التفسير الكبير - ج ١

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ١

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

قال سفيان بن عيينة : (السّنّة هي تأويل الأمر والنّهي) (١) ، ولقد جاء الأمر والنهي في القرآن الكريم ، وجاءت السّنّة لتبيّن للناس طريقة العمل بهما ، فالتأويل هنا ؛ توجيه المعنى المراد في دلالة النصّ إلى معهود العرب للعمل بها وفق النسق المخصوص للمكلّف حين مباشرته في الواقع. وعلى هذا يكون التفسير هو النظام المعرفي في إيجاد الفكر وتكوينه في ذهن المكلّف ، والتأويل هو الأثر الوظيفيّ للتفسير ؛ وكلاهما في حقيقته المعرفية لا ينفصل عن الآخر ، فهو لازم له.

فالتأويل عند السّلف رضوان الله عليهم ، بمعنى التفسير العمليّ للنص بترجمته في سلوك المكلّف وحركته حين ممارسة الحياة ؛ فهو إدراك قصد مراد الشارع ووعيه له فكرا وعملا ، تفكيرا وتطبيقا لهذا تصف عائشة رضي الله عنها فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ركوعه ، بأنه يتأوّل القرآن ، فتقول : [كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في سجوده وركوعه : سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك. يتأوّل القرآن](٢) أي يفعل ما أمر به في القرآن الكريم من السّجود والركوع والذّكر فيهما على ما أمر به. ويقول جابر رضي الله عنه في خبر حجّة الوداع : [ورسول الله بين أظهرنا ينزل عليه القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به](٣) أي تأويل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان لطريقة العمل بالكتاب ؛ وهذا التأويل هو السّنّة والطريقة والتفسير هو العلم الذي تعبر عنه السّنّة وتترجمه بالفعل ، ولهذا يقول أبو عبيدة وغيره : (الفقهاء أعلم بالتّأويل من أهل اللّغة) ؛ قلت : لأن الفقه هو

__________________

(١) ينظر : الرسالة التدمرية لابن تيمية : ص ٦٠ ؛ طبع المكتب الإسلامي. والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطّلة لابن قيم الجوزية : الفصل الرابع : ج ١ ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٢) عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها ؛ قالت : (كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك ، اللهمّ اغفر لي. يتأوّل القرآن). رواه البخاري في الصحيح : كتاب الأذان : باب التسبيح : الحديث (٨١٧). قال ابن حجر في الفتح : قوله (يتأوّل القرآن) أي يفعل ما أمر به فيه. ومسلم في الصحيح : كتاب الصلاة : باب ما يقال في الركوع : الحديث (٢١٧ / ٤٨٤).

(٣) رواه مسلم في الصحيح : كتاب الحج : باب حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (١٤٧ / ١٢١٨) وهو شطر حديث طويل.

٤١

العلم بالأحكام الشرعية العمليّة المستنبطة من أدلّتها التفصيلية (١). وبهذا يظهر الفرق بين دلالتي التفسير والتأويل. وحقيقة المفسر هو الذي يهتم بدلالة الألفاظ على الواقع فكريا ، ولا يغفل الناحية العملية ، أي التأويل للنص في مجال القول والعمل.

تاريخ نشوء التّفسير وأسبابه :

نزل القرآن باللغة العربية ، فألفاظه عربية ، حتى الألفاظ التي أصلها أعجميّة مثل استبرق ، فإنّها عرّبت على أصول العربية ، وأصبحت من الألفاظ العربية. وأساليبه هي أساليب العرب في كلامهم ، قال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٢) وقد كان العرب يقرأونه ويدركون قوّة بلاغته ويفهمون معانيه ، إلا أنّ القرآن لم يكن جميعه في متناول العرب جميعا يستطيعون أن يفهموه إجمالا وتفصيلا بمجرّد أن يسمعوه ، لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضي أن العرب كلّهم يفهمونه من مفرداته وتراكيبه. إذ ليس كلّ كتاب مؤلّف بلغة يستطيع أهل تلك اللغة أن يفهموه. لأن فهم الكتاب لا يتطلّب اللغة وحدها ، وإنما يتطلب درجة عقلية من الفهم والإدراك تتفق ودرجة الكتاب في رقيّه ، أي أن يكون القارئ بمستوى فهم النص علما. وواقع العرب حين نزل القرآن أنّهم لم يكونوا كلّهم يفهمونه كلّه إجمالا وتفصيلا ، وإنما كانوا يختلفون في فهمه حسب رقيّهم العقلي. ومن أجل ذلك تفاوتت مقدرة الصحابة في تفسير القرآن وفهمه ، لتفاوت معرفتهم باللغة العربية ، وتفاوت ذكائهم وإدراكهم أي بحسب تفاوت قدراتهم العلمية التي يحتاجها الفهم الدقيق للنص الشرعي.

على أن ألفاظ القرآن نفسها لم يكن العرب كلهم يفهمون معناها. فقد روي عن أنس قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فلما أتى على هذه الآية (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) قال : قد عرفنا ما الفاكهة! فما الأبّ؟ فقال : لعمرك يا ابن

__________________

(١) ينظر : الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية : ج ١ ص ١٧٥ ـ ٢٠٦ ، والرسالة التدمرية مجمل اعتقاد السلف : ص ٦٠. والبرهان في علوم القرآن للزركشي : ج ١ ص ١٣ وما بعدها.

(٢) يوسف / ٢ ، وطه / ١١٣ ، والزمر / ٢٨ ، وفصلت / ٣ ، والشورى / ٧ ، والزخرف / ٣.

٤٢

الخطاب ، إن هذا لهو التكلّف (١) وروي عن عمر أيضا أنّه كان على المنبر فقرأ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) ثمّ سأل عن معنى التّخوّف؟ فقال له رجل من هذيل : التّخوّف عندنا التّنقّص (٢).

وفوق ذلك ففي القرآن آيات كثيرة لا يكفي في تفهّمها معرفة ألفاظ اللغة وأساليبها ، وإنما تحتاج إلى معلومات عن بعض ألفاظها ، لأنّ هذه الألفاظ تشير إلى مدلولات معيّنة مثل قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)(٣)(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً)(٤)(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٥)(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ)(٦) إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى معاني معهودة. وهناك آيات يحتاج فهمها إلى معرفة أسباب النّزول.

وفي القرآن آيات محكمة واضحة المعنى ، وهي الآيات التي تتعلق بأصول الدّين من العقائد وخاصّة الآيات المكية غالبا ، والآيات التي تتعلّق بأصول الأحكام

__________________

(١) الآية ٣١ من سورة عبس. رواه ابن جرير في التفسير : الرقم (٢٨١٨٧) ، قال ابن كثير : إسناده صحيح. ولفظه عند السيوطي في الدر المنثور : قال : مه نهينا عن التكلّف ، أو ما كلّفنا هذا أو ما أمرنا بهذا. وقال : أخرجه عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه. ينظر : الدر المنثور في التفسير المأثور : ج ٨ ص ٤٢٢. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١٩ ص ٢٢٣.

(٢) الآية ٤٧ من سورة النحل. والأثر وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد : الرقم (١٦٣٣٤) ، أو أنه عن عمر رضي الله عنه ، فإنه روي عنه بإسناد مجهول : جامع البيان للطبري : الرقم (١٦٣٣١) ، وروي من طريق سعيد بن المسيب : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر ، قال : يا أيّها الناس ، ما تقولون في قول الله عزوجل : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فسكت الناس ؛ فقال شيخ من بني هذيل : هي لغتنا يا أمير المؤمنين ؛ التخوّف التنقّص. فخرج فقال : يا فلان ما فعل دينك؟ قال : تخوّفته ؛ أي تنقّصته ؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر : أتعرف العرب ذلك في أشعارهم ، فأنشد الشعر. فقال عمر : يا أيّها الناس عليكم بديوان شعر الجاهلية. فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ينظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١٠ ص ١١٠ ـ ١١١. وفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر : ج ٨ ص ٤٩٢ : شرح الباب (١٦) من سورة النحل.

(٣) الذاريات / ١.

(٤) العاديات / ١.

(٥) القدر / ١.

(٦) الفجر / ١ ـ ٢.

٤٣

وهي الآيات المدنيّة غالبا ، وخاصّة ما يتعلق منها بالمعاملات والعقوبات والبيّنات. كما أنّ في القرآن آيات متشابهة تشتبه معانيها على كثير من الناس ، وخاصّة الآيات التي تحتمل عدّة معاني ، أو يتحتّم صرفها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى آخر لتناقضه مع العقيدة التّنزيهيّة ، أي فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته أو مسائل القدر.

ومع أنّ الصحابة رضوان الله عليهم هم أقدر الناس على فهم القرآن لأنّهم من أعلم الناس بالعربية ، ولأنّهم شاهدوا الظروف والوقائع التي نزل فيها القرآن ، إلا أنّهم اختلفوا في الفهم وتفاوتوا في القدرة على تفسير القرآن حسب تفاوتهم في درجة اطّلاعهم على العربية ، وحسب تفاوتهم في ملازمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان من أشهر المفسّرين من الصحابة رضي الله عنهم جميعا عليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وهؤلاء الأربعة أكثر من غذى التفسير في الأمصار الإسلامية المختلفة. والذي مكّن هؤلاء من التبحّر في التفسير قوّتهم في اللغة العربية وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها ومخالطتهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وملازمتهم له ملازمة مكّنتهم من معرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن وقوّة عقلهم وذكائهم قوة مكّنتهم من ربط المعاني ببعضها أحسن ربط ، والخروج بالنتائج الصائبة. ولذلك لم يتحرّجوا عن الاجتهاد في فهم القرآن حسب ما يقتضيه عقلهم ، بل اجتهدوا في التفسير ، وقالوا فيه برأيهم ، وقرّروا ما أدّاهم إليه فهمهم واجتهادهم. ولذلك يعتبر تفسير هؤلاء من أعلى أنواع التفسير. إلا أنه قد كذب عليهم كثيرا ، وأدخلت على تفسيرهم أقوال لم يقولوها ، ولذلك تجد في تفسيرهم الكثير من الموضوع ، وما صحّ عن هؤلاء من التّفاسير برواية الثّقات هو من أقوى التّفاسير. أما ما عداه من الموضوعات فلا يجوز أن يؤخذ إذا لم يثبت أنّهم قالوه. إلا أنه ليس معنى التحذير من أخذ تفسير هؤلاء الأربعة الموضوع هو التحذير من قراءة تفاسيرهم ، بل هو تحذير من أخذها والعمل بها باعتبار أنّ هذه الموضوعات لهم. أما قراءتها وتحكيم الفهم الصحيح لغة وشرعا وعقلا بما جاء بها فهو أمر مفيد ، لأن في هذه الروايات الموضوعة تفاسير قيّمة من حيث الفهم ، وإن كانت ضعيفة السّند من حيث نسبته إلى الصحابة.

٤٤

وقد جاء بعد الصحابة التابعون ، واشتهر بعضهم في الرواية عن الصحابة ، عن الأربعة المذكورين وعن غيرهم ، ومن أشهر هؤلاء التابعين مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة مولى ابن عبّاس ، وسعيد بن جبير.

وقد اختلف العلماء في مقدار الثقة بهؤلاء المفسّرين من التابعين. فمجاهد أوثقهم وإن كان أقلّهم رواية ، ويعتمد على تفسيره بعض الأئمة والمحدّثين ، كالشافعيّ والبخاري. إلا أن بعضهم كان يرى أن مجاهدا يسأل أهل الكتاب ، ومن هذه الناحية يتريّثون في أخذ أقواله ، وإن كانوا متّفقين على صدقه. وكان كلّ من عطاء وسعيد ثقة صادقا لم يطعن أحد على أيّ منهما. أما عكرمة فإن أكثر العلماء يوثّقه ويصدّقه ، والبخاري يروي له ، ويرى آخرون أنه جرؤ على التفسير ويزعم أنه يعلم كلّ شيء في القرآن ، وذلك لكثرة ما يرويه من التفسير للقرآن عن الصحابة.

وكان هؤلاء الأربعة أكثر من يروي عن ابن عبّاس ، وهناك من يروي عن بقية الصحابة كمسروق بن الأجدع تلميذ عبد الله بن مسعود ، وكان يروي عنه التفسير.

واشتهر كذلك في التفسير من التابعين قتادة بن دعامة السّدوس الأكمه (١) ، وكان واسع الإطلاع في اللغة العربية ضليعا في الشّعر العربي وأيام العرب وأنسابهم.

وبعد أن انتهى عصر التابعين أخذ العلماء يؤلّفون كتب التفسير على طريقة خاصّة هي ذكر الآية ونقل ما روي في تفسيرها عن الصحابة والتابعين بالسند. وأشهر من قام بذلك سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وعبد الرزاق وغيرهم ، إلا أن تفاسير هؤلاء العلماء لم تصل إلينا كاملة ، وإنما وصل منها أقوال وردت في بعض كتب التفسير كتفسير الطبريّ. ثم جاء بعدهم الفرّاء ثم جاء الطبري ، ثم تتابع علماء التفسير في كل عصر حتى عصرنا هذا.

__________________

(١) قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سدوس. أبو الخطّاب السّدوسي البصريّ ولد أكمه. ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : الرقم (٥٧٠٦).

٤٥

أسلوب المفسّرين في التفسير :

فسّر الصحابة آيات من القرآن الكريم إما اجتهادا منهم في التفسير أو سماعا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرحوا في كثير من الأحيان أسباب نزول الآية ، وفيمن نزلت.

وكانوا يقتصرون في تفسير الآية على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه من الآية بأخصر لفظ ، مثل قولهم (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير متعرّض لمعصية (١). ومثل قولهم في قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) : كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجا أخذ قدحا فقال (٢) : هذا يأمر بالخروج فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرا ، ويأخذ قدحا آخر فيقول هذا يأمر بالمكوث فليس يصيب في سفره خيرا ، والمنيح بينهما (٣). فنهى الله عن ذلك.

فإن زادوا عن ذلك شيئا فما روي عن سبب نزول الآية وفيمن نزلت. مثل ذلك ما روي عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : إلى مكّة (٤). وعن أبي هريرة في قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) قال نزلت في رسول الله

__________________

(١) المائدة / ٣. الجنف : الميل ؛ والإثم والمعصية والحرام ، ومعناه عند اضطراره في المخمصة لا يبعد عن سدّ الرّمق ، فلا يميل لحرام متلذّذا به متجاوزا حدّ الرخصة ، قال القرطبي ؛ (أي غير مائل لحرام ، ومنه قول عمر : ما تجانفنا فيه لإثم) وذلك كان قد أفطر الناس في رمضان ثم ظهرت الشمس فقال : نقضيه ما تجانفنا فيه لإثم ، أي ما ملنا ولا تعمّدنا ونحن نعلمه ، وكلّ مائل متجانف وجنف. انتهى بتصرف وقال النسفيّ : غير مائل لإثم أي غير متجاوز لسدّ الرمق. وقال البيضاوي : غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها متلذّذا أو مجاوزا حدّ الرخصة. إنتهى. ينظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ٦ ص ٦٤ ، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي : ج ١ ص ٢٥٤ ، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي : ج ١ ص ٢٧٠.

(٢) المائدة / ٣. ينظر : أنوار التنزيل وأسرار التأويل : ج ١ ص ٢٥٤. ومدارك التنزيل وحقائق التأويل : ج ١ ص ٢٧٠. والجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٥٨ وما بعدها.

(٣) المنيح في اللغة من التّناوح : أي التّقابل ومنه سمّيت النوائح لتقابلهنّ. وكل أمر وسط لأن شأنه وقع بين اثنين فتعادلا به ، ومنه كل اسم على ثلاثة أحرف أوسطه ساكن ك (لوط) ، لأن خفّته عادلت أحد الثّقلين. ينظر : مختار الصحاح للرازي : ص ٦٨٤.

(٤) القصص / ٨٥. والتفسير رواه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : الحديث (٤٧٧٣).

٤٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يراود عمّه أبا طالب على الإسلام ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمّه عند الموت : [قل لا إله إلّا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة؟] فأبى فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) القصص : ٥٦ (١).

ثم جاء بعد الصحابة التابعون فرووا كلّ ما ذكره الصحابة من هذا القبيل ، وكان من التابعين أنفسهم من فسّر بعض آيات القرآن الكريم أو ذكر سببا لنزولها ، إما اجتهادا منهم في التفسير أو سماعا. ثم جاء من بعد التابعين العلماء فتوسّعوا في التفسير ونقلوا أخبار اليهود والنصارى ، ثم تتابع المفسّرون في كلّ عصر وجيل يفسرون القرآن ويتوسّعون في كلّ عصر عما قبله. وأخذ المفسّرون يتعرضون للآيات ليستنبطوا منها الأحكام ويتعرضون للآيات يفسّرون بها مذهبهم من الجبر والاختيار ، ويفسّرون الآيات يثبتون بها آراءهم حسب ما يميلون إليه ، من تشريع أو علم كلام أو بلاغة أو صرف ونحو أو ما شاكل ذلك.

والذي يبدو من تتبّع التفاسير في مختلف العصور منذ عصر الصحابة حتى عصرنا هذا ، أن تفسير القرآن كان في كلّ عصر من العصور متأثّرا بالحركة العلمية فيه ، وصورة منعكسة لما في العصر من آراء ونظريّات ومذاهب ، وقلّما يخلوا تفسير من التأثّر بما كان يسود عصره من آراء وأفكار وأحكام.

إلا أن هذه التفاسير كلها لم تؤلّف في كتب من أوّل يوم صار فيه مفسّرون ، أي من عصر الصحابة ، بل انتقلت من حال إلى حال في مختلف العصور. فقد كان التفسير في أوّل أمره جزءا من الحديث وبابا من أبوابه ، وكان الحديث هو المادة الواسعة التي تشمل جميع المعارف الإسلامية ، فراوي الحديث كما يروي حديثا فيه حكم فقهي ، يروي حديثا فيه تفسير لآية من القرآن.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح : كتاب الإيمان : باب على صحة إسلام من حضره الموت : الحديث (٤٢ / ٢٥). والترمذي في الجامع : كتاب التفسير : (٣١٨٨). والإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٤٣٤ و ٤٤١.

٤٧

ثم أخذ المؤلفون في أوائل العصر العباسيّ وأواخر العصر الأموي ، أي في أوائل القرن الثاني للهجرة يجمعون الأحاديث المتشابهة المتعلّقة في موضوع واحد ويفصلونها عن غيرها. ففصلت المعارف التي يتضمّنها الحديث من تفسير وفقه عن بعضها ، ونشأ من العلوم ما نشأ من حديث وسيرة ، وفقه ، وتفسير ، فكان علم التفسير ، وأصبح علما مستقلا يدرس وحده.

إلّا أن التفاسير في أوّل أمرها لم تتّخذ شكلا منظّما بأن تذكر آيات القرآن مرتّبة كترتيب المصحف ثم تتبع بتفسيرها ، بل كانت التفاسير تروى منثورة هنا وهناك ، تفسيرا لآيات متفرّقة كما هو الشأن في الحديث ، وظلّ الحال كذلك إلى أن تم انفصال التفسير عن الحديث وصار علما قائما بنفسه ، ووضع التفسير لكلّ آية من القرآن أو جزء من آية مرتّبة هذه الآيات حسب ترتيب المصحف.

وأوّل من تعرّض لتفسير القرآن آية آية وفسّرها على التتابع هو الفرّاء المتوفى سنة ٢٠٧ هجرية. فقد روى ابن النديم في كتابه الفهرست قال (إن عمر بن بكير كتب إلى الفرّاء أن الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب ، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا ، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه فعلت ، فقال الفرّاء لأصحابه اجتمعوا حتى أملّ عليكم كتابا في القرآن ، وجعل لهم يوما ، فلما حضروا خرج إليهم ، وكان في المسجد رجل يؤذّن ويقرأ بالناس في الصلاة ، فالتفت إليه الفرّاء فقال له : إقرأ بفاتحة الكتاب نفسّرها ثم نوفّي الكتاب كلّه ، فقرأ الرجل وفسّر الفراء فقال أبو العباس : لم يعمل أحد قبله مثله ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه).

ثم جاء بعده ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هجرية فكتب تفسيره المشهور. وقد اشتهر قبل تفسير ابن جرير جملة من التفاسير ، منها تفسير ابن جريج. وكان شأنه شأن المحدّثين الأولين يجمعون ما وصلوا إليه من غير فرق بين الصحيح وغير الصحيح ، وقد ذكروا (أن ابن جريج لم يقصد الصحّة وإنما روى ما ذكر في كلّ آية من الصحيح والسقيم). ومنها تفسير السّدّيّ المتوفى سنة ١٢٧ هجرية ، ومنها تفسير مقاتل المتوفى سنة ١٥٠ هجرية ، وقد قال عبد الله بن المبارك عن تفسير مقاتل

٤٨

هذا (ما أحسن تفسيره لو كان ثقة). ومنها تفسير محمّد بن اسحق ، وقد كان ينقل عن اليهودية والنصرانية ويذكر في تفسيره أقوالا لوهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهما ممن يروون عن التوراة والإنجيل وشروحهما ، وهذه التفاسير لم تصل إلينا. إلا أن ابن جرير الطبري جمع أكثرها وأدخلها في كتابه. ثم تتابع المفسرون يفسّرون القرآن كاملا مرتّبا في كتب كاملة مرتبة.

إلا أن الناظر في التفاسير التي دوّنت يجد أن المفسرين سلكوا في التفسير وجوها شتّى. منهم من عني بالنظر في أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علوّ الكلام وامتيازه عن غيره من القول فغلبت على تفاسيرهم الناحية البلاغية ، ومن هؤلاء محمّد بن عمر الزمخشري في تفسيره المسمى بالكشّاف. ومنهم من نظر في أصول العقائد ومقارعة الزائفين ومحاجّة المخالفين مثل فخر الدين الرازي في تفسيره المشهور بالتفسير الكبير. ومنهم من نظر في الأحكام الشرعية واعتنى في استنباطها من الآيات فوجّه عنايته لآيات الأحكام وذلك مثل أبو بكر الرازي المعروف بالجصّاص في تفسيره المشهور أحكام القرآن. ومنهم من تتبّع القصص وزاد في قصص القرآن ما شاء من كتب التاريخ والإسرائيليات ، وأخذ يجمع جميع ما يسمعه من غثّ وسمين من غير تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل ويتنافى مع الآيات القطعية الدلالة ومن هؤلاء علاء الدين علي بن محمّد البغدادي الصوفي المعروف بالخازن في تفسيره باب التأويل في معاني التّنزيل. ومنهم من عني في تأييد مذهبه وتفسير الآيات حسب ما يؤيّد فرقته مثل تفسير البيان للشيخ الطبرسي ، وتفسير التبيان للشيخ الطوسي ، فإنّهما يؤيّدان آراء الشيعة ومذهبهم في العقائد والأحكام. ومنهم من عني بالتفسير لشرح معاني القرآن وأحكامه من غير نظر إلى ناحية من النواحي ، وهؤلاء هم المفسّرون الذين تعتبر تفاسيرهم من أمّهات كتب التفسير ، ويعتبرون من الأئمّة في التفسير وغيره ، وذلك مثل تفسير ابن جرير الطبري ، وتفسير أبي عبد الله محمد القرطبي ، وتفسير النّسفي وغيرهم. ومنهم أيضا تفسير الإمام الطبراني الذي بين يدينا اليوم نخرجه مطبوعا والحمد لله رب العالمين.

٤٩

مصادر التفسير :

لا يقصد من كلمة مصادر التفسير ما اعتمد عليه المفسّرون في تفسير كلّ منهم للقرآن حسب الفكرة التي يحملها كالتوحيد والفقه والبلاغة والتاريخ وما شاكل ذلك ، فهذه ليست مصادر التّفسير ، بل هي الأمور التي أثّرت على المفسّر فنحا نحوا معيّنا في التفسير. وإنما المقصود من مصادر التفسير المراجع التي نقل عنها المفسرون ، ووضعوا ما نقلوه عنها في تفسيرهم ، بغضّ النظر عن الاتجاه الذي اتجهوه في تفسيرهم. وإذا تتبّعنا مصادر التفسير نجدها تنحصر في ثلاثة مصادر هي :

أولا ـ تفسير نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثل الذي روي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [الصّلاة الوسطى صلاة العصر](١). ومثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوم الحجّ الأكبر فقال : [يوم النّحر](٢) وما روي أيّ الأجلين قضى

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع : كتاب الصلاة : باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنّها العصر : الحديث (١٨١) عن عبد الله بن مسعود ، وقال : هذا حديث حسن صحيح. والحديث (١٨٢) عن سمرة بن جندب ، وقال : وفي الباب عن عليّ وزيد بن ثابت وعائشة وحفصة وأبي هريرة وأبي هشام بن عتبة. وقال : حديث الحسن عن سمرة حديث صحيح ؛ لأن الحسن سمع من سمرة ، قال : حديث سمرة حسن. وهو قول أكثر العلماء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم. وينظر لحديث علي رضي الله عنه : الرقم (٢٩٨٤). والمصنف لابن أبي شيبة : باب في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) : الرقم (٨٦٠٨) : ج ٢ ص ٢٤٥. وفي الباب عن أم سلمة وأبيّ بن كعب. وحديث عبد الله بن مسعود رواه مسلم في الصحيح : كتاب المساجد : باب مواضع الصلاة ؛ وابن ماجة في السنن : كتاب الصلاة : باب المحافظة على صلاة العصر. والبيهقي في السنن الكبرى : كتاب الصلاة : باب من قال هي صلاة العصر : من الرقم (٢١٩٨ ـ ٢٢٠٧).

(٢) رواه الترمذي في الجامع : كتاب تفسير القرآن : الحديث (٣٠٨٨) مرفوعا ؛ والحديث (٣٠٨٩) موقوفا على عليّ رضي الله عنه ، وهو الأصح ؛ جاء من غير وجه. والطبري في جامع البيان في تفسير القرآن : ج ١٠ ص ٩٠ : الحديث (١٢٧٤٤) وإسناده صحيح. وعن عبد الله بن عمر قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع ، فقال : [هذا يوم الحجّ الأكبر] : الحديث (١٢٧٦٨) عن ابن عمر ؛ وذكره البخاري في الصحيح معلقا : الحديث (١٧٤٢).

٥٠

موسى قال : [أوفاهما وأبرّهما](١). إلا أن هذا النوع لا يجوز الاعتماد عليه كمصدر للنقل إلّا ما ورد منه في الكتب الصحاح ، لأن القصّاص والوضّاع زادوا فيه كثيرا. ولذلك يتحرّى في هذا النوع من مصادر النقل لكثرة الكذب فيه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد بلغ من تحري السّلف في هذا النوع من التفسير حدّا أنكره كثير منهم إنكارا كليّا ... وقالوا لم يرو عن رسول الله تفسير. وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال (ثلاثة ليس لها أصل : التّفسير والملاحم والمغازي). ولذلك نجد أن المفسّرين لعدم ثقتهم بما ورد ، لم يقفوا عند حدّ ما ورد ، بل اتّبعوا ذلك بما أدّاهم إليه اجتهادهم. ولم يقفوا عند حدود النصّ. وقد أضيف إلى ما ورد عن رسول الله ، ما ورد عن الصحابة من تفسير ، وصار من التفسير المنقول ، وكذلك ما ورد عن التابعين من تفسير. وقد تضخّم هذا النوع من التفسير المنقول وصار يشمل ما نقل عن رسول الله وما نقل عن الصحابة ، وما نقل عن التابعين ، وصار وحده كافيا لأن يكون وحده تفسيرا. وتكاد كتب التفسير المؤلّفة في العصور الأولى تكون مقصورة على هذا النحو من التفسير.

ثانيا ـ من مصادر التفسير الرّأي ، وهو ما يطلق عليه الاجتهاد في التفسير. ذلك أن المفسّر يعرف كلام العرب ومناحيهم في القول ، ويعرف الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد مثله في الشعر الجاهلي والنثر ونحوهما ، ويقف على ما صحّ عنده من أسباب نزول الآية مستعينا بهذه الأدوات ، ويفسّر الآيات القرآنية حسب ما أداه إليه فهمه واجتهاده.

ولم يكن التفسير بالرأي يعني أن يقول في الآية ما يشاء وما تتطلبه رغبته ، وإنما كان الرأي الذي يجري التفسير بحسبه يعتمد على الأدب الجاهليّ من شعر ونثر وعادات العرب ومحاوراتها ، ويعتمد في نفس الوقت على الأحداث التي حصلت في أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما لقي النبيّ من عداء ومنازعات وهجرة وحروب وفتن ، وما حدث في أثناء ذلك مما استدعى أحكاما واستوجب نزول القرآن.

__________________

(١) عن مجاهد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل : [أيّ الأجلين قضى موسى؟] فقال : [أبرّهما وأوفاهما].

رواه الطبري في جامع البيان : تفسير سورة القصص / الآية ٢٩ : الحديث (٢٠٨٧٦).

٥١

وإذن فالمراد من التفسير بالرأي هو فهم الجمل بواسطة فهم مدلولاتها التي تدلّ عليها المعلومات الموجودة عند المفسّر من لغة وحادثة. وأما ما اشتهر على الألسنة عن سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من قوله : [القرآن حمّال أوجه](١) فليس المراد منه أن القرآن يحمل أيّ وجه تريد تفسيره منه ، بل المراد أنّ اللفظة الواحدة أو الجملة الواحدة تحتمل عدّة أوجه من التفسير ، ولكن الأوجه محصورة بالمعاني التي تحتملها اللفظة أو الجملة فقط ولا يخرج عن ذلك. ومن هنا كان التفسير بالرأي عبارة عن فهم للجملة في حدود ما تحتمله ألفاظها من معاني. ولذلك أطلقوا عليه أنه تفسير بالاجتهاد.

وقد كان جمهرة المفسّرين من الصحابة يفسرون بالرّأي ويعتمدون بالدرجة الأولى عليه في التفسير ، وكانوا يختلفون في التفسير حتى في تفسير الكلمة الواحدة ، مما يدلّ على اعتمادهم على فهمهم الخاصّ مثل كثير مما ورد عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وغيرهم.

فمثلا يفسّر المفسرون الطّور في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) بتفسيرات مختلفة. فمجاهد يفسّر الطّور بالجبل ، وابن عباس يفسر الطور بجبل بعينه ، وآخر يقول إن الطور ما انبثّ من الجبال. فأما ما لم ينبث فليس بطور. فهذا الاختلاف في التفسير نتيجة للاختلاف في الرأي ، لا نتيجة للاختلاف في المنقول ، مع أن اللفظة لغوية ، فما بالك حين يكون الرأي لمدلول الجملة لا لمعنى لفظة ، ولذلك اختلفوا أيضا في معاني الآيات خلافهم في معاني الألفاظ.

والظاهر من تتبّع تفسير الصحابة لا سيما المفسّرين المشهورين ، أنّهم في جملتهم يعتمدون على الرأي في التفسير. وأما ما نقل عن بعضهم من التحرّج عن التفسير بالرأي والاقتصار على التفسير بالمنقول ، فإنه يحمل على رأي من لم يستكمل أدوات التفسير وهي العلم باللفظة العربية المراد تفسيرها ، وبالحوادث

__________________

(١) عن ابن عبّاس : (القرآن ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن وجوهه). الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي : الرقم (٤٦٧٢).

٥٢

التي نزلت في شأنها الآيات. ولا يحمل على التحرّج من فهم القرآن لأنه أنزل ليفهمه الناس لا ليقتصروا على حدّ ما نقل من تفسير.

وبالرجوع إلى النصوص التي وردت في ذلك يتبيّن منها سبب هذا التحرج. فقد روي عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن يقول : أنا لا أقول في القرآن شيئا. فهو ينفي عن نفسه القول بالقرآن ، ولا ينفي القول بالقرآن بالرأي. وقال ابن سيرين : سألت أبا عبيدة عن شيء من القرآن فقال : (اتّق الله وعليك بالسّداد ، فقد ذهب الّذين يعلمون فيم أنزل القرآن) (١).

ومعلوم أن أبا عبيدة من كبار الصحابة وهو يطلب لزوم السداد ومعرفة فيم أنزل القرآن. فهذا التورّع والتحرّج من القول بالقرآن قد بيّن أبو عبيدة سببه بقوله (وعليك بالسّداد فقد ذهب الّذين يعلمون فيم أنزل القرآن) (٢). فإذا وجد من يتحرّى السداد ومن يعلم فيم أنزل القرآن فلا شكّ أنه أهل لأن يقول فيه برأيه واجتهاده ؛ لأنه منضبط بأصول علم التفسير وقواعده.

وعلى ذلك لا نستطيع أن نقول إن الصحابة كانوا منقسمين إلى قسمين ، قسم يتورّع عن أن يقول بالقرآن برأيه ، وقسم يقول بالقرآن برأيه. وإنما كانوا يقولون بالقرآن برأيهم. وكانوا يتورّعون أن يقول أحد بالقرآن برأيه عن غير علم متأكّد منه في اللفظة التي تفسّر والجملة التي تبيّن من آيات القرآن ، وكان كذلك التابعون. إلا أنه جاء من بعدهم من اطّلعوا على هذه الأقوال وفهموها أنّها تحذير من القول بالقرآن بالرأي فتورّعوا أن يقولوا فيه. وجاء من اطّلعوا على تفسير الصحابة بالرأي فقالوا بالتفسير بالرأي.

__________________

(١) الموفقات في أصول الشريعة للشاطبي : ج ٣ ص ٣٥٠ : لا بد في علم القرآن من معرفة أسباب التّنزيل. أخرجه سعيد بن منصور في سننه : ج ١ ص ١٨٥ الرقم (٤٤). وابن أبي شيبة في المصنف : ج ١٠ ص ٥١١ ، وأبو عبيد في فضائل القرآن : الرقم (٨٣٠) ، وابن جرير في التفسير :

الرقم (٩٧) : ج ١ ص ٨٦. والبيهقي في شعب الإيمان : الرقم (٢٠٨٥). والتوحيدي في أسباب النزول : ص ٥٠٤. والسيوطي في الإتقان : ج ١ ص ٤١ ، وبعض أسانيده صحيحة.

(٢) مصنف عبد الرزاق : ج ١ ص ٥١١. والطبري : ج ١ ص ٨٩.

٥٣

ولذلك انقسم العلماء فيما بعد في التفسير إلى قسمين : قسم يتحرّج عن القول بالرأي ويقتصر على المنقول ، وقسم يقول فيه بالرأي. أما الصحابة والتابعون فلم يكونوا قسمين بل كانوا يقولون بالقرآن بما يعلمون من رأي ومنقول ، ويتحرّجون عما لا يعلمون ويحذّرون من القول في القرآن بالرأي من غير اعتماد على علم.

ثالثا ـ الإسرائيليّات : ذلك أنه دخل في الإسلام بعض اليهود والنصارى ، وكان بين هؤلاء علماء في التوراة والإنجيل ، وكان اليهود منهم ، أكثر ما دخلوا غير صادقين ، لأن اليهود أكثر حقدا وبغضا للمسلمين من النّصارى. فتسرّب من هؤلاء العلماء إلى المسلمين كثير من الأخبار الإسرائيلية ، دخلت في تفسير القرآن ليستكملوا بها شرح الآيات. ذلك أن شغف العقول وميلها للاستقصاء دعاها عند سماع كثير من آيات القرآن أن تتساءل عما حولها ، فإذا سمعوا قصّة كلب أصحاب الكهف قالوا ما كان لونه؟ (١) وإذا سمعوا (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) تساءلوا ما ذلك البعض الذي ضربوا به؟ (٢) وإذا قرأوا (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) تساءلوا من هذا العبد الصالح الذي لقيه موسى وطلب منه أن يعلّمه؟ (٣) ومن هنا تأتي قصّة الخضر. وهكذا كانت تتوارد عليهم قصص وأخبار فيسألون عنها. وتجدهم يسألون عن الغلام الذي قتله العبد الصالح ، وعن السفينة التي خرقها ، وعن القرية التي لم تضيّفه. وتساءلوا عن قصّة موسى وشعيب وعن مقدار سفينة نوح إلى غير ذلك. وكان الذي يجيبهم على هذه الأسئلة ويسدّ طمعهم في هذه المعلومات هي

__________________

(١) وفيها يقول الله عزوجل : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف / ٢٢]. والقليل الذين يعلمون ذلك من مثل ابن مسعود وابن عبّاس رضي الله عنهم فهما يقولان : [أنا من القليل]. والمسألة لا يبتنى عليها عمل ، والانشغال بالأسماء والعدد يصرف المرء عن العبرة في الذكر من القصة. والله أعلم. ينظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١٠ ص ٣٨٤ والدر المنثور للسيوطي : ج ٥ ص ٣٧٥ وما بعدها.

(٢) البقرة / ٧٣.

(٣) الكهف / ٦٥.

٥٤

التوراة وما علّق عليها من حواش وشروح ، وما أدخل عليها من أساطير ، ينقلها إليهم اليهود الذين دخلوا في الإسلام عن حسن نيّة ، أو عن سوء نيّة سواء. وكان قد أدخل بعض النصارى ممن أسلموا بعض القصص والأخبار عن الإنجيل ، إلا أن ذلك قليل بالنسبة لما أدخله اليهود. وهكذا تضخّم الشيء الكثير من القصص والأخبار تضخّما كبيرا حتى زاد عما روي من التفسير المنقول ، وحتى شحنت كثير من كتب التفسير بهذا المقدار الضخم من الإسرائيليّات والقصص والأخبار الأخرى. وكان من أكثر من أدخل هذه الإسرائيليات وأشهرهم كعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، وعبد الله ابن سلام ، وهناك غيرهم كثير ، وبهذا صارت هذه الإسرائيليات والقصص والأخبار الأخرى مصدرا من مصادر التفسير عند قسم من المفسّرين.

حاجة الأمّة اليوم إلى مفسّرين :

علم التفسير باعتبار كونه معرفة من المعارف الشرعية الهامّة هو من أجلّ العلوم الشرعية فهو أحد العلوم الشرعية الثلاثة المعتبرة. ولذلك لا بدّ من العناية به في كلّ عصر وفي كلّ جيل. والأمة اليوم في حاجة إلى مفسّرين ، لأنه جدّت أشياء لم تكن ، فلا بدّ من معرفتها إذا كانت تندرج تحت كليّات عامّة ذكرت في القرآن ، أو يمكن انطباق أحكام جزئية عليها.

على أن أسلوب التفاسير القديمة باعتباره جمعا للتفسير ، هو نوع من أنواع التّأليف من حيث الشّكل والعرض ، وهو كأسلوب المؤلّفات القديمة لا يجد أبناء هذا الجيل رغبة وشغفا بقراءة التّفاسير إلّا لمن تعوّد على قراءة المؤلّفات القديمة ، وقليل ما هم. ولهذا كان لا بدّ من أسلوب يبعث الرّغبة والشّغف في المسلمين فضلا عن غيرهم ، لقراءة التّفاسير ككتاب فكريّ عميق الفكر مستنيره.

وفوق ذلك فإن ما سار عليه المفسّرون في العصر الذي جاء بعد وجود ترجمة الكتب الفلسفية والتأثّر بها ، وفي العصر الهابط الذي جاء بعد الحروب الصليبيّة ، قد أدّى إلى وجود تفاسير صرفت جهدا كبيرا نحو العناية بأشياء ليست من التفسير ولا علاقة لآيات القرآن بها ، فضلا عما تراكم فيها من الإسرائيليّات ، حتى أصبحت عند

٥٥

المفسّرين مصدرا ثالثا من مصادر التفسير. فكان لا بدّ من تفسير للقرآن يجري على سنن تفسير الصّحابة من حيث الاجتهاد في فهم القرآن والاستعانة بما نقل من تفسير عن الصّحابة.

أما ما نقل من تفسير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه إن صحّ يعدّ جزءا من الحديث ، ولا يعدّ تفسيرا ، إذ يكون حينئذ نصّا تشريعيا كالقرآن فلا يدخل في عداد التفسير.

أما الأسلوب الذي ينبغي أن يسير عليه المفسّر فذلك راجع لإبداعه هو ، لأنه شكل من الأشكال ، وهو من نوع التأليف يختار كلّ واحد حسب ما يرى من وسيلة لأداء هذا التفسير من حيث الترتيب والتبويب والعرض ، ولذلك لا يصحّ أن يبيّن أسلوب التأليف في التفسير.

أما طريقة التّفسير فهي التي تحتاج إلى بيان. وقد وجدنا بعد الدراسة والبحث والفكر طريقة للتفسير نعرضها هنا ليجري تفسير القرآن على منهجها (١) ، وهي الطريقة التي يقتضيها واقع القرآن. وإنما قلنا طريقة أي أمرا مقرّرا دائميا ولم نقل أسلوبا ، لأنّها كطريقة الاجتهاد التي فهمت من واقع النصوص ومن الأدلة التي أرشد إليها القرآن الكريم ، وكذلك التفسير سواء بسواء. فهي طريقة من حيث الإلتزام بها لا من حيث كونها حكما شرعيا. لأنّها ليست من قبيل الأحكام ، أمّا هذه الطّريقة الّتي نرى السّير عليها في تفسير القرآن الكريم فتتلخّص فيما يلي :

تفسير القرآن هو بيان معاني مفرداته في تراكيبها ، ومعاني تراكيبه من حيث هي تراكيب. وحتى تعرف طريقة تفسيره لا بد أولا : من عرض واقع القرآن أوّلا ودراسته دراسة إجماليّة تبرز حقيقة هذا الواقع ، ثم يدرس ما ينطبق عليه هذا الواقع من حيث ألفاظه ومعانيه ، ثانيا : ثمّ يفهم ما هو الموضوع الذي جاء به. وبهذه المعرفة للواقع وما ينطبق عليه ، ولموضوع البحث الذي جاء به القرآن يتبيّن المرء الطريقة التي تسلك في تفسير القرآن ، فيهتدي إلى السبيل القويم الذي يجب أن يجري التفسير على نهجه.

__________________

(١) اقتبسنا غالب هذه المقدمة من كتاب الشخصية الإسلامية للشيخ الإمام محمّد تقي الدين النبهاني رحمه‌الله. مع التصرف حسب مقتضى موضوعنا في التقديم.

٥٦

أوّلا ـ عرض واقع القرآن :

أمّا واقع القرآن فهو كلام عربي فيجب أن يفهم واقعه باعتباره كلاما عربيا. إذ يجب أن تدرك مفرداته من حيث كونها مفردات عربيّة ، وأن تدرك تراكيبه من حيث كونها تراكيب عربيّة تحتوي ألفاظا عربية ، وأن يدرك واقع التصرّف في المفردات في تراكيبها ، وواقع التصرف في التراكيب بوصفها تراكيب فحسب ، من حيث كونه تصرّفا عربيا في مفردات عربية في تراكيب عربية أو تصرّفا عربيا في تراكيب عربية من حيث التركيب جملة. وأن يدرك فوق ذلك الذوق العالي في أدب الخطاب ، وأدب الحديث في القرآن من حيث النهج العربي في الذوق العالي في أدب الخطاب وأدب الحديث في كلام العرب.

فإذا أدرك ذلك كله ، أي إذا أدرك واقع القرآن على هذا الأساس العربي إدراكا تفصيليّا أمكن تفسيره وإلا فلا. لأن القرآن كله يمضي في ألفاظه وعباراته على ألفاظ العرب وعباراتهم ومعهودهم في كلامهم ، ولا يخرج عن ذلك قيد شعرة ، فلا يمكن تفسيره إلا بهذا الإدراك وعلى هذا الواقع. وما لم يتوفر ذلك فإنه لا يمكن تفسيره تفسيرا حقيقيّا بحال من الأحوال. وعليه فإنه يتوقف تفسير القرآن بوصفه كلاما عربيا ونصّا من النصوص العربية على إدراك واقعه العربي من حيث اللغة : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١)(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا)(٢). هذا من حيث واقعه ، وما ينطبق عليه الواقع من حيث ألفاظه ومعانيه ، أي من حيث اللغة.

ثانيا ـ موضوع القرآن الكريم :

أمّا من حيث الموضوع الذي جاء به فإن موضوعه رسالة من الله لبني الإنسان يبلّغها رسول من الله. ففيه كلّ ما يتعلق بالرسالة من العقائد والأحكام والبشارة والإنذار والقصص ، للعظة والذكرى ، والوصف لمشاهد يوم القيامة والجنّة والنار ، للزجر وإثارة الشّوق ، والقضايا العقليّة ، للإدراك ، والأمور الحسية والأمور الغيبية المبنيّة على أصل عقلي ، للإيمان والعمل ، وغير ذلك مما تقتضيه الرسالة العامة لبني

__________________

(١) طه / ١١٣.

(٢) الرعد / ٣٧.

٥٧

الإنسان. فالوقوف على هذا الموضوع وقوفا صحيحا لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الرسول الذي جاء به ، لا سيما وقد بيّن الله تعالى أن القرآن أنزل على الرسول ليبيّنه للناس ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١). وطريق الرسول هي سنّته ، أي ما روي عنه رواية صحيحة من أقوال وأفعال وتقارير.

ومن هنا كان من المحتّم أن يجري الإطلاع على سنّة الرسول قبل البدء بتفسير القرآن وعند تفسيره ، إذ لا يمكن فهم موضوع القرآن إلا بالإطلاع على سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إلّا أنّ هذا الإطّلاع يجب أن يكون إطّلاع وعي لمتن السّنّة الصّحيحة ، أي يجب أن يكون إطّلاع تدبّر لأفكارها باعتبارها مفاهيم ، لا اطّلاع حفظ لألفاظها ، أي لا يضير المفسّر أن لا يهتمّ بحفظ الألفاظ أو معرفة السّند والرواة ما دام واثقا من صحّة الحديث من مجرّد تخريج الحديث ، بل المحتّم عليه إدراك مدلولات الحديث. لأن التفسير متعلّق بمدلولات السّنة لا بألفاظها وسندها ورواتها. وعليه يجب توفر الوعي على السّنة حتى يتأتّى تفسير القرآن.

ومن هنا يتبيّن أنه لا بد لتفسير القرآن أوّلا وقبل كل شيء من (دراسة واقع القرآن تفصيليّا ، ودراسة ما ينطبق عليه هذا الواقع من حيث الألفاظ والمعاني) ، ثمّ ثانيا : إدراك موضوع بحثه. ويجب أن يعلم أنه لا يكفي الإدراك الإجمالي بل لا بد من الإدراك التفصيليّ للكليات والجزئيات ولو بشكل إجمالي. ولأجل تصوّر هذا الإدراك التفصيليّ نعرض لمحة أو إشارة عن كيفية هذا الإدراك التفصيلي لواقع القرآن من حيث مفرداته وتراكيبه وتصرفه في المفردات والتراكيب ، ومن حيث الأدب العالي في الخطاب والحديث من الناحية العربية ، من حيث لغة العرب ومعهودهم في كلامهم.

أما واقع القرآن من حيث مفرداته فإنا نشاهد فيه مفردات ينطبق عليها المعنى اللغويّ حقيقة ، والمعنى اللغوي مجازا. وقد يبقى استعمال المعنى اللغويّ والمجازي معا ، ويعرف المعنى المراد بالقرينة في كلّ تركيب. وقد يتناسى المعنى اللغوي ويبقى المعنى المجازي ، فيصبح هو المقصود ، لا المعنى اللغوي. ونشاهد فيه مفردات ينطبق عليها المعنى

__________________

(١) النحل / ٤٤.

٥٨

اللغويّ فقط ، ولم تستعمل في المعنى المجازي ، لعدم وجود أيّ قرينة تصرفها عن المعنى اللغوي. وتوجد فيه مفردات ينطبق عليها المعنى اللغوي وينطبق عليها معنى شرعي جديد غير المعنى اللغوي حقيقة ، وغير المعنى اللغوي مجازا وتستعمل في المعنى اللغويّ والمعنى الشرعي في آيات مختلفة ، والذي يعيّن أيّ معنى يراد منهما هو تركيب الآية. أو ينطبق عليها المعنى الشرعي فحسب ، ولا تستعمل في المعنى اللّغوي.

فمثلا كلمة قرية استعملت بمعناها اللغوي فقط ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ)(١)(أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ)(٢). واستعملت بمعناها المجازي ، وقال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها)(٣) والقرية لا تسأل بل المراد أهل القرية ، وهذا المعنى مجازيّ. قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها)(٤) والمراد أهل القرية.

ومثل قوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ)(٥). فالغائط هو المكان المنخفض ، استعملت في قضاء الحاجة مجازا ، لأن الذي كان يقضي الحاجة يذهب إلى مكان منخفض ، فغلب استعمال المعنى المجازي وتنوسي المعنى الحقيقي. ومثل قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)(٦) وقوله (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)(٧) فإن المراد معناها اللغوي ولم يرد لها معنى آخر.

ومثل قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)(٨) فإن المراد معناها اللغوي ، وهو تطهير الثّياب من النّجاسة ، لأن طهّر في اللغة طهارة ضدّ نجس ، وطهّر الشيء بالماء غسله ، وتطهّر واطّهّر تنزّه عن الأدناس. وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٩)(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(١٠) فالمعنى اللغوي هنا وهو إزالة النّجاسة غير ممكن لأن المؤمن لا ينجس ، فلم يبق إلا معنى آخر وهو إزالة الحدث. فاطّهّروا : أزيلوا

__________________

(١) الكهف / ٧٧.

(٢) النساء / ٧٥.

(٣) الطلاق / ٨.

(٤) يوسف / ٨٢.

(٥) النساء / ٤٣ ، والمائدة / ٦.

(٦) المائدة / ٤٢.

(٧) الرحمن / ٩.

(٨) المدثر / ٤.

(٩) المائدة / ٦.

(١٠) الواقعة / ٧٩.

٥٩

الحدث. والمطهّرون : المتنزّهون عن الحدث ، لأن إزالة الحدث الأكبر والحدث الأصغر يقال له شرعا طهارة ، قال عليه الصّلاة والسّلام : [لا يقبل الله صلاة بغير طهور](١) أي إزالة الحدث.

ومثل قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى)(٢) فإنّ المراد معناها الشرعيّ. وقوله تعالى : (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ)(٣) المراد المعنى اللغوي وهو الدّعاء. ومثل قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)(٤) وقوله تعالى : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ)(٥). وجميع الآيات التي ذكرت فيها الصلاة لم تستعمل إلا بمعناها الشرعيّ.

هذا من حيث المفردات. أما واقع القرآن من حيث التّراكيب فإن اللغة العربية من حيث هي ، ألفاظ دالة على معان ، وإذا تقصّينا هذه الألفاظ من حيث وجودها في تراكيب ، سواء أكانت من حيث معناها الإفرادي في التركيب ، أم من حيث معنى التركيب جملة ، فإنّها لا تخرج عن نظرتين اثنتين :

إحداهما أن ينظر إليها من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معاني مطلقة ، وهي الدلالة الأصلية.

والثّاني من جهة كونها ألفاظا وعبارات دالّة على معان خادمة للألفاظ والعبارات المطلقة ، وهي الدلالة التابعة.

أمّا بالنّسبة للقسم الأوّل وهو كون التراكيب ألفاظا وعبارات مطلقة دالّة على معاني مطلقة ، فإن في اللغة من حيث المفردات ألفاظ مشتركة مثل كلمة العين وكلمة القدر وكلمة الرّوح وما شاكل ذلك ، وفيها ألفاظ مترادفة مثل كلمة جاء وأتى ، وكلمة أسد وقسورة وكلمة ظنّ وزعم ، إلى غير ذلك. وفيه ألفاظا مضادة مثل كلمة

__________________

(١) رواه النسائي في السنن : كتاب الطهارة : باب فرض الوضوء : ج ١ ص ٨٧ ـ ٨٨. والطبراني في المعجم الكبير : ج ١٨ ص ١٧٢ : الرقم (٥٠٩) ورجاله رجال الصحيح.

(٢) العلق / ٩ ـ ١٠.

(٣) الأحزاب / ٥٦.

(٤) الجمعة / ١٠.

(٥) لقمان / ١٧.

٦٠