التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

التفسير والمفسرون

في ثوبه القشيب

الجزء الثاني

(كتاب أنزلناه إليك مبارك فيدبروا

آياته وليتذكر اُولوا الالباب)

بحث مستوف بشؤون التفسير :

نشأته وتطوّره وألوانه

مع عرض شامل لأشهر المفسرين

وتحليل كامل لأهم كتب التفسير

٥
٦

المرحلة الخامسة

التفسير في عهد التدوين

النمط الأول

التفسير بالمأثور

* أنحاء التفسير بالمأثور :

١ ـ تفسير القرآن بالقرآن

٢ ـ تفسير القرآن بالسنة

٣ ـ تفسير القرآن بقول الصحابي

٤ ـ تفسير القرآن بقول التابعي

* آفات التفسير بالمأثور

١ ـ ضعف الأسانيد

٢ ـ الوضع في التفسير

٣ ـ الإسرائيليات

* أشهر كتب التفسير بالمأثور

٧
٨

شكر وتقدير

ويجدر بنا أن نقدّر خدمات فنّية وعلميّة قام بها كل من أصحاب الفضيلة : نصيري ، مرويان ، بهادري ، اكبري ، مريجكاني ، شهركي فلاح ، على زاده ، حاتمي ، شيخ حافظ في إنجاز هذا المشروع الضخم وساهموا فى مراجعته وإخراجاته الفنيّة وإعداد فهارسه وتنضيد حروفه المطبعيّة بالحاسب الإلكتروني وغيرها ، في قسم الدراسات القرآنيّة في الجامعة الرضويّة. فنقدّم لهم جزيل شكرنا المتواصل ونبتهل إلى الله أن يوفّق الجميع لخدمة الدين ولا سيمّا أساسه القويم القرآن الكريم إنّه تعالى ولى التوفيق.

الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلاميّة

قسم الدراسات القرآنية

٩
١٠

التفسير في عهد التدوين

كان التفسير في عهد نشوئه إنّما يتلقّى شفاها ويحفظ في الصدور ، ثم يتناقل نقل الحديث يدا بيد. هكذا كان التفسير على عهد الرسالة ، وعلى عهد الصحابة والتابعين الأوّل. أما في عهد تابعي التابعين ، فجعل يضبط ويثبت في الدفاتر والألواح ؛ وبذلك بدأ عهد تدوين التفسير إلى جنب كتابة الحديث ، وذلك في أواسط القرن الثاني ؛ حيث راج تدوين الأحاديث المأثورة عن السلف.

ولعل أوّل من سجل التفسير في الدفاتر والألواح هو مجاهد بن جبر ، توفّي سنة (١٠١). يقول ابن أبي مليكة : «رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه ألواحه. فيقول له ابن عباس : اكتب. قال : حتى سأله عن التفسير كلّه» (١). وكان أعلم الناس بالتفسير. قال الفضل بن ميمون : «سمعت مجاهدا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة» (٢).

وله تفسير متقطّع ومرتّب على السور ، من سورة البقرة إلى نهاية القرآن.

__________________

(١) راجع : تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٣١.

(٢) تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ١٠ ، ص ٤٣.

١١

يرويه عنه أبو يسار عبد الله بن أبي نجيح الثقفي الكوفي ، توفّي سنة (١٣١) وقد صححه الأئمة واعتمده أرباب الحديث ، وقد طبع أخيرا في باكستان سنة (١٣٦٧ ه‍ ق) حسبما تقدم في ترجمته.

ويذكر ابن حجر عند ترجمته لعطاء بن دينار المصري ـ وكان من ثقات المصريين ، توفّي سنة (١٢٦) ـ أنّ له تفسيرا يرويه عن سعيد بن جبير ، قتل سنة (٩٥) وكان في صحيفة. قال : ولا دلالة أنّه سمع من سعيد بن جبير. وعن أبي حاتم أنه أخذه من الديوان ؛ وذلك أنّ عبد الملك بن مروان ، توفي سنة (٨٦) سأل سعيدا أن يكتب إليه بتفسير القرآن ، فكتب سعيد بهذا التفسير. فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه ، فأرسله عن سعيد (١).

فهذا صريح في أنّ سعيد بن جبير جمع تفسير القرآن في كتاب ، وهذا الكتاب أخذه عطاء بن دينار. وبما أنّ سعيد بن جبير قتل سنة (٩٥) ولا شكّ أنّ تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك سنة (٨٦) فهذا التفسير قد كتب ودوّن قبل هذا الحين.

ويذكر ابن خلكان : أنّ عمرو بن عبيد ـ شيخ المعتزلة ، توفي سنة (١٤٤) ـ كتب تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة ١١٦ (٢).

ولابن جريج ، توفّي سنة (١٥٠) تفسير كبير في ثلاثة أجزاء ، يرويه بواسطة عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس ، توفي سنة (٦٨) ، ويرويه عنه محمّد بن ثور. وقد صححته الأئمة (٣). وذكر أحمد بن حنبل : أنّه أوّل من صنّف الكتب (٤).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ١٩٨ ـ ١٩٩ ، رقم (٣٨٢).

(٢) وفيات الأعيان لابن خلكان ، ج ٣ ، ص ٤٦٢ ، رقم (٣. ٥).

(٣) الإتقان للسيوطي ، ج ٤ ، ص ٢٠٨.

١٢

وأمثال هذه التفاسير ممّا كتب على الألواح أو في صحائف ذلك العهد كثير ، كانت تقتضيه طبيعة الأخذ والتلقّي ذلك الحين ، وقد قلّ الاعتماد على الحفظ والضبط في الصدور.

غير أنّ هذه التفاسير كانت مقتصرة على نقل المعاني وروايتها عن التابعين والأصحاب ، وثبتها في الدفاتر خشية الضياع ، ولم يكن التفسير قد توسّع أو دخله الاجتهاد في شكل ملحوظ.

ولعلّ أوّل من توسّع في التفسير وضمّ إلى جانب المعاني جوانب أخر ولا سيّما التعرّض لأدب القرآن وذكر خصائص اللّغة ، واجتهد في ذلك ، هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء المتوفّى سنة (٢٠٧).

يذكر ابن النديم في «الفهرست» أنّ أبا العبّاس ثعلب قال : كان السبب في إملاء كتاب الفرّاء في معاني القرآن ، أنّ عمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل. فكتب إلى الفرّاء : أنّ الأمير الحسن بن سهل ، ربّما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن ، فلا يحضرني فيه جواب. فإن رأيت أن تجمع لي أصولا ، أو تجعل في ذلك كتابا ، أرجع إليه فعلت. فقال الفرّاء لأصحابه : اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن ، وجعل لهم يوما ، فلمّا حضروا خرج إليهم ، وكان في المسجد رجل يؤذّن ويقرأ بالناس في الصلاة. فالتفت إليه الفرّاء ، فقال له : اقرأ بفاتحة الكتاب نفسّرها ، ثمّ نوفي الكتاب كلّه. فقرأ الرجل ويفسّر الفرّاء. قال أبو العبّاس : لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أنّ أحدا يزيد عليه (٥).

__________________

(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٥) الفهرست لابن النديم ، ص ١٠٥.

١٣

ولا شكّ أنّ تفسير الفرّاء هذا هو أوّل تفسير تعرض لآيات القرآن آية آية ، حسب ترتيب المصحف وفسّرها على التتابع ، وتوسّع فيه. وكانت التفاسير قبله تقتصر على تفسير المشكل ، وبصورة متقطّعة ، غير مستوعبة لجميع الآيات على التتابع. وقد جنح إلى هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين المصري في «ضحى الإسلام» (١).

وعلى أيّ تقدير ، فإنّ ذلك يعدّ أوّل بذرة غرست للتفسير المدوّن بشكل رتيب. فقد كان القرن الثاني من بدايته إلى نهايته ، عهد تطوّر التفسير ، من مرحلة تناقله بالحفظ إلى مرحلة كتابته بالثبت. كما أخذ بالتوسّع والشمول أيضا بعد ما كان مقتصرا على النقل بالمأثور.

وازداد في القرن الثالث فما بعد ، في الأخذ في التنوّع ، وتلوّنه بألوان العلوم والمعارف والثقافات التي كانت دارجة في تلك العصور.

تدرّج التفسير وتلوّنه

وفي هذا الدور أخذ التفسير يخطو من مرحلة إلى أخرى ويزداد توسّعا وتنوّعا. فقد انتقل من دور التفسير بالمأثور إلى دور الاجتهاد العقلي وإعمال النّظر والرأي ، واستنباط معاني القرآن الكريم في ضوء الأدب ـ أوّلا ـ ثمّ في ضوء أنواع العلوم والمعارف الّتي كان ذلك العهد أهلا بها ، مضافا إليه بعض النظرات الفلسفية الكلامية ، ممّا نشأ على يد أرباب الكلام وذوي النزعات المذهبية العقائدية ، وكانت متنوّعة ذلك العهد. كل ذلك أثّر في التفسير ، وزاد في حجمه ،

__________________

(١) ضحى الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ـ ١٤١.

١٤

كما جعله على أنواع وأشكال مختلفة.

فمنهم من اقتصر على أسلوب السلف بالاكتفاء بالتفسير بالمأثور من أقوال الصحابة وكبار التابعين ، ومنهم من زاد عليه بالتوسّع في اللغة والأدب ، ومنهم من تجاوز إلى معارف أخر من فلسفة وكلام ؛ وبذلك تلوّن التفسير حسب ألوان الثقافات الموجودة آنذاك.

ولكلّ من هذه الألوان والأنحاء التفسيرية مميّزاته ومشخّصاته ، بها يمتاز كل نوع من التفسير عن سائر الأنواع ، ومنهم من جمع بين هذه الألوان أو بعضها ؛ فكانت تفاسير جامعة تتعرّض لمختلف أبعاد التفسير ، كاللغة والأدب والكلام ، إلى جنب المأثور من الأحاديث الواردة ونقل الأقوال. وقد كثر في العهد المتأخّر هذا النمط الجامع من التفسير ، كما قد زاد عليه المتأخّرون جوانب الشّئون الاجتماعية والسياسية الّتي تعرّض لها القرآن ، وبسّطوا القول فيها حسب حاجة الزمن.

وهكذا تدرّج التفسير ، واتّجهت الكتب المؤلّفة فيه اتجاهات متنوعة وتحكّمت الاصطلاحات العلمية والعقائد المذهبية في عبارات القرآن الكريم ، فظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين في تفسير القرآن ، كما ظهرت آثار العرفان الصوفي ، وآثار النحل والأهواء فيه ظهورا جليّا.

وذلك أنّ كل من برع في فنّ من فنون العلم والأدب ، يكاد يقتصر تفسيره على الفنّ الّذي يرع فيه. فالنحويّ تراه لا همّ له إلّا الإعراب ، وذكر ما يحتمل في ذلك من أوجه. وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافاته ، وذلك كالزجّاج ، والواحدي في «البسيط» ، وأبي حيّان في «البحر المحيط».

وصاحب العلوم العقلية تراه يعني في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة ، كما يذكر شبههم والردّ عليها ، وذلك كالفخر الرازي في كتابه «مفاتيح الغيب».

١٥

وصاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلّة للفروع الفقهيّة ، والردّ على من يخالف مذهبه ، وذلك كالجصاص والقرطبي وأمثالهما كثير.

وصاحب التاريخ ليس له شغل إلّا القصص ، وذكر أخبار السلف ، ما صحّ منها وما لم يصحّ ، وذلك كالثعلبي والخازن وغيرهما.

وأصحاب المذاهب الكلامية إنما يحاولون تأويل الظواهر إلى ما يتّفق ومذاهبهم في الكلام ، ويقصرون الكلام في تفاسيرهم على هذا الجانب ؛ حيث يتوسعون فيه ، وذلك كالرماني والجبائي ، والقاضي عبد الجبّار ، والزمخشري والفيض الكاشاني.

وأرباب التصوّف والعرفان الصوفيّ إنما يتّجهون بكل اتّجاهاتهم إلى ناحية تزكية الروح وتطهير النفس ، والترفع بها إلى ذروة الأخلاق الحميدة ، كما يحاولون في استخراج المعاني الإشارية ـ حسبما يزعمون ـ من الآيات القرآنية بما يتّفق مع مشاربهم ، ويتناسب مع رياضاتهم ومواجيدهم في عرفان الذات. ومن هؤلاء ابن عربي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والقشيري في «لطائف الإشارات» ، والفيض الكاشاني في أكثر مواضع تفسيره.

وهكذا فسّر كل صاحب فنّ أو مذهب بما يتناسب مع فنّه أو يشهد لمذهبه. وقد استمرّت هذه النزعة العلمية والعقائدية ، وراجت في فترة غير قصيرة رواجا عظيما ، كما راجت في عصر متأخّر تفسيرات يحاول أهلها أن يحملوا آيات القرآن كل العلوم ما ظهر منها وما لم يظهر ، كأنّ هذا فيما يبدو وجه وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته ، لأن يتمشى مع الزمن ، فيما زعموا.

أما في عصرنا الحاضر فقد راج اللّون الأدبي الاجتماعي على التفسير ، ووجدت بعض محاولات علميّة ، في كثير منها تكلّف باهت وغلوّ ظاهر وسنتكلّم عن مختلف هذه الألوان ، بما وسع لنا المقال إن شاء الله.

١٦

كان التفسير في اجتيازه تلك المراحل وتطوّره مع سير الزمان ، قد وجدت له ألوان وظهرت أشكال ، أشرنا إليها. غير أنّ هذه الأشكال والألوان لم تزل مستمرة ، ودام وجودها في كل عصر من الأعصار. ومن ثمّ فإنّ المفسرين لم يزالوا يتنوّعون في التفسير ، وتظهر على أيديهم أنواع من التفسير ، حسب مختلف براعاتهم في الفنون والعلوم ، وتخصّصاتهم في أنحاء المعارف والثقافات ؛ وبذلك نستطيع أن ننوّع التفسير منذ عهد تدوينه فإلى الآن ، إلى أنواع مختلفة :

ولقد كان التفسير في بدء نشوئه متقطّعا ومترتّبا حسب ترتيب السور والآيات. كان المفسّر يراجع شيخه في مواضع من القرآن ، كان قد أشكل عليه فهمه ، فيسأله عنه ويسجّله في دفتره ، مبتدئا من أوّل القرآن إلى آخره. هذا هو نمط التفسير المأثور عن السلف ، المحفوظ بعضه إلى اليوم ، كتفسير مجاهد وغيره.

فأوّل نوع من التفسير الذي جاء إلى الوجود هو «التفسير بالمأثور» ومتقطعا ، ولكن مرتّبا حسب ترتيب السور والآيات. ثم بعده أخذ في تشكّل أكثر وانسجام أبلغ ، مضافا إليه بعض التوسّع والتنوّع ، كما عرفت.

ولكن ظهر إلى جنب هذا النوع من التفسير الترتيب ، نوع آخر تعرض للجوانب الفقهيّة أو اللغويّة فقط ، تاركا جوانبه الأخر ، وهذا نوع من «التفسير الموضوعي» الذي ظهر إلى عالم الوجود ، من أوّل يومه ولا يزال.

فهذه كتب آيات الأحكام ، وكتب غريب القرآن ، هي تفاسير موضوعيّة ، مقتصرة على جانب فهم الأحكام ، واستنباط فروع المسائل من القرآن ، وهكذا تفسير ما ورد في القرآن من غريب الألفاظ.

وهكذا تنوّع التفسير من أوّل يومه إلى تفسير رتيب وتفسير موضوعي ، غير أنّ التفسير الرّتيب كان مقتصرا في الأكثر على المأثور من الأقوال والآثار ،

١٧

والموضوعي على الفقه واللغة فحسب. وزاد المتأخرون جانب الناسخ والمنسوخ في القرآن ، وأسباب النزول ، وغيرهما من مواضيع قرآنية ، أفردوا لها كتبا تبحث عنها بالخصوص.

والتفسير الرتيب مذ نشأ ، نشأ على نمطين : تفسير بمجرد المأثور من الآراء والأقوال ، وتفسير اجتهادي معتمد على الرأي والنظر والاستدلال العقلاني. ومن هذا النمط الثاني التفاسير التي غلب عليها اللّون المذهبي أو الكلامي أو الصوفي العرفاني ـ وهو من التفسير الباطني في مصطلحهم ـ وكذلك اللغوي والأدبي وما شاكل. وهناك من جمع بين هذه الأبعاد المتنوّعة ، فجاء تفسيره جامعا لمختلف الجوانب التي تعرّض لها المفسّرون المتخصّصون.

وقد شاع هذا النمط الجامع من التفسير في العصور المتأخّرة ، فكانت تفاسير جامعة بين العقل والنقل ، مضافا إليه جانب أدب القرآن ، أمثال تفسير أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي ـ من أكبر علماء القرن السادس ـ وبحق أسمى تفسيره ب «مجمع البيان» ؛ حيث كان من أحسن التفاسير وأجمعهن لمختلف جوانب القرآن الكريم. وهكذا تفسير أبي عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي ـ من علماء القرن السابع ـ المسمّى ب «الجامع لأحكام القرآن» ، فإنه تفسير جامع نافع ، وغيرهما كثير ، وسنتعرّض لها.

وأما التفاسير المقتصرة على مجرد النقل فأقدمها من حيث البسط والشمول تفسير «جامع البيان» تأليف أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّى سنة (٣١٠) ، ثم «الدرّ المنثور» لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفّى سنة (٩١١) ، وبعدهما تفسير «نور الثقلين» لعبد علي بن جمعة العروسي الحويزي المتوفّى سنة (١٠٩١)» و «البرهان في تفسير القرآن» للسيد هاشم بن

١٨

سليمان البحراني التوبلي الكتكاني المتوفّى سنة (١١٠٩) ، وهذان اقتصرا على المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام. وقد زاد عليهما وبسط الكلام في هذا النوع من التفسير المولى صالح البرغاني القزويني المتوفّى سنة (١٢٩٤) ، له تفسير كبير معتمد على المأثور من أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام.

وأما المناهج التفسيرية التي يسلكها المفسّر ويتّجه نحوها في تفسيره للآيات القرآنية ، فتختلف حسب اختلاف اتجاهات المفسرين وأذواقهم ، وأيضا حسب معطياتهم ومواهبهم في العلوم والمعارف وأنحاء الثقافات ، فمنهم من لا يعدو النقل ، معتقدا أن لا سبيل للعقل في تفسير كلامه تعالى ، ومنهم من أجاز للعقل التدخّل فيه ، ويرى للرأي والنظر والاجتهاد مجالا واسعا في التفسير ؛ حيث قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(١) وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢) فللتّدبّر في القرآن ، والتفكّر حول آياته ومفاهيمه مجال واسع ، قد فتح القرآن ذاته أبوابه بمصراعين. غير أنّ بعضهم أسرف في التعقّل ، وربّما التحق بالتوهّم المتكلّف فيه.

وعلى أيّ تقدير ، فالمنهج الذي انتهجه المفسرون إمّا نقليّ أو اجتهاديّ. وقد عرفنا سبيل النقلي واعتماده على المأثور من الآراء والأقوال ، إما مع شيء من البيان والتوضيح ، كما سلكه أبو جعفر الطبري ، أو مجرد النقل من غير نظر وبيان ، كالذي انتهجه جلال الدين السيوطي والسيد البحراني.

وأما النظري الاجتهادي فمعتمده إما مجرد الرأي الخاصّ حسب عقيدته

__________________

(١) محمّد / ٢٤.

(٢) النحل / ٤٤.

١٩

ومذهبه ، فهذا كأكثر تفاسير أهل الباطن. أو مجموعة مصادر التفسير من المنقول والمعقول ، وهذا هو الشائع من التفاسير المعتبرة الدارجة بين المسلمين ، منذ العهد الأول ولا يزال.

ولنذكر هذين النمطين من التفسير ، اللّذين بدئ بهما منذ أوّل يومه ، ونذكر شيئا من آفاتهما.

٢٠