إعراب القرآن الكريم لغةً وإعجازاً وبلاغة تفسيراً بالإيجاز - ج ١٠

بهجت عبدالواحد الشيخلي

إعراب القرآن الكريم لغةً وإعجازاً وبلاغة تفسيراً بالإيجاز - ج ١٠

المؤلف:

بهجت عبدالواحد الشيخلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٩

(وَاللَّيْلِ) : معطوفة بالواو على «الخنس» مجرور مثله وعلامة جره الكسرة وقيل : الواو هنا هي واو القسم أيضا لأن الآية الكريمة السابقة القسم فيها بالباء فتكون الواو واو القسم وهو أبلغ كأنه أقسم قسمين بشيئين مختلفين بمعنى أقسم بالليل إذا أقبل بظلامه أو إذا أدبر .. أو دنا من أوله وأظلم.

(إِذا عَسْعَسَ) : ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بحال محذوفة من «الليل». التقدير : كائنا إذا عسعس مثل و «الليل إذا يغشى». عسعس : في محل جر بالإضافة .. وإذا فسر الفعل «عسعس» بمعنى «أقبل» يكون القسم بإقبال الليل وإقبال النهار. لأن هذا الفعل من الأضداد أي له معنيان متضادان ـ مختلفان ـ وهو فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره : هو.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨)

معطوفة بالواو على الآية الكريمة السابقة وتعرب إعرابها بمعنى : والصبح إذا أضاء وأقبل.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩)

(إِنَّهُ لَقَوْلُ) : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب اسم «إن» أي إن هذا القرآن. اللام لام التوكيد ـ المزحلقة ـ قول : خبر «إن» مرفوع بالضمة المنونة. والجملة من «إن» وما في حيزها من اسمها وخبرها لا محل لها لأنها جواب القسم. أي أبلغه الله على لسان جبريل ..

(رَسُولٍ كَرِيمٍ) : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المنونة. كريم : صفة ـ نعت ـ لرسول مجرور مثله وعلامة جره الكسرة المنونة بمعنى : رسول مكرم هو النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (٢٠)

٥٢١

(ذِي قُوَّةٍ) : صفة ثانية لرسول مجرور مثله وعلامة جره الياء لأنه من الأسماء الخمسة وهو مضاف. قوة : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المنونة بمعنى ذي منزلة وقدرة كبيرة.

(عِنْدَ ذِي) : ظرف مكان منصوب على الظرفية وعلامة نصبه الفتحة متعلق بحال من «رسول» وهو مضاف. ذي : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الياء لأنه من الأسماء الخمسة وهو مضاف.

(الْعَرْشِ مَكِينٍ) : مضاف إليه ثان مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة. مكين : صفة أخرى لرسول مجرور مثله وعلامة جره الكسرة المنونة بمعنى له مكانة ومنزلة رفيعة عند صاحب العرش .. الله تعالى.

(مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٢١)

(مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) : صفتان أخريان لرسول مجروران مثله وعلامة جرهما الكسرة المنونة. ثم : ظرف مكان مبني على الفتح في محل نصب بمعنى هناك وهو إشارة إلى الظرف «عند» أي عند الله تعالى مطاع في ملائكته المقربين.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٢٢)

(وَما صاحِبُكُمْ) : الواو استئنافية. ما : نافية بمنزلة «ليس» أي تعمل عملها عند أهل الحجاز ونافية مهملة لا عمل لها عند بني تميم. صاحبكم : اسم «ما» على اللغة الأولى أو مبتدأ على اللغة الثانية مرفوع بالضمة. الكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطبين ـ مبني على الضم في محل جر مضاف إليه والميم علامة جمع الذكور والمراد بهذه الكلمة هو الرسول الكريم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمخاطبون هم مشركو مكة.

(بِمَجْنُونٍ) : الباء حرف جر زائد لتأكيد النفي. مجنون : اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما» أو مرفوع محلا على أنه خبر «صاحبكم» وعلامة نصبه أو رفعه فتحة أو ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورهما اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. بل هو في كامل العقل والحكمة.

٥٢٢

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣)

(وَلَقَدْ رَآهُ) : الواو استئنافية. اللام لام الابتداء للتوكيد. قد : حرف تحقيق. رآه : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الرسول الكريم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به يعود على جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

(بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) : جار ومجرور متعلق بحال محذوف من الضمير «الهاء» في «رآه». المبين : صفة ـ نعت ـ للأفق مجرور مثله وعلامة جره الكسرة بمعنى : بمطلع الشمس الأعلى. وهو بصورته الحقيقية.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤)

(وَما هُوَ) : الواو عاطفة. ما : نافية بمنزلة «ليس» أو نافية مهملة لا محل لها. هو : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم «ما» أو مبتدأ. بمعنى وما محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

(عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) : جار ومجرور متعلق بضنين. الباء حرف جر زائد لتأكيد النفي. ضنين : اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما» أو مرفوع محلا على أنه خبر «هو» بمعنى : ببخيل .. أي لا يبخل بالوحي بمعنى : لا يسأل تعليمه فلا يعلمه.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥)

(وَما هُوَ بِقَوْلِ) : الواو عاطفة. ما هو بقول : يعرب إعراب «ما هو على الغيب» بمعنى : وما القرآن.

(شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المنونة. رجيم : صفة ـ نعت ـ لشيطان مجرور مثله وعلامة جره الكسرة المنونة. بمعنى : مرجوم أي مطرود ـ فعيل بمعنى مفعول ـ أي ملعون.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦)

٥٢٣

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) : الفاء استئنافية تفيد هنا التعليل. أين : اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب مفعول فيه ـ ظرف مكان ـ متعلق بتذهبون. تذهبون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. والقول الكريم استضلال لهم لتركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٢٧)

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) : حرف مخفف مهمل لا عمل له بمعنى «ما» النافية. هو : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. إلا : أداة حصر لا عمل لها. ذكر : خبر «هو» مرفوع بالضمة المنونة بمعنى وما هذا القرآن إلا تذكير أو عظة للعالمين.

(لِلْعالَمِينَ) : جار ومجرور متعلق بذكر أو بصفة محذوفة من «ذكر» وعلامة جر الاسم الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨)

(لِمَنْ شاءَ) : اللام حرف جر. من : اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام والجار والمجرور متعلق بذكر لأنه بدل من «للعالمين» والجملة الفعلية «شاء» صلة الموصول لا محل لها وهي فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو.

(مِنْكُمْ) : جار ومجرور متعلق بحال محذوفة من «من» والميم علامة جمع الذكور التقدير حالة كونه منكم و «من» حرف جر بياني.

(أَنْ يَسْتَقِيمَ) : حرف مصدري ناصب. يستقيم : الجملة الفعلية صلة حرف مصدري لا محل لها وهي فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه الفتحة والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو و «أن» المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل «شاء» التقدير والمعنى : لمن شاء الاستقامة بالدخول في الإسلام.

٥٢٤

(وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩)

(وَما تَشاؤُنَ) : الواو استئنافية. ما : نافية لا عمل لها. تشاءون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل أي شيئا.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : أداة حصر لا عمل لها. أن : حرف مصدري ناصب. يشاء : فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه الفتحة. الله : فاعل مرفوع للتعظيم بالضمة. وجملة «يشاء الله» صلة حرف مصدري لا محل لها. و «أن» وما بعدها بتأويل مصدر في محل نصب على الظرفية التقدير : إلا وقت مشيئة الله فحذف المضاف «وقت» وحل المضاف إليه «مشيئة الله» محله.

(رَبُّ الْعالَمِينَ) : صفة للفظ الجلالة أو بدل منه مرفوع بالضمة. العالمين : مضاف إليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والنون عوض من تنوين المفرد بمعنى : وما تشاءون الاستقامة إلا بمشيئة الله سبحانه وإرادته ذلك.

***

٥٢٥

سورة الانفطار

معنى السورة : الانفطار : مصدر الفعل «انفطر» وهذا الفعل الخماسي من الأفعال المزيدة .. وأصله : «فطر» يقال : فطر الشيء ـ يفطره ـ فطرا ـ من باب «نصر» و «الفطر» هو الشق .. يقال : فطره فانفطر ومثله «تفطر» بمعنى : تشقق .. و «فاطر» هو اسم فاعل للفعل «فطر» ويأتي بمعنى : ابتدأ واخترع .. قال الجوهري : قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ : كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها : أي ابتدأتها. والفعل «انفطر» من أفعال المطاوعة مثل الفعل «كسره فانكسر» والتفطر هو التشقق. والفعل «فطر» ورد كثيرا في القرآن الكريم ومعناه : خلق .. نحو فطر الله الخلق فطرا : بمعنى : خلقهم فهو فاطر .. ـ اسم فاطر ـ بمعنى : خالق ومن معاني الفعل «فطر» أيضا : ابتدأ واخترع.

تسمية السورة : سميت إحدى سور القرآن بمصدر «انفطر» أي «الانفطار» وهو التشقق تعظيما لهول ذلك اليوم المروع المفزع ـ يوم القيامة ـ فجاء في الآية الكريمة الأولى من هذه السورة الشريفة : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) والفعل «فطر» فعل مجرد و «تفطر» و «انفطر» من الأفعال المزيدة .. وقد ورد المضارع منه مرتين في القرآن الكريم مرة في سورة «مريم» في قوله عزّ من قائل : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) ومرة في سورة «الشورى» في قوله عزوجل : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أي تكاد السماء يتشققن منه أي من إثم قولهم : اتخذ الرحمن ولدا. وفي الآية الكريمة الأخرى : تكاد السموات يتشققن من عظمة الله وإذا كان الفعل «فطر» بمعنى : الابتداء أي ابتدأ وخلق فإن «الفطرة» بكسر الفاء وجمعها فطر ـ بكسر الفاء وفتح الطاء ـ معناها : الابتداء والاختراع .. وهي أيضا الصفة التي يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقته .. وتأتي بمعنى : صفة الإنسان الطبيعية .. وبمعنى : الدين والسنة.

٥٢٦

فضل قراءة السورة : قال النبي الكريم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة «الانفطار» (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة» صدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إعراب آياتها

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١)

تعرب إعراب الآية الكريمة الثانية من سورة «التكوير» (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي انشقت أو تشققت ..

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢)

معطوفة بالواو على الآية الكريمة الأولى وتعرب إعرابها بمعنى : إذا الكواكب تساقطت وذهبت متفرقة.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٣)

تعرب إعراب الآية الكريمة الأولى من سورة «التكوير» (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) بمعنى : وإذا البحار امتزجت جميعها لتشكل بحرا واحدا نتيجة تصدع وتشقق حافاتها.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٤)

معطوفة بالواو على الآية الكريمة الثالثة وتعرب إعرابها بمعنى : وإذا القبور قلبت وأخرج الموتى من ترابها.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥)

تعرب إعراب الآية الكريمة الرابعة عشرة من سورة «التكوير». وأخرت : الجملة الفعلية معطوفة بالواو على جملة «قدمت» وتعرب إعرابها.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦)

٥٢٧

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) : أداة نداء. أي : اسم منادى مبني على الضم في محل نصب. و «ها» زائدة للتنبيه. الإنسان : عطف بيان لأي أو بدل منه مرفوع على لفظ «أي» وعلامة رفعه الضمة.

(ما غَرَّكَ) : اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. غرك : الجملة الفعلية في محل رفع خبر «ما» وهي فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره : أنت. والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب مبني على الفتح في محل نصب مفعول به بمعنى : أي شيء خدعك على عصيان ربك الكريم وعدم الإيمان به؟

(بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) : جار ومجرور متعلق بغر والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه. الكريم : صفة ـ نعت ـ للرب مجرور وعلامة الجر الكسرة.

** (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الخامسة .. النفس : أنث فعلها لأنها على معنى «الروح» ولأن «الروح» لفظة تذكر وتؤنث وجمعها : أرواح .. ويسمى القرآن وعيسى وجبريل ـ عليهما‌السلام ـ روحا. وقيل : إن لفظة «نفس» لفظة مؤنثة لأنه يقال : خرجت نفسه : بمعنى : روحه وسالت نفسه : أي دمه. وفي الحديث : «ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه» وتأتي لفظة «النفس» مذكرة إذا أريد بها الجسد أو الإنسان نحو قولهم : ثلاثة أنفس .. ذكروه لأنهم أرادوا به الإنسان. ووردت هذه اللفظة في شعر طرفة بن العبد :

ويوم حبست النفس عند عراكه

حفاظا على عوراته والتهدد

على موطن يخشى الفتى عنده الردى

متى تعترك فيه الفرائص ترعد

يقول الشاعر : ورب يوم حبست نفسي عن القتال والفزعات وتهدد الأقران محافظة على حسبي. و «الردى» هو الهلاك. أما «الاعتراك» و «التعارك» فهما بمعنى واحد .. أي الاقتتال والتقاتل. يقال : اعترك القوم : بمعنى : تقاتلوا واقتتلوا. واعترك الرجال في الحرب : أي ازدحموا .. وعرك بعضهم بعضا : بمعنى : قاتل بعضهم بعضا. ومثلهما أيضا : العراك والمعاركة. أما «العريكة» فهي النفس .. يقال : فلان لين العريكة : أي سلس الخلق .. ولانت عريكته : بمعنى : انكسرت نخوته : أي كبرياؤه وعظمته. أما «الفرائص» في بيت الشعر فهي جمع «فريصة» وهي لحمة عند مجمع الكتف ترعد عند الفزع. يقول الشاعر : حبست نفسي في موضع من الحرب يخشى الكريم هناك الهلاك. ومتى تعترك الفرائص فيه أرعدت من فرط الفزع وهو المقام. وجاءت «ترعد» بكسر الدال مراعاة للقافية ـ حركة الروي ـ وحقها السكون لأنها جواب الشرط وجزاؤه لاسم الشرط «متى» ومن أسماء

٥٢٨

الحرب لفظة «الوغى» وأصله : صوت الأبطال في الحرب ثم جعل اسما للحرب أو هو الجلبة والأصوات ومنه : وغى الحرب. وقال ابن جني الوعى ـ بالعين : هو الصوت والجلبة. و «الوغى» بالغين» هو الحرب نفسها. أما «الصولة» فهي الجولة والحملة في الحرب .. ومن معانيها : الوهلة نحو : لقيته أول صولة : أي أول وهلة : بمعنى أول شيء ومن معاني الصولة السطوة والقهر والتطاول ومنه القول هذا رجل صئول : بمعنى : يضرب الناس ويتطاول عليهم.

** (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة السابعة .. المعنى : جعلك بعد أن أوجدك سالم الأعضاء فصبرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ظلم بجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ولا بعض الشعر فاحما وبعضه أشيب.

** (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الثامنة .. المعنى : في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. ويقال : شاء الله الشيء : بمعنى : قدره .. ويقال في التعجب : ما شاء الله. والمشيئة هي الإرادة. وجاء في ديوان الأدب : المشيئة أخص من الإرادة. والشيء : عبارة عن كل موجود إما حسا كالأجسام أو حكما كالأقوال.

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (٧)

(الَّذِي خَلَقَكَ) : اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة ثانية للرب أو تكون بدلا منه. خلقك : الجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها وهي فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أي أوجدك.

(فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) : معطوفتان بفاءي العطف على جملة «خلقك» وتعربان إعرابها وعلامة بناء الفعل «سوى» الفتحة المقدرة على الألف للتعذر بمعنى فجعلك سويا سالم الأعضاء فعدل خلقك والفاء هنا تفيد الترتيب. و «عدلك» تعني أيضا : جعلك معتدلا منتصبا.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨)

(فِي أَيِّ صُورَةٍ) : جار ومجرور متعلق بركبك. صورة : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة المنونة.

٥٢٩

(ما شاءَ رَكَّبَكَ) : مزيدة ـ زائدة ـ شاء : فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو وجملة «شاء» في محل جر صفة لصورة. ركب : تعرب إعراب «شاء» والكاف ضمير متصل ـ ضمير المخاطب ـ مبني على الفتح في محل نصب مفعول به بمعنى : ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة والجملة في هذه الآية الكريمة بيان لعدلك. ويجوز أن يتعلق الجار والمجرور بفعل محذوف تقديره : ركبك حاصلا في بعض الصور فيكون محل الجار والمجرور النصب على الحال.

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (٩)

(كَلَّا بَلْ) : حرف ردع وزجر بمعنى ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتعلق بما هو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. بل : حرف إضراب لا عمل له للاستئناف.

(تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. بالدين : جار ومجرور متعلق بتكذبون بمعنى بالجزاء أو بدين الإسلام.

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (١٠)

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ) : الواو استئنافية. إن : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل. عليكم : جار ومجرور متعلق بخبر «إن» المقدم المحذوف والميم علامة جمع الذكور.

(لَحافِظِينَ) : اللام لام التوكيد ـ المزحلقة ـ حافظين : اسم «إن» المؤخر منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد وحركته .. وفي القول الكريم إنذار وتهويل للعصاة ولطف للمؤمنين بمعنى : إن عليكم ملائكة موكلين بكم يحفظونكم فحذف الموصوف اسم «إن» المؤخر «ملائكة» وأقيمت الصفة «حافظين» مقامه. أو يحفظون أعمالكم ويسجلونها في صحائفكم ..

٥٣٠

(كِراماً كاتِبِينَ) (١١)

(كِراماً كاتِبِينَ) : صفتان أخريان للموصوف المقدر وهو «ملائكة» أو لحافظين منصوبتان مثلهما بمعنى يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. و «كراما» بمعنى : مكرمين عند الله تعالى.

(يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢)

(يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) : الجملة الفعلية في محل نصب صفة أخرى لحافظين أو لملائكة وهي فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. ما : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. تفعلون : تعرب إعراب «يعلمون» وجملة «تفعلون» صلة الموصول لا محل لها والعائد إلى الموصول ضمير محذوف منصوب المحل لأنه مفعول به. التقدير : ما تفعلونه.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (١٣)

(إِنَّ الْأَبْرارَ) : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل. الأبرار : اسم «إن» منصوب وعلامة نصبه الفتحة أي الصادقين في إيمانهم.

(لَفِي نَعِيمٍ) : اللام لام التوكيد ـ المزحلقة ـ في نعيم : جار ومجرور متعلق بخبر «إن» المحذوف بمعنى إن الأبرار أي الذين أطاعوا الله تعالى واجتنبوا العصيان كائنون أو مقيمون في نعيم دائم مقيم.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤)

الآية الكريمة معطوفة بالواو على الآية الكريمة السابقة وتعرب إعرابها بمعنى وإن العاصين لفي نيران متأججة.

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) (١٥)

(يَصْلَوْنَها) : الجملة الفعلية في محل نصب حال من «الفجار» بمعنى : يدخلونها وهي فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في

٥٣١

محل رفع فاعل و «ها» ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به يعود على جحيم.

(يَوْمَ الدِّينِ) : ظرف زمان منصوب على الظرفية وعلامة نصبه الفتحة متعلق بيصلون وهو مضاف. الدين : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة .. أي يوم الحساب والجزاء.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١٦)

(وَما هُمْ) : الواو حالية والجملة الاسمية في محل نصب حال ثانية من الفجار. ما : نافية بمنزلة «ليس» أي تعمل عملها عند أهل الحجاز ونافية لا عمل لها عند بني تميم. هم : ضمير منفصل ـ ضمير الغائبين ـ في محل رفع اسم «ما» على اللغة الأولى ومبتدأ على اللغة الثانية.

(عَنْها بِغائِبِينَ) : جار ومجرور متعلق بغائبين : اسم مجرور لفظا بحرف الجر وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد وحركته. منصوب محلا على أنه خبر «ما» ومرفوع محلا على أنه خبر «هم» بمعنى وما يغيبون عن النار قبل يوم الدين أو بمعنى بخارجين منها.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٧)

تعرب إعراب الآية الكريمة الثالثة من سورة «الحاقة». الدين : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة. بمعنى : ما أعلمك ما هو هذا اليوم أي يوم الحساب في الآخرة.

(ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٨)

معطوفة بحرف العطف «ثم» على الآية الكريمة السابقة وتعرب إعرابها. والتكرير لزيادة التهويل والشدة وهو تفخيم لشأن يوم الجزاء ـ الحساب ـ والجملة توكيد لفظي. بمعنى ثم ما أعلمك ما هذا اليوم.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩)

٥٣٢

(يَوْمَ) : مفعول به منصوب بفعل محذوف تقديره : يدانون لأن الدين يدل عليه أو بإضمار فعل تقديره اذكر وعلامة نصبه الفتحة. والجملة الفعلية بعده «لا تملك نفس ..» في محل جر بالإضافة.

(لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ) : نافية لا عمل لها. تملك : فعل مضارع مرفوع بالضمة. نفس : فاعل مرفوع بالضمة المنونة. لنفس : جار ومجرور متعلق بتملك.

(شَيْئاً وَالْأَمْرُ) : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المنونة بمعنى لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها. الواو استئنافية. الأمر : مبتدأ مرفوع بالضمة بمعنى والأمر يوم القيامة لله وحده.

(يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) : ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة وهو مضاف. إذ : اسم مبني على السكون الظاهر على آخره وحرك بالكسر تخلصا من التقاء الساكنين : سكونه وسكون التنوين وهو في محل جر مضاف إليه وهو مضاف أيضا والجملة المحذوفة المعوض عنها بالتنوين في محل جر مضاف إليه ثان. التقدير : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا أو يوم يصلونها لا تملك نفس لنفس شيئا لأن الأمر كله لله تعالى وحده يحكم فيه كيف يشاء. لله : جار ومجرور للتعظيم متعلق بخبر المبتدأ «الأمر» المحذوف وعلامة الجر الكسرة.

***

٥٣٣

سورة المطففين

معنى السورة : المطففون : جمع «المطفف» وهو اسم فاعل للفعل «طفف» بمعنى : نقص الشيء قليلا ويتعدى إلى المفعول فيقال : طفف المكيال أو الميزان تطفيفا : بمعنى : كال أو وزن ولم يوف. والطفيف : مثل «القليل» وزنا ومعنى ومنه قيل لتطفيف المكيال والميزان تطفيف .. وقد طففه فهو مطفف ـ اسم فاعل ـ إذا كال أو وزن ولم يوف والطفافة ـ بضم الطاء ـ هو ما فوق المكيال. وطفافة ـ بفتح الطاء وكسرها «ما ملأ أصباره» جمع «صبر» بضم الصاد وتسكين الباء : هو الناحية المستعلية من الإناء وغيره وتأتي كلمة «صبر» أيضا بكسر الصاد وتسكين الباء .. ويقال أخذ الشيء بأصباره : أي تاما بأجمعه ويقال : ملأ الكأس إلى أصبارها : بمعنى : إلى رأسها. وطف المكوك ـ المكيال ـ هو ما ملأ أصباره .. وفي الحديث : «كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه» وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل. وهذا يسمى تطفيفا أي نقص المكيال وهو ألا يملأ إلى أصباره.

تسمية السورة : لقد سميت إحدى سور القرآن الكريم باسم الفاعلين «المطففين» أي المتلاعبين بالمكاييل والموازين وجاءت التسمية لما في أفعالهم من نقص لحقوق الناس وقد توعدهم سبحانه في الآية الكريمة الأولى من هذه السورة الشريفة بقوله عزّ من قائل : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي هلاك وعذاب للمتلاعبين بالأوزان والمكاييل أي الآخذين شيئا طفيفا من المكيول .. الموزون بالنقصان عند كيلهم وبالزيادة عند اكتيالهم فقد ذكر سبحانه بعد هذه الآية الكريمة (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) صدق الله العظيم وقال عزوجل بعدها : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي يبخسونهم حقهم. وقيل عن الذي يبخل ويقتر على عياله : هذا رجل يطفف على عياله.

فضل قراءة السورة : قال هادي البشرية ونبي الرحمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة «المطففين» سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة» صدق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن علي ـ عليه‌السلام ـ : «من أحب أن يكتال

٥٣٤

بالمكيال الأوفى من الآخرة يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

إعراب آياتها

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) : مبتدأ مرفوع بالضمة المنونة الظاهرة على آخره وجاء نكرة لأنه في أصله ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليهم ومعناه : تحسر وهلاك أو قيل : هو اسم معنى كالهلاك .. وقيل : هو واد في جهنم. وقيل : جاء نكرة لأنه متضمن معنى الفعل بدعاء. للمطففين : جار ومجرور متعلق بخبر «ويل» المحذوف وعلامة جر الاسم الياء لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد وحركته. أي المتلاعبين بالمكاييل والموازين.

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (٢)

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا) : اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة ـ نعت ـ للمطففين والجملة الشرطية صلة الموصول لا محل لها. إذا : ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه متعلق بجوابه وهو أداة شرط غير جازمة ـ متضمن معنى الشرط ـ اكتالوا : فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة. الواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والألف فارقة وجملة «اكتالوا» في محل جر بالإضافة.

(عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) : جار ومجرور متعلق بيستوفون وقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وقيل «على» هنا بمعنى «من» الجنسية وهي للمصاحبة أي من الناس. يستوفون : الجملة الفعلية جواب شرط غير جازم لا محل لها وهي

٥٣٥

فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل بمعنى يأخذون حقوقهم وافية.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣)

(وَإِذا كالُوهُمْ) : معطوفة بالواو على «إذا اكتالوا» وتعرب مثلها و «هم» ضمير متصل ـ ضمير الغائبين ـ في محل نصب مفعول به والضمير «هم» راجع إلى الناس. التقدير : كالوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل أو يكون على حذف المضاف «المكيل» أو «الموزون» وإقامة المضاف إليه مقامه.

(أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) : معطوفة بأو على جملة «كالوهم» وتعرب إعرابها. يخسرون : تعرب إعراب «يستوفون» بمعنى ينقصون الميزان من خسر الميزان وأخسره. بمعنى : أو وزنوا لهم يبخسونهم حقهم.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (٤)

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) : الهمزة همزة إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف بلفظ استفهام. لا : حرف نفي لا عمل له. يظن : فعل مضارع مرفوع بالضمة. أولاء : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع فاعل والكاف حرف خطاب بمعنى : هؤلاء المطففون. فحذف المشار إليه الصفة أو البدل لأن ما قبله دال عليه.

(أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل و «هم» ضمير متصل ـ ضمير الغائبين ـ في محل نصب اسم «أن». مبعوثون : خبر «أن» مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم والنون عوض من تنوين المفرد وحركته بمعنى : ألا يخطر ببالهم أنهم سيحيون بعد الموت وسيحاسبون على مقدار الذرة والخردلة و «أن» وما بعدها بتأويل مصدر سد مسد مفعولي «يظن».

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥)

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) : جار ومجرور متعلق باسم المفعولين «مبعوثون» على تأويل فعله. عظيم : صفة ـ نعت ـ للموصوف «يوم» مجرور مثله وعلامة جرهما ـ الموصوف والصفة ـ الكسرة المنونة. وهو يوم القيامة.

٥٣٦

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦)

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) : ظرف زمان منصوب وعلامة نصب الفتحة والعامل فيه «مبعوثون». يقوم : فعل مضارع مرفوع بالضمة. الناس : فاعل مرفوع بالضمة والجملة الفعلية «يقوم الناس» في محل جر بالإضافة.

(لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : جار ومجرور متعلق بيقوم. العالمين : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والنون عوض من تنوين المفرد وحركته بمعنى يوم القيامة يساقون للوقوف بين يدي رب الكون كله بعد خروجهم من قبورهم.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٧)

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ) : حرف زجر وردع لا عمل له أي ردع المتلاعبين بالأوزان والمكاييل عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر الحساب. إن : حرف نصب وتوكيد مشبه بالفعل. كتاب : اسم «إن» منصوب وعلامة نصبه الفتحة.

(الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الكسرة. اللام لام التوكيد ـ المزحلقة. في سجين : جار ومجرور متعلق بخبر «إن» المحذوف أي إن ما يكتب من أعمال الفجار مثبت في ديوان الشر الذي دون فيه الله تعالى أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس.

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) (٨)

تعرب إعراب الآية الكريمة الثالثة من سورة «الحاقة» بمعنى وما أعلمك ما سجل الكفرة ..

(كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩)

(كِتابٌ مَرْقُومٌ) : خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو كتاب .. مرفوع بالضمة المنونة. مرقوم : صفة ـ نعت ـ لكتاب مرفوع مثله بالضمة المنونة بمعنى : هو كتاب مسطور أو يكون التقدير ذلك الكتاب كتاب مكتوب. والجملة الاسمية تفسيرية لا محل لها.

٥٣٧

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٠)

تعرب إعراب الآية الكريمة الأولى. يوم : ظرف زمان منصوب بالفتحة متعلق بيقوم الناس وهو مضاف. إذ : اسم مبني على السكون الظاهر على آخره وحرك بالكسر تخلصا من التقاء الساكنين وهو في محل جر بالإضافة والجملة المحذوفة المعوض عنها بالتنوين في محل جر بالإضافة.

** (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الأولى .. المعنى : هلاك وعذاب للمتلاعبين بالمكيال والموزون الآخذين شيئا طفيفا أي قليلا إما بالنقصان إن كالوا أو بالزيادة إن اكتالوا .. بمعنى يبخسون الميزان أو ينقصونه ـ أي الكيل ـ قليلا .. وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك واعدل كما تحب أن يعدل لك. وهذا القول موجه إلى الذين يطففون.

** سبب نزول الآية : أخرج النسائي وابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المدينة كان أهلها من أبخس الناس كيلا ووزنا فلما نزلت هذه الآية الكريمة وما بعدها تابوا إلى ربهم وأحسنوا الوزن والكيل بعد ذلك. وقال الفضل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.

** (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الثانية .. وقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها. وقيل : «على» هنا بمعنى «من» الجنسية وهي للمصاحبة أي من الناس للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم. وقال الفراء : «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك. وإذا قال اكتلت منك فكقوله : استوقيت منك.

** (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الثالثة .. التقدير : وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل .. وحذف الجار وإيصال الفعل ورد أيضا في بيت الشعر الشهير :

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

ويروى في البيت المذكور : فأنصتوها بدلا من فصدقوها بمعنى : فأنصتوا لها فحذف الجار وأوصل الفعل. وبيت الشعر هذا قاله الشاعر لجيم بن صعب في امرأته «حذام» و «حذام» اسم امرأة تلقب بزرقاء اليمامة يضرب بها المثل في حدة البصر فيقال فلان أبصر من زرقاء اليمامة واسمها : زرقاء ابنة مرة الطمسي وهي أخت رياح بن مرة كانت حادة البصر ليس على وجه الأرض أبصر منها وكانت ـ فيما يروى ـ تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال .. فلما أغار على قومها الملك حسان أحد ملوك اليمن وكان أخوها مع القوم وحين قربوا من اليمامة حذرهم رياح من أخته وأخبرهم بأنها تنظر الراكب من مسيرة طويلة وأمرهم أن يقلعوا الشجر وكل شخص يحمل أمامه شجرة فعلوا ثم ساروا ولما أشرفت من منظرها قالت : يا جديس لقد سارت إليكم الشجر .. قالوا لها : ما ذاك؟ قالت : أشجار يسير

٥٣٨

وراءها شيء وإني لأرى رجلا من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا فكذبوها وكان ذلك كما ذكرت فغفلوا عن أخذ أهبة الحرب ففي ذلك تقول الزرقاء لجديس تحذرهم :

إني أرى شجرا من خلفها بشر

فكيف يجتمع الأشجار والبشر

سيروا بأجمعكم في وجه أولهم

فإن ذلك منكم فاعلموا الظفر

فلم يسمعوا لها وهجم عليهم الملك حسان فأفناهم وشتت شملهم. فلما فرغ حسان من جديس دعا باليمامة بنت مرة وكانت أول من اكتحل بمسحوق حجر الإثمد فاتخذوه بعد ذلك كحلا.

** (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الرابعة .. المعنى ألا يخطر ببال هؤلاء المطففين أنهم سيحيون بعد الموت وسيحاسبون على مقدار الذرة والخردلة .. وقيل : الظن في الآية الكريمة بمعنى : اليقين وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف. وعلى ذكر «الظن» قيل في أمثال العرب : أصدق ظنا من ألمعي. والألمعي : هو الذي يظن الظن فلا يخطئ .. وهو من لمعان النار وتوقدها .. وعرفه أوس بن حجر أي عرف الألمعي نظما في هذا البيت :

الألمعي الذي يظن بك ال

ظن كأن قد رأى وقد سمعا

ومثله «اللوذعي» وهو الصادق الظن .. الجيد الحدس .. وهو مشتق من لذع النار .. ومثله أيضا : الأريحي : وهو الذي يرتاح للكرم. والعبقري : وهو الحاذق الجيد الصنعة في صنعته والنحرير : وهو ذو العلم والرجاحة والفضل والحذق ـ أي المهارة ـ وفي حديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم تكن أمة إلا كان فيها محدث فإن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر. قيل : وما المحدث؟ قال : الذي يرى الرأي ويظن الظن فيكون كما رأى وكما ظن وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ كذلك.

** (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة السابعة وفيه ردع للمتلاعبين بالأوزان عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر الحساب .. و «سجين» هو سجل الكفرة أي إن ما يكتب من أعمال الفجار مثبت في ديوان الشر الذي دون فيه الله تعالى أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين ـ الجن والإنس ـ وسمي «سجينا» على وزن «فعيل» لأنه من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم أو لأنه مطروح ـ كما روي ـ تحت الأرض السابعة في مكان موحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته استهانة به وليشهده الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقربون. و «سجين» اسم علم منقول من وصف كحاتم وهو منصرف ـ أي ينون آخره ـ لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف. وكما أن «سجينا» هو علم لديوان أعمال الكفار فتقابله كلمة «سجيل» وهو علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار في قوله تعالى في سورة «الفيل» : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) صدق الله العظيم. واشتقاق اللفظة من الإسجال وهو الإرسال لأن العذاب موصوف بذلك. وعن ابن عباس : من سجيل : من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر. وقيل : من شديد عذابه. و «السجن» و «الحبس» مصدرا الفعلين : سجن و «حبس» يقال : حبسه ـ يحبسه ـ حبسا ـ من باب «ضرب» بمعنى : وقفه

٥٣٩

ومنعه وهو ضد أخلاه .. ثم أطلق المصدر «الحبس» على الموضع. أما الفعل «سجن» فهو من باب «نصر» ويقال : هذا رجل حبيس ـ فعيل بمعنى : مفعول ـ أي موقوف ويطلق على المفرد والجمع. ويقال : فلان في لسانه حبسة ـ بضم الحاء ـ بمعنى تعذر في الكلام أو وقفة وهو خلاف «الطلاقة» حكي أن محمد ابن زبيدة حبس الشاعر المعروف أبا نواس ـ بضم النون وتخفيف الواو ـ حبسه في أمر فكتب إليه من الحبس :

قل للخليفة : إنني

حي أراك بكل باس

من ذا يكون أبا نوا

سك إذ حبست أبا نواس

إن أنت لم ترفع به

رأسا هديت فنصف رأس

قال : فلم يرفع بما كتبت إليه رأسا ولم يبال بي ومكثت في الحبس ثلاثة أشهر. و «السجن» بفتح السين وهو مصدر الفعل يعني العقوبة وبكسر السين يعني موضع السجن. و «سجين» الواردة» في الآية الكريمة المذكورة آنفا .. قال أبو عبيدة : هي فعيل .. من السجن.

** (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ..) على الأرائك ينظرون .. تعرف فى وجوههم نضرة النعيم : هذه الأقوال الكريمة هي نصوص الآيات الثانية والعشرين .. الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين .. المعنى إن المؤمنين المطيعين مقيمون في نعيم على الأسرة والأفرشة جالسون ينظرون ما حباهم الله من النعمة والكرامة ترى في وجوههم بهجة النعيم ورونقه وبريقه أو بهجة التنعم وماءه ورونقه كما يرى في وجوه الأغنياء وأهل الترف قال جرير :

كم بالمواسم من شعثاء أرملة

ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

يدعوك دعوة ملهوف كأن به

مسا من الجن أو خبلا من النشر

المواسم جمع «موسم» وهو مجتمع الناس. و «شعثاء» أي مغبرة الرأس. والملهوف : هو المظلوم الذين يستغيث. والخبل ـ بسكون الباء ـ هو الجنون. أما «النشر» فهو جمع «نشرة» وهي الرقية. أما «الناظر» فهو الحافظ وبمعنى السواد الأصغر من العين الذي يبصر به الإنسان شخصه أو هو العين وتسمى العين باسم الفاعل أيضا : الناظرة وقد جمع اسم الفاعلة «ناضرة» مع اسم الفاعلة الآخر «ناظرة» في قوله تعالى في سورة «القيامة» : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ويقال : نضر الوجه بمعنى : حسن ونعم فهو ناضر ونضر ونضير. وقيل : هذه وجهة نظر جديرة بالنظر قال الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى

فإن غدا لناظره قريب

هذا البيت قاله قراد بن أجدع .. قاله للنعمان بن المنذر حتى صار مثلا بمعنى لمنتظره.

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١١)

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) : اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة ـ نعت ـ للمكذبين أو في محل نصب على الذم بفعل محذوف تقديره : أذم أو أعني الذين. يكذبون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل.

٥٤٠