التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٠

يدّعي حروفا كثيرة ...» (١).

ولقد نسب هذا القول إلى الحشوية من أهل السنّة والجماعة ـ وهم أصحاب أبي الحسن البصري ـ فإنّهم ذهبوا إلى وقوع التحريف في القرآن تغييرا ونقصانا (٢).

وفي كلام النحّاس : إنّ العلماء تنازعوا حديث عائشة في الرضاع ، فردّه جماعة وصحّحه آخرون ، قال :

«وأمّا قول من قال : إنّ هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فعظيم ...» وستأتي عبارته كاملة.

ومن الواضح : أنّه إذا كان يقرأ بعد وفاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في أصل القرآن وأنّه لا نسخ بعده ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالإجماع ... فهو إذا ساقط من القرآن ، فالقرآن محرّف ... ومن ثمّ استعظم النّحّاس هذا القول.

وأمّا توجيه البيهقي لهذا الحديث : فإقرار منه بأنّ هذا كان من القرآن حتى بعد وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكان المسلمون يتلونه في أصل القرآن.

وزعمه : أنّ الآية كانت منسوخة على عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنّ الّذين كانوا يتلونها لم يبلغهم النسخ ، عار عن الصحّة ولا دليل يدلّ عليه ، على أنّا نقطع بأنّه كما كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ينشر سور القرآن وآياته ويأمر بقراءتها بمجرّد نزولها ، فإنّه كان عليه ـ على فرض وجود النسخ بصورة عامّة ـ أن يذيع ذلك بين الامّة ويبلّغهم جميعا ليطّلع الكلّ على ذلك ، كما

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٨١ ـ ٨٢.

(٢) مجمع البيان وغيره.

٢٢١

كان يفعل بالنسبة إلى نشر الآيات والسور النازلة.

على أنّ كلامه يستلزم أن تكون الآية من القرآن وأن لا تكون منه في وقت واحد ، وهو باطل ... وسيأتي مزيد بحث حوله في «الفصل الرابع».

وقال الشعراني (١) : «ولو لا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان» (٢).

وقال الزرقاني ـ في بيان الأقوال في معنى حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ ما نصّه : «وهو : أنّ المراد بالأحرف : السبعة أوجه من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد ، وإن شئت فقل : سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد ، نحو : هلمّ وأقبل وتعال وعجّل وأسرع وقصدي ونحوي ، فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد هو : طلب الإقبال.

وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث ، منهم : سفيان ، وابنه وهب ، وابن جرير الطبري ، والطحاوي».

قال : «إنّ أصحاب هذا القول ـ على جلالة قدرهم ونباهة شأنهم ـ قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق ، لأنّ ترويجهم لمذهبهم اضطرّهم إلى أن يتورّطوا في امور خطرها عظيم ، إذ قالوا : إنّ الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل عليها القرآن ، أمّا الستّة الاخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود البتّة ، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوّعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم.

ثمّ حاولوا أن يؤيّدوا ذلك فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف السّتة التي

__________________

(١) الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني ، من فقهاء الحنفية ومن علماء المتصوّفين ، له مؤلفات كثيرة في الحديث والمواعظ والتراجم وغيرها من العلوم ، توفّي سنة ٩٧٣ ، وله ترجمة في الشذرات ٨ : ٣٧٢ وغيرها.

(٢) الكبريت الاحمر ـ المطبوع على هامش اليواقيت والجواهر : ١٤٣.

٢٢٢

يقولون بضياعها نسخا ولا رفعا ، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة اخرى هي : دعوى إجماع الامّة على أن تثبت على حرف واحد وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه من الأحرف الستّة ، وأنّى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟!

هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة وهي : القول بأنّ استنساخ المصاحف في زمن عثمان ـ رضي الله عنه ـ كان إجماعا عن الامّة على ترك الحروف الستّة والاقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان المصاحف عليه.

إلّا إنّ هذه ثغرة لا يمكن سدّها ، وثلمة يصعب جبرها ، وإلّا فكيف يوافق أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على ضياع ستّة حروف نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنّها لم تنسخ ولم ترفع؟!

وقصارى القول : إنّنا نربأ بأصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يكونوا قد وافقوا أو فكّروا فضلا عن أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستّة دون نسخ لها ، وحاشا عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعّمه ...» (١).

قلت : ومثل هذا كثير ، يجده المتتبّع لكلماتهم وآرائهم في كتب الفقه والحديث والتفسير والقراءات.

وعن الثوري (٢) أنّه قال : «بلغنا أنّ ناسا من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانوا يقرءون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من

__________________

(١) مناهل العرفان ١ : ٢٤٤.

(٢) سفيان بن سعيد الثوري ، الملقّب عندهم ب «أمير المؤمنين في الحديث» والموصوف ب «سيّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى» وغير ذلك. انظر ترجمته في حلية الأولياء ٦ : ٣٥٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ١١١ ، تاريخ بغداد ٩ : ١٥١ ، وغيرها.

٢٢٣

القرآن» (١).

وقال ابن الخطيب في كتابه (الفرقان) (٢) تحت عنوان «لحن الكتّاب في المصحف» : «وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) وقوله عزّ من قائل : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وقوله جلّ وعزّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ). فقالت : هذا من عمل الكتّاب ، أخطئوا في الكتاب.

وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي خلف ـ مولى بني جمح ـ أنّه دخل على عائشة فقال : جئت أسألك عن آية في كتاب الله تعالى كيف يقرؤها رسول الله؟ قالت : أيّة آية؟ قال : الّذين يأتون ما أتوا. أو : الّذين يؤتون ما آتوا! قالت : أيّهما أحبّ إليك؟ قال : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعا. قالت : أيّتهما؟ قال : الّذين يأتون ما أتوا. فقالت : أشهد أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كذاك كان يقرأها وكذلك انزلت ، ولكنّ الهجاء حرّف.

وعن سعيد بن جبير ، قال : في القرآن أربعة أحرف لحن : والصّابئون.

__________________

(١) الدرّ المنثور ٥ : ١٧٩.

(٢) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٦٧ ـ ١٩٤٨ ، وصاحبه من الكتاب المصريّين المعاصرين ، وهو يشتمل على بحوث قرآنية في فصول تناول فيها بالبحث مسألة القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، ورسم المصحف وكتابته ، وترجمة القرآن إلى اللغات. إلى غير ذلك ، وله في هذا الكتاب آراء وأفكار أهمّها كثرة الخطأ في القرآن ووجوب تغيير رسمه وجعل ألفاظه كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان ، فطلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب ، فاستجابت له وصادرته ، وسنذكر رأينا في خصوص ما ذكره حول خطأ الكتّاب ، في بحوثنا الآتية.

٢٢٤

والمقيمين. فأصّدّق وأكن من الصالحين. إنّ هذان لساحران.

وقد سئل أبان بن عثمان كيف صارت : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب؟ قال : من قبل الكاتب ، كتب ما قبلها ثمّ سأل المملي : ما أكتب؟ قال : اكتب المقيمين الصلاة ، فكتب ما قيل له لا ما يجب عربيّة ويتعيّن قراءة.

وعن ابن عبّاس في قول تعالى : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) قال : إنّما هي خطأ من الكاتب ، حتى تستأذنوا وتسلّموا.

وقرأ أيضا : أفلم يتبيّن الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. فقيل له : إنّها في المصحف : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ)؟ فقال : أظنّ أن الكاتب قد كتبها وهو ناعس.

وقرأ أيضا : ووصّى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وكان يقول : إنّ الواو قد التزقت بالصاد.

وعن الضحّاك : إنّما هي : ووصّى ربّك ، وكذلك كانت تقرأ وتكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مدادا كثيرا فالتزقت الواو بالصاد ، ثمّ قرأ : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ). (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ). وقال : لو كانت «قضى» من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ تعالى. ولكنّها وصيّة أوصى بها عباده.

وقرأ ابن عبّاس أيضا : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء. ويقول : خذوا الواو من هنا واجعلوها هاهنا عند قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ

٢٢٥

الْوَكِيلُ) يريد بذلك أن تقرأ : والّذين قال لهم الناس.

وقرأ أيضا : مثل نور المؤمن كمشكاة ، وكان يقول : هي خطأ من الكاتب ، هو تعالى أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة.

وذكر ابن أشتة بأنّ جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحّته لغة لا على رسمه ، وذلك كما في «لا أوضعوا ، لا أذبحنّه» بزيادة ألف في وسط الكلمة. فلو قرء ذلك بظاهر الخطّ لكان لحنا شنيعا يقلب معنى الكلام ويخلّ بنظامه ، يقول الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ومعنى حفظ القرآن : إبقاء شريعته وأحكامه إلى يوم القيامة وإعجازه أبد الدهر ، بحيث يظلّ المثل الأعلى للبلاغة والرصانة والعذوبة ، سهل النطق على اللسان ، جميل الوقع في الآذان ، يملك قلب القارئ ولبّ السامع.

وليس ما قدّمنا من لحن الكتّاب في المصحف بضائره أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له ، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلّاء التابعين ادعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله. وممّا لا شك فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر ، يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان. والعصمة لله وحده ، ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ، فلو أنّ إحدى المطابع طبعت مصحفا به بعض الخطأ ـ وكثيرا ما يقع هذا ـ وسار على ذلك بعض قرّاء هذا المصحف ، لم يكن ذلك متعارضا مع حفظ الله تعالى له وإعلائه لشأنه» (١).

قال : «وإنّما الذي يستسيغه العقل ويؤيّده الدليل والبرهان أنّه إذا تعلّم فرد الكتابة في أمّة اميّة ، فإنّ تعلّمه لها يكون محدودا ويكون عرضة للخطأ في وضع

__________________

(١) الفرقان : ٤١ ـ ٤٦ ملخّصا.

٢٢٦

الرسم والكلمات ، ولا يصحّ والحال كما قدّمنا أن يؤخذ رسمه هذا انموذجا تسير عليه الامم التي ابتعدت عن الاميّة بمراحل ، وأن نوجب عليها أخذه على علّاته وفهمه على ما فيه من تناقض ظاهر وتنافر بيّن ، وذلك بدرجة أنّ العلماء الّذين تخصّصوا في رسم المصحف لم يستطيعوا أن يعلّلوا هذا التباين إلّا بالتجائهم إلى تعليلات شاذّة عقيمة» (١).

هذا ... ومن المناسب أن ننقل في المقام ما ذكره الحجّة شرف الدين بهذا الصدد ، فقد قال ما نصّه :

«وما أدري ـ والله ـ ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب غير واحد من سلفهم الأعلام كالإمام أبي محمد بن حزم ، إذ نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في ص ٢٠٧ من الجزء الرابع من (الفصل) أنّه كان يقول :

إنّ القرآن المعجز إنّما هو الّذي لم يفارق الله عزوجل قطّ ، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه قطّ ولا سمعه جبرائيل ولا محمد عليهما‌السلام قطّ ، وإلى آخر ما نقله عن الإمام الأشعري وأصحابه ـ وهم جميع أهل السنّة ـ حتى قال في ص ٢١١ ما هذا لفظه :

«وقالوا كلّهم : إنّ القرآن لم ينزل به قطّ جبرائيل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام ، وإنّما نزل عليه شيء آخر هو العبارة عن كلام الله ، وإنّ القرآن ليس عندنا البتّة إلّا على هذا المجاز ، وإنّ الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتّة ، ولا شيء منه كلام الله البتة بل شيء آخر ، وإنّ كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عزوجل».

ثمّ استرسل في كلامه عن الأشاعرة حتى قال في ص ٢١٠ : «ولقد أخبرني

__________________

(١) الفرقان : ٥٨.

٢٢٧

علي بن حمزة المرادي الصقلي : أنّه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله ، قال : فأكبرت ذلك وقلت له : ويحك! هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى؟! فقال لي : وويلك! والله ما فيه إلّا السخام والسواد ، وأمّا كلام الله فلا».

قال ابن حزم : «وكتب إليّ أبو المرجي بن رزوار المصري : أنّ بعض ثقات أهل مصر من طلّاب السنن أخبره : أنّ رجلا من الأشعرية قال له مشافهة : على من يقول : إنّ الله قال : قل هو الله أحد الله الصمد ، ألف لعنة» إلى آخر ما نقله عنهم ، فراجعه من ص ٢٠٤ إلى ص ٢٢٦ من الجزء الرابع من (الفصل) ...» (١)

طائفة يروون ويردّون أو يؤوّلون

وهم الّذين لم يأخذوا بما دلّت عليه تلك الأحاديث ولم يتّبعوا الصحابة فيما تحكيه عنهم تلك الآثار ، وهم بين رادّ عليها الردّ القاطع ، وبين مؤوّل لها على بعض الوجوه ... وقد انصبّت كلمات الردّ والنقد ـ في الأغلب ـ على الآثار المحكيّة ـ التي ذكرنا بعضها في الفصل الأول تحت عنوان «كلمات الصحابة والتابعين في وقوع الحذف والتغيير والخطأ في القرآن المبين» ـ بالطعن في الراوي أو الرواية أو الصحابي ... على تفاوت فيما بينها في المرونة والخشونة ...

ردّ أحاديث الخطأ في القرآن

قال الطبري بعد ذكر مختاره : «وإنّما اخترنا هذا على غيره لأنّه قد ذكر أنّ ذلك في قراءة ابيّ بن كعب (والمقيمين) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان

__________________

(١) أجوبة مسائل جار الله : ٣٦.

٢٢٨

ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كلّ المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا ، وفي اتّفاق مصحفنا ومصحف ابيّ ما يدلّ على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أنّ ذلك لو كان خطأ من جهة الخطّ لم يكن الّذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يعلّمون من علّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ولقّنوه للامّة تعليما على وجه الصواب ، وفي نقل المسلمين جميعا ذلك ـ قراءة على ما هو به في الخطّ مرسوما ـ أدلّ دليل على صحّة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب» (١).

وقال الداني : «فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عبّاس عن عثمان أنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن ، فقال : اتركوها فإنّ العرب ستقيمها ـ أو ستعربها ـ بلسانها. إذ ظاهره يدلّ على خطأ في الرسم.

قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجّة ، ولا يصحّ به دليل من جهتين ، إحداهما : أنّه ـ مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه ـ مرسل ، لأنّ ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ، ولا رأياه ، وأيضا ، فإنّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان ، لما فيه من الطعن عليه ، مع محلّه من الدين ومكانه من الإسلام ، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة ، واهتباله بما فيه الصلاح للامّة. فغير متمكّن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم ، ثمّ يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولّى تغييره من يأتي بعده ، ممّن لا شكّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ١٩.

٢٢٩

شاهده. هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحلّ لأحد أن يعتقده.

فإن قال : فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان؟

قلت : وجهه أن يكون عثمان أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم» (١).

وقال الزمخشري : «(وَالْمُقِيمِينَ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خطّ المصحف ، وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبيّ عليه أنّ السابقين الأوّلين الّذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم ...» (٢).

وقال الرازي : «وأمّا قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ففيه أقوال ؛ الأول : روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. واعلم : أنّ هذا بعيد ، لأنّ هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!» (٣).

وقال الزمخشري في الآية (... حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ...) بعد نقل الرواية عن ابن عبّاس فيها : «ولا يعوّل على هذه الرواية» (٤).

وقال الرازي فيها : «واعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر ، لأنّه

__________________

(١) تاريخ القرآن ـ لمحمد طاهر الكردي ـ ص ٦٥ عن المقنع.

(٢) الكشّاف ١ : ٥٨٢.

(٣) التفسير الكبير ١١ : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٤) الكشاف ٣ : ٥٩.

٢٣٠

يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ في كل القرآن ، وأنّه باطل» (١).

وقال النيسابوري : «روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، ولا يخفى ركاكة هذا القول ، لأنّ هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!» (٢).

وقال ابن كثير في (... حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ...) بعد نقل قول ابن عبّاس : «وهذا غريب جدّا عن ابن عبّاس» (٣).

وقال الخازن في (... وَالْمُقِيمِينَ ...) : «اختلف العلماء في وجه نصبه ، فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان : أنّه غلط من الكتّاب ، ينبغي أن تكتب : والمقيمون الصلاة. وقال عثمان بن عفّان : إنّ في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم ، فقيل له : أفلا تغيّره؟! فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا. وذهب عامّة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره.

واجيب عمّا روي عن عثمان بن عفّان وعن عائشة وأبان بن عثمان : بأنّ هذا بعيدا جدّا ، لأنّ الّذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدوة على ذلك ، فكيف يتركون في كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم ، فلا ينبغي أن ينسب هذا لهم ، قال ابن الأنباري : ما روي عن عثمان لا يصحّ لأنّه غير متّصل ، ومحال أن يؤخّر

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٣ : ١٩٦.

(٢) تفسير النيسابوري ٦ / ٢٣ هامش الطبري.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ : ٢٨٠.

٢٣١

عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره. وقال الزمخشري في الكشّاف : ولا يلتفت إلى ما زعموا ...» (١).

وقال في (... حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ...) : «وكان ابن عبّاس يقرأ : حتى تستأذنوا. ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب. وفي هذه الرواية نظر لأنّ القرآن ثبت بالتواتر» (٢).

وقال الرازي في الآية (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) :

«القراءة المشهورة إنّ هذان لساحران. ومنهم من ترك هذه القراءة ، وذكروا وجوها اخر [فذكرها ووصفها بالشذوذ ، ثمّ قال :] واعلم أنّ المحقّقين قالوا : هذه القراءات لا يجوز تصحيحها ، لأنّها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولا بالتواتر ، إذ لو جوّزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأنّ هذا الذي هو عندنا كل القرآن ، لأنّه لمّا جاز في هذه القراءات أنّه مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك ، فثبت أنّ تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حجّة ، ولمّا كان ذلك باطلا فكذلك ما أدّى إليه ، وأمّا الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ ممّا تقدّم من وجوه :

أحدها : أنّها لمّا كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كلّ القرآن ، وأنّه باطل ، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضا بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.

__________________

(١) تفسير الخازن ١ : ٤٢٢.

(٢) تفسير الخازن ٣ : ٣٢٣.

٢٣٢

وثانيها : أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى ، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحنا وغلطا ، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أنّ فيه لحنا وغلطا.

وثالثها : قال ابن الأنباري : إنّ الصحابة هم الأئمّة والقدوة ، فلو وجدوا في المصحف لحنا لما فوّضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم ، مع تحذيرهم من الابتداع وترغيبهم في الاتّباع ..» (١).

وقال أبو حيّان الأندلسي في (... وَالْمُقِيمِينَ ...) بعد ما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها : «ولا يصحّ عنهما ذلك ، لأنّهما عربيّان فصيحان» (٢).

وقال القنوجي : «وعن عائشة أنّها سئلت عن (الْمُقِيمِينَ) وعن قوله (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) و (الصَّابِئُونَ) في المائدة ، فقالت : يا ابن أخي ، الكتّاب أخطئوا.

وروي عن عثمان بن عفّان أنّه فرغ عن المصحف وأتي به قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره؟! فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا.

قال ابن الأنباري : وما روي عن عثمان لا يصحّ ، لأنّه غير متّصل ، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره ، ولأنّ القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!

وقال الزمخشري في الكشّاف : ولا يلتفت ...» (٣).

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٢ : ٧٤.

(٢) البحر المحيط ٣ : ٣٩٤.

(٣) فتح البيان ٦ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

٢٣٣

وقال في (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) : «فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة بوجه تصحّ به وتخرج به عن الخطأ ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنّه غلط من الكاتب للمصحف» (١).

وقال الآلوسي في (وَالْمُقِيمِينَ) : «ولا يلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن وأنّ الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبد الله وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي ، إذ لا كلام في نقل النظم متواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا. وأمّا ما روي أنّه لمّا فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال : قد أحسنتم وأجملتم ... فقد قال السخاوي : إنّه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ، فإنّ عثمان جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدّة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلّا فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ـ وهم هم ـ كيف يقيمه غيرهم؟!» (٢).

أقول : فهذه كلمات في ردّ هذه الأحاديث ، ويلاحظ أنّ بعضهم يكتفي «بالاستبعاد» ، وآخر يقول : «فيه نظر» ، وثالث يقول : «لا يخفى ركاكة هذا القول» ، ورابع يقول : «لا يلتفت ...» ، وخامس يقول : «غريب» ...

ومنهم من يتجرّأ على التضعيف بصراحة فيقول : «لا يصحّ» وفي الإتقان عن ابن الأنباري أنّه جنح إلى تضعيف هذه الروايات (٣) وعليه الباقلاني في «نكت الانتصار» (٤) وجماعة.

__________________

(١) فتح البيان ٦ : ٤٩.

(٢) روح المعاني ٦ : ١٣ ـ ١٤.

(٣) الإتقان ٢ : ٣٢٩.

(٤) نكت الانتصار : ١٢٧.

٢٣٤

لكنّ بعضهم يستدلّ ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث ، لأنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن ، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان ، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل ...

جماعة ذهبوا إلى أبعد من كل هذا ، وقالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها ، من قبل أعداء الإسلام ...

فيقول الحكيم الترمذي (١) : «... ما أرى مثل هذه الروايات إلّا من كيد الزنادقة ...» (٢).

ويقول أبو حيّان الأندلسي : «ومن روى عن ابن عبّاس أنّ قوله : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) خطأ أو وهم من الكاتب ، وأنّه قرأ حتى (تستأذنوا) فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عبّاس بريء من هذا القول» (٣).

وهكذا عالج بعض العلماء والكتّاب المتأخّرين والمعاصرين هذه الأحاديث ، فنرى صاحب «المنار» يقول :

«وقد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ، وعدّ رفع «الصابئين» هنا من هذا الغلط. وهذا جمع بين السخف والجهل ، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ...» (٤).

ويقول : «وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في

__________________

(١) وهو الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي ، صاحب التصانيف ، من أئمّة علم الحديث ، له ترجمة في تذكرة الحفّاظ ٢ : ٦٤٥ وغيرها.

(٢) نوادر الاصول : ٣٨٦.

(٣) البحر المحيط ٦ : ٤٤٥.

(٤) المنار ٦ : ٤٧٨.

٢٣٥

أصحّ كلام وأبلغه ، وقيل : إنّ (المقيمين) معطوف على المجرور قبله ... وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة وإن عدّه الجاهل أو المتجاهل غلطا ولحنا. وروي أنّ الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة ، فإن صحّ ذلك عنه وعمّن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءة ، وإلّا فهي كالعدم.

وروي عن عثمان أنّه قال : إنّ في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، وقد ضعّف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع. فالصواب أنّها موضوعة ، ولو صحّت لما صحّ أن يعدّ ما هنا من ذلك اللحن ، لأنّه فصيح بليغ ...» (١).

وهو رأي الرافعي ومحمد أبو زهرة ، فقد وصف محمد أبو زهرة هذه الأحاديث المنافية لتواتر القرآن ب : «الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم ، التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي ، التي تجمع كما يجمع حاطب ليل ، يجمع الحطب والأفاعي ، مع أنّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار».

ثمّ استشهد بكلام الرافعي القائل : «... ونحسب أنّ أكثر هذا ممّا افترته الملحدة» وقال : «وإنّ ذلك الذي ذكره هذا الكاتب الإسلامي الكبير حقّ لا ريب فيه» (٢).

تأويل أحاديث الخطأ في القرآن

فهذا موقف هؤلاء من هذا القسم من الأحاديث والآثار ، وعليه آخرون

__________________

(١) المنار ٦ : ٦٤.

(٢) المعجزة الكبرى : ٤٣.

٢٣٦

منهم لم نذكر كلماتهم هنا اكتفاء بمن ذكرناه ... وقد اغتاظ من هذا الموقف جماعة واستنكروه بشدّة ... ومن أشهرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ، الذي تحامل على الزمخشري ومن كان على رأيه قائلا بعد الحديث عن ابن عبّاس «كتبها وهو ناعس» : «وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته ، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته ـ إلى أن قال ـ وهي والله فرية بلا مرية ، وتبعه جماعة بعده ، والله المستعان.

وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه.

وهذه الأشياء ـ وإن كان غيرها المعتمد ـ لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل ، فلينظر في تأويله بما يليق» (١).

أقول : لكنّ العجب من ابن حجر لما ذا أحال التأويل اللائق إلى غيره وقد كان عليه أن يذكره بنفسه وهو بصدد الدفاع عن الأحاديث الصحاح؟!

نعم ، نظر بعضهم في تأويله وذكرت وجوه ، فقال الداني بالنسبة إلى ما روي عن عثمان ـ على فرض صحّته ـ : «وجهه أن يكون أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم».

وأجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها بأنّ المراد : «أخطئوا في الاختيار وما هو الأولى للجمع عليه من الأحرف السبعة ، لا أنّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.

فمعنى قول عائشة : «حرّف الهجاء» القي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة ، وكذا معنى قول ابن عبّاس : «كتبها وهو

__________________

(١) فتح الباري ٨ : ٣٠١.

٢٣٧

ناعس» يعني : فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولى من الآخر. وكذا سائرها» (١).

وأتعب السيوطي نفسه في هذا المقام ، فإنّه بعد أن أورد الآثار بيّن وجه الإشكال فيها وتصدّى لتأويلها ... ولننقل عبارته كاملة لننظر هل جاء «بما يليق»؟!

قال : «هذه الآثار مشكلة جدّا ، وكيف يظنّ بالصحابة أولا : أنّهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن ، وهم الفصحاء اللدّ؟! ثمّ كيف يظنّ بهم ثانيا : في القرآن الذي تلقّوه من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما انزل ، وحفظوه وضبطوه وأتقنوه؟! ثم كيف يظنّ بهم ثالثا : اجتماعهم كلّهم على الخطأ وكتابته ...

ثمّ كيف يظنّ بهم رابعا : عدم تنبّههم ورجوعهم عنه؟! ثمّ كيف يظنّ بعثمان : أنّه ينهى عن تغييره؟! ثمّ كيف يظنّ أنّ القراءة استمرّت على مقتضى ذلك الخطأ ، وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف؟! هذا ممّا يستحيل عقلا وشرعا وعادة.

وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة :

أحدها : أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان ، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع ، ولأنّ عثمان جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، فإذا كان الّذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم؟! وأيضا : فإنّه لم يكتب مصحفا واحدا بل كتب عدّة مصاحف.

فإن قيل : إنّ اللحن إن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها على ذلك ، أو في بعضها. فهو اعتراف بصحّة البعض ، ولم يذكر أحد من الناس أنّ اللحن كان في

__________________

(١) الإتقان ٢ : ٣٢٩.

٢٣٨

مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلّا فيما هو من وجوه القراءة ، وليس ذلك باللحن.

الثاني : على تقدير صحّة الرواية ، فإنّ ذلك محمول على الرمز والإشارة.

الثالث : أنّه مؤوّل على أشياء خالف لفظها رسمها ... وبهذا الجواب وما قبله جزم ابن أشتة في كتاب «المصاحف».

وقال ابن الأنباري في كتاب (الردّ على من خالف مصحف عثمان) في الأحاديث المرويّة عن عثمان في ذلك : «لا تقوم بها حجّة ، لأنّها منقطعة غير متّصلة ، وما يشهد عقل بأنّ عثمان وهو إمام الامّة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام ، فيتبيّن فيه خللا ويشاهد في خطّه زللا فلا يصلحه ، كلّا والله ما يتوهّم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز ، ولا يعتقد أنّه أخّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده ، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه.

ومن زعم ـ أنّ عثمان أراد بقوله : أرى فيه لحنا : أرى في خطّه إذا أقمناه بألسنتنا كان الخطّ غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب ـ فقد أبطل ولم يصب ، لأنّ الخطّ منبئ عن النطق ، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه ، ولم يكن عثمان ليؤخّر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق ، ومعلوم أنّه كان مواصلا لدرس القرآن ، متقنا لألفاظه ، موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي ...

ثم قال ابن أشتة. أنبأت محمد بن يعقوب ، أنبأنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، أنبأنا أحمد بن مسعدة ، أنبأنا إسماعيل ، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن ، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ، قال : لمّا فرغ من المصحف أتي به

٢٣٩

عثمان فنظر فيه فقال : أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه ، وبه يتّضح معنى ما تقدّم ، فكأنّه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى فيه شيئا كتب على غير لسان قريش ، كما وقع لهم في (التابوة) و (التابوت) ، فوعد بأنّه سيقيمه على لسان قريش ، ثمّ وفى بذلك عند العرض والتقويم ، ولم يترك فيه شيئا. ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها ، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم منه ما لزم من الإشكال ، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك. ولله الحمد.

وبعد ، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء عن حديث عائشة.

أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى ، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة لا يطابقه ، فقد أجاب عنه ابن أشتة ـ وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية ـ بأنّ معنى قولها «أخطئوا» أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه ، لا أنّ الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز ...

وأقول : هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها ، وأمّا والقراءة على مقتضى الرسم فلا.

وقد تكلّم أهل العربية عن هذه الأحرف ووجّهوها أحسن توجيه ، أمّا قوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ففيه أوجه ... وأمّا قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ففيه أيضا أوجه ... وأمّا قوله : (وَالصَّابِئُونَ) ففيه أيضا أوجه ...» (١).

فهذا ما يتعلّق ب «كلمات الصحابة والتابعين ...».

__________________

(١) الاتقان ٢ : ٣٢٠ ـ ٣٢٦.

٢٤٠