نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ترجمة المصنف

هو أبو الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري كان الله له في الدنيا والآخرة وحباه فيهما بنعمه الذاخرة الوافرة الفاخرة ، تولد في سنة ١٢٤٨ ثمان وأربعين ومائتين وألف القدسية على صاحبها الصلاة والتحية ، ونشأ بموطنه بلدة قنوج وما إليها من الأقطار الهندية ، فهو مولده ومسكنه ومرباه ومحتده وداره ومثواه ، يرجع نسبه إلى حضرة سيد السادة وقدوة القادة زين العابدين علي بن حسين السبط بن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. تلمذ العلوم الدرسية على الوجه المرسوم على شيوخ هذا العهد ، منهم الشيخ الفاضل المفتي محمد صدر الدين خان الدهلوي. من تلامذة الشيخ الكامل عبد العزيز ، وأخيه الشيخ العامل رفيع الدين ابني الشيخ الأجل مسند الوقت أحمد شاه ولي الله المحدث الدهلوي رحمهم‌الله تعالى. واستفاد العلوم الملية من التفاسير والأحاديث وما يليهما من مشيخة اليمن الميمون والهند منهم الشيخ القاضي حسن بن محسن السبعي الأنصاري تلميذ الشيخ الماهر محمد بن ناصر الحازمي تلميذ القاضي الإمام العلامة المجتهد المطلق الرباني محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني والشيخ المعمر الصالح عبد الحق بن فضل الله الهندي ، والشيخ التقي محمد يعقوب المهاجر إلى مكة المكرمة أخو الشيخ محمد إسحق حفيد الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمهم‌الله تعالى. وكلهم أجازوا له مشافهة وكتابة إجازة مأثورة عامة تامة ، وممن استجاز منه العالم الكامل والمحدث الفاضل الشيخ يحيى بن محمد بن أحمد بن حسن الحازمي قاضي عدن حالا أجاز له حسب اقتراحه في ذي الحجة سنة ١٢٩٥ الهجرية ، والشيخ العلامة زينة أهل الاستقامة السيد نعمان خير الدين الوسي زاده مفتي بغداد حالا أجاز له في هذا العام الحاضر وهو سنة ١٢٩٦ الهجرية ، ثم طالع بفرط شوقه وصحيح ذوقه كتبا كثيرة ودواوين شتى في العلوم المتعددة والفنون المتنوعة. ومر عليها

٣

مرورا بالغا على اختلاف أنحائها وأتى عليها بصميم همته وعظيم نهمته بأكمل ما يكون حتى حصل منها على فوائد كثيرة وعوائد أثيرة أغنته عن الاستفادة عن أبناء الزمان وأقنعته عن مذاكرة فضلاء البلدان ، وجمع بعونه تعالى وحسن توفيقه ولطف تيسيره من نفائس العلوم والكتب ومواد التفسير والحديث وأسبابها ما يعسر عده ويطول حده.

وأوعى من ضروب الفضائل العلمية والتحقيقات النفسية ما قصرت عنه أيدي أبناء الزمان ، ويعجز دون بيانه ترجمان اليراع عن إبراز هذا الشأن ، ولله الحمد على ما يكون وعلى ما كان. ثم ألقى عصا التسيار والترحال بمحروسة بهوبال ، من بلاد مالوة الدكن فنزل بها نزول المطر على الدمن وأقام بها وتوطن وأخذ الدار والسكن ، وتمول وتولد واستوزر وناب وألف وصنف وعاد إلى العمران من بعد خراب. وكان فضل الله عليه عظيما جزيلا والحمد لله الذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، ثم اختص بعونه تعالى وصونه بتدوين علوم الكتاب العزيز وأحكام السنّة المطهرة البيضاء وتلخيصها وتخليص أحكامها من شوب الآراء ومفاسد الأهواء. وهذا إن شاء الله تعالى خاص به في هذا العهد الأخير. والله يختص برحمته من يشاء كيف وعلماء الأقطار الهندية وإن بالغ بعضهم في الإرشاد إلى اتباع السنّة وقرره في مؤلفاته وحرره في مصنفاته على وجه ثبت به على رقاب أهل الحق والمنّة ، وشمر بعضهم عن ساق الجد والاجتهاد في الدعوة إلى اعتقاد التوحيد ورد الشرك والتقليد باللسان والبيان ، بل بالسيف والسنان. لكن لم يدون أحد منهم أحكام الكتاب العزيز وعلوم السنّة المطهرة من العبادة والمعاملة وغيرها خالصة عن آراء الرجال نقية عن أقوال العلماء على هذه الحالة المشاهدة في كتبه المختصرة والمطولة كالروضة الندية ومسك الختام شرح بلوغ المرام ، وعون الباري ، وفتح البيان ، ورسالة القضاء والإفتاء والإمامة والغزو والفتن والنار وغير ذلك مما طبع واشتهر وشاع وسارت به الركبان إلى أقطار العالم من العرب والعجم كالحجاز واليمن ، وما إليها ومصر والعراق والقدس وطرابلس وتونس والجزائر ومدن الهند والسند وبلغار ومليبار وبلاد الفرس. وهذا من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين وكتب إليه علماء الآفاق ومحرروها ومحدثو الديار ومفسروها كتبا كثيرة أثنوا فيها على تلك التواليف ودعوا له بإخلاص الفؤاد لحسن الدنيا والأخرى تقبل الله فيه هذه الدعوات وختم بالحسنى وأحسن إليه بتيسير المنجيات ، وهذه الخطوط والرقائم قد ألحقت في خواتيم مؤلفاته فانظر إليها في تضاعيف محرراته يتضح لك القول الحق والكلام الصدق إن شاء

٤

الله تعالى. ثم خوله سبحانه من المال الكثير والحكم الكبير والآل السعداء والأخلاف الصلحاء والنسب الحميد والحسب المزيد ما يقصر عن كشفه لسان اليراع ولو كشف عنه الغطاء ما ازداد الواقف عليه إلا يقينا وإن يأباه بعض الطباع ، وهو الذي يقول لا خلافه مقتديا بأسلافه بفم الحال ولسان المقال : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)) ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)) ، وهو قد طعن الآن في عشر الخمسين من العمر المستعار مع ما هو مبتلي به من سياسة الرياسة وقلة الشغل بالعلم والدراسة ، وفقد الأحبة والأنصار الأعداء الجاهلين بالقضايا والأقدار والمرجو من حضرة رب العالمين أن يجعله من قال فيهم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين والحمد لله الذي جعله محسودا ولم يجعله حاسدا وخلقه صابرا شكورا ولم يخلقه فظا غليظ القلب «لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله». وهذه أسماء كتبه المؤلفة على ترتيب حروف المعجم المطبوعة في مطابع بهوبال المحمية ومصر والقسطنطينية والشام وغيرها من البلاد العظام ، ويزيد الله في الخلق ما يشاء وهو المتفضل ذو الأنعام. الألف : أبجد العلوم ، إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين ، الاحتواء على مسئلة الاستواء ، الإدراك لتخريج أحاديث رد الإشراك ، الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ، أربعون حديثا في فضائل الحج والعمرة ، إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ ، إكسير في أصول التفسير ، إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة ، الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح. الباء الموحدة : بدور الأهلة من ربط المسائل بالأدلة ، بغية الرائد في شرح العقائد ، البلغة إلى أصول اللغة ، بلوغ السول من أقضية الرسول. التاء الفوقانية : تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الثاء المثلثة : ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت. الجيم : الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة. الحاء المهملة : حجج الكرامة في آثار القيامة ، الحرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون ، حصول المأمول من علم الأصول ، الحطة بذكر الصحاح الستة ، حل الأسئلة المشكلة. الخاء المعجمة : خبية الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان. الدال المهملة : دليل الطالب إلى أرجح المطالب. الذال المعجمة : ذخر المحتي من آداب المفتي. الراء المهملة : رحلة الصديق إلى البيت العتيق ، الروضة الندية شرح الدرر البهية ، رياض الجنة في تراجم أهل السنة. السين المهملة : السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم ـ وهو القسم الثاني من هذا الكتاب ، سلسلة العسجد في ذكر مشائخ السند. الشين المعجمة : شمع انجمن در

٥

ذكر شعراء زمن. الصاد المهملة : الصافية في شرح الشافية في علم الصرف. الضاد المعجمة : ضالة الناشد الغريب من بشرى الكئيب في شرح المنظوم المسمى بتأنيس الغريب. الظاء المعجمة : ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي. العين المهملة : العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة ، العلم الخفاق من علم الاشتقاق ، عون الباري بحل أدلة البخاري في أربع مجلدات قيد الطبع بتحقيقنا. الغين المعجمة : غصن البان المورق بمحسنات البيان ، غنية القاري في ترجمة ثلاثيات البخاري. الفاء : فتح البيان في مقاصد القرآن ـ أربع مجلدات ، فتح المغيث بفقه الحديث ، الفرع النامي من الأصل السامي. القاف : قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل ، قضاء الأرب من مسئلة النسب ، قطف الثمر من عقائد أهل الأثر. الكاف : كشف الالتباس عما وسوس به الخناس في رد الشيعة بالهندية. اللام : لف القماط على تصحيح بعض ما استعملته العامة من الأغلاط ، لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان. الميم : مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام ، مراتع الغزلان من تذكار أدباء الزمان ، مسك الختام من شرح بلوغ المرام ـ مجلدان ضخمان ، منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول ، الموعظة الحسنة بما يخطب به في شهور السنة. النون : نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان ، نيل المرام من تفسير آيات الأحكام ـ وهو كتابنا هذا. الواو : الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المنثور منها والمنظوم وهو القسم الأول من هذا الكتاب ، الهاء : هداية السائل إلى أدلة المسائل. الياء : يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار ، وهذا آخر ذكر الكتب المؤلفة إلى هذا التاريخ ثم اتفق أنه أتحف إلى حضرة السلطان المعظم عبد الحميد خان ملك الدولة العثمانية تفسيره فتح البيان في مقاصد القرآن وكتب إليه كتابا في ذلك فجاء إليه من بابه العالي المثال الغالي جوابا عليه مع نيشان الدرجة الثانية المسمى بمجيدية ويقال له أرنجي بالتركية. وورد مكتوب من السيد خير الدين باشا الصدر الأعظم مع كتاب أقوم المسالك في أحوال الممالك هدية منه إليه وهذه نسختهما.

افتخار الأعالي والأعاظم مستجمع جميع المعالي والمفاخم صديق حسن خان دام علوه زوج سيدة المخدرات إكليلة المحصنات شاهجان بيكم دامت عصمتها التي هي من نوابة هند رئيسة خطة بهوبال اتصفت ذاته العالية الصفات بالأوصاف التي تمدح وتقبل لنا في حق كرامته اعتبار وتوجه سلطاني وقد سلمنا جنابه للدلالة على ذلك من جانبنا السني

٦

الجوانب السلطاني قطعة نشان ذي الشان من الرتبة الثانية وأصدرنا إليه هذه البراءة العالية الشأن حرر في اليوم العشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين وألف انتهى. وقد هنأه على ذلك جمع جم من أهل العلم وأرخ له المؤرخون من شعراء الرياسة منها قصيدة الشيخ الأديب والسفير اللبيب محمد حسن بن محمد إسمعيل الدهاوي المتخلص بالفقير أولها :

تجلى لنا نور الهنا ووفى البشر

ومن زهر أفنان الورى عبق النشر

وعندل طير الأنس في روضة المنى

على فنن الأفراح وانشرح الصدر

وهذه القصيدة بتمامها مع الكتابة التي كانت على اسم حضرة السلطان محررة في تاريخ بلدة بهوبال المحمية صانها الله وإيانا عن كل رزية وبلية بجاه نبيه المصطفى خير البرية صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه كل بكرة وعشية.

وفاته :

توفي سنة ألف وثلاثمائة وسبعة هجرية ١٣٠٧ ه‍ ، وعاش تسعا وخمسين سنة قمرية ، وسبعا وخمسين سنة شمسية (١).

__________________

(١) انظر ترجمته في : أبجد العلوم [٣ / ٢٧١ ـ ٢٨٠] ـ الأعلام للزركلي [٦ / ١٦٧] ـ معجم المؤلفين [٣ / ٣٥٨].

٧
٨

مقدمة المؤلف

قال العبد الضعيف الخامل المتواري صديق بن حسن بن علي القنوجي البخاري ختم الله له بالحسنى :

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله الطاهرين وصحبه الراشدين.

وبعد :

فهذه الآيات التي يحتاج إلى معرفتها راغب في معرفة الأحكام الشرعية القرآنية ، وقد قيل : إنها خمسمائة آية ، وما صح ذلك ، وإنما هي مائتا آية أو قريب من ذلك.

وإن عدلنا عنه وجعلنا الآية كل جملة مفيدة يصح أن تسمى كلاما في عرف النحاة ، كانت أكثر من خمسمائة آية. وهذا القرآن من شكّ فيه فليعد.

ولا أعلم أن أحدا من العلماء أوجب حفظها غيبا ، بل شرط أن يعرف مواضعها حتى يتمكن عند الحاجة من الرجوع إليها ، فمن نقلها إلى كراسة وأفردها كفاه ذلك.

ولم أستقص فيه نوعين من آيات الأحكام :

أحدهما : ما مدلوله بالضرورة كقوله سبحانه وتعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [سورة البقرة : آية ٤٣] للأمان من جهله ، إلا أن تشتمل الآية من ذلك على ما لا يعلم بالضرورة بل بالاستدلال ، فأذكرها لأجل القسم الاستدلالي منهما كآية الوضوء والتيمم.

وثانيهما : ما اختلف المجتهدون في صحة الاحتجاج فيه على أمر معين وليس بقاطع الدلالة ولا واضحها ، فإنّه لا يجب على من لا يعتقد فيه دلالة أن يعرفه إذ لا ثمرة لإيجاب معرفة الاستدلال به ، وذلك كالاستدلال على تحريم لحوم الخيل بقوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [سورة النحل : آية ٨] وهذا لا تجب معرفته إلا على من يحتج به

٩

من المجتهدين إذ لا سبيل إلى حصر كل ما يظنّ أو يجوز فيه استنباط الأحكام من خفيّ معانيه ، ولا طريق إلى ذلك إلا عدم الوجدان وهي من أضعف الطرق عند علماء البرهان.

وليس القصد إلا ذكر ما يدل على الأحكام دلالة واضحة ، لتكون عناية طالب الأحكام به أكثر ؛ وإلا فليس يحسن من طالب العلم أن يهمل النظر في جميع كتاب الله تعالى مقدما للعناية فيه ، شاملا للطائف معانيه ، مستنبطا للأحكام والآداب من ظواهره وخوافيه ، فإنه الأمان من الضلال ، والعمود الأعظم في جميع الأحوال ، والأنيس في الوحدة ، والغوث في الشدّة ، والنور في الظّلمة ، والفرج للغمة ، والشفاء للصدور ، والفيصل عند اشتباه الأمور. فلا ينبغي أن يغفل عنه لحظة ، ولا أن يزهد منه في لفظة.

وقد أفرد السيد الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير ـ رحمه‌الله تعالى ـ فضائل القرآن والتنبيه على الاعتماد عليه في مصنف مفرد.

وها أنا أفسر تلك الآيات المشار إليها بتفسير وجيز جامع لما له وعليه ، ولم آخذ فيها من الأقوال المختلفة إلا الأرجح ، ومن الدلائل المتنوعة إلا الأصح الأصرح. ولعمري لا يوجد قط تفسير موجز بهذا النمط.

وكانت بدايته في أول شهر صفر ونهايته فيه من حدود سنة سبع وثمانين ومائتين وألف الهجرية على صاحبها الصلاة والتحية. وسميته «نيل المرام من تفسير آيات الأحكام».

وألفت بعد ذلك تفسيرا لمقاصد القرآن المسمى ب «فتح البيان» جامعا للرواية والدراية والاستنباط والأحكام. فإن كنت ممن يريد الصعود على معارج التحقيق ، والقعود في محراب التدقيق ، فعليك بذلك التفسير ولعلك لا تجد مثله في إخوانه إن شاء الله القدير.

والله سبحانه أسأل أن يجعل هذا المختصر خالصا لوجهه الكريم وينفع المسلمين بلطفه العميم.

١٠

تفسير سورة البقرة

وهي مائتان وست وثمانون آية

قال القرطبي : «مدنية نزلت في مدد شتى ، وقيل : هي أول سورة نزلت بالمدينة. إلّا قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فإنها آخر آية نزلت من السماء ونزلت يوم النّحر في حجة الوداع بمنى ، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن» ، انتهى (١).

وقد وردت في فضلها أحاديث (٢).

[الآية الأولى]

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) قال ابن كيسان : أي من أجلكم (٣).

وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر ، وفي تأكيد ما في الأرض بقوله : (جَمِيعاً) أقوى دلالة على هذا.

وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين ؛ لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.

__________________

(١) تفسير القرطبي [١ / ١٥٢].

(٢) رواه البخاري في الصحيح ح [٥٠٠٩] ، رواه أحمد [٤ / ٢٧٤] والترمذي ح [٢٨٨٢] وابن حبان ح [٧٨٣] وصححه الحاكم [١ / ٥٦٢ ، ٢ / ٢٦٠].

(٣) انظر التفسير للقرطبي [١ / ٢٥١] والشوكاني في «فتح القدير» [١ / ٦٠].

١١

وقال الرازي في «تفسيره» : إن لقائل أن يقول : إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا للوصفين ، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك ؛ وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ؛ ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه؟ انتهى.

وقد ذكر صاحب «الكشاف» (١) ما هو أوضح من هذا فقال : إن قلت : هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء ـ كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية ـ جاز ذلك ؛ فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. انتهى.

قال الشوكاني في «فتح القدير» (٢). وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه (٣) ، وهو أيضا ضار فليس مما ينتفع به أكلا ولكنه ينتفع به في منافع أخرى ؛ وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل ؛ بل كلما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى هذا ؛ (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) : جميعا كرامة من الله ونعمة لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل (٤).

[الآية الثانية]

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)).

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي قولوا لهم قولا حسنا ، فهو صفة مصدر محذوف ؛ وهو مصدر كبشرى.

__________________

(١) انظر الكشاف [١ / ٦٠] وفتح القدير [١ / ٦٠].

(٢) انظر فتح القدير [١ / ٦٠].

(٣) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [١٠ / ١١] وأخرجه ابن عدي في الكامل [٥ / ١٩٢ ـ ١٩٣] انظر الكامل [٤ / ٢٥٠] ولسان الميزان [٣ / ٣٥٦] والفوائد المجموعة [ص ١٣٠] واللآلئ [٢ / ٢٤٧].

(٤) انظر فتح القدير [١ / ٦١].

١٢

وقرأ حمزة والكسائي حسنا بفتح الحاء والسين ؛ وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود (١).

وقال الأخفش : هما بمعنى واحد مثل البخل والبخل والرّشد والرّشد.

والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين ؛ بل كلما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر.

وقد قيل إن ذلك هو كلمة التوحيد ؛ وقيل : الصدق ، وقيل : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق ، وقيل غير ذلك (٢).

أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله هذا : قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٣).

وروى البيهقي في «الشعب» عن عليّ عليه‌السلام في قوله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ) ، قال : يعني الناس كلهم.

ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء (٤).

[الآية الثالثة]

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد وابن المنذر كما عند السيوطي في «الدر المنثور» [١ / ٢١٠] أخرجه سعيد بن منصور في السنن [٢ / ٥٦٧ ـ ط آل حميد] ح [١٩٥] وانظر الشوكاني في فتح القدير [١ / ١٠٨] [ص ١٠٣].

(٢) انظر «تفسير الطبري» [١ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧] وفتح القدير [١ / ١٠٨] والدر المنثور للسيوطي [١ / ٢١٠] ومعالم التنزيل [١ / ٩٠] للبغوي.

(٣) رواه الطبري [١ / ٤٣٦] ح [١٤٥٧] وروى ابن جرير الطبري [١ / ٤٣٦] ح [١٤٥٤] انظر التفسير لابن أبي حاتم [١ / ٢٥٧] ح [٨٤٦] والدر المنثور للسيوطي [١ / ٢١٠].

(٤) أخرجه ابن جرير في تفسيره [١ / ٤٣٧] ح [١٤٥٩ و ١٤٦٠] وسعيد بن منصور في سننه [٢ / ٥٦٦ ـ ط آل حميد] ح [١٩٤].]

١٣

فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)).

السّحر : هو ما يفعله السّاحر من الحيل والتخييلات التي يحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السّراب فيظنه ماء ، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير (١).

وقد اختلف : هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ولا حقيقة ؛ وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة (٢).

وقد صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر : سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه!! ثم شفاه الله سبحانه (٣) والكلام في ذلك يطول.

قال الزجاج في قوله (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) : تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه.

قال : وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ؛ ومعناه أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ؛ و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَحَدٍ) زائدة للتوكيد.

وقد قيل : إن قوله (يُعَلِّمانِ) من الإعلام لا من التعليم. وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم ، كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي ؛ وهو كثير في أشعارهم كقول كعب بن مالك :

تعلم رسول الله أنك مدركي

وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

وقال القطامي :

تعلم أن بعد الغيّ رشدا

وأن لذلك الغي انقشاعا

__________________

(١) انظر فتح القدير [١ / ١١٩].

(٢) انظر فتح الباري [١٠ / ٢٢٢] وشرح النووي [١٣ / ١٧٤ ـ ١٧٥].

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [١٠ / ٢٢١] ح [٥٧٦٣] ومسلم في الصحيح [٤ / ١٧١٩] ح [٢١٨٩].

١٤

وفي قوله : (فَلا تَكْفُرْ) أبلغ إنذارا وأعظم تحذيرا : أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر. وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر ؛ وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد ، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه.

وفي إسناد التفريق إلى السّحرة وجعل السّحر سببا لذلك ، دليل على أن للسحر تأثيرا في التلوث بالحب والبغض ، والجمع والفرقة ، والقرب والبعد.

وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله من التفرقة ؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للسّحر ؛ وبين ما هي الغاية في تعليمه فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.

وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خرج مخرج الأغلب ؛ وأن السّاحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه أيضا.

وقيل : ليس للسّحر تأثير في نفسه أصلا ، لقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

والحق أنه لا تنافي بين قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وبين قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه.

وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة ؛ ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة (١) كما تقدم.

وفي قوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة ؛ بل هو ضرر محض وخسران بحت» (٢).

قال أبو السعود : فيه أن الاجتناب عما لا تؤمن غوائله خير : كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية. انتهى.

والمراد بالشراء هنا الاستبدال ، أي من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله.

__________________

(١) قال ابن هبيرة : وأجمعوا على أن السحر له حقيقة ، إلا أبا حنيفة فإنه قال : لا حقيقة له عنده. انظر ، الإفصاح لابن هبيرة [٢ / ١٨٥].

(٢) انظر فتح القدير [١ / ١٢٠ ـ ١٢١].

١٥

والخلاق : النصيب عند أهل اللغة.

[الآية الرابعة]

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)).

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) المشرق : موضع الشروق ، والمغرب : موضع الغروب. أي هما ملك لله وما بينهما من الجهات والمخلوقات ، فيشتمل الأرض كلها.

وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أي أيّ جهة تستقبلونها فهناك وجه الله ؛ أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله. وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

قال في «الكشاف» : والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا ، فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان (١). انتهى.

قال الشوكاني في «فتح القدير» : وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه ؛ وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس (٢). انتهى.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم ـ وصححه ـ والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا ـ والله أعلم ـ شأن القبلة. قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ؛ فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله إلى البيت ونسخها فقال : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٣).

__________________

(١) انظر الكشاف [١ / ٩٠] وفتح القدير [١ / ١٣١].

(٢) انظر فتح القدير [١ / ١٣١].

(٣) [صحيح] أخرجه الطبري في التفسير [١ / ٥٤٩] ح [١٨٣٥] وأبو عبيد القاسم بن سلام في «الناسخ والمنسوخ» ح [٢١] والبيهقي في السنن [٢ / ١٢] وابن أبي حاتم في التفسير وابن المنذر كما في الدر المنثور [١ / ٢٦٥] والحاكم في المستدرك [٢ / ٢٦٧ ، ٢٦٨] /].

١٦

وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه.

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت (١). ثم قرأ ابن عمر هذه الآية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) : وقال : في هذا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عنه ابن جرير (٢) والدارقطني (٣) والحاكم وصححه.

وقد ثبت في «صحيح البخاري» من حديث جابر وغيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق ؛ فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى (٤). وروى نحوه من حديث أنس مرفوعا ، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود (٥).

وأخرج عبد بن حميد والترمذي ـ وضعفه ـ وابن ماجة وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة! فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، فقال : مضت صلاتكم (٦).

وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه ؛ إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطا ، وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ، وأخرج

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٧٠٠] والبخاري في الصحيح [٢ / ٥٧٤] ح [١٠٩٦] وابن أبي شيبة [٢ / ٢٣٦] ومالك في الموطأ [١ / ١٥١] وأحمد في المسند [٢ / ٦٦] والطبري في التفسير ح [١٨٤١] والنسائي في السنن [١ / ٢٤٤] و [٢ / ٦١] والبيهقي في السنن [٢ / ٤] /].

(٢) انظر تفسير الطبري ح [١٨٤١] و [١٨٤٢] /].

(٣) سنن الدارقطني [١ / ٣٩٦] /].

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح [١ / ٥٠٣] ح [٤٠٠] ، [١٠٩٤] ، [١٠٩٩] ، [٤١٤٠] وعبد الرزاق في المصنف ح [٤٥١٠] و [٤٥١٦] والدارمي في السنن [١ / ٣٥٦] وابن حبان في الصحيح [٦ / ٢٦٥ ـ مع الإحسان] ح [٢٥٢١] والبيهقي في السنن [٢ / ٦] وابن أبي شيبة في المصنف [١ / ٢٣٦] ح [٨٥١٢] /].

(٥) [حسن] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٢ / ٢٣٦] وأبو داود في السنن [٢ / ٩] ح [١٢٢٥] /].

(٦) [حسن] أخرجه الترمذي في السنن [٢ / ١٧٦] ح [٣٤٥] ورواه الدارقطني في السنن [١ / ٢٧٢] ورواه ابن جرير الطبري في التفسير [١ / ٥٥٠] ح [١٨٤٣] ورواه الطيالسي في مسنده ح [١١٤٥] وابن ماجه [١ / ١٦٥] والبيهقي في السنن [٢ / ١١] ورواه الحاكم في المستدرك [١ / ٢٠٦] والدارقطني [١ / ٢٧١] والبيهقي في السنن [٢ / ١٠ ، ١١ ـ ١٢].

١٧

نحوه أيضا سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء يرفعه وهو مرسل.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا.

وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والترمذي ـ وصححه ـ وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (١) وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مثله ، وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر نحوه.

[الآية الخامسة]

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)).

(لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)). اختلف في المراد بالعهد فقيل : الإمامة ؛ وقيل :

النبوة ، وقيل : عهد الله : أمره. وقيل : الأمان من عذاب الآخرة! ورجحه الزجاج ، والأول أظهر كما يفيده السياق.

وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد ، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما.

ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل ما تعلق بالأمور الدينية.

وقد اختار ابن جرير (٢) أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهدي بالإمامة ظالما ، ففيه تعظيم من الله لإبراهيم الخليل : أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى.

__________________

(١) [صحيح] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٢ / ١٤١] ح [٧٤٤٠] والترمذي في السنن [٢ / ١٧٣] ح [٣٤٤] ومن طريق البغوي في «شرح السنة» [٢ / ٣٢٧] ح [٤٤٦] ورواه ابن ماجة في السنن [١ / ٣٢٣] ح [١٠١١] ورواه الحاكم في المستدرك [١ / ٢٠٥ ، ٢٠٦] انظر الميزان [٣ / ٦٢١] ح [٧٨٣٩] ورواه البيهقي في السنن [٢ / ٩] ورواه الدارقطني في السنن [١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١] انظر المصنف لابن أبي شيبة [٢ / ١٤٠ ـ ١٤١] ومالك في الموطأ [١ / ١٩٦] /].

(٢) تفسير الطبري [١ / ٥٧٨].

١٨

قال الشوكاني في «فتح القدير» (١) : ولا يخفى عليك أنه لا جدوى لكلامه هذا ؛ فالأولى أن يقال : إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولّوا أمور الشرع ظالما. وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن إخباره تعالى لا يجوز أن يتخلف ، وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين. انتهى.

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يقتدى بدينك وهديك وسنتك. (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) إماما لغير ذريتي؟ (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)). أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم.

وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال : قال الله لإبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فأبى أن يفعل ؛ ثم قال : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ١٢٤).

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالما. فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم ؛ فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه (٢).

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به (٣).

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم فلا ينال عهده ، ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال : ليس لظالم عليك عهد في معصية الله (٤).

وقد أخرج وكيع وابن مردويه من حديث علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)) : قال : «لا طاعة إلا في المعروف» (٥).

وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا

__________________

(١) فتح القدير [١ / ١٣٨].

(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [١ / ٥٧٩] ح [١٩٥٩].

(٣) أخرجه ابن جرير في التفسير [١ / ٥٧٨ ـ ٥٧٩] ح [١٩٥٤].

(٤) انظر تفسير الطبري [١ / ٥٧٩].

(٥) أصله عند البخاري في الصحيح [٨ / ٥٨] ح [٤٣٤٠] ومسلم [٣ / ١٤٦٨] ح [١٨٤٠].

١٩

طاعة لمخلوق في معصية الله» (١).

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية : ليس للظالم عهد ، وإن عاهدته فانقضه (٢).

قال ابن كثير : وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحوه (٣).

[الآية السادسة]

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)).

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض ، وقرأ الباقون على صيغة الأمر.

والمقام في اللغة : موضع القيام.

واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف.

وقيل المقام : الحج كله. وروي ذلك عن عطاء ومجاهد.

وقيل : عرفة والمزدلفة ، وروي عن عطاء أيضا.

وقال الشعبي : الحرم كله مقام إبراهيم. وروي عن مجاهد.

وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب : «وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث. قلنا : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). وقلت : يا رسول الله : إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهنّ أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٥ / ٦٦] والطيالسي في المسند ح [٨٥٦] والحاكم في المستدرك [٣ / ٤٤٣].

انظر شرح السنة للبغوي [١٠ / ٤٤] وصحيح ابن حبان [١٠ / ٤٣٠ و ٤٣١].

(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [١ / ٥٧٩] ح [١٩٥٧].

(٣) تفسير ابن كثير [١ / ١٥٩].

٢٠