التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

ومن ثمّ كان ما يحكيه كعب عن الكتب القديمة ، ليس بحجة عند أحد من أهل العلم والتحقيق ، ولم يثبته أهل الحديث الأوائل. قال شعيب الأرناءوط : وأخطأ من زعم أنه خرّج له البخاري ومسلم ، فإنّهما لم يسندا من طريقه شيئا من الحديث. وإنّما جرى ذكره في الصحيحين عرضا. قال : ولم يؤثر عن أحد من المتقدمين توثيق كعب إلّا أنّ بعض الصحابة ـ يعني معاوية ـ أثنى عليه بالعلم (١).

وقد سمعت قول معاوية ـ صديقه الوفيّ ـ بشأنه ، حينما حجّ في خلافته : إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب ، وإن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (٢).

قال ابن حجر : وروى عنه من الصحابة عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبو هريرة ومعاوية (٣) ، وذكر ابن عباس أيضا. لكنّا قد فنّدنا ذلك بتفصيل. وفي «الطبقات» : أن تبيع ابن امرأة كعب حمل من كعب علما كثيرا (٤).

قال أحمد أمين : وأما كعب الأحبار فيهوديّ من اليمن ، ومن أكبر من تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين. وقد أخذ عنه اثنان ، هما أكبر من نشر علمه : ابن عباس! وأبو هريرة. وما نقل عنه يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهوديّة وأساطيرها. جاء في «الطبقات الكبرى» حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن عبد قيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ. وقد لاحظ بعض الباحثين أن بعض الثقات كابن قتيبة والنووي

__________________

(١) هامش سير أعلام النّبلاء ، ج ٣ ، ص ٤٩٠. ومعاوية هو الذي أثنى عليه بالعلم. راجع : فتح الباري ، ج ١٣ ، ص ٢٨٢.

(٢) راجع : البخاري بهامش الفتح ، ج ١٣ ، ص ٢٨٢.

(٣) الإصابة ، ج ٣ ، ص ٣١٦.

(٤) الطبقات ، ج ٧ ، ق ٢ ، ص ١٦٠ ، س ١٠.

١٠١

لا يروي عنه أبدا. وابن جرير يروي عنه قليلا (١).

قال الذهبي بعد نقل كلام أحمد أمين : وهذا يدلّنا على أن كعبا كان لا يزال بعد إسلامه يرجع إلى التوراة والتعاليم الإسرائيليّة (٢).

قلت : أمّا رواية ابن عباس عن كعب فشيء موضوع ، ولم تثبت روايته عنه ، وهو الناقم على مراجعي أهل الكتاب على ما أسلفنا. نعم ، كان أبو هريرة لقلّة بضاعته كثيرا ما يراجع أهل الكتاب ، ولا سيّما كعبا ، كان يعدّ شيخه ومرشده في هذا الطريق. وكان أبو هريرة أكثر من نشر عن كعب وأفاض بمعلوماته الجمّة عن مثله.

قال الأستاذ أبو ريّة ـ ونعم ما قال ـ : «إن كعبا أظهر الإسلام خداعا ، وطوى قلبه على يهوديّته ، وأنّه سلّط قوّة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه وينيمه ، ليلقّنه كل ما يريد أن يبثّه في الدين الإسلامي من خرافات وأوهام. وأنه قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعل يردّد كلامه بالنصّ ، ويجعله حديثا مرفوعا (٣).

قال : وقد استطاع هذا اليهوديّ أن يدسّ من الخرافات والأوهام والأكاذيب في الدين ، ما امتلأت به كتب التفسير والحديث والتاريخ ، فشوّهتها وأدخلت الشك إليها. وما زالت تمدّنا بإضرارها (٤).

__________________

(١) فجر الإسلام ، ص ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٨٨.

(٣) الإسرائيليات في التفسير والحديث للذهبي ص ٩٥. قال أبو ريّة في الأضواء ، ص ١٦٤ : يرجع إلى كتابنا «شيخ المضيرة» ليعلم كيف اتصل أبو هريرة بكعب الأحبار ، وكيف وقع في فخّه.

(٤) أضواء على السنة المحمدية ، ص ١٦٤.

١٠٢

٣ ـ تميم بن أوس الدّاري

هو أبو رقيّة ، تميم بن أوس بن حارثة أو خارجة الداري ، اللّخمي الفلسطيني. والدار : بطن من لخم ، فخد من يعرب بن قحطان.

وقد تميم وأخوه نعيم في وفد كانوا عشرة نفر من بني الدار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد منصرفه من تبوك سنة (٩) فأسلما وكانا نصرانيّين. قال أبو نعيم : كان تميم راهب عصره وعابد فلسطين. يقال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ عنه قصّة «الجسّاسة» والدّجّال ، فحدّث عنه بذلك على المنبر ، فكان ذلك منقبة له (١).

والتمس من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهب له قريتين من قرى فلسطين ، إن فتح الله عليه الشام. قال : كانت لنا جيرة من الروم ، ولهم قريتان يقال لإحداهما : حبرى والأخرى بيت عينون ، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهما لك. وكتب له كتابا. فلمّا قام أبو بكر بالأمر أعطاه ذلك (٢). وقيل : إنّه جاء بالكتاب إلى عمر فقال : أنا شاهد ذلك فأمضاه. وذكر اللّيث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «ليس لك أن تبيع» فجعلها وقفا عليه. قال ابن جريج : فهي في أيدي أهله إلى اليوم (٣). أخرجه أبو عبيد من طريق عبد الله بن صالح كاتب اللّيث عنه (٤).

وقد بالغ أصحاب التراجم بشأنه وذكروا له كرامات ومناقب ، منها قصّة

__________________

(١) والجسّاسة : دابّة ـ فيما زعمه هذا الراهب النصراني ـ كان رآها في جزيرة من البحر كانت تجسّ الأخبار لدجّال. أوردها مسلم في الفتن وأشراط الساعة (ج ٨ ، ص ٢٠٣) وأحمد في مسنده ، ج ٦ ، ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤ والطبراني وغيرهم ، وسنذكر قصّتها.

(٢) الإصابة ، ج ١ ، ص ١٨٣ ـ ١٨٤ ، والطبقات ، ج ١ ، ق ٢ ، ص ٧٥.

(٣) سير أعلام النبلاء ، ج ٢ ، ص ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٤) الأموال لأبي عبيد بن سلّام ، ص ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

١٠٣

مدافعته النار حتى أطفأها ، كما ذكره ابن حجر ، قال : له قصّة مع عمر فيها كرامة واضحة لتميم وتعظيم كثير من عمر له ـ فذكرها في ترجمة معاوية بن حرمل ـ وهي : أنّ معاوية بن حرمل ـ صهر مسيلمة الكذّاب والذي ارتدّ معه ـ جاء إلى المدينة تائبا ، فلبث في المسجد لا يؤوي ولا يطعم شيئا. قال فأتيت عمر ، فقلت : تائب من قبل أن تقدر عليه. قال : من أنت؟ قلت : معاوية بن حرمل. قال : اذهب إلى خير المؤمنين ، فأنزل عليه.

قال : وكان تميم الداري إذا صلّى ضرب بيديه على يمينه وشماله فذهب برجلين ، فصلّيت إلى جنبه. فأخذني ، فأوتينا بطعام. فبينا نحن ذات ليلة ؛ إذ خرجت نار بالحرّة ، فجاء عمر إلى تميم يستنجده ، فقال : قم إلى هذه النار. فقال : يا أمير المؤمنين : ومن أنا! وما أنا ، وما تخشى أن يبلغ من أمري! يستصغر نفسه.

فلم يزل به عمر حتى قام معه ، وتبعتهما. فانطلقا إلى النار. فجعل تميم يحوشها (أي يدفعها إلى الداخل) بيده حتى دخلت الشعب ، ودخل تميم خلفها. فجعل عمر يقول : ليس من رأى كمن لم ير! قالها ثلاثا. قال : فخرج ولم تضرّه النار (١).

قال الذهبي : هذه القصة سمعها عفان من حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي العلاء عن ابن حرمل. قال : وابن حرمل لا يعرف.

قلت : قد أهمل معاوية بن حرمل في كتب ترجمة الرجال.

وهذا الكاهن المسيحي ـ الذي بقيت معه نزعته المسيحية (الرهبنة) إلى ما

__________________

(١) ابن حجر في الإصابة في ترجمة معاوية بن حرمل ، ج ٣ ، ص ٤٩٧. وسير أعلام النبلاء ، ج ٢ ، ص ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

١٠٤

بعد إسلامه ـ هو أوّل من سن القصّ في المسجد ، وتكاد تتّفق الروايات على أنه أوّل قاصّ في الإسلام (١). وذلك كان على عهد عمر بن الخطاب ، ولعله في أواخر ولايته. روى الزهري عن السائب بن يزيد ، قال : أوّل من قصّ تميم الداري ، استأذن عمر ، فأذن له فقصّ قائما (٢). وروى عن ابن شهاب ، أنّ أوّل من قصّ في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تميم الداري ، استأذن عمر أن يذكّر الناس فأبى عليه ، حتى كان آخر ولايته فأذن له أن يذكّر الناس في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر. واستأذن تميم عثمان بن عفّان فأذن له أن يذكّر يومين في الجمعة ، فكان تميم يفعل ذلك.

قال أحمد أمين : وقد نما القصص بسرعة ؛ لأنه يتّفق وميول العامّة ، وأكثر القصاص من الكذب حتى رووا أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام طردهم من المساجد ، واستثنى الحسن البصري ، لتحرّيه الصدق (٣).

وأما قصّة «الجسّاسة» ، فقد ذكر مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، بإسناده عن الحسين بن ذكوان عن ابن بريدة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينادي : الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد ، فصلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكنت في صفّ النساء التي تلي ظهور القوم. قالت : فلمّا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : ليلزم كل إنسان مصلّاه ، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : إنّي والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ،

__________________

(١) كما قال أحمد أمين ، فجر الإسلام ص ١٥٩.

(٢) سير أعلام النبلاء ، ج ٢ ، ص ٤٤٧.

(٣) فجر الإسلام ، ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

١٠٥

ولكن جمعتكم لأنّ تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء وبايع وأسلم ، وحدّثني حديثا وافق الذي كنت أحدّثكم عن مسيح الدجّال. حدّثني أنه ركب في سفينة بحريّة مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرا في البحر ، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس. فجلسوا في أقرب (جمع قارب وهو الزورق) السفينة فدخلوا الجزيرة ، فلقيهم دابّة أهلب (١) كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك ما أنت؟ فقالت : أنا الجسّاسة! (٢) قالوا : وما الجسّاسة؟ قالت : أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير (الدير هو القصر) فإنّه إلى خبركم بالأشواق. قال (أي الداري) : لما سمّت لنا رجلا فرقنا (أي فزعنا) منها أن تكون (أي الدابّة) شيطانة. قال : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير ، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قطّ خلقا ، وأشدّه وثاقا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا : ويلك ما أنت؟ قال : قد قدرتم على خبري ، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا : نحن أناس من العرب. فقصّوا عليه قصّتهم ، فقال : أخبروني عن نخل بيسان! (٣) قلنا : عن أيّ شأنها تستخبر؟ قال : أسألكم عن نخلها هل تثمر؟ قلنا له : نعم. قال : أما أنه يوشك أن لا تثمر. قال : أخبروني عن بحيرة الطبريّة! قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟ قال : هل فيها ماء؟ قالوا : هي كثيرة الماء. قال : أما أنّ ماءها يوشك أن يذهب. قال : أخبروني عن عين زغر (٤).

__________________

(١) غليظ الشعر.

(٢) في الهامش : سميّت جسّاسة لتجسّسها الأخبار للدجّال. قال صاحب التحفة : هي دابّة الأرض التي تخرج في آخر الزمان. راجع : شرح النووي. ج ١٨ ، ص ٧٨.

(٣) بيسان ، مدينة بالأردن بالغور الشامي ، وهي بين حوران وفلسطين. يقال عنها : إنها لسان الأرض وبها عين يقال : إنها من الجنة فيها ملوحة يسيرة. (معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٥٢٧)

(٤) على وزان زفر : بلدة في الجانب القبلي من الشام.

١٠٦

قالوا : عن أي شأنها تستخبر؟ قال : هل في العين ماء ، وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له : نعم ، هي كثيرة الماء ، وأهلها يزرعون من مائها. قال : أخبروني عن نبيّ الأميّين ما فعل؟ قالوا : قد خرج من مكّة ونزل يثرب. قال : أقاتله العرب؟ قلنا : نعم. قال : كيف صنع بهم ، فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال : قد كان ذلك؟ قلنا : نعم. قال : أما أنّ ذاك خير لهم أن يطيعوه ، وإنّي أخبركم عنّي : إنى أنا المسيح (١) ، وإنى أوشك أن يؤذن لي في الخروج ، فأخرج فأسير في الأرض ، فلا أدع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة ، غير مكة وطيبة ، فهما محرّمتان عليّ كلتاهما ، كلّما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا (٢) يصدّني عنها ، وأنّ على كلّ نقب منها ملائكة يحرسونها.

قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطعن بمخصرته في المنبر : هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة ، يعني المدينة (٣).

هذه القصة على غرابتها في سندها ضعف ؛ لأنها رويت بطريقين : مسلم في «الصحيح» ، وأحمد في «المسند». وكلاهما ينتهي إلى عامر الشعبي ، غير أنّ الذي يروي عن الشعبي في المسند ، هو مجالد بن سعيد ، وكان يكذب في الحديث. قال عمرو بن علي : سمعت يحيى بن سعيد يقول لبعض أصحابه : أين تذهب؟ قال : إلى وهب بن جرير أكتب السيرة عن أبيه عن مجالد بن سعيد! قال : تكتب

__________________

(١) أي المسيح الدجّال الذي زعموا أنه يخرج في آخر الزمان.

(٢) أي مسلولا.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٨ ، ص ٢٠٣ ـ ٢٠٥. ورواه أحمد في المسند ، ج ٦ ، ص ٣٧٣ ، باختلاف يسير.

١٠٧

كذبا كثيرا ، لو شئت أن يجعلها إلى مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله ، فعل. وقال أبو طالب عن أحمد : ليس بشيء. يرفع حديثا كثيرا لا يرفعه الناس. وقال الدوري عن ابن معين : لا يحتج بحديثه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين : ضعيف واهي الحديث. كان يحيى بن سعيد يقول : لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كلّه رفعه ، إلى غيرها من شهادات بضعفه في الحديث ، ورفعه الحديث لمكان ضعفه (١). وقال محمد بن حبّان : كان رديء الحفظ يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ، لا يجوز الاحتجاج به (٢).

وفي مسند مسلم وقع : ابن بريدة عن الشعبي. وابن بريدة هذا هو عبد الله بن بريدة أخو سليمان. قال البزار : فحيث أبهم علقمة ومحارب ومحمد وكذا الأعمش عند ابن حجر فالمراد : سليمان بن بريدة. وأمّا من عدا هؤلاء حيث أبهموا فهو عبد الله بن بريدة (٣) ـ كما هنا ـ لأنّ الذي أبهم في إسناد مسلم هو الحسين بن ذكوان.

وعبد الله بن بريدة هذا ، قد ضعّف حديثه أحمد ، وكانوا يرجّحون أخاه سليمان عليه. قال إبراهيم : له عن أبيه أحاديث منكرة. وتعجّب من الحاكم كيف زعم أنّ سند حديثه من رواية الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أصح الأسانيد لأهل مرو (٤).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١٠ ، ص ٤٠.

(٢) كتاب المجروحين والضعفاء لابن حبان ، ج ٣ ، ص ١٠.

(٣) راجع : الكنى في تهذيب التهذيب ، ج ١٢ ، ص ٢٨٦.

(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٥ ، ص ١٥٨.

١٠٨

٤ ـ وهب بن منبّه

هو وهب بن منبّه بن كامل اليماني الصنعاني. وقال أحمد بن حنبل : كان من أبناء فارس. قيل : إن منبّها من خراسان من أهل هراة ، أخرجه كسرى من هراة إلى اليمن ، فأسلم في عهد النبي وحسن إسلامه فسكن ولده في اليمن ، وكان وهب بن منبّه يختلف إلى هراة ويتفقد أمرها. كان يقول : قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء. ولد سنة (٣٤) ومات سنة (١١٠). قيل : ضربه يوسف بن عمر حتى مات (١).

وقد أكثر من سرد الإسرائيليّات ، ونسب إليه قصص كثيرة ، كانت مثارا للنيل منه والطعن عليه ، حتى رمي بالكذب والتدليس ، وإفساد عقول المسلمين.

٥ ـ محمد بن كعب القرظي

هو محمد بن كعب سليم القرظي ، كان أبوه من سبى قريظة ، من أولاد كهنة اليهود. ولد سنة (٣٩) ومات سنة (١١٧). كان يقصّ في المسجد ، فسقط عليه السقف ، فمات هو وجماعة معه (٢).

فقد كان من القصّاصين ، يقصّون على الناس عن كتب السلف وأساطيرهم ، وفيها كان حتفه.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٨.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ٤٢٠ ـ ٤٢٢.

١٠٩

٦ ـ عبد الله بن عمرو بن العاص

قيل : كان اسمه العاص فغيّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماه عبد الله. أسلم قبل أبيه عمرو ، وعمرو أسلم قبل الفتح سنة ثمان. ولد قبل الهجرة بسبع سنين ، ومات سنة (٦٥). فقد عاش (٧٢) سنة.

هو أوّل من أشاع الإسرائيليّات بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعم أنه أصاب يوم اليرموك (١) زاملتين (٢) من كتب اليهود ، فكان يحدّث منهما. ويبرّر ذلك بما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». رواه البخاري بإسناده عنه (٣). هكذا فهم من هذا الحديث ، جواز الرواية عنهم ، حسبما ذكره ابن تيميّة (٤).

وأضاف إليه حديثا آخر اختلقه بهذا الشأن ، قال : رأيت فيما يرى النائم كأنّ في إحدى إصبعيّ سمنا وفي الأخرى عسلا فأنا ألعقهما. فلمّا أصبحت ذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : تقرأ الكتابين ، التوراة والفرقان. ومن ثمّ كان

__________________

(١) يرموك : واد بناحية الشام كانت به حرب بين المسلمين والروم في أواخر أيّام أبي بكر.

وكان عبد الله بصحبة أبيه في تلك الحرب ؛ حيث أصاب زاملتين من كتب اليهود فيما زعم.

(٢) الزاملة : الملفّة ، من زمّل الشيء بثوبه أو في ثوبه : لفّه. وربما كانت حمل بعير ، وهكذا عبّر عنها ابن حجر في الفتح (ج ١ ، ص ١٨٤) ، قال : إنّ عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب ، فكان ينظر فيها ويحدّث منها ، ومن ثمّ تجنّب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين.

وعبّر عنها أبو شهبة : بحمل بعيرين. (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ، ص ٥٤).

(٣) صحيح البخاري ، ج ٤ ، ص ٢٠٧.

(٤) مقدمته في التفسير ، ص ٤٥.

١١٠

يقرأهما (١).

وكانت له صحيفة يسمّيها «الصادقة» زعم أنه كتبها من أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن إجازته له في كتابتها. قال : استأذنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب ما سمعت منه فأذن لي فكتبته. فكان يسمّي صحيفته تلك الصادقة.

قال مجاهد : رأيت عنده صحيفة فسألت عنها ، فقال : هذه الصادقة ، فيها ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بينى وبينه فيها أحد (٢).

روى البخاري بإسناده إلى همّام بن منبّه عن أخيه وهب ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : ما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد أكثر حديثا عنه منّي إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب (٣).

ولقد كان ضعيف الرأي وهن السلوك ، كان قد صحب أباه في الوقوف مع معاوية في وقعة صفين ، في حين أنه كان يعلم أنّهم كانوا هم الفئة الباغية على ما وصفهم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد اعتذر لذلك بأنّه كان لوصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه أن يتابع أباه عمرو بن العاص. وقد نسي قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(٤).

وكذا قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ، ج ٣ ، ص ٨٦. ومسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٢٢٢. وحلية الأولياء ، ج ١ ، ص ٢٨٦.

(٢) الطبقات ، ج ٢ ، ق ٢ ، ص ١٢٥.

(٣) جامع البخاري ، ج ١ ، ص ٣٩ ، باب كتابة العلم. وراجع : الفتح ، ج ١ ، ص ١٨٤.

(٤) البقرة / ١٧٠.

١١١

فَلا تُطِعْهُما)(١).

ومع ذلك نراه قد تابع أباه في ضلال كان يعلمه.

أخرج ابن سعد عن الغنوي ، قال : بينا نحن عند معاوية ؛ إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمّار ، يقول كل واحد منهما ؛ أنا قتلته. فقال عبد الله بن عمرو : ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «تقتله الفئة الباغية». فقال معاوية : ألا تغني عنّا مجنونك يا عمرو (٢) فما بالك معنا؟! قال : إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أطع أباك حيّا ولا تعصه. وأنا معكم ولست أقاتل (٣).

٧ ـ أبو هريرة

أما أبو هريرة فقد اختلف في اسمه ، كما لم يعرف أصله ونسبه ونشأته ، ولا شيء من تاريخه قبل إسلامه ، غير ما ذكر هو عن نفسه ، من أنّه كان يلعب بهرّة صغيرة ، وأنه كان معدما فقيرا خامل الذكر ، يخدم الناس على شبع بطنه. قال : كنت أرعى غنم أهلي ، وكانت لي هرّة صغيرة ، فكنت أضعها باللّيل في شجرة ، وإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها ، فكنّوني «أبا هريرة». قال : نشأت يتيما

__________________

(١) لقمان / ١٥.

(٢) هكذا في النسخ ، ولعله : مجونك ، هو المزاح في وقاحة.

(٣) وهكذا أخرج ابن سعد عن عبد الله بن الحارث ، قال : إني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفّين بينه وبين عمرو بن العاص. فقال عبد الله : يا أبة ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعمار : ويحك يا ابن سميّة ، تقتلك الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية : ألا تسمع ما يقول هذا! فقال معاوية : ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك. أنحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به!!

(الطبقات ، ج ٣ ، ق ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨١)

١١٢

وهاجرت مسكينا ، وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي ، فكنت أخدم إذا نزلوا ، وأحدو إذا ركبوا.

قدم أبو هريرة بعد أن تخطّى الثلاثين من عمره ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينذاك في غزوة خيبر التي وقعت عام (٧) من الهجرة ، قال ابن سعد : قدم الدوسيّون فيهم أبو هريرة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر فكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه في أن يشركوا أبا هريرة في الغنيمة ، ففعلوا. ولفقره اتخذ سبيله إلى الصّفّة (موضع مظلّل في مؤخّرة مسجد النبي من الناحية الشمالية). قال أبو الفداء : وأهل الصّفّة أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر ، ينامون في المسجد ويظلّون فيه. وكانت صفّة المسجد مثواهم ، فنسبوا إليها. وكان إذا تعشّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو منهم طائفة يتعشّون معه ، ويفرّق منهم طائفة على الصحابة ليعشّوهم.

روى مسلم عنه ، قال : كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ملاء بطني. وفي رواية : كنت ألزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ملاء بطني. وكان أكولا ، إذا كان يطعم في بيت أحد الصحابة ، كان بعضهم ينفر منه.

وروى البخاري عنه ، قال : أستقرئ الرجل الآية وهي معي ، كي ينقلب بي فيطعمني. وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب ، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته. وروى الترمذي عنه : وكنت إذا سألت جعفر عن آية لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله. قال أبو ريّة : ومن أجل هذا كان جعفر في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا ، فقدّمه على أبي بكر وعمرو علي وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة.

فقد أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة : ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب ، بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جعفر بن

١١٣

أبي طالب (١).

كان أبو هريرة يلقّب بشيخ المضيرة (طعام يطبخ باللّبن المضر ، أي الحامض) وقد نالت هذه المضيرة من عناية العلماء والكتاب والشعراء ما لم ينله مثلها من أصناف المآكل والحلويّات. وظلّوا يتندرون بها ويغمزون أبا هريرة قرونا طويلة من أجلها.

قال الثعالبي ، وكان أبو هريرة تعجبه المضيرة جدّا ، فيأكل مع معاوية ، فإذا حضرت الصلاة صلّى خلف عليّ عليه‌السلام ، فإذا قيل له في ذلك ، قال : مضيرة معاوية أدسم وأطيب ، والصلاة خلف عليّ أفضل وأتمّ. ومن كلامه : ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار ، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر (٢).

وقد أخذ العلماء على أبي هريرة كثرة حديثه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قلّة صحبته وقلة بضاعته حينذاك ، ومن ثمّ رموه بالتدليس والاختلاق. كان يسمع الحديث من أحد الصحابة ثم يدلّس ، فيرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكان كثيرا ما يسمع الحديث من أهل الكتاب ولا سيّما كعب الأحبار ، فيسنده إلى النبيّ أو أحد كبار صحابته تدليسا وتمويها على العامّة.

فقد روى مسلم عن بسر بن سعيد ، قال : اتّقوا الله وتحفّظوا من الحديث. فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحدّث عن كعب الأحبار ، ثم يقوم ، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كعب ، وحديث كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي رواية : يجعل ما قاله كعب

__________________

(١) راجع : فتح الباري ، ج ٧ ، ص ٦٢.

(٢) الأضواء لأبي ريّة ، ص ١٩٥ ـ ١٩٩.

١١٤

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كعب. فاتقوا الله وتحفّظوا في الحديث.

وقال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلّس ، أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يميّز هذا من هذا. وقال ابن قتيبة : وكان أبو هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا ، وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه. وكانت عائشة أشدّهم إنكارا على أبي هريرة. وممن اتّهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعليّ وغيرهم ، فكما قال الأستاذ الرافعي : «كان أوّل راوية اتّهم في الإسلام» (١).

والحديث بشأن تدليس أبي هريرة وإنكار الصحابة عليه ذو شجون ، عرضه بتفصيل الأستاذ أبو ريّة في كتابيه : «شيخ المضيرة» ، و «الأضواء». وكان هذا العرض القصير مستقى منه (٢).

أخذ أبو هريرة عن كعب الأحبار الشيء الكثير ، غير أن السّيّئ الذي كان يرتكبه ، إسناد ما سمعه من كعب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما نوّهنا عنه.

قال أبو ريّة : ذكر علماء الحديث في باب «رواية الصحابة عن التابعين ، أو رواية الأكابر عن الأصاغر» إنّ أبا هريرة والعبادلة (٣) ومعاوية وأنس وغيرهم ، قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعا ، وطوى قلبه على

__________________

(١) راجع : تاريخ آداب العرب ، ج ١ ، ص ٢٧٨.

(٢) راجع : الأضواء ، ص ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

(٣) هم : عبد الله بن عمرو بن العاص. وعبد الله بن عمر. وعبد الله بن عباس ، غير أن الأخير مكذوب عليه ، وقد فصّلنا الكلام فيه.

١١٥

يهوديّته.

قال : ويبدو أنّ أبا هريرة كان أكثر الصحابة انخداعا به ، وثقة فيه ، ورواية عنه وعن إخوانه ، من سائر أهل الكتاب. ويتبيّن من الاستقراء أنّ كعب الأحبار قد سلّط قوّة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه ، وينيمه ليلقّنه كلّ ما يريد أن يبثّه في الدين الإسلامي ، من خرافات وأوهام. وكان له في ذلك أساليب غريبة وطرق عجيبة.

فقد روى الذهبي في «طبقات الحفاظ» في ترجمة أبي هريرة أنّ كعبا قال فيه ـ أي في أبي هريرة ـ : ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة ، أعلم بما فيها من أبي هريرة!!

فانظر مبلغ دهاء هذا الكاهن ومكره بأبي هريرة ، الذي يتجلّى في درس تاريخه أنّه كان رجلا فيه غفلة وغرّة ؛ إذ من أين يعلم أبو هريرة ما في التوراة وهو لا يعرفها ، ولو عرفها لما استطاع أن يقرأها.

ومما يدلّك على أنّ هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردّد كلام هذا الكاهن بالنصّ ، ويجعله حديثا مرفوعا إلى النبيّ ، ما نورد لك شيئا منه.

روى البزار عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة!! فقال الحسن : وما ذنبهما؟ فقال : أحدّثك عن رسول الله ، وتقول : ما ذنبهما؟!

وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصّه ، فقد روى أبو يعلى الموصلي ، قال كعب : يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران ، فيقذفان في

١١٦

جهنم ، يراهما من عبدهما (١).

وروى الحاكم في «المستدرك» والطبراني ـ ورجاله رجال الصحيح ـ عن أبي هريرة : أنّ النبي قال : إنّ الله أذن لي أن أحدّث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش ، وهو يقول : سبحانك ما أعظم شأنك! قال : فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا.

وهذا الكلام من قول كعب ، ونصّه : أن لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض ، فإذا صاح صاحت الدّيكة ، فيقول : سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره (٢).

وروى أبو هريرة : أنّ رسول الله قال : النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة ، وهذا القول نفسه قاله كعب : أربعة أنهار الجنة وضعها الله في الدنيا : فالنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة ، وسيحان نهر الماء في الجنة ، وجيحان نهر اللبن في الجنة (٣).

وقال ابن كثير في تفسيره : إنّ حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج ، ونصّه ـ كما رواه أحمد ـ عن أبي هريرة : أن يأجوج ومأجوج ليحفرون السدّ كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذين عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا ، فيعودون ... وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب ، قال ابن كثير : لعل أبا هريرة تلقّاه من كعب ، فإنّه كثيرا ما كان يجالس كعبا ويحدّثه (٤). وبيّن في

__________________

(١) حياة الحيوان للدميري ، ج ١ ، ص ٢٥٧.

(٢) نهاية الأرب للنوبري ، ج ١٠ ، ص ٢٢٠.

(٣) الأضواء لأبي ربّة ، ص ٢٠٨.

(٤) تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

١١٧

مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : أنّ الله خلق آدم على صورته.

وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأوّل من التوراة (العهد القديم) ونصّه هناك : «وخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه» (١).

وروى مسلم عن أبي هريرة : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيدي! فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة. وقد روى هذا الحديث أحمد والنّسائي أيضا عن أبي هريرة.

قال البخاري وابن كثير وغيرهما : إن أبا هريرة قد تلقّى هذا الحديث عن كعب الأخبار ؛ لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في سنة أيّام (٢).

قال أبو ريّة : وقد بلغ من دهاء كعب واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته ، أن كان يلقّنه ما يريد بثّه في الدين الإسلامي من خرافات وترّهات ، حتى إذا رواها أبو هريرة عاد هو فصدق أبا هريرة ، وذلك ليؤكّد هذه الإسرائيليّات ، وليمكّن لها في عقول المسلمين ، كأنّ الخبر جاء عن أبي هريرة ، وهو في الحقيقة عن كعب

__________________

(١) قال أبو ريّة : من روايات هذا الحديث : وطول آدم ستون ذراعا. وقد انتقد هذا الحديث ابن حجر في شرح البخاري ، قال : ويشكل على هذا من الآن ، الآثار للأمم السالفة كديار عاد وثمود ، فإنّ مساكنهم تدلّ على أنّ فأماتهم لم تكن مفرطة في الطول ، على حسب ما يقتضيه الترتيب الذي ذكره أبو هريرة. وأنكر مالك هذا الحديث. (الأضواء ، ص ٢٠٨ ـ ٢٠٩ بالهامش)

(٢) الأضواء ، ص ٢٠٧ ـ ٢١٠.

١١٨

الأحبار.

وإليك مثلا ما رواه أحمد عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال : «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام ، اقرءوا إن شئتم : وظلّ ممدود» (١).

ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب ، فقال : صدق والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ، لو أنّ رجلا ركب حقّة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما! وهكذا كانا ـ كعب وأبو هريرة ـ يتعاونان على نشر مثل هذه الخرافات. ومن العجيب أن يروي مثل هذا الخبر الغريب أيضا وهب بن منبّه في أثر غريب ، فيرجع إليه من أراده (٢).

هلك أبو هريرة سنة (٥٩) عن (٨٠) سنة بقصره بالعقيق ، وحمل إلى المدينة ودفن بالبقيع ، وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان أميرا على المدينة تكريما له. ولما كتب الوليد إلى عمّه معاوية ينعى إليه أبا هريرة ، أرسل إليه معاوية : «انظر من ترك ، وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم ، وأحسن جوارهم ، وافعل إليهم معروفا». قال أبو ريّة : وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته (٣).

قال السيد رشيد رضا بشأن أبي هريرة : كان إسلامه في سنة (٧ ه‍) ، فصحب رسول الله ثلاث سنين ونيفا ، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي. وإنما سمعها من الصحابة والتابعين. فإذا كان جميع الصحابة عدولا في الرواية ـ كما يقول جمهور المحدّثين ـ فالتابعون ليسوا كذلك ، وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار ، وأكثر أحاديثه عنه ، على أنه صرّح بالسماع من النبي ، في حديث «خلق الله التربة

__________________

(١) الأضواء ، ص ٢١٠.

(٢) راجع : تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٥١٣ ـ ٥١٤.

(٣) الأضواء ، ص ٢١٨.

١١٩

يوم السبت» وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه عن كعب. وكان يكثر في أحاديثه النقل بالمعنى والإرسال ـ أي لا يذكر اسم الصحابي الذي سمع منه ـ ورواية الحديث بالمعنى كانت مثارا لمشكلات كثيرة. كما أنه انفرد بأحاديث كثيرة ، كان بعضها موضع الإنكار أو مظنّته لغرابة موضوعها ، كأحاديث الفتن والإخبار ببعض المغيّبات ، إلى غيرها من علل ذكرها أهل النقد في الحديث (١).

٨ ـ ابن جريج

هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، من أصل رومي نصراني. ولد سنة (٨٠) ومات سنة (١٥٠). وهو من أوّل من صنف الكتب بالحجاز. قال الذهبي : هو قطب الإسرائيليّات في عهد التابعين. قال : ولو أنّا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبري وتتبّعنا الآيات التي وردت في النصارى ، لوجدنا كثيرا مما يرويه ابن جرير في تفسير هذه الآيات يدور على عبد الملك الذي يعبّر عنه دائما ب «ابن جريج» (٢).

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : من أوّل من صنف الكتب؟ قال : ابن جريج وابن أبي عروبة. وكان رحّالة في طلب العلم ، فقد ولد بمكة ثم طوّف في كثير من البلاد. وقد رويت عن ابن جريج أجزاء كثيرة في التفسير عن ابن عباس ، منها الصحيح ومنها غير الصحيح ؛ لأنه لم يقصد الصحّة فيما جمع ، بل روى كل ما ذكر في كل آية من صحيح أو سقيم (٣).

__________________

(١) مجلة المنار ، ج ١٩ ، ص ٩٧ (الأضواء ، ص ٢١٨ ـ ٢١٩).

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٩٨.

(٣) الإتقان ، ج ٢ ، ص ١٨٨.

١٢٠