التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٠

أرشدك الله ـ أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : أعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه. وقوله عليه‌السلام : دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم ، وقوله عليه‌السلام : خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه.

ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام : بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم.

وقد يسّر الله ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت» وأشار بقوله هذا الأخير إلى قوله سابقا :

«وقلت : إنك تحبّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين».

هذا كلامه ـ يرحمه‌الله ـ وليس فيه ما يفيد ذلك ، لأنه لو كان يعتقد بصدور جميع أحاديثه ـ لما أشار في كلامه إلى القاعدة التي قررها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لعلاج الأحاديث المتعارضة ، وهي عرض الأحاديث على الكتاب والسنّة ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

واستشهاده ـ رحمه‌الله ـ بالرواية القائلة بلزوم الأخذ بالمشهور بين الأصحاب عند التعارض دليل واضح على ذلك ، إذ هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور الطرفين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الامام عليه‌السلام.

وقوله ـ رحمه‌الله ـ بعد ذلك : «ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام» ظاهر في

١٤١

عدم جزمه بصدور أحاديث كتابه عن المعصوم عليه‌السلام.

نعم قد يقال : إنّ أحاديث «الكافي» إن لم تكن قطعية الصدور فلا أقل من صحتها إسنادا ، ذلك لأنّ مؤلّفه قد شهد ـ نتيجة بذله غاية ما وسعه من الجهد في التحري والاحتياط ـ بصحّة جميع أحاديث كتابه حيث قال في المقدمة : «وقلت : إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم ، ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّى فرض الله عزوجل وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

فإن ظاهر قوله «بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام» اعتقاده بصحّة ما أورده في كتابه.

ولكنّ هذا ـ بغض النظر عما قالوا فيه (١) ـ لا يستلزم وثوق الشيخ الكليني بدلالة كلّ حديث موجود في كتاب حتى ينسب إليه ـ بالقطع واليقين ـ القول بمداليل جميع رواياته ، ويؤكد هذا قوله : «ونحن لا نعرف من جميع ذلك» بل ويؤكّده أيضا ملاحظة بعض أحاديثه.

توضيح ذلك : أنّه ـ رحمه‌الله ـ روى ـ مثلا ـ أحاديث في كتاب الحج من فروعه تفيد أنّ الذبيح كان (إسحاق) لا (إسماعيل) ، ومن تلك الأحاديث ما رواه عن أحدهما عليهما‌السلام : «وحج إبراهيم عليه‌السلام هو وأهله وولده ، فمن زعم أن الذبيح هو إسحاق فمن هاهنا كان ذبحه».

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، معجم رجال الحديث ، وغيرهما ، وقد جاء في المفاتيح : ٣٣٢ عن المحدث الجزائري وغيره التصريح بأنّه ليس في كلام الكليني ما يدل على حكمه بصحة أحاديث كتابه.

١٤٢

قال الكليني : «وذكر عن أبي بصير أنّه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما‌السلام يزعمان أنّه إسحاق. فأمّا زرارة فزعم أنّه إسماعيل» (١).

قال المحدّث المجلسي : «وغرضه ـ رحمه‌الله ـ من هذا الكلام رفع الاستبعاد عن كون إسحاق ذبيحا ، بأنّ إسحاق كان بالشام والذي كان بمكة إسماعيل ، فكون إسحاق ذبيحا مستبعد.

فدفع هذا الاستبعاد بأنّ هذا الخبر يدلّ على أن إبراهيم عليه‌السلام قد حجّ مع أهله وولده ، فيمكن أن يكون الأمر بذبح إسحاق في هذا الوقت» (٢).

وروى ـ رحمه‌الله ـ في خبر طويل عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام :

«... قال : فلما قضت مناسكها فرقت أن يكون قد نزل في ابنها شيء ، فكأني أنظر إليها مسرعة في الوادي واضعة يدها على رأسها وهي تقول : رب لا تؤاخذني بما عملت بامّ إسماعيل.

قال : فلما جاءت سارة فأخبرت الخبر قامت الى ابنها تنظر فإذا أثر السكين خدوشا في حلقه ، ففزعت واشتكت ، وكان بدء مرضها الذي هلكت فيه» (٣).

قال المحدّث الفيض الكاشاني هنا : «يستفاد من الخبر أن الذبيح إسحاق ، لأن سارة كانت أمّ إسحاق دون إسماعيل ، ولقولها : لا تؤاخذني ...» (٤).

وروى ـ رحمه‌الله ـ في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد عن أبي

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٢) مرآة العقول ٣ : ٢٥٦ ، بحار الأنوار ١٢ : ١٣٥.

(٣) الكافي ٤ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٤) الوافي ١ : ٥٤٨.

١٤٣

الحسن عليه‌السلام في حديث قوله : «وامر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى» (١).

قال السيد الطباطبائي في حاشيته : «وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة».

فهل هذه الأحاديث صحيحة في رأي الشيخ الكليني؟ وإذا كانت صحيحة ـ بمعنى الثقة بالصدور ـ فهل يثق ويعتقد بما دلّت عليه من كون الذبيح إسحاق؟ وإذا كان كذلك فما ذا يفعل بالأحاديث التي رواها وهي دالة على كونه إسماعيل؟ وهب أنّه من المتوقّفين في المقام ـ كما قال المجلسي في نهاية الأمر ـ فهل يلتئم هذا مع الالتزام بالصحّة في كلّ الأحاديث؟

ونتيجة البحث في هذه الجهة : عدم تمامية نسبة القول بالتحريف إلى الكليني استنادا إلى عبارته في صدر «الكافي».

جواز نسبة القول بعدم التحريف إليه

وبعد ، فإن من الجائز نسبة القول بعدم التحريف إلى الشيخ الكليني رحمه‌الله لعدة وجوه :

١ ـ إنّه كما روى ما ظاهره التحريف فقد روى ما يفيد عدم التحريف بمعنى الإسقاط في الألفاظ ، وهو ما كتبه الإمام عليه‌السلام إلى سعد الخير «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» الحديث. وقد

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥١.

١٤٤

استدلّ به الفيض الكاشاني على أنّ المراد من أخبار التحريف هو تحريف المعاني دون الألفاظ ، فيكون هذا الخبر قرينة على المراد من تلك الأخبار. ولو فرضنا التعارض كان مقتضى عرض الخبرين المتعارضين على الكتاب ـ عملا بالقاعدة التي ذكرها الكليني ، ولزوم الأخذ بالمشهور كما ذكر أيضا ـ هو القول بعدم وقوع التحريف في القرآن.

٢ ـ إنّ عمدة روايات الكليني الظاهرة في التحريف تنقسم إلى قسمين :

الأول ـ ما يفيد اختلاف قراءة الأئمة مع القراءة المشهورة.

الثاني ـ ما ظاهره سقوط أسماء الأئمة ونحو ذلك.

أما القسم الأول فخارج عن بحثنا.

وأما القسم الثاني ـ فمع غض النظر عن الأسانيد ـ فكلّه تأويل من أهل البيت عليهم‌السلام ، والتأويل لا ينافي التفسير ، وإرادة معنى لا تضاد إرادة معنى آخر ، وقد روى الكليني ما هو صريح في هذا الباب عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : «إنّها نزلت في رحم آل محمد. وقد يكون في قرابتك ـ ثم قال ـ ولا تكوننّ ممن يقول في الشيء أنّه في شيء واحد».

ومقتضى القواعد التي ذكرها الكليني أن لا يؤخذ بظواهر الأخبار من القسم الثاني.

٣ ـ إنّ كلمات الأعلام والأئمة العظام من الشيعة الإمامية ـ كالصدوق والمفيد والمرتضى والطبرسي ـ الصريحة في أن المذهب هو عدم التحريف ، وان القائلين بالتحريف شذاذ من «الحشوية» ، تقتضي أن لا يكون الكليني قائلا بالتحريف ، لا سيّما كلام الصدوق الصريح في «أن من نسب إلينا ... فهو كاذب»

١٤٥

وإلّا لم يقولوا كذلك ، إذ لم ينسوا شأن الكليني وعظمته في الطائفة.

٤ ـ إنّ دعوى الإجماع من جماعة من أعلام الطائفة ـ كالشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيره ـ ترجّح القول بأن الكليني من نفاة التحريف ، وإلّا لما ادّعوه مع الالتفات إلى شخصية الكليني.

٥ ـ إنّ الكليني رحمه‌الله روى الأخبار المفيدة للتحريف في (باب النوادر) ، ومن العلوم أنّ النوادر هي الأحاديث الشاذة التي تترك ولا يعمل بها كما نص على ذلك الشيخ المفيد (١).

وعن الشيخ في التهذيب بعد حديث لحذيفة : «... إنّه لا يصلح العمل بحديث حذيفة ، لأن متنه لا يوجد في شيء من الأصول المصنّفة بل هو موجود في الشواذ من الأخبار».

ثم إن الشيخ المامقاني بعد أن أثبت الترادف بين «الشاذ» و «النادر» عرّف الشاذ بقوله : «وهو على الأظهر الأشهر بين أهل الدراية والحديث هو ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الجماعة ولم يكن له إلّا إسناد واحد» (٢).

فجعله تلك الأحاديث تحت العنوان المذكور يدل على تشكيكه بصحتها وطرحه لها. قال السيّد محمد تقي الحكيم : «ولعل روايتها في (النوادر) من كتابه دليل تشكيكه بصدورها ورفضه لها ، وكأنّه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله عليه‌السلام : دع الشاذ النادر» (٣).

وقال السيّد حسين مكي العاملي : «ولأجل ما هي عليه من الضعف

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١ : ٤٥ ، مقباس الهداية : ٤٥.

(٢) مقباس الهداية : ٤٥.

(٣) الاصول العامّة للفقه المقارن : ١١٠.

١٤٦

وندرتها وشذوذها وغرابتها مضمونا جعلها الإمام الكليني من الأخبار الشاذّة النادرة ، فسطرها تحت عنوان (باب النوادر). وهذا دليل على أنّه خدش في هذه الأخبار وطعن فيها ولم يعتبرها ، إذ لم يغب عن ذهنه ـ وهو من أكابر أئمة الحديث ـ ما هو معنى النادر الشاذ لغة وفي اصطلاح أهل الحديث.

فالحديث الشاذ النادر عندنا ، معشر الإمامية الاثني عشرية ، هو الحديث الذي لا يؤخذ به ، إذا عارضه غيره من الروايات المشهورة بين أهل الحديث أو خالف مضمونا ، كتابا أو سنّة متواترة أو حديثا مشهورا بين أهل الحديث ...».

قال : «وأما البحث في حكم النادر الشاذ من الأحاديث فهو : أنّه إذا خالف الكتاب والسنّة أو كان صحيحا في نفسه ، ولكنه معارض برواية أشهر بين الرواة لا يعمل به ، كما قرره علماؤنا ...» (١).

__________________

(١) عقيدة الشيعة في الإمام الصادق عليه‌السلام : ١٦٥.

١٤٧

خاتمة الباب الأول

لقد استعرضنا في الباب الأول كلّ ما يتعلق ب «الشيعة والتحريف» ، حيث ذكرنا كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف ، وأدلّتهم على ما ذهبوا إليه من الكتاب والسنّة والإجماع وغيرها ، وأجوبتهم عن الروايات الواردة في كتبهم المفيدة بظاهرها لنقصان القرآن ، وعن الشبهات التي قد تثار حوله على ضوء تلك الروايات.

ولقد لاحظنا أنّ الروايات الموهمة للتحريف منقسمة إلى ما دلّ على اختلاف قراءة أهل البيت مع القرّاء في قراءة بعض الآيات ، وما دلّ على تأويلات لهم لبعض آخر ، وما دلّ على سقوط كذا آية من السورة وكذا آية من تلك.

أمّا القسم الأوّل فلا ينكر أنّ الأئمة عليهم‌السلام يختلفون مع القرّاء في قراءة كثير من الآيات والكلمات ، غير أنّهم أمروا شيعتهم بأن يقرءوا كما يقرأ الناس ، وهذا القسم خارج عن بحثنا.

وأما القسم الثاني فإنّه راجع إلى التأويل ، ولا ريب في أن أهل البيت عليهم‌السلام أدرى بحقائق القرآن ، معاني آياته من كلّ أحد ، والأدلة على ذلك لا تحصى ، وقد روي عن أبي الطفيل أنّه قال : «شهدت عليا يقول : سلوني ، والله لا تسألوني إلّا أخبرتكم ، سلوني عن كتاب الله ، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم

١٤٨

بليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل» (١).

وعن ابن سعد : «سمعت عليا يقول : والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت ، إنّ ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا» (٢).

ولذا رووا عن ابن مسعود أنّه قال : «ما من حرف إلّا وله ظهر وبطن ، وإنّ عليا عنده من الظاهر والباطن» (٣).

وروى ابن المغازلي : أنّ الذي عنده علم الكتاب هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٤).

ومتى وردت رواية معتبرة تحكي تأويلا أو تفسيرا عنهم لآية وجب الأخذ بها ، امتثالا لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث المتواترة بين المسلمين بالرجوع إليهم والانقياد لهم والأخذ عنهم والتعلّم منهم.

وأما القسم الثالث فإنّ ما تمّ منه سندا نادر جدا ، على أنّ أهل السنّة يشاركون الشيعة في نقل مثل هذه الروايات كما سنرى.

ومن هنا لاحظنا أنّ أكثر من ٩٠% من علماء الشيعة ـ الذين عليهم الاعتماد وإليهم الاستناد في اصولهم وفروعهم ـ ينفون النقصان عن القرآن نفيا قاطعا ولم يقل بنقصانه إلّا أقل من ال ٥% منهم ... وهي آراء شخصيّة لا تمثل رأي الطائفة.

وتلخّص : أنّ مذهب الشيعة عدم تحريف القرآن بمعنى النقيصة في ألفاظه ،

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ : ٢٣٨ ، الاصابة ٤ : ٥٠٣ ، المستدرك ٢ : ٤٦٦ ، الصواعق ١ : ١٢٧ ، كنز العمال ٦ : ٤٠٥ ، فيض القدير ٣ : ٤٦ ، الرياض النضرة ٢ : ١٨٨.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ : ٢٢٨ ، كنز العمال ٦ : ٣٩٦ ، الصواعق : ١٢.

(٣) حلية الأولياء ١ : ٦٥.

(٤) المناقب : ٣١٤.

١٤٩

وقد اعترف بذلك الشيخ عبد العزيز الدهلوي (١) والشيخ رحمة الله الهندي (٢) وغيرهما من أعلام أهل السنّة ، وهذا هو الذي ينسب إلى أئمتنا عليهم‌السلام وعلى رأسهم أمير المؤمنين الذي قال : «إنا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين ، لا ينطق بلسان ولا بدّ له من ترجمان».

فلننظر ما هو رأي غيره عليه‌السلام من الصحابة ، وما رأي شيعتهم المنعكس في صحاحهم ومسانيدهم وكتبهم المعتبرة ، في الباب الثاني.

__________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ١٣٩.

(٢) إظهار الحق ٢ : ٨٩.

١٥٠

الباب الثاني

اهل السنّة والتحريف

وفيه فصول :

أحاديث التحريف في كتب أهل السنّة

الرواة لأحاديث التحريف في كتب أهل السنّة

الأقوال والآراء في أهل السنّة حول التحريف وأحاديثه

نقد وتمحيص

مشهوران لا أصل لهما

١٥١
١٥٢

مقدّمة

وإنّ المعروف من مذهب أهل السنّة هو نفي التحريف عن القرآن الشريف ، وبذلك صرّحوا في تفاسيرهم وكتبهم في علوم القرآن والعقائد ، ولا حاجة إلى نقل نصوص كلماتهم.

لكنّ الواقع : إن أحاديث نقصان القرآن الكريم في كتبهم كثيرة في العدد ، صحيحة في الإسناد ، واضحة الدلالة.

أمّا الكثرة في العدد ـ والتي اعترف بها بعضهم أيضا كالآلوسي ـ فلا نهابها ولا نأبه بها من حيث هي مطلقا ، وإنما المشكلة في صحة هذه الأحاديث ووضوحها في الدلالة ، حتى لو كانت قليلة.

وذلك : لأنها مخرّجة في الكتب الستّة المعروفة ب (الصحاح) عندهم ، والتي ذهب جمهورهم إلى أنّ جميع ما اخرج فيها مقطوع بصدوره عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا سيّما كتابي البخاري ومسلم بن الحجّاج النيسابوري ، هذين الكتابين الملقّبين ب «الصحيحين» والمبرّءين عندهم من كلّ شين ، فهي في هذه الكتب ، وفي كتب أخرى تليها في الاعتبار والعظمة يطلقون عليها اسمها «الصحيح» واخرى يسمّونها ب «المسانيد».

١٥٣
١٥٤

الفصل الأول

أحاديث التحريف في كتب السنّة

١٥٥
١٥٦

قد ذكرنا أنّ المعروف من مذهب أهل السنّة هو موافقة الشيعة الاثني عشرية في القول بصيانة القرآن الكريم من التحريف ، فيكون هذا القول هو المتّفق عليه بين المسلمين.

بل نقل ابن حجر العسقلاني ـ وهو من كبار حفّاظ أهل السنّة ومن أشهر علمائهم المحقّقين في مختلف العلوم ـ أنّ الشريف المرتضى الموسوي ـ وهو أحد أعاظم علماء الشيعة وأئمّتهم في مختلف العلوم كذلك ـ كان يكفّر من يقول بنقصان القرآن.

وإذا كان المعروف من مذهب أهل السنّة ذلك ، فمن اللازم أن يكونوا قد تأوّلوا أو أعرضوا عمّا جاء في كتبهم من الأحاديث الصريحة بوقوع التحريف وغيره من وجوه الاختلاف في القرآن الكريم ، عن جماعة كبيرة من أعيان الصحابة وكبار التابعين ومشاهير العلماء والمحدّثين.

والواقع أنّ تلك الأحاديث موجودة في أهمّ أسفار القوم ، وإن شقّ الاعتراف بذلك على بعض كتّابهم ، وهي كثيرة ـ كما اعترف الآلوسي (١) ـ وليست بقليلة كما وصفها الرافعي (٢).

هذا مضافا إلى ما دلّ على وقوع الخطأ واللحن في القرآن ، والزيادة فيه ، وتبديل لفظ منه بلفظ آخر.

__________________

(١) روح المعاني ١ : ٢٥.

(٢) إعجاز القرآن : ٤٤.

١٥٧

ولنذكر نماذج ممّا رووه عن الصحابة في الزيادة والتبديل ، ثمّ ما رووه عنهم في النقيصة ـ وهو موضوع هذا الفصل ـ ثم طرفا مما نقل عن الصحابة من كلماتهم وأقوالهم في وقوع الخطأ واللحن في القرآن.

الزيادة في القرآن

فمن الزيادة في القرآن ـ في السور ـ ما اشتهر عن عبد الله بن مسعود وأتباعه من زيادة المعوّذتين ، فقد روى أحمد وغيره عن عبد الرحمن بن يزيد : «كان عبد الله يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ، ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله تعالى» (١) وفي الإتقان : قال ابن حجر في شرح البخاري : «قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك» (٢).

ومن الزيادة ـ في ألفاظه ـ : ما رووه عن أبي الدرداء من زيادة «ما خلق» في قوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٣) ففي البخاري بسنده عن علقمة : «دخلت في نفر من أصحاب عبد الله الشام ، فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا فقال : أفيكم من يقرأ؟ فقلنا : نعم. قال : فأيّكم أقرأ؟ فأشاروا إليّ فقال : اقرأ ، فقرأت : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى والذكر والانثى. فقال : أنت سمعتها من فيّ صاحبك؟ قلت : نعم. قال : وأنا سمعتها من فيّ النبي وهؤلاء يأبون علينا» (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ٥ : ١٢٩.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١.

(٣) سورة الليل : ٣.

(٤) صحيح البخاري ٦ : ٢١٠.

١٥٨

وفي رواية مسلم والترمذي : «أنا والله هكذا سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقرؤها ، وهؤلاء يريدونني أن أقرأها : وما خلق ، فلا اتابعهم» (١).

التبديل في الألفاظ

ومن التغيير والتبديل في ألفاظ القرآن ما رووه عن ابن مسعود أنّه قد غيّر «إنّي أنا الرزّاق ذو القوّة المتين» إلى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ...)(٢) ففي مسند أحمد وصحيح الترمذي ، بسندهما عنه ، قال «أقرأني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «إنّي أنا الرزّاق ذو القوة المتين» قال الترمذي : «هذا حديث حسن صحيح» (٣).

وما رووه عن عمر أنّه كان يقرأ : «فامضوا إلى ذكر الله» بدل (فَاسْعَوْا ...) ففي الدرّ المنثور عن عدّة من الحفّاظ والأئمة أنّهم رووا عن خرشة بن الحرّ ، قال : «رأى معي عمر بن الخطّاب لوحا مكتوبا فيه : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله (٤) فقال : من أملى عليك هذا؟ قلت : ابيّ بن كعب ، قال : إنّ ابيّا أقرؤنا للمنسوخ ، اقرأها : فامضوا إلى ذكر الله ...» (٥).

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ : ١٩١ ، صحيح مسلم ١ : ٥٦٥.

(٢) سورة الذاريات : ٥٨.

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٩٤ ، صحيح الترمذي ٥ : ١٩١.

(٤) سورة الجمعة : ٩.

(٥) الدرّ المنثور ٦ : ٢١٩.

١٥٩

أحاديث نقصان القرآن

وأحاديث نقصان القرآن منها ما يتعلّق بالسور ، ومنها ما يتعلّق بالآيات وأجزائها ، فمن القسم الأول :

الأحاديث الواردة حول نقصان سورة الأحزاب ، ومنها :

١ ـ ما رواه الحافظ السيوطي ، بقوله : «أخرج عبد الرزاق في المصنّف ، والطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن منيع والنسائي ، والدار قطني في الأفراد ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم ـ وصحّحه ـ وابن مردويه ، والضياء في المختارة : عن زرّ ، قال : قال لي ابيّ بن كعب : كيف تقرأ سورة الأحزاب ـ أو كم تعدّها ـ؟. قلت : ثلاثا وسبعين آية. فقال ابي : قد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة وأكثر من سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع منها ما رفع» (١).

وروى المتقي عن زر بن حبيش أيضا ، قال : «قال ابيّ بن كعب : يا زر : كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاث وسبعين آية. قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة أو هي أطول من سورة البقرة ...» (٢).

__________________

(١) الدرّ المنثور ٥ : ١٧٩.

(٢) كنز العمّال ٢ : ٥٦٧.

١٦٠