التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٠

٣١ ـ البيهقي ، أبو بكر أحمد بن الحسين ؛ الإمام الحافظ العلّامة ، شيخ خراسان ، انفرد بالإتقان والضبط والحفظ ، وعمل كتبا لم يسبق إليها وبورك له في علمه. (٤٥٨).

٣٢ ـ ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن ؛ الإمام الكبير حافظ الشام بل حافظ الدنيا ، الثقة الثبت الحجّة ، سمع منه الكبار ، وكان من كبار الحفّاظ المتقنين. (٥٧١).

٣٣ ـ ابن الأثير ، المبارك محمد بن محمد ؛ من مشاهير العلماء وأكابر النبلاء وأوحد الفضلاء (٦٠٦).

٣٤ ـ الضياء المقدسي ، أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد ؛ الإمام العالم الحافظ الحجّة ، محدّث الشام شيخ السنّة ، رحل وصنّف ، وصحّح وليّن ، وجرّح وعدّل ، وكان المرجوع إليه في هذا الشأن ، جبلا ثقة ديّنا زاهدا ورعا. (٦٤٣).

٣٥ ـ القرطبي ، محمد بن أحمد الأنصاري ؛ مصنّف التفسير المشهور الذي سارت به الركبان ، كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا ، قال الذهبي : «إمام متقن متبحّر في العلم ، له تصانيف مفيدة تدلّ على إمامته وكثرة اطّلاعه ووفور فضله». (٦٧١).

٣٦ ـ ابن كثير ، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر ؛ الإمام المحدّث الحافظ ، وصفه الذهبي بالإمام المفتي المحدّث البارع ، ثقة متفنّن محدّث متقن. (٧٧٤).

٣٧ ـ ابن حجر العسقلاني ، أحمد بن علي المصري ؛ شيخ الإسلام ، وإمام الحفّاظ في زمانه ، وحافظ الديار المصرية ، بل حافظ الدنيا مطلقا ، قاضي القضاة ، صنّف التصانيف التي عمّ النفع بها. (٨٥٢).

٢٠١

٣٨ ـ السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ؛ الحافظ الشهير صاحب المؤلفات الكثيرة في العلوم المختلفة ، أثنى عليه مترجموه كالشوكاني في (البدر الطالع) والسخاوي فى (الضوء اللامع) وابن العماد في (شذرات الذهب) وغيرهم. (٩١١).

٣٩ ـ المتّقي ، نور الدين علي بن حسام الهندي ؛ كان فقيها محدّثا صاحب مؤلفات ، أشهرها : كنز العمّال ، أثنى عليه ابن العماد في (شذرات الذهب) والعيدروسي في (النور السافر في أعيان القرن العاشر). (٩٧٥).

٤٠ ـ الآلوسي ، شهاب الدين محمود بن عبد الله البغدادي ؛ المفسّر المحدّث الفقيه اللغوي النحوي ، صاحب «روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني» ، وغيره من المؤلفات (١٢٧٠).

هؤلاء جملة ممّن روى أحاديث التحريف ...

من تجوز نسبة التحريف إليه منهم

فهل تجوز نسبة القول بالتحريف إليهم جميعا؟

لقد علم ممّا سبق في غضون الكتاب : أنّ مجرّد رواية الحديث ونقله لا يكون دليلا على التزام الناقل والراوي بمضمونه ، وعلى هذا الأساس لا يمكننا أن ننسب إليهم هذا القول الباطل ...

نعم ، فيهم جماعة التزموا بنقل الصحاح ، فلم يخرجوا في كتبهم إلّا ما قطعوا بصدوره من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وصحابته ، حسب شروطهم التي اشترطوها في الراوي والرواية ، فهم ـ وكل من تبعهم في الاعتقاد بصحّة جميع أخبار كتبهم ـ ملزمون بظواهر ما أخرجوا فيها من أحاديث التحريف ، ما لم

٢٠٢

يذكروا لها محملا وجيها أو تأويلا مقبولا ...

وممّن التزم بنقل الصحاح من هؤلاء :

١ ـ مالك بن أنس

لقد اشترط مالك في كتابه (الموطّأ) الصحّة ، ولذلك استشكل بعض الأئمة إطلاق أصحيّة كتاب البخاري مع اشتراك البخاري ومالك في اشتراط الصحّة والمبالغة في التحرّي والتثبّت (١).

وقال الشافعي : «ما أعلم في الأرض كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك» (٢).

وقال الحافظ مغلطاي : «أول من صنّف الصحيح مالك» (٣).

وقال الحافظ ابن حجر : «كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلّده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما» (٤).

٢ ـ أحمد بن حنبل

قال أحمد في وصف مسنده :

«إنّ هذا كتاب قد جمعته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارجعوا إليه ، فإن كان

__________________

(١) هدى الساري ١ : ٢١.

(٢) مقدّمة ابن الصلاح : ١٤ وغيره.

(٣) تنوير الحوالك : ٨.

(٤) تنوير الحوالك : ٨.

٢٠٣

فيه وإلّا ليس بحجّة» (١).

وعنه : إنّه شرط في مسنده الصحيح (٢).

وقال السبكي : «ألّف مسنده وهو أصل من اصول هذه الامّة» (٣).

وقال الحافظ المديني : «هذا الكتاب أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث ، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة ، فجعل إماما ومعتمدا وعند التنازع ملجأ ومستندا» (٤).

هذا ... وقد ألّف الحافظ ابن حجر كتابا في شأن «المسند» سمّاه «القول المسدّد في الذبّ عن المسند» ردّ به على قول من قال بوجود أحاديث ضعيفة في مسند أحمد.

وقد أتمّه الحافظ السيوطي بذيل سمّاه «الذيل الممهّد» (٥).

٣ ـ محمد بن إسماعيل البخاري

وقد شرط البخاري في كتابه : أن يخرج الحديث المتّفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات ، ويكون إسناده متّصلا غير مقطوع ، وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن ، وإن لم يكن إلّا راو واحد وصحّ الطريق إليه كفى (٦).

__________________

(١) تدريب الراوي ١ : ١٧٢ وغيره.

(٢) تدريب الراوي وغيره.

(٣) طبقات الشافعية ، ترجمة أحمد.

(٤) طبقات الشافعية. ترجمة أحمد.

(٥) تدريب الراوي ١ : ١٧٢.

(٦) هدى السارى ٢ : ٢٦١.

٢٠٤

وعن البخاري أنّه قال : «ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلّا اغتسلت قبل ذلك وصلّيت ركعتين» (١).

وعنه أيضا : «صنّفت كتابي الصحيح في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا حتّى استخرت الله تعالى وصلّيت ركعتين وتيقّنت صحّته» (٢).

وعنه : «صنّفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ستّ عشرة سنة وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله» (٣).

وعنه أيضا : «رأيت النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وكأنّني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبّ بها عنه ، فسألت بعض المعبّرين فقال لي : أنت تذبّ عنه الكذب.

فهذا الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح» (٤).

وعنه أنّه قال : «لم اخرج في هذا الكتاب إلّا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر ...» (٥).

وقال الحافظ ابن حجر :

«تقرّر أنّه التزم فيه الصحّة ، وأنّه لا يورد فيه إلّا حديثا صحيحا ، هذا أصل موضوعه ، وهو مستفاد من تسميته إيّاه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وأيّامه ، وممّا نقلناه عنه من رواية الأئمة

__________________

(١) هدى الساري ٢ : ٢٦١.

(٢) هدى الساري ٢ : ٢٦١.

(٣) هدى الساري ٢ : ٢٦١.

(٤) هدى الساري ١ : ١٨.

(٥) هدى الساري ١ : ١٨.

٢٠٥

عنه صريحا ...» (١).

وقال ابن الصلاح : «أول من صنّف في الصحيح : البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري ، ومسلم مع أنّه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه ، وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز ... ثمّ إنّ كتاب البخاري أصحّ الكتابين صحيحا وأكثرهما فوائد ...» (٢).

وقد نقل هذا الحافظ ابن حجر وأثبت أصحيّة كتاب البخاري من كتاب مسلم ، وذكر أنّ هذا ممّا اتّفق عليه العلماء ، واستشهد بكلمات الأئمّة على ذلك (٣).

وكذا الحافظ النووي في التقريب ، ووافقه الحافظ السيوطي في شرحه وقال : «وعليه الجمهور ، لأنّه أشدّ اتصالا وأتقن رجالا ...» (٤).

٤ ـ مسلم بن الحجّاج النيسابوري

وقال مسلم : «ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا ، إنّما وضعت ما أجمعوا عليه» (٥).

وقال : «لو أنّ أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند ـ يعني صحيحه ـ» (٦).

__________________

(١) هدى الساري ١ : ١٩.

(٢) مقدّمة ابن الصلاح : ١٣ ـ ١٤.

(٣) هدى الساري ١ : ٢١.

(٤) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ١ : ٨٨ ـ ٩١.

(٥) مقدّمة ابن الصلاح : ١٦ ، تدريب الراوي ١ : ٩٨.

(٦) المنهاج في شرح مسلم ١ : ٢٢ هامش إرشاد الساري.

٢٠٦

وقال أيضا : «عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكلّ ما أشار أنّ له علّة تركته ، وكلّ ما قال أنّه صحيح وليس له علّة أخرجته» (١).

وقال : «صنّفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة» (٢).

هذا ، وقد قالوا : إنّ أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان ، ثمّ اختلفوا في أنّ أيّهما أفضل وأصحّ ، فذهب جمهورهم إلى أنّ البخاري أصحّ ، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري : ما تحت أديم السماء كتاب أصحّ من كتاب مسلم ، وتبعه بعض شيوخ المغرب (٣).

٥ ـ أبو عيسى الترمذي

قال الترمذي : «صنّفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به ، وعرضته على علماء العراق فرضوا به ، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به.

ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبي يتكلّم» (٤).

وقال في كتاب العلل الذي في آخر جامعه :

«جميع ما في هذا الكتاب ـ يعني جامعه ـ من الحديث هو معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه : إنّ النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة ، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ولا سفر ، وحديث النبي صلّى الله عليه

__________________

(١) المنهاج في شرح مسلم ١ : ٢٢.

(٢) المنهاج في شرح مسلم ١ : ٢٢.

(٣) تدريب الراوي ١ : ٩٣ وغيره.

(٤) تذكرة الحفّاظ ـ ترجمته.

٢٠٧

[وآله] وسلّم أنّه قال : من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه.

قال : وقد بيّنّا علّة الحديثين جميعا في الكتاب».

قال المباركفوري : «قلت : قد تعقّب الملّا معين في كتابه (دراسات اللبيب) على كلام الترمذي هذا ، وقد أثبت أنّ هذين الحديثين كليهما معمول به ، والحقّ مع الملّا معين عندي والله تعالى أعلم» (١).

هذا ، وقد جاء في مقدّمة تحفة الأحوذي فصل «في بيان أنّه ليس في جامع الترمذي حديث موضوع» (٢).

وجامع الترمذي من الكتب الستّة الصحاح عند أهل السنّة بلا خلاف بينهم ، غير أنّهم اختلفوا في رتبته هل هو بعد الصحيحين أو بعد سنن أبي داود أو بعد سنن النسائي؟ (٣).

٦ ـ أحمد بن شعيب النسائي

وكتاب النسائي أحد الصحاح الستّة بلا خلاف.

قالوا : وقد صنّف النسائي في أول أمره كتابا يقال له : «السنن الكبير» ثمّ اختصره وسمّاه «المجتبى» وسبب اختصاره : أنّ أحدا من أمراء زمانه سأله أنّ جميع أحاديث كتابك صحيح؟

قال : لا.

فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابة صحيح مجرّد.

__________________

(١) مقدّمة تحفة الاحوذي : ٣٦٧.

(٢) مقدّمة تحفة الاحوذي : ٣٦٥ ـ ٣٦٧.

(٣) مقدّمة تحفة الاحوذي : ٣٦٤.

٢٠٨

فانتخب منه «المجتنى» وأسقط منه كل حديث تكلّم في إسناده (١).

فإذا أطلق المحدّثون بقولهم : رواه النسائي ، فمرادهم هذا المختصر المسمّى بالمجتنى لا السنن الكبير (٢).

وعن الحاكم وأبي علي الحافظ والخطيب : للنسائي شرط في الرجال أشدّ من شرط مسلم (٣).

٧ ـ ابن ماجة القزويني

قال ابن ماجة : «عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه وقال : أظنّ إن وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع أو أكثرها ...» (٤).

وقال المباركفوري : «وأمّا سنن ابن ماجة فهو سادس الصحاح الستّة ...» (٥).

وفي كشف الظنون : «إنّه سادس الصحاح الستّة عند بعض الأئمة» (٦).

قلت : وممّن قال بذلك الحافظان ابن طاهر وعبد الغني المقدسيان.

٨ ـ الحاكم النيسابوري

وألّف أبو عبد الله الحاكم النيسابوري كتاب «المستدرك على الصحيحين» ،

__________________

(١) جامع الاصول ١ : ١٦٦ وغيره.

(٢) مقدّمة تحفة الاحوذي : ١٣١.

(٣) مقدّمة تحفة الاحوذي : ١٣١.

(٤) تذكرة الحفّاظ ٢ : ٦٣٦.

(٥) مقدّمة تحفة الاحوذي : ١٣٤.

(٦) كشف الظنون : ١٠٠٤.

٢٠٩

ذكر فيه ما فات البخاري ومسلما ممّا على شرطهما أو شرط أحدهما أو هو صحيح ... (١).

فالمستدرك من الكتب التي التزم فيها بالصحّة ، ولذا يعبّر عنه بالصحيح المستدرك (٢).

ولقد أثنى على الحاكم كلّ من جاء بعده من الحفّاظ ، ونسبه بعضهم إلى التشيّع وقالوا : إنّه قد تساهل في ما استدركه على شرط الصحيح.

قلت : لا يبعد أن يكون من أسباب رميه بالتشيّع والتساهل إخراجه أحاديث في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل قد صرّح بذلك الخطيب ... (٣).

٩ ـ أبو جعفر الطّبري

وقد التزم أبو جعفر محمد بن جرير الطّبري الصحّة في كتابه (تهذيب الآثار) الّذي أورد فيه بعض الأحاديث المذكورة ... كما أورد منها في (تفسيره) ...

١٠ ـ الضياء المقدسي

وقد التزم الحافظ الضياء المقدسي الصحّة في كتابه «المختارة».

قال الحافظ العراقي : «وممّن صحّح أيضا من المتأخّرين الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي ، فجمع كتابا سمّاه (المختارة) التزم فيه

__________________

(١) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ : ٢٦.

(٢) تدريب الراوي ١ : ١٠٨ ، مقدّمة تحفة الاحوذي : ١٥٥.

(٣) مقدّمة تحفة الاحوذي : ١٥٦.

٢١٠

الصحّة ...» (١).

وقال الحافظ السيوطي : «ومنهم الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي ، فجمع كتابا سمّاه (المختارة) التزم فيه الصحّة وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها» (٢).

وفي «كشف الظنون» بعد أن صرّح بما تقدّم : «قال ابن كثير : وهذا الكتاب لم يتمّ ، وكان بعض الحفّاظ من مشايخنا يرجّحه على مستدرك الحاكم» (٣).

هذا ، وقد أثنى عليه كل من ترجم له ، قال الحافظ الذهبي ما ملخّصه : «الإمام العالم الحافظ الحجّة ، محدّث الشام ، شيخ السنّة ، صاحب التصانيف النافعة ، نسخ وصنّف ، وصحّح وليّن ، وجرّح وعدّل ، وكان المرجع إليه في هذا الشأن ، قال تلميذه عمر بن الحاجب : شيخنا أبو عبد الله شيخ وقته ونسيج وحده علما وحفظا وثقة ودينا ، من العلماء الربّانيّين ، وهو أكبر من أن يدلّ عليه مثلي.

رأيت جماعة من المحدّثين ذكروه فأطنبوا في حقّه ومدحوه بالحفظ والزهد.

سألت الزكيّ البرزالي عنه فقال : ثقة ، جبل ، حافظ ، ديّن.

قال ابن النجّار : حافظ متقن حجّة ، عالم بالرجال ، ورع تقي.

وقال الشرف ابن النابلسي : ما رأيت مثل شيخنا الضياء» (٤).

__________________

(١) التقييد والإيضاح لما اطلق أو اغلق من كتاب ابن الصلاح.

(٢) تدريب الراوي ١ : ١٤٤.

(٣) كشف الظنون.

(٤) تذكرة الحفّاظ : ٤ : ١٤٠٦.

٢١١
٢١٢

الفصل الثالث

الأقوال والآراء في أهل السنّة

حول التحريف وأحاديثه

٢١٣
٢١٤

لقد تقدّم ذكر الأحاديث الدالّة على التحريف ... وعرفت من خلال ذلك أنّ القول بنقصان القرآن مضاف إلى جماعة كبيرة من صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعلى رأسهم :

عمر بن الخطّاب ، عثمان بن عفّان ، عبد الله بن العبّاس ، عبد الله بن عمر ، عبد الرحمن بن عوف ، ابيّ بن كعب ، عبد الله بن مسعود ، زيد بن ثابت ، أبو موسى الأشعري ، حذيفة بن اليمان ، جابر بن عبد الله ، زيد بن أرقم ، عائشة بنت أبي بكر ، حفصة بنت عمر ...

ومن مشاهير التابعين ... وعلى رأسهم :

سعيد بن جبير ، عكرمة ، الضحّاك ، سعيد بن المسيّب ، عروة بن الزبير ، محمد بن مسلم الزهري ، زرّ بن حبيش ، مجاهد ، الحسن البصري ...

وعرفت أنّ تلك الأحاديث مخرجة في أهمّ كتب أهل السنّة وأسفارهم ، ومن أشهرها :

الموطّأ ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، صحيح الترمذي ، صحيح النسائي ، صحيح ابن ماجة ، المصنّف لابن أبي شيبة ، المسند لأحمد ، المستدرك للحاكم ، الجوامع الثلاثة للطبراني ، المسند لأبي يعلى ، السنن للبيهقي ، جامع الاصول ، فتح الباري ، إرشاد الساري ، المصاحف لابن الأنباري ، الدرّ المنثور ، كنز العمّال ، تاريخ دمشق ، تفسير الطبري ، تفسير الرازي ، تفسير القرطبي ، تفسير البغوي ، تفسير الخازن ، الكشّاف ، البحر المحيط ، تفسير ابن كثير ، مشكل

٢١٥

الآثار ، التسهيل لعلوم التنزيل ، البرهان في علوم القرآن ، مناهل العرفان في علوم القرآن ، الإتقان في علوم القرآن ، وغيرها من الكتب في الحديث والفقه والتفسير ...

موقف علماء الشيعة من هذه الأخبار والآثار :

أمّا علماء الشيعة فإنّ موقفهم من هذه الأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة نفس الموقف الذي اتّخذوه تجاه الأحاديث المرويّة في كتبهم أنفسهم ... فإنّهم بعد ما قالوا بعدم تحريف القرآن ـ للأدلّة القائمة عليه كتابا وسنّة وإجماعا ـ حملوا ما أمكن حمله من أحاديثهم المعتبرة سندا على بعض الوجوه ، وطرحوا كل خبر غير معتبر سندا أو غير قابل للتأويل ... كما عرفت في (الباب الأول) بالتفصيل.

وهذا هو النهج الذي ينبغي اتّباعه بالنسبة إلى أحاديث التحريف في كتب أهل السنّة ... وبه يتمّ الجمع بين الاعتقاد بعدم التحريف والاعتقاد بصحّة أخبار الصحيحين وغيرهما ... على اصول أهل السنّة ...

إنّ التأويل إمّا الحمل على التفسير ، وإمّا الحمل على اختلاف القراءة ، وإمّا الحمل على نسخ التلاوة. لكنّ التأويل على الوجهين الأوّلين لا يتمّ إلّا بالنسبة إلى قليل جدّا من الأحاديث ، والحمل على نسخ التلاوة غير تامّ صغرويا وكبرويا ، كما ستعرف في «الفصل الرابع».

فلا مناص من الردّ والتكذيب ... ولا مانع ، إلّا ما اشتهر بينهم من عدالة جميع الصحابة وصحّة أخبار الصحيحين وأمثالهما ... لكنّ هذين المشهورين لا أصل لهما ... كما ستعرف في «الفصل الخامس».

٢١٦

هذه خلاصة الطريقة الصحيحة لعلاج هذه الأحاديث ، وعليها المحقّقون من أهل السنّة ، كما سيظهر في هذا الفصل والفصلين اللاحقين.

موقف أهل السنّة من هذه الأحاديث والآثار :

وأمّا أهل السنّة فالرواة لهذه الأحاديث منهم من يلتزم بصحّتها كأصحاب الصحاح الستّة وأمثالهم من أرباب الكتب المشهورة والمسانيد ، ومنهم من لا ندري رأيه فيها ... كما لا ندري أنّ القائلين بالصحّة يحملون تلك الآيات المحكيّة في هذه الأحاديث على النسخ ، أو يقولون بالتحريف تبعا لمن قال به من الصحابة والتابعين ...

وفي المقابل طائفتان من المحدّثين والعلماء ؛ طائفة تقول بالتحريف صراحة ، أخذا بالأحاديث الظاهرة فيه ، واقتداء بالصحابة المصرّحين به ، وطائفة تقول ببطلان الأحاديث وتردّها الردّ القاطع ...

فأهل السنّة بالنسبة إلى أحاديث التحريف على ثلاثة طوائف :

طائفة يروون التحريف ولا نعلم رأيهم فيه

وهم المحدّثون والعلماء الّذين يروون أحاديث التحريف وينقلونها في كتبهم الحديثية وغيرها ، ولا سبيل لنا إلى الوقوف على آرائهم في تلك الأحاديث ، فهل يقولون بصحّتها أولا؟ وعلى الأول هل يحملونها على النسخ؟ أو يقولون بالتحريف حقيقة؟

وهؤلاء كثيرون ، بل هم أكثر رجال الحديث والمحدّثين والعلماء الرواة

٢١٧

والناقلين لهذه الأحاديث ...

طائفة يروونه ويقولون به :

وهم الّذين أوردوا الأحاديث والآثار الظاهرة أو الصريحة في نقصان القرآن من غير جواب أو تأويل ، وهؤلاء عدّة من العلماء وليس عددهم بقليل ...

فمثلا :

يقول ابن جزي الكلبي في تفسيره : «والصابئون. قراءة السبعة بالواو ، وهي مشكلة ، حتى قالت عائشة : هي من لحن كتاب المصحف» (١).

ـ «والمقيمين» منصوب على المدح بإضمار فعل ، وهو جائز كثيرا في الكلام ، وقالت عائشة : هو من لحن كتّاب المصحف ، وفي مصحف ابن مسعود :

(والمقيمون) على الأصل» (٢).

ـ «إنّ هذان لساحران» قرئ : إنّ هذين ، بالياء ، ولا إشكال في ذلك ... وقالت عائشة رضي الله عنها : هذا ممّا لحن فيه كتاب المصحف» (٣).

ويقول الخطيب الشربيني في تفسيره :

«وحكي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأبان بن عثمان : أنّ ذلك غلط من الكاتب ، ينبغي أن يكتب «والمقيمون الصلاة» وكذلك قوله في سورة

__________________

(١) التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ١٧٣ وابن جزي الكلبي المالكي وصفه الداودي في طبقات المفسرين ١ : ١٠١ بقوله : كان شيخا جليلا ورعا زاهدا عابدا متقلّلا من الدنيا وكان فقيها مفسّرا وله تفسير القرآن العزيز ، توفّي في حدود العشرين وستّمائة.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ١ : ١٦٤.

(٣) التسهيل لعلوم التنزيل ٣ : ١٥.

٢١٨

المائدة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) وقوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) قالا : ذلك خطأ من الكاتب ، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره؟! فقال : دعوه فإنّه لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا. وعامّة الصحابة وأهل العلم على أنّه صحيح» (١).

وإذا ما قارنت بين هذا الموقف وموقف الطائفة الثالثة من هذه الأحاديث ، وأساليبهم في ردّها ، أمكنك نسبة القول بالتحريف إلى هذين العالمين الجليلين وأمثالهما من أهل السنّة ...

التصريح بوقوع التحريف

بل في علماء أهل السنّة من يعتقد بتحريف القرآن الكريم وينادي به بأعلى صوته ... إمّا اعتمادا على ما روي في كيفيّة جمع القرآن ، وإمّا اعتقادا بصحّة كل ما اخرج في كتابي البخاري ومسلم ، وإمّا إنكارا لنسخ التلاوة ... وعلى كلّ حال ... فقد ذهب جماعة منهم إلى القول بسقوط شيء من القرآن ، قال الرافعي ما نصّه : «... فذهب جماعة من أهل الكلام ـ ممّن لا صناعة لهم إلّا الظنّ والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول ـ إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء ، حملا على ما وصفوا من كيفيّة جمعه» (٢).

وقال القرطبي : «قال أبو عبيد : وقد حدّثت عن يزيد بن زريع ، عن عمران بن جرير ، عن أبي مجلز ، قال : طعن قوم على عثمان رحمه‌الله ـ بحمقهم ـ

__________________

(١) السراج المنير ١ : ٣٤٥ لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني الفقيه الشافعي المفسّر ، توفي سنة ٩٧٧ ، له ترجمة في الشذرات ٨ : ٣٨٤.

(٢) إعجاز القرآن : ٤١.

٢١٩

جمع القرآن ، ثمّ قرءوا بما نسخ» (١).

وقال : «قال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان ـ رضي الله عنه ـ في جمعه القرآن يعدّ له بأنّه من مناقبه العظام ، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ ، فانكشف عواره ووضحت فضائحه» (٢).

وقال أيضا : «قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري : ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلوّ منزلته ما يوجب الحقّ والإنصاف والديانة ، وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين ، حتى نبغ في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملّة وهجم على الامّة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيّدها ويثبت اسّها وينمي فرعها ويحرسها عن معايب اولي الجنف والجور ومكايد أهل العداوة والكفر.

فزعم أنّ المصحف الذي جمع عثمان رضي الله عنه ـ باتّفاق أصحاب رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] على تصويبه فيما فعل ـ لا يشتمل على جميع القرآن ، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف ، قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيّتها ، فمنها [والعصر ـ ونوائب الدهر ـ] فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين «ونوائب الدهر» ومنها [حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغنّ بالأمس ـ وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها ـ] فادّعى هذا الإنسان أنّه سقط عن أهل الإسلام من القرآن «وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها» وذكر ممّا

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٨٤.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٨٤.

٢٢٠