التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٠

تكن السورة تنتشر بمجرد نزولها بأمر النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين وتقرأ في بيوتهم؟

الحديث الثاني عشر :

من روايات الشيخ الكشي ، وسيأتي الكلام عنها بصورة عامة.

الحديث الثالث عشر :

سنده غير قويّ كما يتّضح ذلك لمن راجعه ، ثمّ إنّ الشيخ النعماني نفسه قد روى حديثين آخرين :

أحدهما : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا ، قال : «كأنّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة ، وقد ضربوا الفساطيط يعلّمون الناس القرآن كما أنزل» (٢).

والثاني منهما : عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال : «كأنّي بشيعة علي في أيديهم المثاني يعلّمون القرآن» (٣).

وهذان الحديثان يعارضان الحديث المذكور.

وأوضح من ذلك قول الإمام الباقر عليه‌السلام : «إذا قام القائم من آل محمد ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن على ما أنزله الله عزوجل ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنّه يخالف فيه التأليف» (٤).

وليتأمّل في قوله عليه‌السلام : «لأنّه يخالف فيه التأليف» فإنّه يفيد فيما

__________________

(١) نصّ على هذا أكابر الطائفة ، منهم العلامة الحلّي في كتابه نهاية الوصول ، وقد تقدمت عبارته في الفصل الثاني من الكتاب.

(٢) الغيبة للنعماني : ٣١٧.

(٣) الغيبة للنعماني : ٣١٨.

(٤) روضة الواعظين : ٢٦٥ ، الإرشاد للشيخ المفيد : ٣٦٥.

٨١

سيأتي.

أمّا الأحاديث المتبقية ـ ١٤ ، ١٥ ، ١٦ ـ فقد ضعّفها الشيخ المجلسي جميعها (١) ، بالإضافة إلى أنّه يجاب عنها بما يجاب عن نظائرها.

__________________

(١) مرآة العقول ٥ : ١٤ ، ٢٩.

٨٢

الفصل الرابع

شبهات حول القرآن

على ضوء روايات الشيعة

٨٣
٨٤

وهناك شبهات تعرض للناظر في أحاديث الشيعة الإمامية حول القرآن الحكيم ، فعلينا ـ بالرغم من ثبوت بطلان تلك الأحاديث المتقدّمة وأمثالها ، وعدم صلاحيتها للاستناد إليها ، بالأدلّة المذكورة على عدم وقوع التحريف في القرآن ، وبالأجوبة السالفة عن كل منها ـ أن نتعرض لتلك الشبهات ، ونبيّن وجه اندفاعها :

الشبهة الاولى

تواتر أحاديث تحريف القرآن

لما رأى بعض محدّثي الإمامية كثرة الأحاديث الظاهرة في تحريف القرآن ، ووجدوا كثيرا منها في المجاميع الحديثيّة المعروفة ، عرضت لهم شبهة تواتر تلك الأحاديث ـ ولا سيّما الأخباريون الظاهريون ممن يرى صحّة كل حديث منسوب إلى أئمة الهدى عليهم‌السلام من غير تحقيق ـ وهؤلاء هم :

١ ـ المحدّث الجزائري ، فإنّه قال في وجوه ردّه على القول بتواتر القراءات : «الثالث : إنّ تسليم تواترها عن الوحي الإلهي ، وكون الكلّ قد نزل به الروح الأمين ، يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالّة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن ، كلاما ومادة وإعرابا» (١).

__________________

(١) الأنوار النعمانية ٢ : ٣٥٧.

٨٥

ولكن يردّه تصريح جماعة من كبار العلماء المحقّقين ـ وفيهم الأخباريون الفطاحل ـ بأنّ أحاديث التحريف أخبار آحاد ، لا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها في هذه المسألة الاعتقادية.

فقد قال شيخ الطائفة : «غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها».

وقال الشيخ المجلسي عن الشيخ المفيد : «إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحتها».

وكذا قال غيرهما من أعلام الطائفة.

على أنّ كلام هذا المحدّث نفسه يدل على أنّ دعواه تلك بعيدة كلّ البعد عما نحن بصدده ، لأنّه يدّعي التواتر في أحاديث التحريف بمختلف معانيه كلاما ومادة وإعرابا.

ومن المعلوم : إنّ طائفة من الأحاديث جاءت ظاهرة في أنّ المسلمين حرّفوا القرآن من جهة المعنى دون اللفظ ، وحملوا آياته على خلاف مراد الله تعالى ، وإن طائفة اخرى من الأحاديث جاءت ظاهرة في وقوع التحريف في القرآن نتيجة اختلاف القراءات. إلى غير ذلك من طوائف الأحاديث الراجعة إلى تحريف القرآن ، وتبقى الطائفة الدالّة منها على التحريف بمعنى «نقصان القرآن» وهو موضوع بحثنا ، وقد ذكرنا نحن طائفة من أهمّ تلك الأحاديث ونبّهنا على ما فيها.

٢ ـ الشيخ المجلسي في كتابه (مرآة العقول) فإنّه قال بعد حديث قال إنّه

٨٦

موثق :

«ولا يخفى أنّ هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره. وعندي أنّ الأخبار في هذا الباب متواترة معنى ، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأسا ، بل ظنّي أنّ الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة ، فكيف يثبتونها بالخبر».

ويردّه ما ذكره هو في «بحار الأنوار» وقد تقدّم نصّه.

على أنّ قوله : «وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن» غريب ، فإنّ السيد المرتضى قال : «نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته».

كما أنكر صحتها الطوسي شيخ الطائفة والمحدّث الكاشاني ، بل جاء في العبارة التي نقلناها عن بحاره «إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها».

ومن قبلهم قال شيخ المحدّثين ما نصّه : «اعتقادنا أنّ القرآن الذين أنزله الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفّتين وما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذاك ... ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب». ولو كانت أحاديث النقيصة صحيحة ومقبولة لما قال الصدوق ذلك كما لا يخفى.

وأما قوله : «وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأسا» ففيه : إنّ قبول جميعها أيضا يوجب رفع الاعتماد على الأحاديث رأسا ، على أنّه رحمه‌الله قد حكم في أكثر الأحاديث المخرّجة في «الكافي» والمفيدة نقص القرآن إمّا بالضعف وإمّا بالإرسال ، كما تقدّم ذلك كلّه.

ومن العجيب قوله : «بل ظنّي ...» إذ إثبات الإمامة ليس دليله منحصرا

٨٧

بالأحاديث حتى يقال ذلك ، وكيف أنّ تلك الأحاديث لا تقصر عن أحاديث الإمامة؟ وهل يقصد الكثرة في الورود؟ أو القوة في الدلالة؟ أو الصحة في الأسانيد؟

٣ ـ المحدّث الحر العاملي ، فإنّه قال بعد أن روى حديثين عن تفسير العياشي :

«أقول : هذه الأحاديث وأمثالها دالّة على النصّ على الأئمة عليهم‌السلام وكذا التصريح بأسمائهم ، وقد تواترت الأخبار بأنّ القرآن نقص منه كثير وسقط منه آيات لمّا تكتب».

ويكفي لدفع دعوى التواتر هذه نصوص العلماء ، وما تقدّم نقله عنه في الفصل الأول.

ولعلّ قوله رحمه‌الله بعد ذلك : «وبعضهم يحمل تلك الأخبار عن أنّ ما نقص وسقط كان تأويلا نزل مع التنزيل ، وبعضهم على أنّه وحي لا قرآن» يدلّ على أنّه لا يعتقد بوقوع التحريف في القرآن الشريف.

وكأنّه إنّما يدّعي التواتر في هذه الأحاديث للاحتجاج بها على وجود النصوص العامة على إمامة الأئمة عليهم‌السلام ، ولذا فإنّه قال : «وعلى كلّ حال ، فهو حجّة في النصّ ، وتلك الأخبار متواترة من طريق العامة والخاصّة» (١).

والخلاصة : إنّه لا مجال لدعوى التواتر في أحاديث تحريف القرآن بهذا المعنى المتنازع فيه.

__________________

(١) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ٣ : ٤٣.

٨٨

الشبهة الثانية

اختلاف مصحف علي عليه‌السلام مع المصحف الموجود

وتفيد طائفة من أحاديث الشيعة (١) أنّ عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجمع القرآن العظيم ، وفي حديث رواه الشيخ علي بن إبراهيم القمي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في تفسيره : إنّ عمله ذاك كان بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، حتى روي أنّه عليه‌السلام لم يرتد رداءه إلّا للصلاة إلى أن فرغ من هذه المهمّة.

وأضافت تلك الأحاديث ـ ومنها الحديث الثالث من الأحاديث المتقدّمة وحديثان رواهما الشيخ أبو منصور الطبرسي في «الاحتجاج» ـ إنّه عليه‌السلام حمل ذاك المصحف الذي جمعه إلى الناس ، وأخبرهم بأنّه الذي نزل من عند الله سبحانه على النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الناس ردّوه وأعرضوا عنه زاعمين أنّهم في غنى عنه ، فعند ذلك قال الإمام عليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد اليوم.

والذي يستنتجه الناظر في هذه الأحاديث مخالفة ما جمعه الإمام عليه‌السلام مع القرآن الموجود ، ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ذلك المصحف لما حمله إليهم ، ولما دعاهم إلى تلاوته والأخذ به وجعله القرآن المتّبع لدى جميع المسلمين.

__________________

(١) وكذا روايات أهل السنّة ، لاحظ : أنساب الأشراف ١ : ٥٨٧ ، طبقات ابن سعد ٢ : ٣٣٨ ، الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٠٤ ، كنز العمال ٢ : ٥٨٨ وغيرها.

٨٩

ومن هنا تأتي الشبهة في هذا المصحف الذي بين أيدينا ، إذ لا يشك مسلم في أعلميّة الإمام عليه‌السلام بالكتاب ودرايته بحقائقه وأسراره ودقائقه.

ولكنّ هذه الشبهة تندفع ـ بعد التسليم بصحّة هذه الأخبار ـ بما ذكره جماعة من أنّ القرآن الكريم كان مجموعا على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن في عهده مبثوثا متفرقا هنا وهناك حتى يحتاج إلى جمع ، ويؤيد ذلك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأحاديث هو المخالفة بين المصحفين إجمالا ، وهي كما يحتمل أن تكون بالزيادة والنقصان في أصل الآيات والسور المنزلة ، كذلك يحتمل أن تكون :

أولا : بالاختلاف في الترتيب والتأليف ، كما يدلّ عليه الحديث في (الإرشاد) و (روضة الواعظين) وذهب إليه جماعة ، فقد قال السيد الطباطبائي : «إنّ جمعه عليه‌السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعية ، إلّا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزل نجوما ، بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

ولو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه ، كما روي عنه عليه‌السلام في موارد شتى ، ولم ينقل عنه عليه‌السلام فيما روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك ، وجبّههم على إسقاطها أو تحريفها» (١).

وثانيا : بالاختلاف بالزيادة والنقصان من جهة الأحاديث القدسيّة ، بأن يكون مصحف الإمام عليه‌السلام مشتملا عليها ، ومصحفهم خاليا عنها ، كما

__________________

(١) الميزان ١٢ : ١١٩.

٩٠

ذهب إليه شيخ المحدّثين الصدوق حيث قال : «وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية ، وذلك قول جبرئيل عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى يقول لك : يا محمد دار خلقي ، ومثل قوله : عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ، وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزّه كفّ الأذى عن الناس».

قال : «ومثل هذا كثير ، كلّه وحي وليس بقرآن ولو كان قرآنا لكان مقرونا به وموصولا إليه غير مفصول عنه ، كما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام جمعه ، فلما جاء به قال : هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم ، لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف ، قالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول : فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون» (١).

وثالثا : بالاختلاف بالزيادة والنقصان من جهة التأويل والتفسير ، بأن يكون مصحفه عليه‌السلام مشتملا على تأويل الآيات وتفسيرها ، والمصحف الموجود خال عن ذلك ، كما ذهب إلى ذلك جماعة.

قال الشيخ المفيد : «ولكنّ حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتا منزلا ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآنا ، قال الله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فسمّى تأويل القرآن قرآنا ، وهذا ما ليس فيه بين

__________________

(١) الاعتقادات : ٩٣.

٩١

أهل التفسير اختلاف ، وعندي أنّ هذا القول أشبه» (١).

وقال المحدّث الكاشاني : «ولا يبعد أيضا أن يقال : إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ، ولم يكن من أجزاء القرآن ، فيكون التبديل من حيث المعنى ، أي : حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله ، أعني : حملوه على خلاف ما هو به ، فمعنى قولهم عليهم‌السلام : (كذا أنزلت) أنّ المراد به ذلك ، لا أنّها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها ، فحذف منها ذلك اللفظ.

وممّا يدلّ على هذا ما رواه في (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ... الحديث.

وما رواه العامّة : إنّ عليا عليه‌السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ.

ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلّا من قبيل التفسير والبيان ، ولا يكون جزءا من القرآن ، فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضا كذلك» (٢).

وإلى ذلك ذهب السيد الخوئي (٣).

وقال الزنجاني : «ويظهر من بعض الروايات إنّ عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام كتب القرآن وقدّم المنسوخ والناسخ. خرّج ابن أشتة في المصاحف عن ابن سيرين : إنّ عليا عليه‌السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. وإن ابن سيرين قال : تطلبت ذلك وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. وقال ابن حجر : قد ورد

__________________

(١) أوائل المقالات في المذاهب المختارات ، وكذا قال في غيره كما سيأتي عن تاريخ القرآن.

(٢) الصافي ١ : ٤٦ ، علم اليقين : ١٣٠.

(٣) البيان : ١٩٧.

٩٢

عن علي عليه‌السلام أنّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرّجه ابن أبي داود.

وفي شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي : إنّ عليا عليه‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه ، فلم يخرج من بيته حتى جمعه كلّه ، وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.

ذكر الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المفيد في كتاب الإرشاد والرسالة السروية : إنّ عليا قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ ، وكتب في تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل.

يقول الشهرستاني في مقدّمة تفسيره : كان الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ متفقين على إنّ علم القرآن مخصوص لأهل البيت عليهم‌السلام إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟

فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه وتنزيله وتأويله مخصوص بهم» (١).

وقال بعض الأعلام من أهل السنّة : إنّ قرآن علي كان يشتمل على علم كثير (٢).

بل عن الإمام عليه‌السلام نفسه أنّه قال للزنديق : انّه أحضر الكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط

__________________

(١) تاريخ القرآن : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ٣.

٩٣

منه حرف» (١).

ويؤيّده : ما اشتهر من أن الذي جاءهم به كان مشتملا على جميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش (٢).

الشبهة الثالثة

القرآن في عهد الإمام المهدي عليه‌السلام

ومن الأحاديث المتقدّمة وغيرها ما يفيد : أنّ القرآن الكريم على عهد الإمام الحجّة المهديّ المنتظر عليه‌السلام يختلف عما هو عليه الآن ، وهذا يفضي ـ بلا ريب ـ إلى الشك في هذا القرآن الموجود.

ولكنّ هذه الشبهة أيضا مندفعة ، لعلمنا بضعف تلك الأحاديث ، ومخالفتها للكتاب والسنّة والإجماع.

على أنّ المستفاد من هذه الأحاديث إختلاف قراءة أهل البيت عليهم‌السلام مع القراءات المشهورة ، إلّا إنّهم كانوا يمنعون عن تلك القراءة ، ويأمرون شيعتهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس حتى يظهر المهدي عليه‌السلام (٣).

وبعد ، فليس لأصحاب الشبهة إلّا أن يزعموا أنّ القرآن على عهده عليه‌السلام هو نفس ما جمعه الإمام أمير المؤمنين ـ كما هو ظاهر بعض الأحاديث ـ إذ القول بأنّه غيره باطل قطعا ، فالشبهة هذه إذا مبتنية على الشبهة السابقة ، وهي

__________________

(١) الصافي ١ : ٤٢.

(٢) بحر الفوائد ٩٩ عن شرح الوافية.

(٣) نصّ على ذلك فقهاؤنا ـ رضي الله تعالى عنهم ـ في موسوعاتهم الفقهية في مبحث القراءة من كتاب الصلاة ، ولهم هناك بحوث طويلة.

٩٤

مندفعة باندفاعها.

فالصحيح أنّ القرآن في عهده لا يختلف عن هذا القرآن الموجود من حيث الألفاظ ، وعلى ذلك علماؤنا ـ رضي الله عنهم ـ بل قد صرّح شارح «الكافي» بأنّه : «يظهر القرآن بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر ويشهر به» (١).

الشبهة الرابعة

كائن في هذه الامّة ما كان في الامم السالفة

إنّ التحريف قد وقع في التوراة والإنجيل ، وقد ورد في الأحاديث عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه : «كائن في امته ما كان في الامم السالفة» بل قال المحدّث العاملي ـ بعد أن روى طرفا من تلك الأحاديث عن أكابر المحدّثين كالصدوق والكليني ـ : «والأحاديث في ذلك كثيرة متواترة بين الشيعة والسنّة» (٢).

وقال السيد الطباطبائي : «هي متضافرة أو متواترة» (٣).

ومقتضى المماثلة المذكورة ينبئ عن وقوع التحريف في القرآن الكريم كما وقع في العهدين ، وهذا يوجب الشك في هذا القرآن الموجود بين المسلمين.

وقد أجاب السيد الخوئي (٤) عن هذه الشبهة بوجوه نلخصها ونتكلم عليها فيما يلي :

__________________

(١) الفصول المهمّة للسيد شرف الدين : ١٦٦.

(٢) الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة : ١١١.

(٣) الميزان ١٢ : ١٢٠.

(٤) البيان : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٩٥

الأول : «إنّ هذه الأحاديث أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا ، ودعوى التواتر فيها جزافية لا دليل عليها ، ولم يذكر من هذه الروايات شيء في الكتب الأربعة».

أقول : ولكنّ إنكار تواتر هذه الأحاديث لا يفيد في دفع الشبهة.

وقوله : «لم يذكر ...» :

فيه : إنّ منها ما أخرجه الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) ، فقد جاء فيه في باب فرض الصلاة : «وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يكون في هذه الامة كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة» (١).

الثاني : لو سلّم تواتر هذه الأحاديث في السّند وصحّتها في الدلالة لما ثبت بها أنّ التحريف قد وقع فيما مضى من الزمن ، فلعلّه يقع في المستقبل زيادة ونقيصة.

أقول : ولكن تجويز وقوع ذلك سواء في الماضي أو المستقبل ، ينافي ما تقدّم من الأدلّة القويمة والشواهد الرصينة على امتناعه ، لا سيّما وإن الله سبحانه قد وعد وضمن حفظ القرآن إلى يوم القيامة.

الثالث : إنّ المراد بالمماثلة والمشابهة ليس من جميع الوجوه ، وإنّما المراد بها المماثلة من بعض الوجوه.

أقول : وبهذا الجواب اكتفى السيد الطباطبائي (٢) وهو الصحيح ، فإنّ كثيرا من القضايا التي وقعت في الامم السالفة لم تقع في هذه الامة ، وبعضها لن يقع أصلا ، ومنها ما سيقع في المستقبل قطعا.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٠٣.

(٢) الميزان ١٢ : ١٢٠.

٩٦

الفصل الخامس

الرواة لأحاديث التحريف من الشيعة

٩٧
٩٨

مقدّمات

لقد كان بحثنا حتى الآن يدور حول الأحاديث التي وردت في كتب الشيعة الإمامية ، وهي تفيد ـ بظاهرها ـ تحريف القرآن ، بمعنى نقصانه وضياع شيء ممّا نزل على النبي.

والآن يجدر بنا أن ننظر في الكتب التي أخرجت تلك الأحاديث فيها ، والعلماء الذين رووها ، لنرى مدى صحّة التمسّك بهذه الأحاديث من هذه الجهة.

وقبل الخوض في البحث يجب أن ننبّه على امور :

١ ـ الرواية أعم من الاعتقاد

الأوّل : إنّ رواية الخبر مطلقا أعمّ من قبوله والاعتقاد بمضمونه ، فقد عني محدّثو الشيعة منذ القرون الاولى بجمع الروايات الواصلة إليهم عن الأئمة ، وتبويبها وتنظيمها ، صونا لها من الضياع والنسيان وما شابه ذلك ، من غير نظر في متونها وأسانيدها ، ولذا تجد في روايات الواحد منهم ما يعارض ما رواه الآخر ، بل تجد ذلك في أخبار الكتابين بل الكتاب الواحد للمؤلّف الواحد ، وترى المحدّث يروي في كتابه الحديثي خبرا ينصّ على عدم قبول مضمونه في كتابه الفقهي أو الاعتقادي ، لذلك ، فالرواية أعمّ من القبول والتصديق بالمضمون.

فلا يجوز نسبة مطلب إلى راو أو محدّث بمجرد روايته أو نقله لخبر يدلّ على ذاك المطلب ، إلّا إذا نصّ على الاعتقاد به أو أورده في كتاب التزم بصحّة أخباره ،

٩٩

أو ذكره في كتاب صنّفه في بيان اعتقاداته أو فتاواه.

وهل يوجد عند الشيعة كتاب التزم فيه مؤلّفه بالصحّة من أوّله إلى آخره؟ الجواب : لا ، وهذا هو الأمر :

٢ ـ لا كتاب عند الشيعة صحيح كلّه

الثاني : إنّه لا يوجد كتاب واحد من بين كتب الشيعة وصفت أحاديثه جميعها بالصحّة ، وقوبلت بالتسليم والقبول لدى الفقهاء والمحدّثين ، ولذا نجد أنّ أحاديث الشيعة ـ وحتى الواردة في الكتب الأربعة (١) التي عليها المدار في استنباط الأحكام الشرعية ـ قد تعرّضت لنقد علماء الرجال وأئمّة الجرح والتعديل ، فكل خبر اجتمعت فيه شرائط الصحّة ، وتوفّرت فيه مقتضيات القبول اخذ به ، وكلّ خبر لم يكن بتلك المثابة ردّ ، أيا كان مخرجه وراويه والكتاب الذي اخرج فيه (٢).

ولنأخذ مثالا على ذلك كتاب (الكافي) (٣) ، الذي هو أهمّ الكتب الأربعة وأوثقها لدى هذه الطائفة ، وهو الذي أثنى عليه العلماء والمحدّثون والفقهاء وتلقّوه بيد الاحترام والتعظيم ، فإنّ العلماء وزّعوا أحاديثه وهي (١٦١٩٩) حديثا على أساس تصنيف الأحاديث إلى الأقسام الخمسة (٤).

__________________

(١) هي : الكافي للكليني ، من لا يحضره الفقيه للصدوق ، التهذيب والاستبصار للطوسي.

(٢) مقباس الهداية في علم الرواية للمامقاني ط مع تنقيح المقال ، ثم نشره بتحقيقه حفيده العلامة الشيخ محمد رضا.

(٣) يقع في ثمانية أجزاء : اثنان منها في الاصول ، وخمسة منها في الفروع والثامن الروضة.

(٤) وهي على أقسام ، ويراجع للوقوف على تعريف كل قسم واقسامه كتب الدراية لدى الشيعة ككتاب الدراية للشيخ الشهيد الثاني ، والوجيزة للشيخ البهائي وشروح الوجيزة ، ومقباس الهداية لشيخنا الجدّ المامقاني وغيرها.

١٠٠