التفسير الكبير - ج ١

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ١

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

قرؤ للحيض ، والطّهر ، وكلمة عزر للإعانة والنصرة ؛ وكذلك للوم والتنكيل وما شابه ذلك. ويحتاج فهم المعنى المراد من الكلمة فهم التركيب ، ولا يمكن أن يفهم معناها بمجرّد مراجعة قواميس اللغة ، بل لا بد من معرفة التركيب الذي وردت فيه هذه الكلمة ، لأن التركيب هو الذي يعيّن المعنى المراد منها. وكما نقول ذلك في المفردات بالنسبة للتراكيب نقوله بالنسبة للتراكيب نفسها ، فإنّها من حيث هي ألفاظ وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة ، وهذه هي دلالتها الأصلية ، وما لم ترد قرينة دالة على غير ذلك ، فإن معناها المطلق هو المراد ، وهذا كثير في القرآن لا يحتاج إلى تمثيل لأنه الأصل.

وأمّا بالنّسبة للقسم الثّاني وهو كون التراكيب ألفاظا وعبارات دالّة على معاني خادمة للألفاظ والعبارات المطلقة ، فإن كلّ خبر يقال في الجملة يقتضي بيان ما يقصد في الجملة بالنسبة لذلك الخبر. فتوضع الجملة على وضع يؤدّي ذلك القصد بحسب المخبر ، والمخبر عنه ، ونفس الإخبار ، في الحال التي وجد عليها ، وفي المساق الذي سيقت به الجملة ، وفي نوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والاطناب وغير ذلك. فإنك تقول في ابتداء الإخبار : قام زيد ، إن لم تكن عناية بالمخبر عنه بل بالخبر. فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت : زيد قام. وفي جواب السؤال أو هو منزّل منزلة السؤال قلت : إنّ زيدا قام. وفي جواب المنكر : والله إنّ زيدا قام ، وفي إخبار من يتوقع قيام زيد : قد قام زيد ، إلى غير ذلك من الأمور التي يجب أن تلاحظ في النصوص العربية.

وقد جاء القرآن مستوفيا هاتين النظرتين ، فجاءت الألفاظ والعبارات المطلقة الدالّة على معان مطلقة ، وجاءت فيه الألفاظ والعبارات المقيّدة الدالة على معان خادمة للمعاني المطلقة ، في وجوه متعددة من البلاغة. ومن أروع ما روعي فيه وجود المعاني الخادمة ، التي هي الدلالة التابعة ، الآيات وأجزاء الآيات التي تتكرّر في القرآن في السّورة الواحدة والسور المختلفة ، وكذلك القصص والجمل التي تتكرر في القرآن ، وما جاء فيه من تقديم المحمول على الموضوع ، ومن التأكيد بأنواع التأكيد أو بنوع واحد حسب مساق الجملة ، ومن الاستفهامات الإنكارية وغير ذلك ، مما يتضمّن أعلى أنواع الدلالة التابعة. فإنك تجد الآية أو جزء الآية أو الجملة أو القصة ، تأتي في مساق على وجه في بعض السور ، وتأتي على وجه آخر في سورة أخرى ، وتأتي على

٦١

وجه ثالث في موضع آخر وهكذا ... ولا تجد تعبيرا حوّل عن وضعه الأصلي كتقديم الخبر على المبتدأ ، وكتأكيد الخبر ، وكالإكتفاء بذكر البعض عن البعض الآخر مما يذكر عادة ، وغير ذلك ، إلا وجدت لهذا نكتة بلاغية كانت لإيجاد معنى يخدم المعاني المطلقة التي تتضمّنها الألفاظ والعبارات في الآية.

هذا من حيث أسس الكلام في اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان ، ومن حيث أسس الكلام في القرآن من حيث هي ألفاظ دالّة على معان ، سواء أكانت من حيث النظرة إلى المفردات في تراكيبها ، أو من حيث التراكيب جملة.

أمّا من حيث التّصرّف في المفردات وهي في تراكيبها ، أو التصرف في التراكيب ، فإن القرآن سائر فيها على معهود العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. ومع إعجاز القرآن للعرب ، فإنه لم يحصل فيه العدول عن العرف المستمر لهم في التصرّف بالقول ، وواقعه من هذه الجهة هو عينه واقع معهود العرب في ذلك. وبالرجوع إلى واقع معهود العرب نجد أن العرب لا ترى الألفاظ حتميّة الالتزام حين يكون المقصود المحافظة على معنى التراكيب ، وإن كانت تراعيها. وكذلك لا ترى جواز العدول عن الألفاظ بحال من الأحوال بل تلتزمها حين يكون المقصود أداء المعاني التي تقتضي الدقّة في أدائها التزام اللفظ الذي يكون أداؤها به أكمل وأدقّ ، فليس أحد الأمرين عندهم بملتزم ، بل قد تبنى المعاني على التركيب وحده مع عدم الالتزام بالألفاظ ، وقد تبنى المعاني على الألفاظ. في التركيب. فمن شأن العرب الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها إذا كان المعنى المقصود على استقامته ، فقد حكى ابن جني عن عيسى بن عمر قال : سمعت ذا الرّمّة ينشد :

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن

عليها الصبا واجعل يديك لها سترا (١)

_________________

(١) الخصائص لابن جني : باب في إيراد المعنى المراد بغير اللفظ المعتاد : ج ٢ ص ٤٦٧.

٦٢

فقلت : أنشدتني (من بائس) فقال يابس وبائس واحد. وعن أحمد بن يحيى قال : أنشدني ابن الأعرابي ، قال :

وموضع زبن لا أريد مبيته

كأنّي به من شدّة الرّوع آنس

فقال له شيخ من أصحابه : ليس هكذا أنشدتنا ، وإنما أنشدتنا : وموضع ضيق. فقال : سبحان الله ؛ تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزبن والضيق واحد (١).

وقد حصل ذلك في القرآن في الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها مثل القراءات في القرآن (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ملك يوم الدّين (٢)(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يخادعون إلّا أنفسهم (٣)(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) لنثوينّهم من الجنّة غرفا (٤) وغير ذلك من الآيات بحسب القراءات.

ومن شأن العرب الالتزام بالألفاظ بعينها حين يكون هنالك قصد من التعبير بها. فإنه يروى أن أحد الرواة حين أنشد :

لعمرك ما دهري بتأبين مالك

ولا جزع ممّا أصاب فأوجعا

فوضع كلمة هالك بدل مالك فقال (لعمرك ما دهري بتأبين هالك) غضب وقال : الرواية مالك وليس بهالك والمرثيّ هو مالك لا مطلق شخص هالك.

__________________

(١) الخصائص : ج ٢ ص ٤٦٧.

(٢) الفاتحة / ١. القراءتان مرويتان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وأم سلمة ذكرها الترمذي في الجامع الصحيح. أما قراءة (ملك يوم الدّين) فعن أم سلمة ، وقال الترمذي هذا حديث غريب وليس بمتصل : الحديث (٢٩٢٧). أما قراءة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : الحديث (٢٩٢٨) عن أنس. ينظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١ ص ١٤٠.

(٣) البقرة / ٩. قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر (يَخْدَعُونَ) وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (يُخادِعُونَ). الجامع لأحكام القرآن : ج ١ ص ١٩٦.

(٤) العنكبوت / ٥٨. في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١٣ ص ٣٥٩ ؛ قال القرطبي : وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (لنثوينّهم) بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الإقامة ؛ أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها.

٦٣

والقرآن الكريم وردت فيه ألفاظ ملتزمة لا يمكن أن يؤدّى المعنى بدونها ، فقوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)(١) فإن كلمة ضيزى هنا لا يمكن أن تؤدّي معناها أيّة كلمة مرادفة أو مقاربة ، لا قسمة ظالمة ، ولا جائرة ، ولا غير ذلك مما هو في معناها.

وقوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(٢) فإن كلمة الحمير لا يمكن أداء المعنى بغيرها ، ومن أجل ذلك روعي لفظها في التركيب محافظة على المعنى. هذا من حيث المحافظة على التعبير بنفس اللفظ أو عدم المحافظة. أما من حيث المحافظة على المعنى الإفرادي بتبيانه أو عدم المحافظة ، فإن من معهود العرب أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصطلحت الألفاظ من أجلها. إلا أنه إذا كان مقصود الجملة المعنى الإفرادي فيجب أن توجّه العناية إلى معنى المفردات مع معاني الجملة ، وإذا كان مقصود الجملة المعنى التركيبي ، فإنه يكتفى بالمعنى الإفرادي لئلا يفسد على القارئ فهم المعنى التركيبي للجملة. وقد جاء القرآن الكريم على هذا المعهود ، وسار عليه في مختلف الآيات. ولذلك قال عمر بن الخطاب حين سئل عن معنى قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) نهينا عن التّكلّف والتّعمّق ، عن أنس قال : كنا عند عمر فقال : [نهينا عن التّكلّف](٣) ، أي في المعنى الإفرادي في مثل هذه الجملة المراد منها المعنى التركيبي. إلا أنه إذا كان المعنى الإفرادي يتوقف عليه المعنى التركيبي فيجب بذل العناية للمعنى الإفرادي.

ولهذا نجد عمر بن الخطاب نفسه سأل وهو على المنبر عن المعنى الإفرادي لكلمة التخوّف حين قرأ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فقال له رجل من هذيل التخوّف عندنا التنقّص وأنشده :

تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

__________________

(١) النجم / ٢٢.

(٢) لقمان / ١٩.

(٣) عبس / ٣١ ، أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة : الحديث (٧٢٩٣).

٦٤

(والسّفن : الحديدة التي يبرد بها خشب القوس ، والقرد : الكثير القردان ، والتّامك : العظيم السّنام : أي أن الرحل تنقص الناقة وتبرد ظهرها كما تنقص الحديدة خشب القسي).

وحين أنشد الهذيلي بيت الشعر وفسّر لعمر التخوّف قال عمر (أيّها النّاس تمسّكوا بديوان شعركم في جاهليّتكم فإنّ فيه تفسير كتابكم) (١).

وفوق ذلك فإن القرآن يراعي عند الكلام تعبيرات يقصد منها مراعاة الأدب العالي ، فإنه أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ، ومن العباد لله تعالى ، إما حكاية وإما تعليما. فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد ثابتا غير محذوف ليشعر العبد ببعده كقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ)(٢)(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)(٣)(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)(٤)(يا أَيُّهَا النَّاسُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(٥). هذا بالنسبة لنداء الله للعباد. أما بالنسبة لنداء العباد لله فقد أتى بالنداء مجرّدا من الياء كقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)(٦)(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ)(٧)(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا)(٨)(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(٩) فهذه كلّها مجردة من الياء المشعرة بالبعد ليشعر العبد أن الله قريب منه ولأن الياء تفيد التنبيه فالعبد في حاجة

__________________

(١) النحل / ٤٧ ؛ ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ١١٠ ـ ١١١ وجامع البيان في تفسير القرآن : ج ٨ ص ١٥٠ : النص (١٦٣٣٠ و ١٦٣٣١). التامك (تمك) السنام يتمك ويتمك تمكا وتموكا ؛ أي طال وارتفع. والقرد : المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة : شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسيّ. والسّفن كما قال : ما ينجر به من الخشب. وللشاهد من الشعر ألفاظ مكان (الرّحل) عند القرطبي (الرّجل) وعند الطبري (السّير).

(٢) العنكبوت / ٥٦.

(٣) الزمر / ٥٣.

(٤) الأعراف / ١٥٨.

(٥) النساء / ٢٩ وفي غيرها كثير.

(٦) البقرة / ٢٨٦.

(٧) آل عمران / ١٩٣.

(٨) آل عمران / ٨.

(٩) المائدة / ١١٤.

٦٥

بالبعد ليشعر العبد أن الله قريب منه ولأن الياء تفيد التنبيه فالعبد في حاجة للتنبيه عند النداء ، والله تعالى ليس كذلك.

وأيضا فإن مراعاته التعبيرات التي يقصد منها مراعاة الأدب العالي قد سار فيها القرآن بالإتيان بالكناية عن التصريح في الأمور التي يستحى من ذكره والتصريح به ، كما كنّى عن الجماع باللّباس والمباشرة قال تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)(١)(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ)(٢) وكنّى عن قضاء الحاجة بقوله (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)(٣).

ومن ذلك أيضا قد أتى القرآن بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(٤) ثم عدل عن الغيبة إلى الخطاب فقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وكقوله تعالى (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)(٥) فعدل عن الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى)(٦) فجرى العتاب على حال تقتضيه الغيبة مع أن الآية نزلت عليه وهو المخاطب بها ، ثم توجّه الخطاب له فقال تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)(٧).

فهذا العدول من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب إنما هو لمراعاة الأدب العالي ، لما في الخطاب بعد الغيبة من تقوية للمعنى الثاني ، أو تخفيف للمعنى الأول على النفس حين إلقائها إليه. ألا ترى في الشّكر لله والثناء عليه ، كان الأدب يقتضي الغيبة ، وحين العبادة وإظهار الضّعف كان الخطاب أليق بأدب الخطاب؟ ولعل العتاب أخفّ على المعاتب بلفظ الغيبة والاستفهام أليق به أن يكون من مخاطب.

__________________

(١) البقرة / ١٨٧.

(٢) البقرة / ١٨٧.

(٣) المائدة / ٧٥.

(٤) الفاتحة / ١ ـ ٣.

(٥) يونس / ٢٢.

(٦) عبس / ١ ـ ٢.

(٧) عبس / ٣.

٦٦

ومن ذلك أيضا ما علّمنا الله تعالى في ترك التنصيص على نسبة الشرّ إلى الله تعالى وإن كان هو الخالق لكل شيء كما قال تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)(١) واكتفى بذلك واستغنى بها عن ذكر الشرّ فلم يقل (وبيدك الشر) ، وذلك بعد قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.) مع أن السياق أن يقول وبيدك الشرّ. لأن ما نصّ على فعل الله له خير وشرّ باعتبار إطلاق الإنسان ، فأتيان الملك وعزّة الشخص هي خير بالنسبة للإنسان ، ونزع الملك وذلّة الشخص هي شرّ بالنسبة للإنسان ، وقد نسبها الله لنفسه بأنه هو الذي فعلها ، وقال في ختام الآية (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو أيضا يشمل الشرّ كما يشمل الخير. ومع ذلك قال بيدك الخير واكتفى بذلك عن ذكر الشر ولم يقل وبيدك الشر ، تعليما لنا بأن نتأدّب بأدب الخطاب.

وهذا كله ، وهو التعبير بتعبيرات يقصد منها مراعاة الأدب العالي ، هو من معهود العرب في كلامهم ، ورد في الشعر وفي الخطب. وهكذا يمضي القرآن في ألفاظه وعباراته على ألفاظ العرب وعباراتهم ومعهودهم في كلامهم لا يخرج عن ذلك شعرة ، ويحيط بكل ما هو في أعلى مرتبة من بليغ القول مما ساروا عليه. فواقعه أنه عربي محض ، لا مدخل للألسن الأعجمية به ، فكان حتما على من أراد تفهّم القرآن أن يأتيه من جهة اللسان العربي ، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه من غير هذه الجهة.

ولذلك كان من المحتّم أن يفسّر القرآن من حيث ألفاظه وعباراته ، ومن حيث مدلولات هذه الألفاظ والعبارات ، مفردات وتراكيب ، في اللغة العربية فحسب. فما ترشد إليه اللغة العربية وما يقتضيه معهودها يفسّر به القرآن ، ولا يجوز أن يفسّر من هذه الناحية إلا حسب ما تقتضيه اللغة العربية ليس غير. وطريق ذلك النقل الموثوق به من طريق الرواية التي يرويها الثقة الضابط لما يقول عن فصحاء العرب الخالصة عربيّتهم.

__________________

(١) آل عمران / ٢٦.

٦٧

وعلى هذا فتفسير المفردات والتراكيب ألفاظا وعبارات محصور في اللغة العربية وحدها وممنوع أن يفسّر بغيرها مطلقا. هذا ما يقتضيه واقعه من هذه الجهة.

أما واقعه من حيث المعاني الشرعيّة كالصلاة والصيام ، والأحكام الشرعية كتحريم الرّبا ، وحلّ البيع ، والأفكار التي لها واقع شرعي كالملائكة والشياطين ، فإن الثابت أن القرآن جاء في كثير من آياته مجملا ، وجاء الرسول وفصّله ، وعامّا وجاء الرسول وخصّصه. ومطلقا وجاء الرسول وقيّده. وبيّن الله فيه أن الرسول هو الذي يبيّنه ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١) فالقرآن من هذه الجهة يحتاج فهمه إلى الإطّلاع على ما بيّنه الرسول من معاني مفردات القرآن وتراكيبه ، سواء أكان هذا البيان تخصيصا ، أو تقييدا أو تفصيلا ، أو غير ذلك. ولهذا كان لا بدّ لفهم القرآن من الاطلاع على السّنة المتعلقة بالقرآن ، أي على السّنّة مطلقا ، لأنّها بيان للقرآن ، حتى يعرف من هذه السّنة ما في القرآن من معان وأحكام وأفكار. ولهذا كان الاقتصار على فهم القرآن من حيث هو فهما كاملا لا يكفي فيه الاقتصار على اللغة العربية ، بل لا بد أن يكون مع معرفة اللغة العربية معرفة السّنة ، وإن كانت اللغة العربية وحدها هي التي يرجع إليها لفهم مدلولات المفردات والتراكيب ، من حيث ألفاظها وعباراتها. ولكن لفهم القرآن كله لا بد من جعل السّنة واللغة العربية أمرين حتميّين ، وحتميّ أن يسيرا معا لفهم القرآن ، وأن يتوفرا لمن يريد أن يفسّر القرآن. وأن يجعلا الواسطة لفهمه وتفسيره.

أما القصص الواردة فيه عن الأنبياء والرّسل والحوادث التي قصّها عن الأمم الغابرة ، فإنه إن ورد فيها حديث صحيح أخذ ، وإلا فيقتصر عند ما ورد عنها في القرآن في مجموع الآيات ، ولا يصحّ أن تعرف عن غير هاتين الطريقين. لأنّها من ناحية المفردات والتراكيب لا سبيل إلى التوراة والإنجيل لفهم المفردات والتراكيب التي روت القصص ، ولا علاقة للتوراة والإنجيل في فهم هذه المفردات والتراكيب.

__________________

(١) النحل / ٤٤.

٦٨

وأما من ناحية المعاني فإن الذي يبيّنها هو الرسول بصريح القرآن ، وليس التوراة والإنجيل. ولذلك لا سبيل إلى التوراة والإنجيل في فهم معاني القرآن ، لأن الله أمرنا بالرجوع إلى الرسول ، وبيّن لنا أن الرسول بيّن القرآن ، ولم يأمرنا بالرجوع إلى التوراة والإنجيل. فلا يجوز أن نرجع إلى التوراة والإنجيل لفهم قصص القرآن وأخبار الأمم الماضية.

وكذلك لا سبيل إلى غير التوراة والإنجيل من كتب التاريخ وغيرها ، لأن الموضوع ليس شرح قصّة يقال إن هذا مصدر أوسع على فرض صدقه ، وإنما الموضوع هو شرح نصوص معيّنة نعتقد أنّها كلام رب العالمين. فيجب الوقوف عند مدلولات هذه النصوص من حيث اللغة التي جاءت بها وما تقتضيه هذه اللغة ، ومن حيث الاصطلاح الشرعي من صاحب الاصطلاح ، وهو الرسول الذي قال الله إنّ القرآن أنزل عليه ليبيّنه هو للناس. ومن هنا يجب أن ينفى من التفسير كلّ قول جاء من التوراة أو الإنجيل أو كتب التاريخ وغيرها. ويكون من الافتراء على الله أن نزعم أن هذه هي معاني كلام الله ولا توجد شبهة دليل أن لها علاقة بمعاني كلام رب العالمين.

وأما ما يزعمه الكثير من الناس قديما وحديثا من أنّ القرآن يحوي العلوم والصناعات والاختراعات وأمثالها ، فيضيفون إلى القرآن كلّ علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين ، من علوم الطبيعيات والكيمياء ، والمنطق ، وغير ذلك ، فإنه لا أصل له ، وواقع القرآن يكذّبهم. فإن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا. وكلّ آياته إنما هي أفكار للدلالة على عظمة الله ، وأحكام لمعالجة أعمال العباد.

وأما ما حدث من العلوم فإنه لم ترد فيه لا آية ، ولا جزء آية ، فضلا عن آيات فيها أدنى دلالة على أيّ علم من العلوم. وما ورد فيه مما يمكن أن يطبق على نظريات أو حقائق علمية ، كآية : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً)(١) الآية فإنما جاء للدلالة على قدرة الله ، لا لإثبات النواحي العلمية. وأما قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٢) فالمراد منه لكلّ شيء من التكاليف والتعبّد

__________________

(١) الروم / ٤٨.

(٢) النحل / ٨٩.

٦٩

وما يتعلق بذلك ، بدليل نصّ الآية. فإنّها متعلقة في موضوع التكاليف التي بلّغها الرّسل للناس ونص الآية هو (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) فكون الله جاء بالرسول شهيدا على أمّته معناها شهيدا عليها بما بلّغها ، وكونه نزّل القرآن ليبيّن كلّ شيء ، ويكون هدى ويكون رحمة ويكون بشرى للمسلمين ، يحتّم أن الشيء ليس علم الطبيعة ولا المنطق ولا الجغرافيا ولا غير ذلك ، بل هو شيء يتعلّق بالرسالة ، فهو أي الكتاب تبيان للأحكام والتعبّد والعقائد ، وهدى يهدي الناس ، ورحمة لهم ينقذهم من الضّلال ، وبشرى للمسلمين بالجنة ورضوان الله ، ولا علاقة لغير الدّين وتكاليفه بشيء من ذلك. فتعيّن أن يكون معنى تبيانا لكل شيء : أي من أمور الإسلام.

وأما قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١) فالمراد بالكتاب اللّوح المحفوظ وهو كناية عن علم الله تعالى. وكلمة كتاب من الألفاظ المشتركة يفسّرها التركيب الذي وردت فيه. فحين يقول الله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٢) يراد منها القرآن. وحين يقول : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ)(٣) أي ما الكتابة. ولكن حين يقول : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٤) ويقول : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٥)(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ)(٦)(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ)(٧)(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٨)(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٩)(وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ)(١٠) فالمراد منها جميعا علم الله. فقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(١١) أي اللّوح المحفوظ كناية عن علمه ، وقوله : (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(١٢) أي اللوح المحفوظ كناية عن علمه ، وقوله : (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(١٣) أي اللوح المحفوظ كناية عن علمه ، وقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١٤) جاءت صريحة بأنّها علم الله ، إذ الآية

__________________

(١) الأنعام / ٣٨. (٢) البقرة / ٢. (٣) الشورى / ٥٢.

(٤) الرعد / ٣٩. (٥) الإسراء / ٥٨. (٦) الأنعام / ٣٨.

(٧) الأنفال / ٦٨.

(٨) الأنعام / ٥٩ ويونس / ٦١ والنمل / ٧٥.

(٩) هود / ٦.

(١٠) فاطر / ١١.

(١١) الرعد / ٤٣.

(١٢) الإسراء / ٨٥.

(١٣) الإسراء / ٥٨.

(١٤) الأنعام / ٣٨.

٧٠

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١) جاءت صريحة بأنّها علم الله ، إذ الآية كلها تقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) على غرار قوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٢) بدليل الآية الثانية التي جاءت في نفس السورة ـ بسورة الأنعام ـ وهي (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فقد جاءت الآية (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٣).

فهذا كلّه يدل على أنه ليس المراد في هذه الآية من كلمة الكتاب القرآن ، بل المراد اللوح المحفوظ وهو كناية عن علم الله. وإذن لا دلالة في الآية على أنّ القرآن يحوي العلوم وأمثالها. فيكون القرآن خاليا من بحث العلوم ، لأن مفرداته وتراكيبه لا تدلّ عليها ، ولأن الرسول لم يبيّنها ، فلا علاقة لها به. هذا هو واقع القرآن ، وهو يدلّ دلالة صريحة واضحة أنه نصوص عربية جاء بها رسول من عند الله ، لا تفسّر بغير اللغة العربية وسنّة رسول الله.

ولما كان الصحابة أقرب الناس جميعا إلى الصواب في تفسير القرآن لعلوّ كعبهم في اللغة العربية ، ولملازمتهم للذي أنزل عليه القرآن ، كانوا فيما اتّفقوا على سلوكه ، من جعل العربية كالشعر الجاهليّ ، والخطب الجاهلية وغيرها الأداة الوحيدة لفهم مفردات القرآن وتراكيبه ، ومن وقوفهم عند حدّ ما ورد عن الرسول ، ومن إطلاق عقلهم في فهم القرآن على ضوء هاتين الأداتين ، خير طريقة تسلك لفهم القرآن.

ولذلك فإنا نرى أن طريقة تفسير القرآن أن تتخذ اللغة العربية ومعهود العرب في الخطاب ، والسّنة النبوية ، الأداة الوحيدة لفهم القرآن وتفسيره من حيث مفرداته وتراكيبه ، ومن حيث المعاني الشرعية ، والأحكام الشرعية ، والأفكار التي لها واقع شرعي ، وأن يطلق للعقل أن يفهم النصوص بقدر ما يدلّ عليه كلام العرب ومعهود تصرفهم في القول ، وما تدلّ عليه الألفاظ من المعاني الشرعية الواردة بنصّ شرعي من قرآن أو سنّة ، غير مقيّدة بما فهم الأوّلون السابقون ، لا العلماء ، ولا التابعون ، حتى

__________________

(١) الأنعام / ٣٨.

(٢) الكهف / ٤٩.

(٣) الأنعام / ٥٩.

٧١

ولا الصحابة ، فإنّها كلّها اجتهادات قد تخطئ وتصيب ، وربما أرشد العقل إلى فهم آية برز واقعها للمفسّر من خلال كثرة مطالعاته للعربية والشريعة ، أو برز من خلال تجدّد الأشياء ، وتقدّم الأشكال المدنيّة ، والوقائع ، والحوادث ، فبإطلاق العقل في الإبداع ، بالفهم لا بالوضع ، يحصل الإبداع في التفسير في حدود ما تقتضيه كلمة تفسير ، مع الحماية من ضلال الوضع لمعان لا تمتّ إلى النصّ المفسر بصلة من الصّلات.

وهذا الانطلاق في الفهم وإطلاق العنان للعقل بأقصى ما يفهمه من النصّ دون التقيّد بفهم أيّ إنسان ما عدا من أنزل عليه القرآن ، يحتّم أن ينفي الإسرائيليّات كلها مقتصرا في القصص على ما ورد به القرآن عنها ، وأن ينفي ما يزعمون من علوم تضمّنها القرآن ، واقفا عند حدّ ما تعنيه تراكيب القرآن من الآيات الباحثة في الكون ، وما قصد منها من بيان عظمة الله. هذه هي طريقة تفسير القرآن التي يجب أن يلتزمها المفسّر ، وأن يقوم بأعبائها من يريد تفسير القرآن.

٧٢

مقدمة التحقيق

لمخطوط

التّفسير الكبير

تفسير القرآن العظيم

للإمام الحافظ العلّامة أبي القاسم

سليمان بن أحمد بن أيّوب الطّبرانيّ

(٢٦٠ ـ ٣٦٠) من الهجرة

٧٣
٧٤

ترجمة المصنّف

اسم المصنّف ومولده ونسبه :

الإمام ، العلّامة ، الحافظ الثّبت ، العلم الكبير ، مسند العصر ، أبو القاسم سليمان ابن أحمد بن أيّوب بن مطير اللّخميّ ، الشّامي ، الطبرانيّ ، صاحب المعاجم الثلاثة ، العالم المعمّر ، صاحب التصانيف العديدة.

ولد أبو القاسم الطبراني بمدينة عكّا في شهر صفر سنة (٢٦٠) من الهجرة ، وكانت أمّة عكّاوية ، والراجح أنه ولد بطبريّة ، وإليها نسبته. ولعل من أرّخ لمولده بعكا باعتبار أنّ أمّه عكاوية ؛ ولا يضرّ الاختلاف في مكان مولده ، فقد اتفق الغالب على أنه ولد بطبرية.

شيوخه وتلاميذه :

كان والد الإمام الطبراني صاحب حديث ، حرص على إعداد ولده سليمان في طلب العلم ، فرحل به منذ حداثة سنّه بعد أن أخذ عن علماء طبريّة وسمع منهم ، قال ابن الدمياطيّ : (سمع بالشام ومصر والحجاز واليمن والعراق فأكثر ، وسكن أصبهان إلى حين وفاته. سمع بدمشق أبا زرعة عبد الرحمن بن عمرو ، وأحمد بن المعلّى ، وأحمد ابن أنس بن مالك. وببيت المقدس أحمد بن مسعود الخياط ، وبمصر يحيى بن أيوب العلّاف ، وأحمد بن رشدين ، وأحمد بن إسحق بن نبيط بن شريط الأشجعيّ. وببرقة أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي. وباليمن اسحق بن إبراهيم الدّبري ، والحسن ابن عبد الأعلى البوسي. وبالعراق أبا مسلم الكجي ، وأبا خليفة الجمحيّ ، والحسن ابن سهل المحوز. وببغداد بشر بن موسى الأزدي في آخرين ؛ وحدّث كثيرا) (١).

__________________

(١) المستفاد من ذيل تاريخ بغداد للحافظ ابن النجار البغدادي ، انتقاء الحافظ أحمد بن أيبك المعروف بابن الدمياطي : ج ٢١ ص ٩١.

٧٥

ولقد حدّث الطبراني عن أكثر من ألف شيخ ، سمع منهم وروى عنهم ، منفردا أو مع آخرين ، هذا فضلا عن مشائخه الذين درس عليهم وعرف بهم. ولا غرابة في ذلك لبدئه في طلب العلم وعمره ثلاث عشرة سنة ؛ ثم لطول عمر حيث عاش أكثر من مائة سنة ، فعمر مبارك بدأه بطلب العلم من السّنة ، وختمه بتفسير القرآن الكريم على ما يترجّح عندنا ، حيث النضوج في التعامل مع النص ، والخبرة المستفادة ، وسعة الاطلاع.

قال ابن الدمياطي : (قال أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن : سليمان بن أحمد الطبرانيّ أشهر من أن يدلّ على فضله وعلمه ، حدّث بأصبهان ستين سنة. فسمع منه الآباء ثم الأبناء ثم الأسباط حتى لحقوا بالأجداد ؛ وكان واسع العلم ، كثير التصانيف. وقيل : ذهبت عيناه في آخر أيامه ، فكان يقول : الزنادقة سحروني) (١).

وسمع منه خلق كثير ، وحدّث عنه بعض شيوخه ، منهم أبو خليفة وهو الفضل ابن الحبّاب الجمحي ، قال الذهبيّ : (مسند عصره بالبصرة ، وكان ثقة عالما. مات سنة (٣٠٥) من الهجرة) (٢). ومنهم أيضا ابن عقدة وهو أبو العبّاس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفيّ ، حافظ العصر ، والمحدّث البحر.

كما حدّث عنه من تلامذته الكثير ، منهم الحافظ أبو بكر بن مردويه ، وأبو نعيم الحافظ الكبير ، صاحب الحلية ، وأبو الفضل أحمد بن محمد الجارودي ، وأبو الحسين بن فادشاه المعتزليّ.

وأبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني التاجر بن ريذة مسند أصبهان ، وهو راوية أبي القاسم الطبراني ، وآخر من روى عنه وأخذ الإجازة منه ، قال يحيى بن منده : (ثقة أمين ، كان أحد وجوه الناس ، مكرما لأهل العلم ، حسن الخط ، يعرف طرفا من النحو واللغة ، توفي في شهر رمضان (٤٤٠) من الهجرة).

__________________

(١) الذيل : ج ١١ ص ٩١.

(٢) ميزان الاعتدال : ج ٣ ص ٣٥٠. وتذكرة الحفاظ : ج ٢ ص ٦٧٠.

٧٦

سعة علم المصنّف وأقوال العلماء فيه :

قال الذهبي : (الطبرانيّ مسند الدّنيا) وقال السيوطي : (مسند الدنيا وأحد فرسان هذا الشأن). وقال ابن عساكر : (أحد الحفّاظ المكثرين والرحّالين). وقال ابن عبد الهادي الحنبليّ : (الإمام العلّامة الحافظ الكبير الثّبت ، مسند الدنيا ... من فرسان هذا الشأن مع الصّدق والأمانة). وقال ابن منده : (أحد الحفّاظ المذكورين).

وقال الحافظ أحمد بن منصور الشيرازي : (وكتبت عن الطبراني في ثلاثمائة ألف حديث ، وهو ثقة ، إلا أنه كتب عن شيخ وكان له أخ فسماه باسمه غلطا). وأجاب عليه الحافظ ابن حجر قال : (ذلك أنه وهم وحدّث بالمغازي عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، وإنما أراد عبد الرحيم أخاه ، فتوهّم أنّ شيخه عبد الرحيم اسمه أحمد ، واستمرّ على هذا يروي عنه ويسميه أحمد. وقد مات أحمد قبل دخول الطبراني مصر بعشر سنين أو أكثر) (١).

قال الذهبيّ : (وكان ثقة صدوقا ، واسع الحفظ ، بصيرا بالعلل والرجال والأبواب ، كثير التصانيف). وقال ابن العميد : (ما كنت أظنّ أن في الدنيا حلاوة ألدّ من الرياسة ، والوزارة التي أنا فيها. حتى شهدت مذاكرة سليمان ابن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابيّ بحضرتي ، فكان الطبرانيّ يغلب الجعابيّ بكثرة حفظه ، وكان الجعابيّ يغلب الطبرانيّ بفطنته وذكاء أهل بغداد حتى ارتفعت أصواتهما ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه ، فقال الجعابيّ : عندي حديث ليس في الدنيا إلّا عندي ، فقال الطبرانيّ : هاته. فقال : حدّثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيّوب ، وحدّث بالحديث. فقال الطبرانيّ : أنا سليمان بن أيوب ، ومتى سمع أبو خليفة فاسمع منّي حتى يعلو إسنادك ، فإنك تروي عن أبي خليفة عني. فخجل الجعابي وغلبه الطبراني.

قال ابن العميد : فوددت في مكاني أن الوزارة والرئاسة ليتها لم تكن لي ، وكنت الطبرانيّ ، وفرحت مثل الفرح الذي فرحه الطبراني لأجل الحديث) (٢).

__________________

(١) لسان الميزان : ج ٣ ص ٧٣.

(٢) المعجم الكبير : ج ٢٥ ص ٣١٢. تحقيق حمدي السّلفي.

٧٧

ومن خصائص الطبرانيّ رحمه‌الله وفضائله : ترك الكبر في طلب العلم مع جلال قدره ، ووفور علمه ، وتوقير مشائخه له ، وبتبجيلهم إياه واحترامهم له في كلّ المحافل والمجالس (١).

وفاته :

توفّي الإمام الطبراني رحمه‌الله لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة ، وله مائة سنة وعشرة أشهر ، فهو من المعمّرين ، دفن إلى جنب قبر الصحابيّ الشهيد حممة ابن أبي حممة الدوسي بباب المدينة من أصبهان ، وحضر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني الصلاة عليه (٢).

مؤلفاته :

للطبرانيّ أكثر من مائة كتاب في الحديث والتفسير ، وأشهرها المعاجم الثلاثة ، ودلائل النبوة ، وحديث الشاميّين ، والدعاء ، وقد ذكرها المحقق السّلفي في نهاية كتابه المعجم الكبير : (ومنها تفسير القرآن العظيم) (٣).

وقال السيوطي : (وأشياء كثيرة جدا ـ أي من مؤلفاته ـ وقد ذكر ابن منده أشياء أخرى). وقال الذهبي : (وأشياء لم نقف عليها).

فرحم الله إمامنا الطبرانيّ.

__________________

(١) قاله يحيى بن عبد الوهاب بن منده في مناقب الإمام الطبراني في ذيل المعجم الكبير : ج ٢٥ ص ٣١٢.

(٢) أخبار أصبهان : ج ١ ص ٧١.

(٣) ينظر : المعجم الكبير : ج ٢٥ ص ٣٢٥ ، التسلسل (١٢).

٧٨

مقدّمة التّحقيق

توصيف المخطوط ونسبته إلى مؤلّفه :

اتفق كلّ من ترجم للإمام الطبرانيّ أنّ له كتابا في التفسير (١). ووجد هذا الكتاب مخطوطا في المكتبة الوطنية والجامعيّة في (ستراسبورغ) في فرنسا ، تحت الرقم (٤١٧٤). وعلى صفحته الأولى كتب الناسخ : (هذا كتاب تفسير فريد دهره وحكيم عصره شيخ الإسلام الإمام الهمام الشيخ الطبرانيّ الكبير عن تفسير القرآن العظيم).

تتألف المخطوطة من (٥٣٠) ورقة موزعة على (١٠٦٠) صفحة بحجم (٣١* ٥ ، ٢١) سم. ومتوسط عدد السطور (٣٥) سطرا. كتبها الناسخ بخطّ قريب من خط النّسخ. ورسم آيات القرآن باللون الأحمر ، وسائر التفسير باللون الأسود ، وأرّخ لانتهاء عمله أنه فرغ منه يوم الثلاثاء قبيل العصر بافتتاح شهر رجب الفرد سنة (٩٦٤) من الهجرة. ولم يكتب اسمه ، وإنما أشار إلى أنه نسخ لقاضي القضاة ، ويحتمل أنه عبد الصّمد ، هكذا ورد اسمه في هامش المخطوط في صفحات متفرقة.

واستثنى الناسخ الورقة الأولى من التسلسل المذكور ، حيث جعلها فهرسا لمحتويات التفسير ، يذكر اسم السّورة ومبتدأها في الصفحة رقما مذكورا ، فمثلا : جعل (سورة الفاتحة / ١) أي في الورقة (١) و (سورة البقرة / ٣) أي في الورقة (٣) ... وهكذا ضبط تسلسل السّور بأرقام الورقات ، لا بأرقام الصفحات.

قسّم الكتاب على أربعة أجزاء ، يبدأ الجزء الأول بسورة الفاتحة ، وينتهي بآخر تفسير سورة المائدة الورقة (١٦٨) ، ليبدأ الجزء الثاني الورقة (١٦٩) وكتب في أوّله : (هذا الجزء الثاني من تفسير القرآن العظيم إلى فريد دهره ووحيد عصره شيخ الإسلام الشيخ الطبرانيّ الكبير).

__________________

(١) أنظر : معجم مصنفات الحنابلة : ج ١ ، ص ٣٥٦ ، تأليف أ. د. عبد الله الطريقي الطبعة الأولى.

٧٩

وينتهي الجزء الثاني بآخر تفسير سورة الإسراء الورقة (٢٩١) ويبدأ الجزء الثالث بأوّل سورة الكهف الورقة (٢٩٢). ويؤكد الناسخ نسبة الكتاب لمؤلّفه الإمام الطبرانيّ رحمه‌الله.

وينتهي الجزء الثالث بآخر تفسير سورة القصص الورقة (٣٧٠) ويبدأ الجزء الرابع بأوّل تفسير سورة العنكبوت الورقة (٣٧١). وينتهي الجزء الرابع بآخر تفسير سورة الناس الورقة (٥٣٠).

نسبة المخطوط إلى مؤلّفه :

للإمام الطبراني أكثر من تأليف في التفسير ، فله (تفسير الحسن) ذكره له الذهبي في تذكرة الحفاظ ، وقال : (جزءان) ، والسيوطي في طبقات الحفاظ (١). وله أيضا (كتاب مسانيد تفسير بكر بن سهل) ذكره له يحيى بن مندة في جزء الطبراني (٢). قال الذهبي : (وغير ذلك ، وقد سماها الحافظ يحيى بن مندة ، وأكثرها أسانيد حفاظ وأعيان ، ولم نرها) (٣).

أما التفسير الكبير ، فذكره له يحيى بن مندة في جزء الطبراني ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ، وقال : (كتاب التفسير كبير جدا) (٤). وذكره له أيضا ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة والسيوطي في طبقات الحفاظ ، والداودي في طبقات المفسرين ، وغيرهم (٥).

وعلى الرغم من البحث المتواصل عن نسخة أخرى للتفسير الكبير للإمام الطبراني غير النسخة التي أشار إليها الأستاذ الدكتور عبد الله الطريقي في كتابه معجم مصنفات الحنابلة ، لم نجد ضالتنا هذه. وكنت بعد أن انتهيت من تحقيق الكتاب على ما

__________________

(١) أنظر : معجم مصنفات الحنابلة : ج ١ ص ٣٦٣.

(٢) أنظر : المعجم الكبير : ج ٢٥ ص ٣٦٠. ومعجم مصنفات الحنابلة : ج ١ ص ٣٧٢.

(٣) سير أعلام النبلاء : ج ١٠ ص ٦٩ ، مكتبة الصفا ، تحقيق محمد بن عيادي.

(٤) أنظر : المعجم الكبير : ج ٢٥ ص ٣٦٠. وسير أعلام النبلاء : ج ١٠ ص ٦٩.

(٥) أنظر : معجم مصنفات الحنابلة : ج ١ ص ٣٥٦.

٨٠