إعراب القرآن الكريم لغةً وإعجازاً وبلاغة تفسيراً بالإيجاز - ج ١٠

بهجت عبدالواحد الشيخلي

إعراب القرآن الكريم لغةً وإعجازاً وبلاغة تفسيراً بالإيجاز - ج ١٠

المؤلف:

بهجت عبدالواحد الشيخلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٩

هما اسم الله تعالى ملك الأملاك وجاء الضمير بصيغة الجمع وهو سبحانه وحده لا شريك له من باب التعظيم والتوقير والتفخيم ولأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب والملك والرئيس له من باب التعظيم والتوقير والتفخيم ولأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب والملك والرئيس والعالم يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة فيقول الخليفة : قد أمرنا لك بكذا وهو الآمر وحده كما جرت عادة الآمر بأن يقول للواحد : افعلا كذا وللجماعة أيضا على لفظ الاثنين. كان الحجاج إذا غضب على رجل قال : يا حرسي اضربا عنقه.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٢)

(فَصَلِ) : الفاء عاطفة للتسبيب. صل : فعل أمر مبني على حذف آخره ـ حرف العلة .. الياء ـ لأن أصله : صلي .. وبقيت الكسرة المجانسة للياء دالة على الياء المحذوفة والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت.

(لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : جار ومجرور متعلق بصل والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه. وانحر : الجملة الفعلية معطوفة بالواو على «صل» وتعرب إعرابها وعلامة بناء الفعل السكون.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣)

(إِنَّ شانِئَكَ) : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل. شانئك : اسم «إن» منصوب وعلامة نصبه الفتحة. والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه بمعنى : إن مبغضك يا محمد.

(هُوَ الْأَبْتَرُ) : الجملة الاسمية في محل رفع خبر «إن». هو : ضمير منفصل ـ ضمير الغائب ـ مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. الأبتر : خبر «هو» مرفوع بالضمة.

** (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : المعنى : فواظب على أداء الصلوات المفروضة لوجه ربك فحذف المضاف اختصارا «وجه» وبقي المضاف إليه حالا محله .. كما حذف مفعول «انحر» أي وانحر ذبيحتك قربانا لله وباسمه وحده وليس على طريقة عرب الجاهلية في صلاتهم لغير الله وكذلك نحرهم الذبائح .. وفي معنى «انحر» اختلاف بين المفسرين ولها عدة معان. قال الزمخشري : النحر : نحر البدن. وعن عطية : هي صلاة الفجر بجمع والنحر بمنى. وقيل : صلاة العيد والتضحية .. وقيل : هي جنس الصلاة والنحر : وضع اليمين على

٧٢١

الشمال .. أو وانحر لوجهه تعالى وباسمه سبحانه إذا نحرت مخالفا الذين يعبدون غير الله في النحر للأوثان. وقال ابن خالويه : اختلف العلماء في ذلك .. فقال بعضهم : صل الأضحى وانحر البدن. وقال آخرون : انحر القبلة بنحرك أي استقبلها تقول العرب : بيوتنا تتناحر : أي تتقابل. وقال آخرون : وانحر : أي خذ شمالك بيمينك في الصلاة ويقال : نحرت الشاة : أي ذبحتها. ونحرت الشهر : إذا دخلت فيه.

** (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) : المعنى : إن مبغضك هو المقطوع الذكر أي لا ولد له يخلده .. أي المنسي في الدنيا والآخرة أي لا عقب له إذ لا يبقى له أثر من نسل أو حسن ذكر أو عمل صالح إذ يهلك ويموت ويتلاشى أما أنت يا محمد فقد من الله عليك بالنبوة والكمالات العليا فلست يا محمد بأبتر ولكنه هو الأبتر الذي لا يبقى له أثر يذكر به. كانت قريش والشانئون لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقولون : إن محمدا صنبور : أي فرد لا ولد له فإذا مات انقطع ذكره .. فأكذبهم الله سبحانه وأعلمهم أن ذكر محمد مقرون بذكره إلى يوم القيامة .. فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال وأشهد أن محمدا رسول الله. ومن معاني «الأبتر» الذليل .. الحقير .. ومن الحيات : المقطوع الذنب .. والأبتر : ذنب الفيل. قال الأعشى :

ومن شانئ كاسف وجهه

إذا ما انتسبت له أنكرن

***

٧٢٢

سورة الكافرون

معنى السورة : الكافرون : جمع «كافر» اسم فاعل وهو الملحد والدهري ـ بفتح الدال ـ أي الذي يقول بقدم الدهر ولا يؤمن بالبعث فهو ملحد. أما «الدهري» بضم الدال فهو الرجل المسن نسب إلى الدهر ـ بضم الدال على غير قياس. والكافر هو من كفر بالله يكفر ـ كفرا .. من باب «نصر» وكفرانا وكفر النعمة وبالنعمة : أي جحدها وكفر بالشيء : بمعنى : تبرأ منه وكفر بالصانع : أي نفاه. و «الكفر» هو ضد الإيمان وجمع «الكافر» كافرون وهو جمع مذكر سالم ويجمع جمع تكسير على «كفار» و «كفرة» أما «الكافرة» اسم فاعلة فيجمع على «كوافر» والكفر أيضا جحود النعمة بمعنى : عدم شكرها. وقال الرازي : الكافر : تطلق على الليل المظلم أيضا لأنه ستر بظلمته كل شيء. وكل شيء غطى شيئا فقد كفره ومنه سمي «الكافر» لأنه يستر نعم الله عليه. ويقال : أكفره : أي دعاه كافرا ويقال : لا تكفر أحدا من أهل قبلتك : بمعنى : لا تنسبه إلى الكفر أما القول : كفر الله عنه الذنب فمعناه : محاه ومنه الكفارة.

تسمية السورة : لفظة «الكافرون» وردت كثيرا في القرآن الكريم ولأنهم مخصوصون فقد سميت إحدى سور القرآن الكريم بهذه التسمية .. وهم كفرة مخصوصون وفدوا إلى الرسول الكريم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون. وقيل : الكفار كثيرا ما تستعمل في جمع «كافر» المضاد للإيمان .. أما «الكفرة» فيكثر استعمالها في جمع «كافر النعمة» وقيل : قد عد كافرا من نسب الأمطار إلى الأنواء فقط ويجحد أن تكون هذه الأمطار ومعها الأنواء من خلق الله أي وهم يقولون : مطرنا بنوء كذا .. ولا يذكرون صنع الله ورحمته.

فضل قراءة السورة : قال من حارب الكفار بسلاح الحق والبرهان الساطع نبي الرحمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة «الكافرون» فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين .. وبريء من الشرك .. ويعافى

٧٢٣

من الفزع الأكبر» صدق رسول الله. و «مردة» جمع «مارد» وذكر «التفسير الوجيز» : أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ بهذه السورة وب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ركعتي الطواف. وأخرج أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ بها في ركعتي الفجر وثبت أنه قرأ بها في ركعتي المغرب وأوتر بها وبسبح اسم ربك الأعلى و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

إعراب آياتها

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١)

(قُلْ) : فعل أمر مبني على السكون والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت وحذفت الواو ـ أصله : قول ـ تخفيفا والالتقاء الساكنين.

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) : حرف نداء. أي : منادى مبني على الضم في محل نصب و «ها» زائدة للتنبيه. الكافرون : صفة ـ نعت ـ لأي مرفوع مثله على اللفظ لا المحل وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد بمعنى : قل يا محمد للمشركين : يا أيها الكافرون بالله ورسوله لا أعبد في المستقبل ما تعبدونه من الأصنام من دون الله.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (٢)

(لا أَعْبُدُ) : الجملة الفعلية وما بعدها في محل نصب مفعول به ـ مقول القول ـ لا : نافية لا عمل لها. أعبد : فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا بمعنى لا أعبد يا رهط قريش الكفرة.

(ما تَعْبُدُونَ) : اسم موصول بمعنى «الذي» مبني على السكون في محل نصب مفعول به. تعبدون : الجملة الفعلية صلة الموصول وهي فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لأنه مفعول به. التقدير : الذي تعبدونه بمعنى لا أعبد الصنم الذي تعبدونه من دون الله.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).

٧٢٤

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) : الواو عاطفة. لا : نافية لا عمل لها. أنتم : ضمير منفصل ـ ضمير المخاطبين ـ في محل رفع مبتدأ. عابدون : خبر «أنتم» مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد وحركته بمعنى ولا تعبدون في المستقبل ..

(ما أَعْبُدُ) : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به لاسم الفاعلين. أعبد : فعل مضارع مرفوع بالضمة والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا. والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها بمعنى : ما أعبد في الحال وهو الله الحق.

** (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) : في هذه الآية الكريمة وفي كل آيات الله البينات تكون «ها» حرف التنبيه بعد «أي» لأن «أي» اسم نكرة يضاف إلى ما بعده وقد فصل هذا الحرف بين «أي» وما بعدها وأزال الوهم إلى أنه مضاف إلى ما بعده .. والمعتاد دخول هاء التنبيه قبل اسم الإشارة المبهم «هذا» وأصله : ذا.

** (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : في هذا القول الكريم تكون «ما» الأولى بمعنى «الذي» أي الصنم أو الإله الذي تعبدونه. أما «ما» الثانية فهو اسم موصول أيضا بمعنى «الذي» ولكنه يعود إلى الله تعالى بمعنى : ولا أنتم عابدون الله تعالى وهو الإله الحق لا إلهكم من الأصنام ويعبر عن الله تعالى مرة بالاسم الموصول «من» كما في سورة «الملك» : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أو بالاسم الموصول «ما» كما في الآية المذكورة آنفا وكما في قوله عزوجل في سورة «البقرة» : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) وفي غيرها ..

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (٤)

(وَلا أَنا عابِدٌ) : الواو عاطفة. لا : نافية لا عمل لها. أنا : ضمير منفصل ـ ضمير المتكلم ـ مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. عابد : خبر «أنا» مرفوع بالضمة المنونة بمعنى ولست عابدا الآن أو في السابق.

(ما عَبَدْتُّمْ) : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به لاسم الفاعل «عابد» عبدتم : الجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها وهي فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك. التاء ضمير متصل ـ ضمير المخاطبين ـ مبني على الضم في محل رفع فاعل والميم علامة جمع الذكور والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل. التقدير : ما عبدتموه فيما مضى وشددت التاء وأصله :

٧٢٥

عبدتم .. فأدغمت التاء في التاء بعد قلب الدال تاء لفظا. وقال ابن خالويه : ولو كان في غير القرآن لجاز أن تقول : عبددم بعد قلب التاء دالا لأن الدال أجهر واقوى فيغلب القوي على الضعيف والمجهور على المهموس. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية فتكون «عبدتم» صلة حرف مصدري و «ما» وما بعدها بتأويل مصدر في محل نصب مفعول اسم الفاعل «عابد» بمعنى : ولا أعبد عبادتكم الباطلة.

** (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : في هذه الآية الكريمة وما بعدها وما قبلها تكرير فإن سأل سائل فقال : ما وجه التكرير في هذه السورة؟ أجاب ابن خالويه فقال : معناه أن قوما من كفار قريش صاروا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ولا ينبغي أن تسفه أحلام قومك .. ولكن نعبد نحن ربك سنة وتعبد أنت إلهنا سنة. فأنزل الله تعالى : «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الآن ولا أنتم عابدون فيما تستقبلون ما أعبد .. ولا أنا عابد فيما استأنف ما عبدتم أنتم فيما مضى من الزمان .. ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد. فإن قال قائل فقد كان فيهم من أسلم بعد ذلك الوقت فلم قيل : ولا أنتم عابدون؟ فالجواب في ذلك أن هذا نزل في قوم بأعيانهم ماتوا على الكفر وعلم الله تعالى ذلك منهم .. فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ كما قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في قوم بأعيانهم .. وقد نفعت الموعظة قوما. وفيه جواب آخر : أن يكون الخطاب عاما ويراد به الخاص لمن لا يؤمن وإن كان فيهم من قد آمن.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (٥)

هذه الآية الكريمة مكررة في الآية الكريمة الثالثة بمعنى ولا أنتم عابدون عبادتي الصحيحة.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)

(لَكُمْ دِينُكُمْ) : جار ومجرور متعلق بخبر مقدم محذوف والميم علامة جمع الذكور. دينكم : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة والكاف ضمير المخاطبين في محل جر بالإضافة. والميم علامة جمع الذكور.

(وَلِيَ دِينِ) : معطوفة بالواو على «لكم دينكم» وتعرب إعرابها والياء المحذوفة ضمير المتكلم في محل جر بالإضافة وحذفت الياء لأنها رأس آية أي مراعاة لفواصل الآيات بمعنى لكم دينكم وهو الشرك ولي ديني وهو التوحيد والاسلام.

٧٢٦

سورة النصر

معنى السورة : النصر : هو مصدر الفعل «نصر» وهذا الفعل هو الباب الأول من أبواب الميزان الصرفي ـ نصر ـ ينصر ـ نصرا ـ أي بضم عين الفعل في المضارع ـ أي الصاد ـ يقال : نصرته على عدوه ونصرته منه نصرا : بمعنى : أعنته وقويته واسم الفاعل منه «ناصر» و «نصير» أي فعيل بمعنى : فاعل وجمعه : أنصار والاسم منه : النصرة ـ بضم النون ـ ويقال : تناصر القوم مناصرة : بمعنى : نصر بعضهم بعضا والفعل «تناصر» و «انتصر» من الأفعال المزيدة. و «النصر» في اللغة أيضا : الفتح .. الرزق. وقيل في قوله تعالى في سورة «الحج» : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي لن يرزقه الله .. ووقف اعرابي يسأل الناس فقال : نصر الله من نصرني .. ويقال أيضا : نصر الغيث ـ المطر ـ بلد كذا.

تسمية السورة : سميت إحدى سور القرآن الكريم بسورة «النصر» تيمنا بنصر الله تعالى رسوله الكريم محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أعدائه وفتح مكة ولهذا سميت أيضا بسورة «الفتح» وآيتها الأولى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) صدق الله العظيم. بمعنى : وأظهرك يا محمد على أعدائك. وقيل : المراد : جنس نصر الله عزوجل للمؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد ـ وقال التفسير الوجيز : المعنى : إذا تحقق نصر الله أيها النبي مع المؤمنين على أعدائك من قريش وفتح مكة. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه فسر هذه الآية أو السورة لعمر والصحابة بأنها أجل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعلمه الله له .. قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك وقيل : سميت أيضا سورة «التوديع» وعن أبي عبيدة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يستفتح في غزواته بصعاليك المهاجرين والأنصار : أي يستنصر بفقرائهم. والفتح في غير هذا : الحكم. وعن الكسائي : أنه سمع امرأة أعرابية تقول لزوجها : بيني وبينك الفتاح. تريد القاضي. وقال ابن الأعرابي : سمعت أعرابيا يقول : لا والذي أكتع به : أي أحلف به.

٧٢٧

فضل قراءة السورة : قال النبي المنصور بالهداية ودين الحق محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة «النصر» أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» صدق رسول الله. وجاء في حديث الترمذي عن مالك بن أنس أنها تعدل ربع القرآن و «إذا زلزلت» تعدل ربع القرآن. وعند النسائي إنها آخر سورة من القرآن نزلت وعن أحمد وابن جرير عن ابن عباس : لما نزلت قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : نعيت إلي نفسي».

إعراب آياتها

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (١)

(إِذا جاءَ) : ظرف لما يستقبل من الزمن مبني على السكون في محل نصب متضمن معنى الشرط خافض لشرطه متعلق بجوابه. جاء : فعل ماض مبني على الفتح. والجملة الفعلية «جاء نصر الله» في محل جر بالإضافة لوقوعها بعد الظرف.

(نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : فاعل مرفوع بالضمة. الله لفظ الجلالة : مضاف إليه مجرور للتعظيم بالإضافة وعلامة الجر : الكسرة. والفتح : معطوف بالواو على (نَصْرُ اللهِ) مرفوع بالضمة لأنه معطوف على مرفوع ويعرب إعرابه.

** (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : في هذا القول الكريم حذف مفعول المصدر «نصر» لأنه يعمل عمل فعله المتعدي بمعنى : نصر الله تعالى رسوله الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

** سبب نزول الآية : عن البزار والبيهقي أنها نزلت أوسط أيام التشريق بمنى في حجة الوداع ولهذا سميت سورة «التوديع» أيضا. و «التشريق» مصدر الفعل «شرق» نقول : شرق الرجل اللحم تشريقا : بمعنى : قدده ـ أي جعله ـ قطعا ـ أو جففه في الشمس. و «التشريق» هو أيضا : صلاة العيد لأنها تكون عقب شروق الشمس. وأيام التشريق : هي ثلاثة أيام بعد عيد الأضحى لأن لحوم الأضاحي تشرق بها. والأضاحي : جمع «أضحية» أي ضحية ومنها : يوم الأضحى : وهو يوم نحر ـ ذبح ـ البهيمة من نحرها .. ومنه اشتقوا القول : تناحر القوم على كذا : بمعنى : تخاصموا فكاد بعضهم ينحر بعضا .. ومنه أيضا : انتحر الرجل : بمعنى : قتل نفسه. و «النحر» هو أعلى الصدر .. واستعير هذا الفعل لمعان فيها كناية على فعل آخر .. نحو : نحر الرجل الأمور علما : أي أتقنها .. ونحر العلم نحرا وهو نحرير ـ بكسر النون ـ بمعنى : وهو حاذق فطن عاقل. وتطلق اللفظة أيضا على العالم بالشيء المجرب لأن العلم نحره نحرا لمهارته وبصيرته وفطنته.

٧٢٨

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٢)

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ) : الواو عاطفة. رأيت : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك والتاء ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ وهو الرسول الكريم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مبني على الفتح في محل رفع فاعل. والفعل يتعدى هنا إلى مفعول واحد لأنه من رؤية العين ـ أي رأى البصرية .. ولو كان بمعنى الظن لتعدى إلى مفعولين. الناس : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة بمعنى وأبصرت أو وعرفت.

(يَدْخُلُونَ فِي دِينِ) : الجملة الفعلية في محل نصب حال من «الناس» وهي فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل بمعنى داخلين ويجوز أن يكون في محل نصب مفعولا به ثانيا على معنى علمت .. والجار والمجرور «في دين» متعلق بيدخلون.

(اللهِ أَفْواجاً) : لفظ الجلالة : مضاف إليه مجرور للتعظيم وعلامة الجر الكسرة بمعنى يدخلون في ملة الإسلام. أفواجا : حال من ضمير «يدخلون» منصوب وعلامة نصبه الفتحة المنونة بمعنى جماعات كثيفة وهي جمع «فوج» و «الفوج» جمع لا مفرد له من لفظه مثل «الرهط» و «النفر» و «الملأ» وقيل : النفر و «القوم» و «الرهط» معناها الجمع وهي للرجال دون النساء. وقيل : القوم : جمع لا مفرد له من لفظه.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣)

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ) : الجملة الفعلية جواب شرط غير جازم لا محل لها. الفاء واقعة في جواب «إذا» سبح : فعل أمر مبني على سكون آخره والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت بمعنى : فقل : سبحان الله وقدسه وقيل : المعنى : فصل والتسبيح هو الصلاة. بحمد : جار ومجرور متعلق بسبح أو في محل نصب حال من ضمير «سبح» بمعنى : حامدا ربك على نعمه.

(رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة وهو مضاف والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ مبني على الفتح في محل جر

٧٢٩

مضاف إليه ثان. واستغفره : معطوفة بالواو على جملة «سبح» وتعرب إعرابها والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به.

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب اسم «إن». كان : فعل ماض ناقص مبني على الفتح واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. توابا : خبر «كان» منصوب وعلامة نصبه الفتحة المنونة والجملة الفعلية «كان توابا» في محل رفع خبر «إن» و «تواب» فعال بمعنى فاعل. من صيغ المبالغة بمعنى الكثير التوبة والمغفرة المعنى : فنزه الله وقدسه حامدا ربك على نعمه واسأله أن يغفر لك ولمن صدق بك من المؤمنين إنه سبحانه كثير التوبة لعباده التائبين الصالحين.

***

٧٣٠

سورة المسد

معنى السورة : المسد : هو الحبل من ليف أو خوص وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ـ جمع وبر ـ أو هو «الليف» يقال : مسد الحبل ـ يمسده ـ مسدا .. من باب «نصر» أي فتله أو إذا أحكم فتله. وقيل : هو حبل من نار أو من ليف من جنس النار وقيل المراد به في الآية الكريمة : حبل ذرعه سبعون ذراعا مفتول فتلا شديدا يعذب به في النار.

تسمية السورة : سميت السورة : سورة «المسد» مأخوذة من الآية الكريمة الخامسة فيها : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) صدق الله العظيم .. أي في عنقها .. عنق أم جميل أخت أبي سفيان وامرأة «أبي لهب» وتكنى بأم جميل التي كانت تؤذي الرسول الكريم محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت ـ لعنها الله ـ تحمل الشوك فتطرحه في طريق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لإيذائه وهي التي خاطبت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند ما أبطأ الوحي ـ جبريل ـ عليه‌السلام على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ـ تقصد به جبريل ـ عليه‌السلام ـ فنزل قوله تعالى في سورة «الضحى» : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وسميت السورة أيضا بسورة «تبت» وبسورة «اللهب» وهاتان التسميتان واردتان في الآية الأولى من هذه السورة الشريفة في قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) المعنى : هلكت يدا أبي لهب وخسر .. يقال : تبت يداه ـ تتب وتبا له بمعنى : ألزمه الله هلاكا وخسرانا ومنه اشتق الفعل «استتب الأمر» أي تهيأ واستقام. و «التباب» بفتح التاء : هو الخسران والهلاك. واسم الفاعل من الفعل «تب» هو «تاب» واسم المفعول : متبوب. قال تعالى في سورة «غافر» : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) ومعنى الآية : خسرت يداه وهلكت أو تب هو بمعنى : هلكت نفسه .. لأن العرب تنسب الأفعال إلى اليدين ومثله قوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بمعنى ولا تلقوا أنفسكم. أي جعلت يداه هالكتين. والمراد : هلاك جملته.

٧٣١

فضل قراءة السورة : قال من مدت عليه الفصاحة رواقها الرسول محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة «تبت» رجوت له أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» صدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

إعراب آياتها

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (١)

(تَبَّتْ يَدا) : فعل ماض معناه الاستقبال لأنه دعاء عليه مبني على الفتح والتاء تاء التأنيث الساكنة لا محل لها. يدا : فاعل مرفوع بالألف لأنه مثنى وحذفت النون ـ أصله : يدان ـ للإضافة.

(أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الياء لأنه من الأسماء الخمسة وهو مضاف. لهب : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المنونة. الواو عاطفة. تب : فعل ماض لفظا ومعنى لأنه خبر بمعنى : وكان ذلك وحصل وهو مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. وقد تب : بمعنى وقد هلك.

** (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) : أبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان أشد الناس عداء له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإنما كني بأبي لهب لأن وجنتيه كانتا تتوقدان حسنا أو احمرارا ـ لعنه الله ـ وكني بهذه الكنية ولم يسم لأنه أريد بذلك التهكم به و «التباب» : هو الهلاك قال عدي :

اذهبي إن كل دنيا ضلال

والأماني عقرها للتباب

لا يروقنك صائر لفناء

كل دنيا مصيرها للتراب

وقيل : تبت يداه .. لأن العرب تنسب الشدة والقوة والأفعال إلى اليدين إذ كان بهما يقع كل الأفعال. فقد روي أن أبا لهب قال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما دعا قومه على جبل الصفا إلى الإسلام : تبا لك .. أما جمعتنا إلا لهذا؟ فنزلت هذه السورة الشريفة ردعا له ونهيا عن موقفه هذا من الرسول الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي رواية : أنه لما نزل قوله تعالى في سورة «الشعراء» (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقاربه فأنذرهم .. فقال عمه أبو لهب : تبا لك .. ألهذا دعوتنا وأخذ حجرا ليرميه به وكانت امرأته تحمله على عداوته وتوقد بينهما نيران الخصومة. فقال الله تعالى : هلكت يدا أبي لهب.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٢)

٧٣٢

(ما أَغْنى) : نافية لا محل لها من الإعراب. أغنى : فعل ماض مبني على الفتح. وقيل : ما : اسم استفهام في معنى الإنكار مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم للفعل «أغنى» أو في محل رفع مبتدأ وخبره : الجملة الفعلية (أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) في محل رفع بمعنى أي شيء أغنى ماله؟ بمعنى : ما نفعه ماله ..

(عَنْهُ مالُهُ) : جار ومجرور متعلق بأغنى. ماله : فاعل مرفوع بالضمة والهاء ضمير متصل ـ ضمير الغائب في محل جر مضاف إليه أو يكون الجار والمجرور «عنه» في مقام مفعول «أغنى» المقدم فيكون رفع «ما» على الابتداء.

(وَما كَسَبَ) : الواو عاطفة. ما : اسم موصول بمعنى «الذي» مبني على السكون في محل رفع لأنه معطوف على «المال» كسب : تعرب إعراب «أغنى» وعلامة بنائه الفتحة الظاهرة وقدرت الفتحة على آخر «أغنى» للتعذر وجملة «كسب» صلة الموصول لا محل لها والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لأنه مفعول به. التقدير : وما كسبه أو تكون «ما» مصدرية فتكون جملة «كسب» صلة حرف مصدري لا محل لها و «ما» وما بعدها بتأويل مصدر في محل رفع لأنه معطوف على مرفوع. التقدير : مكسوبه أو كسبه بمعنى : ما أفاده جمعه المال وكسبه من عمله السيئ في محاربة النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي ما نفعه ذلك في دفع عذاب الله تعالى عنه.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (٣)

(سَيَصْلى ناراً) : السين حرف استقبال ـ تسويف ـ للتوكيد. يصلى : فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. نارا : مفعول به منصوب بالفتحة المنونة بمعنى : سيدخل نار جهنم المحرقة. ونكرت «نارا» لهولها وفظاعتها.

٧٣٣

(ذاتَ لَهَبٍ) : صفة ـ نعت ـ للموصوف «نارا» منصوبة مثلها وعلامة نصبها الفتحة. لهب : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المنونة بمعنى : ذات مؤنث «ذو» أي صاحبة النور والتوقد والحرارة.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٤)

(وَامْرَأَتُهُ) : معطوفة بالواو على الضمير في «يصلى» بمعنى : سيصلى أي سيدخل هو أي أبو لهب وامرأته مرفوعة بالضمة والهاء ضمير متصل ـ ضمير الغائب ـ في محل جر مضاف إليه.

(حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) : حال من «امرأته» أو مفعول به منصوب بفعل محذوف تقديره : أذم .. أشتم .. أو أعني .. ونصبه على الذم وعلامة نصبه الفتحة. الحطب مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة بمعنى حطب جهنم.

** (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) : المعنى وستدخل امرأته جهنم مع زوجها أبي لهب. وقيل سميت حمالة الحطب لأنها كانت تطرح الحطب والشوك في طريق النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لإيذائه. وقرئت «حمالة» بالرفع وقراءة «عاصم» بالنصب وفي حالة القراءة بالرفع تكون كلمة «امرأته» مبتدأ و «حمالة» خبره أما النصب فجاء على الذم. والعرب تنصب بالذم كما تنصب بالمدح وخاصة بالفعل أعني. قال ابن خالويه مدح العرب هو قولهم : اللهم صل على محمد أبا القاسم. بمعنى : أمدح أبا القاسم وفي حالة قولهم على محمد أبو القاسم .. يكون «أبو» خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أبو القاسم .. أما في حالة الجر «أبي القاسم» فيكون الجر لأنه بدل من «محمد» ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلامة جره الياء لأنه من الأسماء الخمسة. قال قوم : كانت تحمل الشوك فتلقيه في طريق المسلمين وفي طريق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغضا منها لهم وإيذاء لهم. وقال آخرون : بل كانت تمشي بالنميمة وتنقل الأخبار على جهة الإفساد وقيل : وكانت هذه المدعوة «أم جميل» حمقاء مع كفرها ـ لعنها الله ـ ويسمى «الحطب» الحظر كما في قول الشاعر :

من البيض لم تصطد على ظهر لامة

ولم تمش بين القوم بالحظر الرطب

وإنما جعل «الحطب» رطبا لأنه أشد دخانا وأذى. واللامة : ما يلام عليه. أي لم توجد هذه المرأة مرتكبة لما تلام عليه .. وهذه رواية الزمخشري في تفسيره أيضا في كشافه. قال : ومر اللهبي الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب. والأحوص ينشد .. فقال ممازحا له : إنك يا أحوص لشاعر ولكن لا تمثل .. وفي رواية : ولكنك لا تعرف الغريب ولا تغرب .. فقال بلى ، ولقد قلت معرضا بأم جميل :

ما ذات حبل يراه الناس كلهم

وسط الجحيم فلا تخفى على أحد

ترى حبال جميع الناس من شعر

وحبلها وسط أهل النار من مسد

٧٣٤

فقال اللهبي يرد عليه :

ما ذا تحاول من شتمي ومنقصتي

أم ما تعير من حمالة الحطب

غراء سائلة في المجد غرتها

كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

ووردت في كشاف الزمخشري : شادخة بدلا من «سائلة» وشدوخ الغرة وسيلانها : اتساعها في الوجه وهذا كناية عن عظيم مكانتها في الشرف والمجد. وجاء بعد هذين البيتين للشاعر نفسه هذان البيتان :

أفي ثلاثة رهط أنت رابعهم

عيرتني واسطا جرثومة العرب

فلا هدى الله قوما أنت سيدهم

في جلده بين أصل الثيل الذنب

واسطا جرثومة العرب : بمعنى : حالا وسطها ؛ ويقال : وسط فلان قومه ـ يسطهم ـ إذا كان أشرفهم وأكرمهم. وقوله : «في جلده ..» فيه سب له ووصف له بأنه مأبون ـ بمعنى : مذكور بقبيح .. واسم مفعول ـ من ابن فلان يؤبن بكذا : بمعنى : يذكر بقبيح. وقيل : وفي ذكر مجلس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا تؤبن فيه الحرم : أي لا تذكر.

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥)

(فِي جِيدِها حَبْلٌ) : الجملة الاسمية في محل نصب حال ثانية من «امرأته» في جيد : جار ومجرور متعلق بخبر مقدم محذوف و «ها» ضمير متصل ـ ضمير الغائبة ـ مبني على السكون في محل جر مضاف إليه. حبل : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المنونة.

(مِنْ مَسَدٍ) : جار ومجرور متعلق بصفة محذوفة من «حبل» و «من» حرف جر بياني. وقيل لابتداء الغاية.

***

٧٣٥

سورة الإخلاص

معنى السورة : الإخلاص : تأتي اسما وتأتي مصدر الفعل الرباعي «أخلص» نحو : أخلص العبد الطاعة لله وأخلص في الطاعة : بمعنى : ترك الرياء فيها .. ويقال : أخلصه الله : أي جعله مختارا خالصا من الدنس فهو مخلص ـ بفتح اللام لأنه اسم مفعول وجمعه مخلصون. قال تعالى في سورة «مريم» : (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) صدق الله العظيم. في هذه الآية الكريمة ورد اسم المفعول «مخلصا» مرة واحدة في القرآن الكريم وهو بصيغة المفرد أما اسم الفاعل «مخلص» بكسر اللام فقد ورد ثلاث مرات في القرآن الكريم وفي سورة «الزمر» فقط. والاسم «مخلصون» بفتح اللام لأنه اسم مفعولين ورد كثيرا في كتاب الله العزيز .. المعنى : هم الذين أخصلهم الله سبحانه لطاعته وكذلك الحال بالنسبة إلى كلمة «مخلصين» بكسر اللام ـ أي اسم الفاعلين ـ وردت كثيرا في القرآن الكريم ولعل إعجاز القرآن العظيم ـ وما أكثر معجزاته! أن ترد لفظة اسم الفاعلين ثماني مرات في التنزيل الحكيم ومثلها أي ثماني مرات أيضا اسم مفعولين.

تسمية السورة : سميت إحدى سور القرآن الكريم بهذه اللفظة السامية إجلالا لمعناها ومدلولها فقد قيل : إن كلمة «الإخلاص» هي القول : لا إله إلا الله .. وقيل أطلقت هذه التسمية على السورتين الكريمتين : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وسميت سورة «الإخلاص» أيضا سورة «الأساس» وذلك لاشتمالها على أصول الدين. و «الخلاص» هو النجاة .. نقول : في هذا العمل خلاص من الأخطار .. ويوم الخلاص : هو الفوز بالآخرة.

فضل قراءة السورة : قال خير خلق الله الرسول الأمين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أسست السموات السبع والأرضون السبع على (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) هذا ما رواه أنس عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذه الآية الكريمة هي مطلع هذه السورة الشريفة أي أن السموات السبع والأرضين السبع ما خلقت إلا لتكون دلائل

٧٣٦

على توحيد الله تعالى ومعرفة صفاته الجليلة التي نطقت بها هذه السورة وقال الرسول الكريم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ «الله أحد» كان بعدل القرآن» صدق رسول الله. وأخرج أحمد والبخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأصحابه : أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشق عليهم ذلك وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال : ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الله الواحد الصمد : ثلث القرآن باعتبار معانيه لأنه أحكام وأخبار وتوحيد وقد اشتملت هي على الثلث.

إعراب آياتها

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١)

(قُلْ هُوَ) : فعل أمر مبني على السكون والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت .. أصله : قول ـ حذفت الواو تخفيفا ولالتقاء الساكنين. والجملة الاسمية بعده في محل نصب مفعول به. هو : ضمير منفصل ـ مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. وقال ابن خالويه : فإن سأل سائل : فقال : إذا قال قائل قل لا إله إلا الله وجب أن تقول : لا إله إلا الله. ولا تزد «قل» فما وجه ثبات لفظ الأمر في «قل» في جميع القرآن؟ فالجواب في ذلك أن التقدير : قل يا محمد قل هو الله أحد وقل يا محمد قل أعوذ برب الناس .. فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما لقنه جبريل ـ عليه‌السلام ـ عن الله عزوجل. وأخبرنا محمد بن أبي هاشم «عن ثعلب» عن ابن الأعرابي قال : قيل لأعرابي : ما تحفظ من القرآن؟ فقال : أحفظ سور القلاقل : يعني ما كان في أوله : قل.

(اللهُ أَحَدٌ) : لفظ الجلالة خبر «هو» مرفوع للتعظيم وعلامة الرفع : الضمة. أحد : بدل من لفظ الجلالة اسم الله تعالى مرفوع بالضمة المنونة لأنه اسم نكرة ـ أي غير مضاف ولا محلى بالألف واللام ـ وإن كان نكرة لأن النكرة قد تبدل في المعرفة والأصل في «أحد» هو : وحد أي واحد .. فقلبت الواو ألفا. ويجوز أن يكون «هو» ضمير الشأن في محل رفع مبتدأ

٧٣٧

والجملة الاسمية «الله أحد» في محل رفع خبر «هو» على تقدير : الشأن هذا هو أن الله واحد لا شريك له .. أي لا ثاني له. وقيل : ليس في كلام العرب واو قلبت همزة وهي مفتوحة إلا هذه الكلمة وبقية يسيرة من الكلمات لأنها شاذة عن القياس لأن الواو إنما تستثقل عليها الكسرة والضمة فأما الفتحة فلا تستثقل. والمراد بقوله سبحانه : أحد : وصفه عزوجل بالوحدانية ونفي الشركاء.

** (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) : إن قيل : لم ابتدأت هذه الآية الكريمة بالمكني ـ أي الضمير «هو» ولم يتقدم ذكره؟ فقل : لأن هذه السورة الشريفة ثناء على الله تعالى وهي خالصة له ليس فيها شيء من ذكر الدنيا. وعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجبت قيل : يا رسول الله : وما وجبت؟ قال : وجبت له الجنة.

** سبب نزول الآية : نزلت جوابا لقوم من المشركين قالوا للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : يا محمد انسب لنا ربك أي اذكر لنا نسبه أو أخبرنا عن الله تعالى ذكره أمن ذهب هو أم من فضة أم من مسك؟ وعن ابن عباس : قالت قريش : يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه؟ فنزل قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أي إن سألتموني وصفه هو إله واحد.

(اللهُ الصَّمَدُ) (٢)

(اللهُ الصَّمَدُ) : لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع للتعظيم وعلامة الرفع الضمة. الصمد : خبر لفظ الجلالة مرفوع بالضمة. ويجوز أن يكون «الصمد» صفة ـ نعتا ـ للفظ الجلالة وخبر المبتدأ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) في محل رفع.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (٣)

(لَمْ يَلِدْ) : الجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للفظ الجلالة. لم : حرف نفي وجزم وقلب. يلد : فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه سكون آخره والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو. والأصل : يولد .. فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة فإن حلت الواو بين ياء وفتحة أو بين ياء وضمة لم تحذف .. مثل : يوطأ .. يوضؤ .. يوجل ويوحل. ولم تسقط الواو من «يوعد» و «يوزع» وقد حلت بين ياء وكسرة والسبب هو أن الواو هنا مدة لا واو صحيحة لأن الواو إذا سكنت وانضم ما قبلها تصير

٧٣٨

مدة فصارت بمنزلة الألف في «واعد» وحذف مفعول «يلد» اختصارا بمعنى : لم يلد أحدا ولم يولد من أحد لأنه أزلي جلت قدرته.

(وَلَمْ يُولَدْ) : الواو عاطفة. لم : حرف نفي وجزم وقلب. يولد : فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بلم وعلامة جزمه : سكون آخره ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو وثبتت الواو لوقوعها بين ياء وفتحة.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤)

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) : أعرب. يكن : فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه سكون آخره وحذفت الواو ـ أصله : يكون – تخفيفا ولالتقاء الساكنين : سكونها وسكون النون ونقلت الضمة إلى الكاف لثقلها على الواو. له : جار ومجرور متعلق بالخبر. وقدم الظرف «له» على اسم «يكن» وخبرها وذكر أن المعنى ليس له مثيل في العالم.

(كُفُواً أَحَدٌ) : خبر «يكن» مقدم منصوب وعلامة نصبه الفتحة المنونة. أحد : اسم «يكن» المؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المنونة بمعنى : لم يكافئه أحد : أي لم يماثله من : فلان يكافئ فلانا : أي يماثله أي لم يعدله بمعنى لم يشبهه أحد.

** (اللهُ الصَّمَدُ) : أي المقصود بمعنى : المصمود ـ فعل بمعنى مفعول ـ أي المقصود إليه في الحوائج أو الباقي بعد فناء الخلق. واختلفوا في تفسير «الصمد» فأجود ما قيل في «الصمد» : السيد الذي قد انتهى سودده ويصمد الناس إليه في حوائجهم فهو قصد الناس والخلائق مفتقرون إلى رحمته سبحانه.

** (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) : وقدم الظرف «له» والكلام العربي الفصيح يقضي بتأخير الظرف ـ كما قال الزمخشري ـ فهو حشو الكلام وغير مستقر ولا يقدم ونرى هنا أنه قد تقدم ولم يؤخر في أفصح كلام وأعربه وهو كتاب الله الكريم والسبب كما قال سيبويه : هو أن هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقدم وأحراه ولما كان الغرض نفي المكافأة والمساواة عن ذات الله تعالى كان تقديم المكافأة المقصود بأن يسلب عنه أولى ثم لما قدمت لتسلب ذكر معها الظرف ليبين الذات المقدسة بسلب المكافأة. وللطف المعنى اقتضى تقديم الظرف مع الخبر .. على الاسم.

٧٣٩

سورة الفلق

معنى السورة : الفلق ـ بفتح الفاء واللام ـ هو ضوء الصبح وقيل : هو الصبح بعينه ـ وقيل : هو الخلق كله .. يقال : فلقته ـ أفلقه ـ فلقا .. من بابي «نصر» و «ضرب» بمعنى شققته فانفلق. وسمي ضوء الصبح فلقا أو فرقا لأن الله يفلق عنه ويفرق .. و «الفلق» بصيغة «فعل» بمعنى «مفعول» ومنه القول : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح. وقيل : الفلق : هو كل ما يفلقه الله تعالى كالأرض عن النبات والجبال عن العيون .. والسحاب عن المطر .. والأرحام عن الأولاد وقولهم : الفلق : هو واد في جهنم أو جب فيها مبعثه .. من قولهم لما اطمأن من الأرض : الفلق. وجمعه : فلقان. وقال أحد الصحابة : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره. وقالوا في أمثالهم هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح. والفلق هو الخلق .. ومنه قولهم : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة. و «الفلق» أيضا تطلق على مقطرة من خشب يحبس فيها الناس.

تسمية السورة : سميت إحدى سور التنزيل الحكيم بسورة «الفلق» للعناية والأهمية. وهذه اللفظة وردت في قول عائشة : أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوحي : الرؤيا الصالحة في النوم فكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ـ أي مثل ضيائه ـ ثم حجب إليه الخلاء ـ أي الخلوة ـ وكان يخلو بغار حراء. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت أيضا : أخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بيدي فأشار إلى القمر فقال : تعوذي من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب. ووقوبه : دخوله في الكسوف واسوداده قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك حين نزلت الآية الكريمة (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) والغاسق هو الليل إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ووقوبه : دخوله في كل شيء.

فضل قراءة السورة : قال المبعوث إلى خير الأمم السراج الوهاج محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ المعوذتين .. فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله

٧٤٠