع أبي هريرة ، وكذا ابن سلام ، ويجيبه بأن الجلوس في انتظار الصلاة كأنّه في الصلاة (٣).

وهكذا تداومت مراجعة كتب العهدين وأهل الكتاب على عهد التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم ، على أثر تساهل السلف في ذلك ، وصارت مهنة القصّ على الناس عادة مألوفة بين المسلمين على طول التاريخ.

فقد كانت هناك فئة تقصّ بالمساجد ، وتذكّر الناس بمواعظها وترغّبهم وترهّبهم. ولما كان هؤلاء ـ على أمثال أسلافهم المعوزين ـ ليسوا أهل علم ودراية ، وكان غرضهم استمالة العوامّ ، فجعلوا يختلقون القصص والأساطير الخرافيّة ، وروّجوا الأباطيل. وفي هذا الكثير من الإسرائيليّات والخرافات العامّيّة ، ما يتصادم مع العقيدة الإسلامية ، وقد تلقّفها الناس منهم ؛ لأنّ من طبيعة

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ١٣٨. وراجع تاريخه البداية والنهاية أيضا ، ج ١ ، ص ٣٧. وهكذا تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٣٦٣. حيث يحدّث ابن عمر عن كعب صريحا.

(٢) البخاري في باب الجمعة ، ج ٢ ، ص ١٣.

(٣) القسطلاني في شرحه للحديث المذكور ، ج ٢ ، ص ١٩٠ (الذهبي ، ج ١ ، ص ١٧٠ ـ ١٧١. وأبو شهبة ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤).

١٢٩

العوام الميل إلى العجائب والغرائب.

يقول ابن قتيبة بشأن القصّاصين وشعوذتهم :

إنهم يميلون وجه العوام إليهم ، ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والأكاذيب من الأحاديث. ومن شأن العوامّ القعود عند القاصّ ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فطر العقول ، أو كان رقيقا يحزن القلوب. فإن ذكر الجنة قال : فيها الحوراء من مسك أو زعفران ، وعجيزتها ميل في ميل ، ويبوّئ الله وليّه قصرا من لؤلؤة بيضاء ، فيها سبعون ألف مقصورة ، في كل مقصورة سبعون ألف قبّة ، ولا يزال هكذا في السبعين ألفا ، لا يتحول عنها (١).

ومن هؤلاء القصّاص ، من كان يبتغي الشهرة والجاه بين الناس. ومنهم ، من كان يقصد التعيّش والارتزاق. ومنهم ، من كان سيّئ النيّة خبيث الطويّة ، يقصد الإفساد في عقائد الناس ، وربما حجب جمال القرآن وتشويه سمعة الإسلام ، بما يأتي من تفاسير باطلة وخرافات تتنافى العقول.

قال أبو شهبة : وقد حدثت بدعة القصّ في آخر عهد عمر ، وفيما بعد صارت حرفة ، ودخل فيه من لا خلاق له في العلم ، وقد ساعدهم على الاختلاق ، أنهم لم يكونوا من أهل الحديث والحفظ ، وغالب من يحضرهم جهّال. فجالوا وصالوا في هذا الميدان وأتوا بما لا يقضي منه العجب (٢).

ويظهر أنه اتخذ القصص أداة سياسيّة وراء ستار التذكير والترهيب ، يستعين بها أرباب السياسات في دعم سياساتهم وتوجيه العامّة نحوها ، كالتي نشاهدها. وقد حدثت في عهد معاوية ، وهو أوّل من أبدع مزج السياسة بالوعظ الإرشادي ،

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) الإسرائيليّات والموضوعات ، ص ٨٩ ـ ٩٠.

١٣٠

ومن ثمّ ارتفع شأن القصص حتى أصبح عملا رسميا يعهد إلى رجال رسميّين يعطون عليه أجرا. وفي كتاب «القضاة» للكندي أن كثيرا من القضاة كانوا يعيّنون قصّاصا أيضا. وأوّل من قصّ بمصر سليمان بن عتر التجيبي في سنة (٣٨) ، وجمع له القضاء والقصص ، ثم عزل عن القضاء وأفرد بالقصص.

وهكذا أمر معاوية ـ في هذا الوقت ـ رجالا يقصّون في المساجد بعد صلاة الصبح وبعد المغرب ، يدعون له ولأهل ولايته كل صباح ومساء (١).

وصورة القصص : أن يجلس القاصّ في المسجد وحوله الناس ، فيذكّرهم الله ويقصّ عليهم حكايات وأحاديث وقصصا عن الأمم السالفة ، وأساطير ونحو ذلك ، ولا يتحرّون الصدق ما دام الغرض هو الترغيب والترهيب والتوجيه الخاص ، مهما كانت الوسيلة ، جريا مع قاعدة «الغاية تبرّر الواسطة».

قال اللّيث بن سعد : هما قصصان : قصص العامّة ، وقصص الخاصّة. فأمّا قصص العامّة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكّرهم. فذلك مكروه لمن فعله ولمن استمعه.

وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي جعله معاوية ، ولّى رجلا على القصص ، فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله وحمده ومجّده وصلى على النبي ، ودعا للخليفة ولأهل ولايته وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافّة (٢).

وقد نما القصص بسرعة ؛ لأنه كان يتفق وميول العامّة ، فضلا عن اتفاقها مع الاتّجاهات السياسيّة الظالمة في الأغلب. وقد أكثر القصّاص من الأكاذيب

__________________

(١) فجر الإسلام ، ص ١٦٠.

(٢) خطط المقريزى ، ج ٢ ، ص ٢٥٣ ، ط اميريّة.

١٣١

والافتعالات ، يصحبها كثير من التهم والافتراءات ، فأتوا بالطامّات الكبرى وضلالات.

وقد عدّ الغزالي ذلك من منكرات المساجد المحرّمة والمبتدعات الباطلة ، قال : فلا يجوز حضور مجلسه ، إلّا على قصد إظهار الردّ عليه ، فإن لم يقدر فلا يجوز سماع البدعة ، قال الله تعالى لنبيه : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)(١).

وقد عرفت أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام طردهم من المساجد واستثنى الحسن البصرى ، لأنه كان يتحرّى الصدق في قوله (٢).

ومن صفاقاتهم في ذلك ، ما روي أنّه صلّى أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين بمسجد الرصافة. فقام بين أيديهم قاصّ ، فقال : حدّثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، قالا : حدّثنا عبد الرزاق عن معمّر عن قتادة عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال : لا إله إلّا الله خلق الله من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب وريشه من مرجان ...» وأخذ في قصّة نحوا من عشرين ورقة.

فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ، ويحيى ينظر إلى أحمد ، يسأل أحدهما الآخر : هل أنت حدّثته بهذا؟! قال : والله ما سمعت بهذا إلّا هذه الساعة.

فلما انتهى الخطيب القاصّ أشار إليه يحيى ، فجاء متوهّما نوالا ، فقال له : من حدّثك بهذا؟ قال : أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. فقال يحيى : أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ، ما سمعنا بهذا قطّ في حديث رسول الله. فإن كان ولا بدّ من الكذب فعلى غيرنا. فقال القاصّ : لم أزل أسمع أن يحيى بن معين

__________________

(١) إحياء العلوم لأبي حامد الغزالي ، ج ٢ ، ص ٣٣١ ، ط ١٩٣٩. الأنعام / ٦٨.

(٢) فجر الإسلام ، ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

١٣٢

وأحمد بن حنبل أحمقان ، ما تحقّقته إلّا السّاعة. فقال له يحيى : وكيف؟ قال : كأنّه ليس في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما. لقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين!! فما كان منهما إلّا أن رضيا من النقاش بالسلامة (١).

ومن يدري ، فلعلّهما لو أطالا معه القول ، لنالهما ما نال الشعبي ، فقد دخل مسجدا ، فإذا رجل عظيم اللّحية ، وحوله أناس يحدّثهم ، وهو يقول : إنّ الله خلق صورين ، في كل صور نفختان. قال : فخففت صلاتي ، ثم قلت له : اتّق الله يا شيخ ، إنّ الله لم يخلق إلّا صورا واحدا. فقال لي : يا فاجر ، أنا يحدّثني فلان وفلان ، وترد عليّ! ثم رفع نعله وضربني ، فتتابع القوم عليّ ضربا. فو الله ما أقلعوا عنّي حتى قلت لهم : إنّ الله خلق ثلاثين صورا في كل صور نفختان!! (٢).

وهكذا كان القصّاص مصدر شرّ وبلاء على الإسلام والمسلمين.

أقسام الإسرائيليات

قسّم الأستاذ الذهبي ، الإسرائيليات تقسيمات ثلاثة :

١ ـ تقسيمها إلى صحيح أو ضعيف أو موضوع.

٢ ـ وإلى موافقتها لما في شريعتنا أو مخالفتها أو مسكوت عنها.

٣ ـ وإلى ما يتعلّق بالعقائد أو بالأحكام أو بالمواعظ والحوادث والعبر.

وأخيرا حكم عليها بأنّها متداخلة ، يمكن إرجاع بعضها إلى بعض ، كما

__________________

(١) راجع : تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٧٩.

(٢) الإسرائيليات والموضوعات ، ص ٩٠.

١٣٣

يمكن أن ندخلها تحت الأقسام الثلاثة التالية : مقبول ، ومردود ، ومتردّد فيه بين القبول والردّ (١).

فالأحسن تقسيمها ـ حسب تقسيم الدكتور أبي شهبة ـ إلى موافق لما في شرعنا ، ومخالف ، ومسكوت عنه (٢).

وتقسيم آخر أيضا لعلّه أولى : إما منقول بالحكاية شفاها ـ وهو الأكثر المروي عن كعب الأحبار وابن سلام وابن منبّه وأمثالهم ـ أو موجود بالفعل في كتب العهدين الموجودة بأيدينا اليوم ، وهذا كأكثر ما ينقله أئمّة الهدى ، ولا سيّما الإمام أبو الحسن الرضا عليه‌السلام احتجاجا على أهل الكتاب ، وليس اعتقادا بمضمونه.

ثم إنّ المنقول شفاها أو الموجود عينا إمّا موافق لشرعنا أو مخالف أو مسكوت عنه. ولكل حكمه الخاص ، نوجزه فيما يلي :

أما المنقولات الشفاهية ، حسبما يحكيه أمثال كعب وابن سلام وغيرهما ، فجلّها إن لم نقل كلّها ، موضوع مختلق ، لا أساس له ، وإنما مصدرها شائعات عامّيّة أسطوريّة ، أو أكاذيب افتعلها مثل كعب وابن سلام ، أو عبد الله بن عمرو وأضرابهم ؛ إذ لم نجد في المرويّات عن هؤلاء ما يمكن الوثوق إليه. فهي بمجموعتها مردودة عندنا ، حسبما تقتضيه قواعد النقد والتمحيص.

إنّنا نسيء الظنّ بأمثال هؤلاء ممن لم يخلصوا الولاء للإسلام ولم يمحضوا النصح للمسلمين ، كما لا نثق بصحّة معلوماتهم غير الصادرة عن تحقيق رصين ، سوى الاعتماد على الشائعات العامّيّة المبتذلة إن لم تكن مفتعلة. إنّنا نجد في طيّات كلامهم بعض الخبث واللّؤم المتخذ تجاه موضع الإسلام القويم ، وربّما

__________________

(١) الإسرائيليات للذهبي ، ص ٤٧ ـ ٥٤.

(٢) الإسرائيليات والموضوعات ، ص ١٠٦ ـ ١١٤.

١٣٤

كان حقدا على ظهور الإسلام وغلبة المسلمين. فحاولوا التشويه من سمعة الإسلام والتزعزع من عقائد المسلمين.

هذا هو الطابع العام الذي يتّسم به وجه الإسرائيليّات على وجه العموم.

قال الأستاذ أحمد أمين : وأما كعب الأحبار أو كعب بن ماتع اليهوديّ ، كان من اليمن ، وكان من أكبر من تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، وكان كلّ تعاليمه ـ على ما وصل إلينا ـ شفويّة ، وما نقل عنه يدلّ على علمه الواسع بالثقافة اليهوديّة وأساطيرها.

قال : ونرى أنّ هذا القصص هو الذي أدخل على المسلمين كثيرا من أساطير الأمم الأخرى كاليهوديّة والنصرانيّة ، كما كان بابا دخل منه على الحديث كذب كثير ، وأفسد التاريخ بما تسرّب منه من حكاية وقائع وحوادث مزيّفة ، أتعبت الناقد وأضاعت معالم الحق (١).

وهكذا قال ابن خلدون فيما سبق من كلامه : فإنّما يسألون أهل الكتاب قبلهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهوديّة ، فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم ، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم ، وهي أخبار موقوفة عليهم. وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها ـ كما قلنا ـ عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ، ولا تحقيق عندهم

__________________

(١) فجر الإسلام ، ص ١٦٠ ـ ١٦١.

١٣٥

بمعرفة ما ينقلونه من ذلك (١).

فعلى ما ذكره العلّامة ابن خلدون تكون جلّ المنقولات عن هؤلاء الكتابيّين ، لا وثوق بها ؛ حيث مصدرها الشياع القومي ، ولكل قوم أساطيرها المسطّرة في تاريخ حياتها ، يحكونها وينقلونها يدا بيد ، وهذا التنقّل حصل فيها التحريف والتبديل الكثير ، بما ألحقها بالخرافات والأوهام ، وهؤلاء أصحاب القوميّات المختلفة ، دخلوا في الإسلام ومعهم ثقافاتهم وتاريخهم ، أتوا بها وبثّوها بين المسلمين.

قال الأستاذ أحمد أمين : إن كثيرا من الشعوب المختلفة ذوات التواريخ دخلت في الإسلام ، فأخذوا يدخلون تاريخ أممهم ويبثّونه بين المسلمين ، إما عصبيّة لقومهم أو نحو ذلك. فكثير من اليهود أسلموا ومعهم ما يعلمون من تاريخ اليهوديّة وأخبار الحوادث ، حسبما روت التوراة وشروحها ، فأخذوا يحدّثون المسلمين بها ، وهؤلاء ربطوها بتفسير القرآن أحيانا ، وبتاريخ الأمم الأخرى أحيانا. إن شئت فاقرأ ما في الجزء الأوّل من «تاريخ الطبري» تجد منه الشيء الكثير ، مثل ما أسند عن عبد الله بن سلام ، أنه تعالى بدأ بالخلق يوم الأحد ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل (٢) ـ حسبما جاء في التوراة ـ وكثير من هذا النوع روي حول ما ورد في القرآن من قصص الأنبياء.

كذلك كان للفرس تاريخ ، وكان لهم أساطير ، فلما أسلموا رووا تاريخهم ورووا أساطيرهم ، وكذلك فعل النصارى. فكانت هذه الروايات والأساطير عن

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ١ ، ص ٢٤.

١٣٦

الأمم المختلفة مبثوثة بين المسلمين ، ومصدرا من مصادر الحركة التاريخيّة عندهم (١).

وعليه فنشطب على جميع ما ينقل عن أهل الكتاب فيما يمسّ تفسير القرآن أو تاريخ الأنبياء إذا كان نقلا بالشفاه وليس مستندا إلى نصّ كتاب قديم معتمد ؛ حيث مصدرها الشياع العام ، ولا اعتبار به أصلا. وسنورد أمثلة لإسرائيليّات دخلت على الإسلام ، وكان مصدرها الشياع والأسطوريّة.

ولعلك تقول : بعض ما نقل عن أهل الكتاب كان مصدره النقل من الكتاب ، إما يكتبونه منه أو ينقلونه عنه ، كما في زاملتي عبد الله بن عمرو بن العاص ، كان ينقل من كتب زعم العثور عليها في واقعة يرموك. وكما في نسخة عمر بن الخطاب التي جاء بها إلى النبيّ ، اكتتبها من كتب اليهود فيما حسب.

لكن لا يذهب عليك أن لا وثوق بنقلهم ولو عن كتاب ، ما دام الدسّ والتزوير شيمة يهوديّة جبلوا عليها من قديم (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) أي من عند أنفسهم (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) كذبا وزورا (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً)(٢).

وهذا هو الذي فهمه ابن عباس منذ أوّل يومه فحذّر الأخذ عنهم بتاتا ، قائلا : وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم (٣).

__________________

(١) فجر الإسلام ، ص ١٥٧.

(٢) البقرة / ٧٩.

(٣) جامع البخاري ، ج ٣ ، ص ٢٣٧.

١٣٧

أمّا المراجعة إلى كتب السلف وتواريخهم من يونان أو فرس أو الهند أو اليهود أو غيرهم ، فإنّ ذلك شيء آخر ، يجب العمل فيه وفق سنن النقد والتمحيص ، وعلى مناهج السبر والتحقيق ، حسب المتعارف المعهود.

أما التوراة ، ففيها من الغثّ والسمين الشيء الكثير ، وهو الكتاب الوحيد الذي احتوى على تاريخ الأنبياء وأممهم فيما سلف ، مصحوبا بالأساطير والخرافات ، شأن سائر كتب التاريخ القديمة. والتوراة كتاب تاريخ ، قبل أن يكون كتابا سماويا ، وإنما سمّيت بالتوراة ، لاحتوائها على تعاليم اليهود ، والتي جاء بها موسى من شرائع وقعت موضع الدسّ والتحريف ، ومن ثمّ فالمراجعة إليها بحاجة إلى نقد وتحقيق ، وليس أخذا برأسه.

وفي العهد القديم جاءت تفاصيل الحوادث مما أوجز بها القرآن وطواها في سرد قضايا قصار ، أخذا بمواضع عبرها دون بيان التفصيل ، فتجوز المراجعة إلى تلكم التفاصيل لرفع بعض المبهمات في القضايا القرآنية ، ولكن على حذر تام وفق التفصيل التالي :

فالموجود في كتب السلف ـ فيما يمسّ المسائل القرآنية ـ إما موافق مع شرعنا في أصول مبانيه وفي الفروع ، أو مخالف أو مسكوت عنه.

فالمخالف منبوذ لا محالة ، لأنّ ما خالف شريعة الله فهو كذب باطل ، وأمّا المسكوت عنه فالأخذ به وتركه سواء ، شأن سائر أحداث التاريخ.

وإليك أمثلة على ذلك :

١ ـ أمثلة على الموافقة :

أـ جاء في المزامير ، المزمور (٣٧) عدد (١٠):

«أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة».

١٣٨

وفي عدد (٢٢) : «لأنّ المباركين منه يرثون الأرض والملعونين منه يقطعون».

وفي عدد (٢٩) : «الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد».

وجاء تصديق ذلك في القرآن ، في قوله تعالى ، في سورة الأنبياء / ١٠٥ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(١).

قوله : (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) حيث البشارة في مزامير داود (الزبور) جاءت بعد مواعظ وتذكير.

ب ـ وجاء في سفر التثنية الصحاح (٣٢) ع (٣) وصيّة جامعة لنبي الله موسى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء فيها وصف الربّ تعالى بالعدل والحكمة والعظمة ، على ما جاء به القرآن الكريم.

يقول فيها : «إنّي باسم الربّ أنادي ، أعطوا عظمة لإلهنا ، هو الصخر الكامل صنيعه (٢) ، إنّ جميع سبله عدل ، إله أمانة لا جور فيه ، صديق وعادل هو».

ج ـ وجاء في لاويّين اصحاح (١٢) ع (٤) شريعة الختان ، كما هو في الإسلام :

«وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته». والغرلة : القلفة ، وهي جلدة عضو التناسل.

د ـ وفي سفر التثنية اصحاح (١٤) ع (٨) جاء تحريم لحم الخنزير ، لأنه نجس لا يجترّ.

«... والخنزير ، لأنه يشقّ الظلف ، لكنه لا يجترّ ، فهو نجس لكم».

__________________

(١) الأنبياء / ١٠٥.

(٢) الصخر هنا : كناية عن الحجر الأساسي ، فيه القوة والصلابة.

١٣٩

٢ ـ أمثلة على المخالفة :

والأمثلة على مخالفة ما جاء في التوراة الموجودة مع ما في القرآن فهي كثيرة جدّا ، فضلا عن مخالفته للفطرة والعقل الرشيد ، على ما فصّلناه في مباحثنا عن الإعجاز التشريعي للقرآن ، ومقارنة بعض ما جاء فيه ، مع ما في كتب العهدين (١).

إنّك تجد في كتب العهدين مخالفات كثيرة مع شريعة العقل فضلا عن شريعة السماء ، فمثلا تجد فيها ما يتنافى ومقام عصمة الأنبياء ما يذهلك :

ففي سفر التكوين (١ ص ١٩ ، ع ١٣٠) : أنّ ابنتي لوط سقتا أباهما الخمر فاضطجعتا معه.

وفي (الملوك الأوّل ، ١ ص ١١) : أنّ سليمان عبد أوثانا ، نزولا إلى رغبة نسائه.

وفي (الخروج ، ١ ص ٣٢ ، ع ٢١ ـ ٢٤) : أنّ هارون هو الذي صنع العجل وليس السامريّ.

كما تفرض التوراة عقوبة البهائم (الخروج ، ا ص ٢١ ، ع ٢٨).

ونجاسة من مسّ ميتا إلى سبعة أيّام (سفر العدد ، ا ص ١٩ ، ع ١١ ـ ١٦).

وأمثالها كثير.

٣ ـ أمثلة على المسكوت عنه

والأمثلة على المسكوت عنه في شرعنا على ما جاء في كتب السالفين أيضا كثيرة في كثير ، كان شأنها شأن سائر الأحداث التاريخيّة التي جاءت في الكتب القديمة.

__________________

(١) التمهيد في علوم القرآن ، ج ٦ ، ص ٣١٠ ـ ٣١٢.

١٤٠