التفسير الكبير - ج ١

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ١

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

كتبت سبعة مصاحف إلى مكّة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحد.

قال ابن حجر : (واختلفوا في عدّة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق ؛ فالمشهور أنّها خمسة ؛ وأخرج ابن أبي داود في (كتاب المصاحف) من طريق حمزة الزيات قال : أرسل عثمان أربعة مصاحف وبعث منها إلى الكوفة بمصحف فوقع عند رجل من مراد ، فبقي حتى كتبت مصحفي عليه.

قال ابن أبي داود : سمعت أبا حاتم السجستاني يقول : كتبت سبعة مصاحف إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة ، وحبس بالمدينة واحدا. وأخرج بإسناد صحيح إلى إبراهيم النخعي قال : قال لي رجل من أهل الشام مصحفنا ومصحف أهل البصرة اضبط من مصحف أهل الكوفة ؛ قلت : لم؟ قال : لأنّ عثمان بعث إلى الكوفة لما بلغه من اختلافهم بمصحف قبل أن يعرض ، وبقي مصحفنا ومصحف أهل البصرة حتى عرض) (١).

وفي فضائل القرآن لابن كثير القرشي الدمشقي : قال : (وأما المصاحف العثمانية الأئمة ، فأشهرها اليوم الذي بجامع دمشق عند الرّكن ، شرقي المقصورة بذكر الله ، ولقد كان قديما بمدينة طبرية ، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة ، ولقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخطّ حسن مبين قوي بحبر محكم ، في رقّ أظنه من جلود الإبل ، والله أعلم ؛ زاده الله تشريفا وتعظيما وتكريما) (٢).

وعلى هذا لم يكن عمل عثمان جمعا للقرآن وإنما هو نسخ ونقل لعين ما نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو. فإنه لم يصنع شيئا سوى نسخ سبع نسخ عن النسخة المحفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين ، وجمع الناس على هذا الخطّ وحده ومنع أيّ خط أو إملاء غيرها. واستقرّ الأمر على هذه النسخة خطا وإملاء ، وهي عين الخط والإملاء الذي كتبت به الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل الوحي بها ،

__________________

(١) فتح الباري : ج ٩ ص ٢٤.

(٢) ينظر منه ص ٢٦ / طبعة دار الأندلس / الطبعة الرابعة.

٢١

وهي عينها النسخة التي كان جمعها أبو بكر. ثم أخذ المسلمون ينسخون عن هذه النّسخ ليس غير ، ولم يبق إلّا مصحف عثمان برسمه. ولمّا وجدت المطابع صار يطبع المصحف عن هذه النسخة بنفس الخطّ والإملاء.

والفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته ، لأنه وإن كان مكتوبا في صحف ولكنه لم يكن مجموعا في موضع واحد ككتاب واحد ، فجمعه في صحائف. وجمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأه بلغاتهم على اتّساع اللّغات فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض ، فخشي من تفاقم الأمر فنسخ تلك الصّحف في مصحف واحد.

فالمصحف الذي بين أيدينا هو عينه الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عينه الذي كان مكتوبا في الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو عينه الذي جمعه أبو بكر حين جمع الصّحف في مكان واحد ، وهو عينه الذي نسخ عنه عثمان النّسخ السبعة وأمر أن يحرق ما عداها ، وهو عينه القرآن الكريم في ترتيب آياته بالنسبة لبعضها وترتيبها في سورها وفي رسمه وإملائه. وأما النسخة التي أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوحي وجمعت صحفها وجرى النسخ عنها ، فإنّها ظلّت محفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين إلى أن كان مروان واليا على المدينة فمزّقها ، إذ لم يعد لها لزوم على حدّ تقديره بعد أن انتشرت نسخ المصاحف في كلّ مكان. عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال : [كان مروان يرسل إلى حفصة ـ يعني حين كان أمير المدينة من جهة معاوية ـ يسألها الصّحف الّتي كتب منها القرآن فتأبى أن تعطيه ، قال سالم فلمّا توفيّت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلنّ إليه تلك الصّحف فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان فشقّقت ، وقال : إنّما فعلت هذا لأنّي خشيت إن طال بالنّاس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصّحف مرتاب](١).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف : ص ٣٢. ينظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ٢٤ : شرح الحديثين (٤٩٨٧ و ٤٩٨٨) وقد سبق ابن كثير في فضائل القرآن ص ٢٤ فقال : رواه أبو بكر بن أبي داود ـ أي في كتاب المصاحف ـ وقال : (إسناده صحيح).

٢٢

رسم المصحف :

ورسم المصحف توقيفيّ لا تجوز مخالفته. والدليل على ذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له كتّاب يكتبون الوحي. وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرّسم وأقرّهم الرسول على كتابتهم.

وأول من كتب الوحي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة من قريش هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح ؛ وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة ، والزبير بن العوام ، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية ، وحنظلة بن الرّبيع الأسدي ، ومعيقيب بن أبي فاطمة وعبد الله بن الأرقم الأزهري وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة. وكان ألزم الصحابة لكتابة الوحي زيد بن ثابت الأنصاري ، وقبله أبي بن كعب وهو أول من كتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي بالمدينة ، ولكن زيد لكثرة تعاطيه الكتابة أطلق عليه (الكاتب) بلام العهد ؛ ولكنه ربما غاب فكتب غيره. وكان لكتّاب الوحي منزلة وشرف ، لهذا أراد أبو سفيان أن ينال من هذا الشرف لابنه معاوية ، فطلب من الرسول سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل ابنه معاوية كاتبا للوحي وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يردّ من طلب حاجة منه ؛ فأجابه. حتى كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتّاب متخصّصون ، ومنقطعون للكتابة له ، بلغوا أكثر من أربعين كاتبا (١).

ومضى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل ، مع أن الصحابة قد كتبوا القرآن ، ولم يرو عن أحد أنه خالف هذه الكتبة ، إلى أن جاء عثمان في خلافته فاستنسخ الصحف المحفوظة عند حفصة أمّ المؤمنين في مصاحف على تلك الكتبة ، وأمر أن يحرق ما عداها من المصاحف.

وأيضا فإنما ورد في رسم القرآن من رسم غير رسم الكتابة العربية التي لغيره والعدول عن تلك الكتبة لا تظهر فيها أيّة علّة لهذا العدول سوى أن كتابتها توقيفية وليست اصطلاحا. ولذلك لا يقال لماذا كتبت كلمة [الربا] في القرآن بالواو والألف [الربوا] ولم تكتب بالياء أو الألف. ولا يقال ما هو سبب زيادة الألف في [مائة]

__________________

(١) ينظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ٢٧ : شرح الحديث (٤٩٩١).

٢٣

دون [فئة] وزيادة الياء في [بأييديكم] و [بأييكم] وزيادة الألف في [سعوا] بالحجّ ونقصانها من [سعو] بسبأ ، وزيادتها في [عتوا] حيث كان ونقصانها من [عتو] في الفرقان وزيادتها في [أمنوا] وإسقاطها من [باءو] [جاءو] [فاءو] بالبقرة ، وزيادتها في [يعفوا الذي] ونقصانها من [يعفو عنهم] في النساء. ولا يقال كذلك ما هو وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض. كحذف الألف من [قرءنا] بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع. وإثبات الألف بعد واو [سموات] في فصّلت وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال. وإثبات الألف في [سراجا] حيثما وقع وحذفها من موضع الفرقان. فهذا الاختلاف في كتابة الكلمة الواحدة بين سورة وسورة من حيث الرسم مع عدم اختلاف المعنى واللفظ دليل على أنه فعل مردّه إلى السّماع لا إلى الاجتهاد والفهم ، وكلّ ما كان مرده إلى السّماع فهو توقيفيّ.

وأيضا فإنه قد نقل الاختلاف في ترتيب السّور ولكنه لم ينقل خلاف في رسم المصحف على هذه الكتبة التي كتبت بين يدي الرسول ، كما لم ينقل خلاف في ترتيب الآيات ، مما يدلّ على أن الرسم توقيفيّ. فإقرار الرسول على هذه الكتبة ، وإجماع الصحابة عليها ، وواقع الاختلاف في رسم الكلمة الواحدة بين سورة وسورة مع اتحاد اللفظ والمعنى ، كلّ ذلك دليل واضح على أن هذا الرسم الذي عليه المصحف هو رسم توقيفي يجب أن يلتزم وحده ، ويحرم أن يكتب المصحف على رسم غير هذا الرسم ، فلا يجوز العدول عنه مطلقا.

ولا يقال إن الرسول كان أمّيا فلا يعتبر تقريره لها ، فإنّ له كتّابا يعرفون الخطوط فكانوا يصفونها له ، وذهب بعضهم إلى أنه كان يعرف أشكال الحروف كما ورد في بعض الأحاديث. وفي هذا القول نظر ، بل هو غير مستساغ.

على أن كتابة كتّابه للكتب التي كان يرسلها للملوك والرؤساء كانت على رسم الكتابة العاديّة ، وعلى غير الرسم الذي كانوا يكتبون به الصّحف التي يكتبون فيها القرآن حين نزوله ، مع أنّ المملي واحد والكتّاب هم هم. على أن التزام الرسم العثماني للقرآن ، إنما هو خاصّ بكتابة المصحف كله ، أما كتابة القرآن استشهادا ، أو

٢٤

كتابته على اللوح للتعليم أو غير ذلك مما يكتب في غير المصاحف ، فهو جائز لأن الإقرار من الرسول والإجماع من الصحابة حصل في المصحف وحده دون غيره ، ولا يقاس عليه لأنه أمر توقيفي لغير علّة ، فلا يدخله القياس.

فصل منه : أنّ الرّسول محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يكتب :

الجزم أو التأكيد بأن الرسول سيدنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرف أشكال الحروف لا يستساع ، لأن الأحاديث التي جاءت في الباب ضعيفة لا تقوّي لمدّع حجة ، ثم لاختلاف العلماء في تأويل الأحاديث التي جاءت في كتابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفهمها على وجه أنه لم يكتب أقوى وأكثر حجّة. ثم لورود الخبر بأنه لا يحسن الكتابة ؛ والأمر مثار جدل لمن يريد ، والأخذ مع مراد دلالات الخطاب الشرعي في الباب أولى وأسلم.

قال القاضي عياض : وردت آثار تدلّ على معرفة حروف الخط وحسن تصويرها كقوله لكاتبه : [ضع القلم على أذنك فإنّه أذكر لك] وقوله لمعاوية : [ألق الدّواة وحرّف القلم وأقم الياء وفرّق السّين ولا تعور الميم] وقوله [لا تمدّ بسم الله]. وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة ، فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث (١). ونقل القرطبيّ ؛ قال : قال القاضي عياض : وهذا وإن لم تصحّ الرواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ، ويمنع من القراءة والكتابة (٢). قلت : وفي هذا تفصيل والتفات نباهة للعلماء رحمهم‌الله.

١. حديث زيد بن ثابت قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين يديه كاتب فسمعته يقول : [ضع القلم على أذنك فإنّه أذكر للمملي] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهو إسناد ضعيف ، وعنبسة بن عبد الرحمن ومحمد بن زاذان يضعّفان في الحديث (٣).

__________________

(١) فتح الباري : ج ٧ ص ٦٤١ : شرح الحديث ٤٢٥٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٥٣.

(٣) الجامع الصحيح للترمذي : كتاب الاستئذان : باب (٢١) : الحديث (٢٧١٤).

٢٥

٢. أما حديث معاوية ، أنه كان يكتب بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : [يا معاوية ألق الدّواة وحرّف القلم وانصب الباء وفرّق السّين ولا تغوّر الميم وحسّن الله ومدّ الرّحمن وجوّد الرّحيم ، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنّه أذكر لك](١).

٣. لعل توجيه القاضي عياض لهذه الأحاديث ، حين يغضّ النظر عن سندها ، هو الأصحّ في المسألة ، بقوله : (وهذا وإن لم تصحّ الرواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب ، فلا يبعد أن يرزق علم هذا ، ويمنع القراءة والكتابة) (٢).

بمعنى أن وصف الرسول سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجري القلم على يد الكاتب في رسم الحروف ، وخطّ شكلها ، مأمور به من الله ، فيأتي به الوحي ليعلّم الكاتب رسم الحرف وخط شكله ، وهذا يتفق وأن رسم حرف القرآن توقيف من الله ، وتفسير لسبب تغاير خطّ القرآن عن خط رسائل المصطفى عليه الصّلاة والسّلام للملوك والرؤساء ، مع أن الكتّاب أنفسهم من كتبة الوحي بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة وعشرون كاتبا أو أكثر.

تمسّك الفقيه الأندلسي أبو الوليد الباجي ، بظاهر حديث مسلم في صلح الحديبية ، فادعى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن الكتابة. فشنّع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة ، وأن الذي قاله يخالف القرآن. فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير : هذا لا ينافي القرآن ، بل يؤخذ من مفهوم القرآن لأنه قيّد النفي قبل ورود القرآن فقال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)(٣). وبعد أن تحقّقت أمّيته وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى.

__________________

(١) أخرجه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب : الرقم (٨٥٣٣). قال في الفتح : وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث.

(٢) حكاه القرطبي في الجامع : ج ٣ ص ٣٥٣.

(٣) العنكبوت / ٤٨.

٢٦

وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك. ومنهم شيخه أبو ذرّ الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء أفريقية وغيرها ، واحتجّ بعضهم بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شيبة من طريق مجاهد عن عوف بن عبد الله قال : [ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى كتب وقرأ] قال مجاهد : ذكرته للشعبي فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك ومن طريق يونس بن ميسرة عن أبي كبشة السّلولي عن سهل ابن الحنظلية : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة ، فقال عيينة : أتراني أذهب بصحيفة المتلمّس؟ فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال : [قد كتب لك بما أمر لك] قال يونس : فترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب بعدما أنزل عليه.

قلت : وهذا فيه نظر :

١. إن أحاديث عوف بن عبد الله والشعبي وسهل بن الحنظلية ؛ لا تصحّ ، قال القرطبي : قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف ، وقول الباجي منه (١).

٢. أما حديث مسلم فهو بما وقع في الصحيح من حديث البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : [أكتب الشّرط الّذي بيننا بسم الله الرّحمن الرّحيم ، هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله] فقال المشركون : لو نعلم أنّك رسول الله تابعناك ، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله. فأمر عليّا أن يمحاها! فقال عليّ : لا والله لا أمحاها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله](٢). فأخذ بعض العلماء بظاهر النص ، وأوّلوا الآية من سورة (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(٣) ، وفهموا نصّا عند البخاري فيه ؛ [فأخذ رسول الله الكتاب فكتب ، وليس يحسن يكتب](٤). وليس كما تأوّلوا أو فهموا ؛ من وجوه :

الأوّل : قول الراوي [فكتب] حكاية عن أمره للكاتب أن يكتب ، أي فيه حذف

__________________

(١) ينظر : مجمع الزوائد للهيثمي : ج ٨ ص ٢٧١.

(٢) كتاب الجهاد والسير : باب صلح الحديبية : الحديث (٩٢ / ١٧٨٣).

(٣) العنكبوت / ٤٨.

(٤) ينظر : صحيح البخاري : كتاب المغازي : باب عمرة القضاء : الحديث (٤٢٥١).

٢٧

تقديره فمحاها وأعادها لعليّ فكتب ، أي أمره بالكتابة ، وهو كثير كقوله : كتب إلى قيصر ، وكتب إلى كسرى ، فلا يلزم أنه هو الذي يكتب ، بل يملي على كاتبه ، فعدّ إملاؤه كتابة.

الثاني : جاء في نصّ الحديث سؤال الرسول سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكاتبه أن يريه مكانها ، فقال : [أرني مكانها] فلو كان يعرف شكل الحرف أو الكتابة أو القراءة لما احتاج السؤال ولو كانت من ضروب المعجزة والأمر الخارق للعادة ما احتاج السؤال أيضا. لهذا لا يصحّ مثل هذا الفهم ، فهو بعيد جدا.

الثالث : أنه جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتاج تعلّم لغة قوم أعداء ، فطلب من كتّابه فعل ذلك وكفايته أمرهم ، عن زيد بن ثابت قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أتعلم له كتابة يهود ، قال : [إنّي والله لا آمن يهود على كتاب] ، قال زيد : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته له. قال : فلمّا تعلّمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم ، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم](١).

الرابع : إن الكتابة من الأمور الإدارية والتراتيب الفنية التي لا يحتاجها الأمير لنفسه ، وله أن يوكّل من ينوب بها عنه ويقرّ شأنها وينفذه بعد أن يطلع عليه ؛ فهي تراتيب إدارية ومدنية. وليس مطلب المعجزة فيها بمكان متميّز بل غير مطلوب ، لهذا من هذا الوجه يستبعد التأويل بأن الرسول سيدنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرف الكتابة أو شكل الحروف. قال القرطبي : قلت : وقال بعض المتأخّرين من قال هي آية خارقة ، فيقال له : كانت تكون آية لا تنكر لولا أنّها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أميّا لا يكتب ، وبكونه أميّا في أمّة أمّيّة قامت الحجّة ؛ وأفحم الجاحدون ، وانحسمت الشبهة فكيف يطلق الله يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألّا يكتب ، والمعجزات يستحيل أن يدفع

__________________

(١) الجامع الصحيح للترمذي : كتاب الاستئذان ، باب ما جاء في علم السريانية : الحديث (٢٧١٥) وقال : هذا حديث حسن صحيح.

٢٨

بعضها بعضا. وإنما معنى كتب وأخذ القلم ، أي أمر من يكتب به من كتّابه ، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستّة وعشرون كاتبا (١).

٣. الصحيح في الباب أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كتب ولا حرفا واحدا ، ولا قرأ. وإنما أمر أن يكتب الكتاب ، وهذا مقتضى فهم النصوص على السجية من غير تكلّف ، قال القرطبي : هذا هو الصحيح في الباب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كتب ولا حرفا واحدا ، وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجّى.

فإن قيل : فقد تهجّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذكر الدجّال ، فقال : [مكتوب بين عينيه كافر](٢) وقلتم إنّ المعجزة قائمة في كونه أميّا ؛ قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) الآية وقال ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : [إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب](٣) فكيف هذا؟ فالجواب ما نصّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث حذيفة ، والحديث

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٥٣.

(٢) عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [إنّه مكتوب بين عيني الدّجال كافر يقرؤه كلّ مؤمن]. مسند الإمام أحمد : ج ٣ ص ٣٢٧. وعن عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم حذر الناس الدجال : [إنّه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كلّ مؤمن] صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة : الحديث (٩٥ / ١٦٩) من أحاديث الدجال. ولفظ التهجي جاء عند أنس بن مالك [مكتوب بين عينيه ك ف ر أي كافر] وفي لفظ [مكتوب بين عينيه كافر ثمّ تهجّاها كافر يقرؤه كلّ مسلم] ولربما كان المتهجّي هو أنس بن مالك وليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لأن الحديث في طرقه عن جابر بن عبد الله وعمر بن ثابت الأنصاري وعبد الله بن عمر عن أبيه ليس فيه ذكر التهجي والله أعلم. ينظر : مسند الإمام أحمد : ج ٥ ص ٤٣٣ وفي ج ٦ ص ١٣٩ عن أم المؤمنين عائشة بلفظ [مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كلّ مؤمن] من حديث طويل تفرد به الإمام أحمد. وعن حذيفة أخرجه مسلم والطبراني في المعجم الكبير : الحديث (٣٠١٨) : ج ٣ ص ١٦٧.

(٣) صحيح البخاري : كتاب الصوم : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نكتب ولا نحسب : الحديث (١٨١٣) وصحيح مسلم : كتاب الصيام : الحديث (١٥ / ١٠٨٠) وسنن أبي داود : الحديث (٢٣١٩) وسنن النسائي : كتاب الصوم : ج ٢ ص ١٣٩ ـ ١٤٠.

٢٩

كالقرآن يفسّر بعضه بعضا. ففي حديث حذيفة [يقرؤه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب](١) ؛ فقد نصّ في ذلك على غير الكتّاب ممن يكون أمّيّا. وهذا من أوضح ما يكون.

ثم قلت : من المقطوع به أمّيّة النبي الرسول سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما وصفه به ربّ العالمين فقال الله عزوجل : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ)(٢) وتقرير الله عزوجل لمحاججة أهل الكتاب ووصفهم المسلمين بالأمّيين قال الله عزوجل : (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)(٣) وقوله عزوجل (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)(٤) ، فعموم الأمّية في الأمة التي بعث فيها الرسول خصوص لتقرير أمّيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد نهينا عن تكلّف ما لم يكلّفنا به الله. ولهذا كله لا يستساع التسليم أو الجزم بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرف أشكال الحروف.

إعجاز القرآن :

القرآن هو اللّفظ المنزّل على سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدلّ عليه من معانيه ، فالقرآن هو اللفظ والمعنى معا. فالمعنى وحده لا يسمّى قرآنا ، واللفظ وحده لا يتأتّى أن يكون دون معنى مطلقا ، لأن أصل الوضع في اللفظ إنما هو للدلالة على معنى معيّن. ولذلك وصف القرآن بوصف لفظه ، فقال الله عنه إنه عربيّ حيث قال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٥) وقال (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٦) وقال (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)(٧)(أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٨)(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٩).

__________________

(١) مسند الإمام أحمد : ج ٥ ص ٣٨٦ وصحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة : باب ذكر الدجال : الحديث (١٠٥ / ٢٩٣٤). ولفظه : [مكتوب بين عينيه كافر ؛ يقرؤه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب].

(٢) الأعراف / ١٥٨.

(٣) آل عمران / ٧٥.

(٤) الجمعة / ٢.

(٥) يوسف / ٢.

(٦) فصلت / ٣.

(٧) الزمر / ٢٨.

(٨) الشورى / ٧.

(٩) الزخرف / ٣.

٣٠

والعربية وصف للفظ القرآن لا لمعانيه لأن معانيه معاني إنسانيّة وليست معاني عربيّة ، وهي لبني الإنسان وليست للعرب. وأما قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا)(١) فإن معناها حكمة مترجمة بلسان العرب ، وليس معناه حكمة عربية. فالعربية وصف للفظه ليس غير. ولفظه لا يوصف إلّا بالعربية فحسب ، وهو لا اسم له على مسمّاه غير العربية لا حقيقة ولا مجازا ولذلك لا يصحّ أن يقال عن كتابة بعض معانيه بغير اللغة العربية إنّها قرآن. فعربية القرآن حتميّة وهي عربية لفظه فحسب.

والقرآن هو معجزة للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنه وإن كانت هنالك معجزات أخرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قد جرت على يده غير القرآن ، كما ورد ذلك في القرآن نفسه وفي صحاح السّنة ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتحدّ بها ، بل كان التحدّي بالقرآن وحده. ولذا نقول إنّ القرآن هو معجزة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي بها ثبتت رسالته منذ نزول القرآن عليه إلى يوم القيامة. وقد أعجز القرآن العرب عن أن يأتوا بمثله وتحدّاهم أن يأتوا بمثله ، فقال تعالى في تحدّيه لهم : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢) وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣) وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤) وقد بلغ من تحديه لهم أنه قال لهم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(٥). فعجز الذين خوطبوا بالقرآن عن أن يأتوا بمثله ، وعجزهم هذا ثابت بطريق التواتر ولم يعرف التاريخ ولا روى أحد أنّهم أتوا بمثله.

__________________

(١) الرعد / ٣٧.

(٢) البقرة / ٢٣.

(٣) يونس / ٣٨.

(٤) هود / ١٣.

(٥) الإسراء / ٨٨.

٣١

وهذا التحدي ليس خاصّا بالذين خوطبوا بل هو تحدّ عام إلى يوم القيامة. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالقرآن متحدّ البشر كلهم منذ نزوله إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثله. ولذلك ليس القرآن معجزا للعرب الذين كانوا في أيّام الرسول فقط ، ولا للعرب وحدهم في كلّ مكان وزمان ، بل هو معجز للناس أجمعين ، لا فرق في ذلك بين قبيل وقبيل ، لأن الخطاب به للناس أجمعين. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(١) ولأن آيات التحدي عامّة تقول : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وهو يشمل الناس جميعا ، ولأن القرآن أخبر عن عجز الإنس والجنّ قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).

وعجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وعجز الناس جميعا عن أن يأتوا بمثله ، إنما هو لأمر ذاتي في القرآن نفسه. فإن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن أقبلوا عليه مأخوذين بقوة بلاغته ، حتى أن الوليد بن المغيرة ليقول للناس : وقد سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن [والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار منّي ولا أعلم برجزه وقصيده منّي ، والله ما يشبه الّذي يقوله شيئا من هذا ، والله إنّ لقوله الّذي يقوله لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمورق أعلاه مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو ولا يعلى عليه](٢) مع أن الوليد هذا لم يؤمن وأصرّ على كفره. فالإعجاز آت من ذات القرآن ، لأن الذين سمعوه والذين يسمعونه إلى يوم القيامة يشهدون ويتحيّرون من قوّة تأثيره وقوّة بلاغته ، بمجرّد

__________________

(١) سبأ / ٢٨.

(٢) ينظر : السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٢٨٩ وفيه تفصيل قصة (تحيّر الوليد بن المغيرة فيما يصف فيه القرآن). والمستدرك على الصحيحين للحاكم : كتاب التفسير : باب مدح كلام الله من لسان الكافر : ج ٢ ص ٥٠٧ عن أبي سعيد الخدري : وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص. ودلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي : باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله من الإعجاز وأنه لا يشبه شيئا من لغتهم : ج ٢ ص ١٩٨. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١٩ ص ٧٤. وأسباب النّزول للواحدي : ص ٢٩٥. والبرهان في علوم القرآن للزركشي : ج ٢ ص ١٧. ولباب النقول في أسباب النّزول : ص ٢٢٣.

٣٢

سماعهم له ولو جملة واحدة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ)(١)(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٢)(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ)(٣)(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٤).

وهكذا تتلى آية من القرآن أو آيات ، فإن ألفاظها وأسلوبها ومراميها تستغرق أحاسيس الإنسان وتستولي عليه.

وإعجاز القرآن أظهر ما يظهر في فصاحته وبلاغته وارتفاعه إلى درجة مدهشة. ويتجلّى ذلك في أسلوب القرآن المعجز ، فإنّ ما في أسلوبه من الوضوح والقوة والجمال ما يعجز البشر عن أن يصلوا إليه.

والأسلوب هو معاني مرتّبة في ألفاظ منسقة. أو هو كيفيّة التعبير لتصوير المعاني بالعبارات اللغوية ، ووضوح الأسلوب يكون ببروز المعاني المراد أداؤها في التعبير الذي أدّيت به (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(٥). وقوة الأسلوب تكون باختيار الألفاظ التي تؤدّي المعنى بما يتلاءم مع المعنى. فالمعنى الرقيق يؤدّى باللفظ الرقيق ، والمعنى الجزل يؤدى باللفظ الجزل ، والمعنى المستنكر يؤدى باللفظ المستنكر وهكذا ... (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)(٦)(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)(٧)(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)(٨)(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(٩).

أما جمال الأسلوب فيكون باختيار أصفى العبارات وأليقها بالمعنى الذي أدّته ، وبالألفاظ والمعاني التي معها في الجملة والجمل (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ

__________________

(١) غافر / ١٦.

(٢) الزمر / ٦٧.

(٣) الأنفال / ٥٨.

(٤) الحج / ١ ـ ٢.

(٥) فصلت / ٢٦.

(٦) الإنسان / ١٧ ـ ١٨.

(٧) النبأ / ٢١ ـ ٢٣.

(٨) النجم / ٢٢.

(٩) لقمان / ١٩.

٣٣

كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١).

والمتتبع للقرآن يجد الارتفاع الشامخ الذي يتّصف به أسلوبه وضوحا وقوّة وجمالا. إسمع هذا الوضوح والقوة والجمال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٢)(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(٣)(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٤).

والقرآن طراز خاص من التعبير ، ونظمه ليس على منهاج الشعر الموزون المقفّى ، ولا هو على منهاج النثر المرسل ، ولا هو على منهاج النثر المزدوج أو النثر المسجوع ، وإنما هو منهاج قائم بذاته لم يكن للعرب عهد به ولا معرفة من قبل.

وكان العرب لفرط تأثّرهم بالقرآن لا يدرون من أيّ ناحية وصل إلى هذا الإعجاز. فصاروا يقولون (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)(٥) ويقولون إنه قول شاعر وإنه قول كاهن. ولذلك ردّ عليهم الله فقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٦).

وكون القرآن طراز خاص ونسيج منفرد واضح فيه كل الوضوح. فبينما تجده يقول : (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(٧) ويقول :

__________________

(١) الحجر / ٢ ـ ٣.

(٢) الحج / ٨.

(٣) الحج / ١٩ ـ ٢٢.

(٤) الحج / ٧٣.

(٥) يونس / ٧٦.

(٦) الحاقة / ٤١ ـ ٤٢.

(٧) التوبة / ١٤.

٣٤

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(١) مما هو نثر قريب من الشعر ، إذ لو نظمت الآيتان لكانتا بيتين من الشعر هكذا :

ويخزهم وينصركم عليهم

ويشف صدور قوم مّؤمنين (*)

لن تنالوا البرّ حتّى

تنفقوا ممّا تحبّون (**)

ولكنهما ليسا شعرا وإنما هو نوع من النثر فريد. وفي الوقت الذي تجد القرآن يقول هذا النوع من النثر تجده يقول : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٢) مما هو نثر بعيد عن الشعر كلّ البعد. وبينما تجده يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٣)(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٤) فيطيل الفقرة والنّفس في النثر ، وتجده يقول : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤))(٥) فيقصر الفقرة والنّفس في النثر. مع أن كلّا منهما نثر في فقرات فقرات. وبينما تجده يبدع في النثر المرسل فيرسل في القول فيقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي

__________________

(١) آل عمران / ٩٢.

(١) (*) التوبة / ١٤ : (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).

(١) (**) آل عمران / ٩٢ : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

(٢) الطارق / ١ ـ ٧.

(٣) النساء / ٦٤.

(٤) النساء / ٦٥.

(٥) الشمس / ١ ـ ٤.

٣٥

الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١) تجده يبدع في النثر المسجّع ويسجع فيقول : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(٢).

وتجده يتسامى في الازدواج ويزدوج فيقول : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)(٣) وتجده يطيل الازدواج فيقول : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٢٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا)(٤) وبينما يسير في سجعة معينة إذا هو يعدل عنها إلى سجعة أخرى ، فبينما يكون سائرا بالسّجع هكذا (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) إذا هو يعدل في الآية التي بعدها مباشرة فيقول : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) ثم يعدل عن هذه السّجعة إلى غيرها في الآية التي بعدها مباشرة فيقول : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ)(٥).

وهكذا تتبع جميع القرآن لا تجده ملتزما شيئا مما في أسلوب العرب من شعر أو نثر على مختلف أنواعهما ولا يشبه أيّ قول من أقوال العرب ، ولا يشبهه أيّ قول من أقوال البشر.

ثم إنك تجد أسلوبه واضحا قويّا جميلا يؤدّي المعاني بكيفيّة من التعبير تصوّر المعاني أدّق تصوير. فتجده حين يكون المعنى رقيقا يقول : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٢١)

__________________

(١) المائدة / ٤١.

(٢) المدثر / ١ ـ ٧.

(٣) التكاثر / ١ ـ ٦.

(٤) عبس / ١٧ ـ ٣١.

(٥) المدثر / ٨ ـ ١٠.

٣٦

حَدائِقَ وَأَعْناباً (٢٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٢٣) وَكَأْساً دِهاقاً)(١) من الألفاظ الرقيقة والجمل السّلسة. وحين يكون المعنى جزلا يقول : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً) من الألفاظ الفخمة والجمل الجزلة. وحين يكون المعنى محبّبا يأتي باللفظ المحبّب فيقول : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)(٢).

وحين يكون المعنى مستنكرا يأتي باللفظ المناسب لهذا المعنى فيقول : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)(٣) فيقول : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(٤). وقد صاحب تأدية المعاني بهذه الكيفية من التعبير التي تصوّر المعاني مراعاة للألفاظ ذات الجرس الذي يحرّك النفس عند تصوّرها لهذه المعاني وإدراكها لها. ولذلك كانت تبعث في السامع المدرك لعمق هذه المعاني وبلاغة التعبير خشوعا عظيما حتى كاد بعض المفكّرين العرب من البلغاء أن يسجدوا لها مع كفرهم وعنادهم.

ثم إن المدقّق في ألفاظ القرآن وجمله يجد أنه يراعي عند وضع الحروف مع بعضها ، الأصوات التي تحدث منها عند خروجها من مخارجها فيجعل الحروف المتقاربة المخارج متقاربة الوضع في الكلمة أو الجملة. وإذا حصل تباعد بين مخارجها فصل بينها بحرف يزيل وحشة الانتقال. وفي نفس الوقت يجعل حرفا محبّبا من مخرج خفيف على الأذن يتكرّر كاللازمة في الموسيقى ، فلا يقول [كالباعق المتدفق] وإنما يقول : (كَصَيِّبٍ)(٥) ولا يقول [الهعخع] وإنما يقول (سُندُسٍ خُضْرٌ)(٦) وإذا

__________________

(١) النبأ / ٢١ ـ ٢٦.

(٢) يوسف / ١٠٠.

(٣) النجم / ٢١ ـ ٢٢.

(٤) لقمان / ١٩.

(٥) البقرة / ١٩. الباعق من ب ع ق : البعاق : شدّة الصّوت. ومن المطر : الذي يفاجئ بوابل.

والسّيل الدّفاع ، ويثلّث فيهما ، كالباعق. وفي الكلام الانصباب فيه بشدة ، ورويّ : [أنّ الله تعالى يكره الانبعاق في الكلام فرحم الله عبدا أوجز في كلامه]. ينظر مختار الصحاح للرازي ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي : مادة : (ب ع ق).

(٦) الإنسان / ٢١.

٣٧

لزم أن يستعمل الحروف المتباعدة وضعها في المعنى الذي يليق بها ولا يؤدّي المعنى غيرها مثل كلمة (ضِيزى)(١) فإنه لا ينفع مكانها كلمة ظالمة ولا جائرة مع أنّ المعنى واحد. ومع هذه الدقة في الاستعمال ، فإن الحرف الذي يجعله لازمة يرد في الآيات واضحا في التردّد ، فآية الكرسي مثلا تردّدت اللام فيها ثلاثا وعشرين مرة بشكل محبّب يؤثّر على الأذن حتى ترهف للسّماع وللاستزادة من هذا السّماع.

وهكذا تجد القرآن طرازا خاصا ، وتجده ينزل كلّ معنى من المعاني في اللفظ الذي يليق به ، والألفاظ التي حوله ، والمعاني التي معه ، ولا تجد ذلك يتخلّف في أيّة آية من آياته. فكان إعجازه واضحا في أسلوبه من حيث كونه طرازا خاصا من القول لا يشبه كلام البشر ولا يشبهه كلام البشر. ومن حيث إنزال المعاني في الألفاظ والجمل اللائقة بها ، ومن حيث وقع ألفاظه على أسماع من يدرك بلاغتها ويتعمق في معانيها فيخشع حتى يكاد يسجد لها ، وعلى أسماع من لا يدرك ذلك فيأسره جرس هذه الألفاظ في نسق معجز يخشع له السامع قسرا ولو لم يدرك معانيه. ولذلك كان معجزة وسيظل معجزة حتى قيام السّاعة.

التفسير والتّأويل :

التّفسير تفعيل من الفسر وهو البيان ، تقول فسرت الشّيء بالتخفيف أفسّره فسرا ، وفسّرته بالتشديد أفسّره تفسيرا إذا بيّنته. والفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير هو بيان المراد باللفظ ، والتأويل هو بيان المراد بالمعنى. وقد اختصّت كلمة التفسير عند الإطلاق ببيان آيات القرآن ، وكلمة التأويل بتوجيه الفهم إلى العمل وأداءه في الفعل على الوجه المقصود شرعا.

قال تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(٢) والتفسير هو التفصيل بالمثال وما يقرّب المعنى إلى الأذهان ؛ بإظهار المعنى المعقول على قصد مراد الشّارع بما يزيل الإيهام الذي ربما علق في أذهانهم عند ما سمعوا الخطاب ؛

__________________

(١) النجم / ٢٢.

(٢) الفرقان / ٣٣.

٣٨

فيرتبط التفسير بتكوين المعنى في الذهن بما يخدم في فهم النصّ ووعيه له. والتأويل هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو عملا ؛ أي إرجاعه إلى أصله ؛ فالتأويل عملا بالطاعة لله ورسوله ، والتأويل علما بإرجاع محلّ التنازع والاختلاف إلى مظانّه من كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(١).

والتأويل على ضربين : الأول : تأويل شرعي للنصّ ، والآخر : تأويل عقلي. وإذا علم أن المراد بالتأويل ـ على وجه العموم ـ ما يفيد في توجيه المعنى في دلالة الخطاب إلى طريقة القيام بالعمل وإنفاذه على وجهه الشرعيّ ؛ أو بما يخدم فكرة الموجّه للدلالة إلى مقاصده وغاياته. والأول منهما ؛ وهو التأويل الشرعي للنصّ ؛ وهو المطلوب من المكلّفين لفهم خطاب الشارع على قصد مراد الله سبحانه وتعالى ؛ ويثمر للمكلّف عند الله الأجر والثواب وتتحقّق العبادة في إنجازه. والثاني : هو التأويل العقلي ؛ فهو تحكّم في توجيه دلالة النصّ إلى ما يفيد غرض المكلّف وبما يخدم غاياته وأهدافه على قصد مراده البشري أو الشخصي أو المذهبيّ أو الطائفي ؛ وهذا ليس مرادا في عرف الشارع كما سيظهر إن شاء الله. وعلى ما يبدو أن هذا النوع من التأويل وقع به غالب المتكلّمين ، ولإظهار المعنى بما يبني فكرة التأويل ومفهومه في عقليّة المسلم نقول :

خاطب الله الناس ، بكلامه في القرآن الكريم ، وبما أمر به رسوله سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبيّن لهم ما أجمل في الكتاب أو عمّ أو أطلق. وجاء الخطاب بلسان عربيّ مبين ، فصيح يحمل في دلالاته معاني تفهم منه من سياق النصّ مباشرة ، أو من مفردات ألفاظ النصّ ، أي تفهم المعاني المرادة بإدراك دلالة اللفظ باللّغة العربية ، أو بإدراك دلالة السّياق بمعهود العرب وعرف لسانهم وخطابهم ، أو تدرك المعاني من معرفة أسباب نزول النصّ وأسباب ورود البيان السّنّي للكتاب. فيدرك المرء دلالة النص من تفسير ألفاظه ومرامي معانيه على الواقع ، أو تأويله إلى ما يفيد العمل الفكري الذي

__________________

(١) النساء / ٥٩.

٣٩

يجري في ذهن المكلف لتوجيه الرّأي والايمان والمعتقدات والأحكام ؛ أو إلى ما يفيد مباشرة العمل بإنفاذه على جوارح المرء وبأهليّته الفردية أو الجماعية المجتمعية. لهذا لا يوجد في القرآن الكريم ما لا يعقل المكلف ألفاظه أو لا يفهم معانيه. فعقل الألفاظ وما يحتاجه هذا التعقّل الشرعي من مطلوب خبري على مستوى اللغة والأثر والحديث هو التّفسير ؛ وهو بيان معاني ألفاظ القرآن وفهم معانيه واستخراج أحكامه وحكمه ؛ باستمداد ذلك من علم اللغة بما تدلّ عليه الألفاظ منها إلى معانيها ؛ وبمعرفة علم النّحو والتصريف وعلم البيان الذي يلزم المرء الباحث بأساليب العرب في المخاطبة والتعلّم والإفهام ، وعلم القراءات وما تحمله من دلالات السّياق في التعبير عن المراد ، وما إلى ذلك مما يعرف بالعلوم الشرعية وما يخدمها من علوم الآلة والعربيّة.

أمّا التّأويل ؛ فهو معرفة دلالة الخطاب على الواقع باعتباره نصّا مسموعا يخبر عن قصد مراد الشارع من المكلّف ، وبوصفه كلّا متماسكا ووحدة واحدة غير مجزّأة تفيد المستمع بإنشاء الفكر عن الواقع وتكوين معنى يعبر به عنه وتبعث فيه إلى طلب ما يلزمه العمل.

ولم يكن عند سلف الأمة تفريق بين التفسير والتأويل في القصد المراد ، لأنّ كليهما يلزم الآخر ، ولم يكن عندهم تفريق بين الفكر والعمل من حيث أن الفكر للعمل وليس بينهما مفاصلة إلا الصّدق في المباشرة. وليس الحال كما فرّق المتأخرون. فالتأويل عند السلف هو إفادة المستمع أو من في حكمه بإنشاء الفكر في ذهنه وتقصّد العمل به ؛ فالتفسير بيان المعنى في الخطاب ، والتأويل بيان العمل وتوجيه دلالة الخطاب إليه ؛ وأحدهما يقتضي الآخر.

لهذا كان التفسير هو بيان المعنى بحسب مقتضى اللغة ودلالة اللسان بمعهود العرب حين إدراكهم للخطاب ووعيهم به ، أي بما تدركه العرب وتفهمه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتأويل ؛ هو بيان هذا المعنى على وجه يفيد العمل بمقتضى هذا المعهود من لسان العرب ومعهودهم وبمقتضى ما جاء من السّنّة المطهرة في بيانه. لهذا

٤٠