التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٠

حق حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (١).

وقول الإمام الهادي عليه‌السلام : «... فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل ، فوجد لها موافقا وعليه دليلا ، كان الاقتداء بها فرضا لا يتعداه إلّا أهل العناد ...» (٢).

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ...» (٣).

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «... ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة ...» (٤).

فهذه الأحاديث ونحوها تدلّ على أنّ القرآن الموجود الآن هو نفس ما أنزله الله عزوجل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من غير زيادة ولا نقصان ، لانّه لو لم يكن كذلك لم يمكن أن يكون القرآن مرجعا للمسلمين يعرضون عليه الأحاديث التي تصل إليهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيعرف بذلك الصحيح ويؤخذ به ، والسقيم فيعرض عنه ويترك.

__________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق : ٣٦٧.

(٢) تحف العقول : ٣٤٣.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٨٤.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥.

٤١

القسم الثاني

خطبة الغدير

وإنّ من حقائق التاريخ واقعة غدير خم ... وخطبة النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم العظيم ... غير أنّا لم نعثر على رواية كاملة لخطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا في كتاب (الاحتجاج) ... وفي هذه الخطبة أمر بتدبّر القرآن والرجوع في تفسيره إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال :

«معاشر الناس تدبّروا القرآن ، وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته ، ولا تتّبعوا متشابهه. فو الله لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضّح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إليّ وشائل بعضده ومعلمكم أنّ : من كنت مولاه فهذا علي مولاه. وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيّي. وموالاته من الله عزوجل أنزلها عليّ» (١).

إن أمر المسلمين بتدبّر القرآن وفهم آياته والأخذ بمحكماته دون متشابهاته يستلزم أن يكون القرآن مؤلّفا مجموعا موجودا في متناول أيديهم ، بمحكماته ومتشابهاته. غير أنهم مأمورون ـ للوقوف على أحكامه التفصيلية وأسراره ودقائقه التي لا تبلغها العقول ـ بالرجوع إلى خليفته ووصيّه وتلميذه أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين من ولده عليهم‌السلام.

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦٠.

٤٢

القسم الثالث

حديث الثقلين

ولم تمرّ على النبي الكريم والقائد العظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرصة إلّا وانتهزها للوصيّة بالكتاب والعترة الطاهرة ، والأمر باتّباعهما والانقياد لهما والتمسّك بهما.

لذا تواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث الثقلين الذي رواه جمهور علماء المسلمين بأسانيد متكثرة متواترة ، وألفاظ مختلفة متنوعة ، عن أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية ، وأحد ألفاظه :

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا ...» (١).

وهذا يقتضي أن يكون القرآن الكريم مدوّنا في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) حديث الثقلين من جملة الأحاديث التي لا يشك مسلم في صدورها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقد رواه عنه أكثر من ثلاثين من الصحابة ، وأورده من علماء أهل السنّة ما يقارب ال ٥٠٠ شخصية من مختلف طبقاتهم منذ زمن التابعين حتى عصرنا الحاضر من مؤرخين ومفسرين ومحدّثين وغيرهم.

وهذا الحديث يدل بوضوح على عصمة الأئمة من العترة ووجوب إطاعتهم وامتثال أوامرهم والاهتداء بهديهم في الامور الدينية والدنيوية ، والأخذ بأقوالهم في الأحكام الشرعية وغيرها. كما يدل على بقائهم وعدم خلو الأرض منهم إلى يوم القيامة كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن.

وقد بحثنا عن هذا الحديث سندا ودلالة في ثلاثة أجزاء من كتابنا الكبير (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار) الذي طبع منه حتى الآن ١٢ جزء.

٤٣

وسلّم بجميع آياته وسوره حتى يصح إطلاق اسم الكتاب عليه ، ولذلك تكرّر ذكر الكتاب في غير واحد من سورة الشريفة.

كما أنّه يقتضي بقاء القرآن كما كان عليه ـ على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى يوم القيامة ، لتتمّ به ـ وبالعترة ـ الهداية الأبدية للامة الإسلامية والبشرية جمعاء ، ما داموا متمسكين بهما ، كما ينصّ عليه الحديث الشريف بألفاظه وطرقه ، وإلّا لزم القول بعدم علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيكون في امته ، أو إخلاله بالنصح التام لأمته ، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.

القسم الرابع

الأحاديث الواردة في ثواب

قراءة السور في الصلوات وغيرها

وقد وردت طائفة من الأحاديث في فضيلة قراءة سور القرآن الكريم في الصلوات وغيرها ، وثواب ختم القرآن وتلاوته في شهر رمضان وغير ذلك ، فلو لا أنّ سور القرآن وآياته مجموعة مؤلّفة ومعلومة لدى المسلمين لما تمّ أمرهم بذلك.

ولو كان قد تطرق النقصان في ألفاظ القرآن لم يبق مجال للاعتماد على شيء من تلك الأحاديث والعمل بها من أجل الحصول على ما تفيده من الأجر والثواب ، لاحتمال أن تكون كلّ سورة أو كلّ آية محرفة عما كانت نازلة عليه.

ومن تلك الأحاديث :

قول الإمام الباقر عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٤٤

«من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار ...» (١).

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «من أوتر بالمعوّذتين وقل هو الله أحد ، قيل له : يا عبد الله أبشر فقد قبل الله وترك» (٢).

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «... وعليكم بتلاوة القرآن ، فإن درجات الجنّة على عدد آيات القرآن ، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ، فكلّما قرأ آية رقى درجة ...» (٣).

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربك الأعلى ... فإذا فعل ذلك فإنما يعمل بعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنة» (٤).

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «من ختم القرآن بمكة من جمعة إلى جمعة وأقل من ذلك وأكثر ، وختمه يوم الجمعة ، كتب الله له من الأجر والحسنات من أول جمعة كانت إلى آخر جمعة تكون فيها ، وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك» (٥).

إلى غير ذلك من الأحاديث وما أكثرها ، وقد ذكر الفقهاء ـ رضي الله

__________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق : ٥٩ ـ ٦٠ ، الكافي ٢ : ٤٤٨.

(٢) الأمالي للشيخ الصدوق : ٦٠ ، ثواب الاعمال للشيخ الصدوق ١٥٧.

(٣) الأمالي ٣٥٩.

(٤) ثواب الأعمال : ١٤٦.

(٥) ثواب الأعمال : ١٢٥.

٤٥

تعالى عنهم ـ تفصيل ما يستحب أن يقرأ في الصلوات الخمس من سور القرآن (١).

كما روى الشيخ الصدوق ـ رحمه‌الله تعالى ـ ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن بحسب الأحاديث الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام (٢).

وبهذا القسم من الأحاديث استدلّ بعض أكابر الإمامية كالشيخ الصدوق على ما ذهب إليه من عدم تحريف القرآن (٣).

القسم الخامس

الأحاديث الآمرة بالرجوع إلى القرآن الكريم واستنطاقه

وهي كثيرة جدّا ، نكتفي هنا منها بما جاء في كتب وخطب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قال عليه‌السلام في خطبة له ينبّه فيها على فضل الرسول والقرآن :

«أرسله على حين فترة من الرّسل ، وطول هجعة من الامم وانتقاض من المبرم ، فجاءهم بتصديق الذي بين يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن.

فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم» (٤).

وقال عليه‌السلام :

«واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ٩ : ٤٠٠ ـ ٤١٦.

(٢) ثواب الاعمال : ١٣٠ ـ ١٥٨.

(٣) الاعتقادات للشيخ الصدوق : ٩٣.

(٤) نهج البلاغة : ٢٢٣ / ١٥٨.

٤٦

يضلّ ، والمحدّث الذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى أو نقصان في عمى ، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال ، فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبه ، ولا تسألوا به خلقه ، إنّه ما توجه العباد إلى الله بمثله.

واعلموا أنّه شافع مشفّع ، وقائل مصدّق ، وإنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه ، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدّق عليه ، فإنّه ينادي مناد يوم القيامة : ألا إنّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله ، غير حرثة القرآن ، فكونوا من حرثته وأتباعه ، واستدلّوه على ربكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم» (١).

وقال عليه‌السلام في كتاب له إلى الحارث الهمداني رضي الله عنه :

«وتمسّك بحبل القرآن واستنصحه ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ...» (٢).

وقال عليه‌السلام :

«ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوؤه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وحقا لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا

__________________

(١) نهج البلاغة ٢٠٢ / ١٧٦.

(٢) نهج البلاغة ٤٥٩ / ٦٩.

٤٧

يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها القاصدون ، جعله الله ريا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزا لمن تولّاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به ، وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى» (١).

وقال عليه‌السلام : «فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه ، أخذ عليهم ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم ، أتم نوره ، وأكمل به دينه ، وقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه ، فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه ، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلّا وجعل له علما باديا ، وآية محكمة ، تزجر عنه أو تدعو إليه ...» (٢).

فهذه الكلمات البليغة وأمثالها تنصّ على أنّ الله تعالى جعل القرآن الكريم نورا يستضاء به ، ومنهاجا يعمل على وفقه ، وحكما بين العباد ، ومرجعا في المشكلات ، ودليلا عند الحيرة ، ومتبعا عند الفتنة.

وكل ذلك يقتضي أن يكون ما بأيدينا من القرآن هو نفس القرآن الذي نزل على الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرفه أمير المؤمنين وسائر الأئمّة والصحابة والمسلمون أجمعون.

__________________

(١) نهج البلاغة ٣١٥ / ١٩٨.

(٢) نفس المصدر ٢٦٥ / ١٨٣.

٤٨

القسم السادس

الأحاديث التي تتضمن تمسّك الأئمّة

من أهل البيت بمختلف الآيات القرآنية المباركة

وروى المحدّثون من الإماميّة أحاديث متكاثرة جدّا عن الأئمّة الطاهرين تتضمن تمسّكهم بمختلف الآيات عند المناظرات وفي كل بحث من البحوث ، سواء في العقائد أو الأحكام أو المواعظ والحكم والأمثال ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم الحديثيّة وغيرها ، وعلى رأسها كتاب (الكافي).

فهم عليهم‌السلام تمسّكوا بالآيات القرآنية «في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا ، حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف ، وهذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم عليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل» (١).

القسم السابع

الأحاديث الواردة عنهم عليهم‌السلام في

أنّ ما بأيدي الناس هو القرآن النازل من عند الله

وصريح جملة من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت ، أنهم عليهم‌السلام كانوا يعتقدون في هذا القرآن الموجود بأنّه هو النازل من عند الله سبحانه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الأحاديث كثيرة ننقل هنا بعضها :

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٢ : ١١١.

٤٩

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

«كتاب ربّكم فيكم ، مبيّنا حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّرا مجمله ، ومبيّنا غوامضه ، بين مأخوذ ميثاق في علمه ، وموسّع على العباد في جهله ، وبين مثبت في الكتاب فرضه ، ومعلوم في السنّة نسخه ، وواجب في السنّة أخذه ، ومرخّص في الكتاب تركه ، وبين واجب بوقته ، وزائل في مستقبله ، ومباين بين محارمه ، من كبير أوعد عليه نيرانه ، أو صغير أرصد له غفرانه ، وبين مقبولة في أدناه ، موسّع في أقصاه» (١).

وقال عليه‌السلام : «أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه وأدائه؟ والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقال : فيه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تكشف الظلمات إلّا به» (٢).

وعن الريان بن الصلت قال : «قلت للرضا عليه‌السلام يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

فقال : كلام الله ، لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا» (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة ٤٤ / ١.

(٢) نهج البلاغة ١٦ / ١٨.

(٣) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ٢ : ٥٧. الأمالي ٥٤٦.

٥٠

وجاء فيما كتبه الإمام الرضا عليه‌السلام للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين :

«وإنّ جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين ، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه.

والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وأنه المهيمن على الكتب كلّها ، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته ، نؤمن بمحكمه ومتشابهه ، وخاصّه وعامّه ، ووعده ووعيده ، وناسخه ومنسوخه ، وقصصه وأخباره ، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله» (١).

وعن علي بن سالم عن أبيه قال : «سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام فقلت له : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

فقال : هو كلام الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ووحي الله وتنزيله ، وهو الكتاب العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)» (٢).

(٣)

قول عمر بن الخطاب : حسبنا كتاب الله

ومن الرزايا العظيمة والكوارث الفادحة التي قصمت ظهر المسلمين وأدّت

__________________

(١) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ٢ : ١٣٠.

(٢) الأمالي : ٥٤٥.

٥١

إلى ضلال أكثرهم عن الهدى الذي أراده لهم الله ورسوله ، ذلك الخلاف الذي حدث عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف ، بين صحابته الحاضرين عنده في تلك الحال.

ومجمل القضية هو : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حضرته الوفاة وعنده رجال من صحابته ـ فيهم عمر بن الخطاب ـ قال : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده ، وفي لفظ آخر : ائتوني بالكتف والدواة ـ أو : اللوح والدواة ـ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا.

فقال عمر : إنّ النبي قد غلب عليه الوجع (١) ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله.

وفي لفظ آخر : فقالوا : إنّ رسول الله يحجر. ـ من دون تصريح باسم المعارض ـ!

فاختلف الحاضرون ، منهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر!

فلما أكثروا ذلك عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم : قوموا عنّي (٢).

ولسنا نحن الآن بصدد محاسبة هذا الرجل على كلامه هذا الذي غيّر مجرى التأريخ ، وحال دون ما أراده الله والرسول لهذه الامة من الخير والصلاح والرشاد ، إلى يوم القيامة ، حتى أنّ ابن عباس كان يقول :

__________________

(١) قال سيدنا شرف الدين : «وقد تصرّفوا فيه : فنقوله بالمعنى ، لأنّ لفظه الثابت : إنّ النبي يهجر. لكنهم ذكروا أنّه قال : إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، تهذيبا للعبارة ، واتقاء فظاعتها ...» النصّ والاجتهاد : ١٤٣.

(٢) راجع جميع الصحاح والمسانيد والتواريخ والسير وكتب الكلام ، تجد القضية باختلاف ألفاظها وأسانيدها.

٥٢

«يوم الخميس وما يوم الخميس» ثم يبكي (١).

وكان رضي الله عنه يقول :

«إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابه» (٢).

وإنّما نريد الاستشهاد بقوله : «إن عندنا القرآن ، حسبنا كتاب الله» الصريح في وجود القرآن عندهم مدوّنا مجموعا حينذاك ، ويدل على ذلك أنّه لم يعترض عليه أحد ـ لا من القائلين قرّبوا يكتب لكم النبي كتابا ، ولا من غيرهم ـ بأنّ سور القرآن وآياته متفرقة مبثوثة ، وبهذا تم لعمر بن الخطاب والقائلين مقالته ما أرادوا من الحيلولة بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابة الوصيّة.

(٤)

الإجماع

ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن : إجماع العلماء في كل الأزمان كما في كشف الغطاء وفي كلام جماعة من كبار العلماء ، وهو ظاهر كلمة «إلينا» أي «الإمامية» في قول الشيخ الصدوق «ومن نسب إلينا ... فهو كاذب».

وقال العلّامة الحلّي : «واتّفقوا على أنّ ما نقل إلينا متواترا من القرآن ، فهو حجة ... لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مكلّفا بإشاعة ما نزل عليه من

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١١٨.

(٢) نفس المصدر ج ١ كتاب العلم ، باب كتابة العلم.

٥٣

القرآن إلى عدد التواتر ، ليحصل القطع بنبوّته في أنّه المعجزة له. وحينئذ لا يمكن التوافق على ما نقل مما سمعوه منه بغير تواتر ، وراوي الواحد إن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ ... والإجماع دلّ على وجوب إلقائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عدد التواتر ، فإنه المعجزة الدالّة على صدقه ، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته ، فلا يبقى هناك حجّة على نبوّته» (١).

وقال السيّد العاملي : «والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل القرآن من أجزائه وألفاظه وحركاته وسكناته ووضعه في محلّه ، لتوفّر الدواعي على نقله من المقر لكونه أصلا لجميع الأحكام ، والمنكر لإبطاله لكونه معجزا. فلا يعبأ بخلاف من خالف أو شك في المقام» (٢).

وقال الشيخ البلاغي : «ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل ، استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد ، فلم يؤثّر شيئا على مادّته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم» (٣).

ومن المعلوم أنّ الإجماع حجّة لدى المسلمين ، أمّا عند الإمامية فلأنّه كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام (٤) بل عدم النقصان من الضروريّات كما في كلام السيد المرتضى ، وقد نقل بعض الأكابر عباراته ووافقه على ما قال.

__________________

(١) نهاية الوصول ـ مبحث التواتر.

(٢) مفتاح الكرامة ٢ : ٣٩٠.

(٣) آلاء الرحمن ـ الفصل الثالث من المقدمة.

(٤) يراجع بهذا الصدد كتب اصول الفقه.

٥٤

(٥)

تواتر القرآن

ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن تواتره من طرق الإماميّة بجميع حركاته وسكناته ، وحروفه وكلماته ، وآياته وسوره ، تواترا قطعيا عن الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام عن جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

فهم يعتقدون بأن هذا القرآن الموجود بأيدينا هو المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا زيادة ولا نقصان. قال الصّدوق : «اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفّتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة ...».

(٦)

إعجاز القرآن

ومن الأدلّة على عدم التحريف هو : أنّ التحريف ينافي كون القرآن معجزا ، لفوات المعنى بالتحريف ، لأنّ مدار الإعجاز هو الفصاحة والبلاغة الدائرتان

__________________

(١) أجوبة مسائل جار الله لشرف الدين ، مجمع البيان عن السيد المرتضى.

٥٥

مدار المعنى ، ومن المعلوم أنّ القرآن معجز باق.

وهذه عبارة «بشرى الوصول» في الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها على عدم تحريف القرآن.

وقد جاءت الإشارة إلى هذا الوجه في كلام السيد المرتضى حيث قال في استدلاله : «لأنّ القرآن معجزة النبوّة» وفي كلام العلّامة الحلّي :

«إنّ القول بالتحريف يوجب التطرّق إلى معجزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنقولة بالتواتر».

وفي كلام كاشف الغطاء : «إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ...».

(٧)

صلاة الإمامية

ومن الأدلّة على اعتقاد الإماميّة بعدم سقوط شيء من القرآن الكريم : صلاتهم ، لأنّهم يوجبون قراءة سورة كاملة (١). بعد الحمد في الركعة الاولى والثانية (٢) من الصلوات الخمس اليوميّة من سائر سور القرآن عدا الفاتحة ، ولا

__________________

(١) أجوبة مسائل جار الله ، وهذا هو المشهور بين الفقهاء ،؟؟؟ جماعة عليه الإجماع ، أنظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٥٠.

(٢) أما في الثالثة والرابعة فهو بالخيار إن شاء قرأ الحمد وان؟؟؟ إجماعا ، وإن اختلفوا في أفضليّة أحد الفردين.

٥٦

يجوز عند جماعة كبيرة منهم القران بين سورتين (١).

قال السيد شرف الدين :

«وصلاتهم بهذه الكيفيّة والأحكام دليل ظاهر على اعتقادهم بكون سور القرآن بأجمعها زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما هي عليه الآن ، وإلّا لما تسنّى لهم هذا القول» (٢).

(٨)

كون القرآن مجموعا على عهد النبي (ص)

ومن الأدلّة على عدم وجود النقص في القرآن ثبوت كونه مجموعا على عهد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، موجودا كذلك بين المسلمين كما يدل على ذلك كثير من الأخبار في كتب الفريقين ، ومن ذلك أخبار أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقراءة القرآن وتدبّره وعرض ما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه ... وقد تقدم بعضها ، وإنّ جماعة من الصحابة ختموا القرآن على عهده ، وتلوه ، وحفظوه ، يجد أسماءهم من راجع كتب علوم القرآن ، وإنّ جبرئيل كان يعارضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به كل عام مرة ، وقد عارضه به عام وفاته

__________________

(١) جواهر الكلام والرياض وغيرهما. وقد ذكر جماعة من قدماء الفقهاء والمفسرين استثناء سورتي (الضحى وأ لم نشرح) وسورتي (الفيل والإيلاف) من هذا الحكم ، مصرّحين بوجوب قران كل سورة منها بصاحبتها. أنظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٨٥.

(٢) أجوبة مسائل جار الله : ٢٨.

٥٧

مرتين (١).

وكل هذا الذي ذكرنا دليل واضح على أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي كان بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته على عهده فما بعد ، من غير زيادة ولا نقصان.

وقد ذكر هذا الدليل جماعة.

(٩)

اهتمام النبي (ص) والمسلمين بالقرآن

وهل يمكن لأحد من المسلمين إنكار اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن؟!

لقد كان حريصا على نشر سور القرآن بين المسلمين بمجرد نزولها ، مؤكدا عليهم حفظها ودراستها وتعلّمها ، مبينا لهم فضل ذلك وثوابه وفوائده في الدنيا والآخرة.

فحثّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترغيبه بحفظ القرآن في الصدور والقراطيس ونحوها ، وأمره بتعليمه وتعلّمه رجالا ونساء وأطفالا ، مما ثبت بالضرورة بحيث لا يبقى مجال لإنكار المنكر وجدال المكابر.

وأمّا المسلمون ، فقد كانت الدواعي لديهم لحفظ القرآن والعناية به

__________________

(١) روى ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع الكتب الحديثيّة وغيرها ، حتى كاد يكون من الأمور الضرورية.

٥٨

متوفّرة ، ولذا كانوا يقدّمونه على غيره في ذلك ، لأنّه معجزة النبوة الخالدة ومرجعهم في الأحكام الشرعيّة والامور الدينيّة ، فكيف يتصور سقوط شيء منه والحال هذه؟!

نعم ، قد يقال : إنّه كما كانت الدواعي متوفّرة لحفظ القرآن وضبطه وحراسته ، كذلك كانت الدواعي متوفّرة على تحريفه وتغييره من قبل المنافقين وأعداء الإسلام والمسلمين ، الذين خابت ظنونهم في أن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو آية من آياته.

ولكن لا مجال لهذا الاحتمال بعد تأييد الله سبحانه المسلمين في العناية والاهتمام بالقرآن ، وتعهّده بحفظه بحيث (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

٥٩
٦٠