تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

أي : والحال أنه في حال إلقائه (شَهِيدٌ) أي : حاضر بكليته فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه فيتذكر.

وعطف على قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا) أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع (وَما بَيْنَهُما) من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الأرض في يومين. ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه تعالى سنّ لنا التأنّي بذلك (وَما مَسَّنا) لأجل ما لنا من العظمة أدنى مس. وعمم في النفي فقال تعالى : (مِنْ لُغُوبٍ) أي : إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفا فاقتضى فسادا فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكأن تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرّف.

(فَاصْبِرْ) يا أشرف الخلق (عَلى ما يَقُولُونَ) أي : اليهود وغيرهم من إنكار البعث والتشبيه وغير ذلك فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على البعث وغيره (وَسَبِّحْ) أي : أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص ملتبسا (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها مفضلا لك على جميع الخلق وقوله تعالى : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) إشارة إلى طرفي النهار.

وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) إشارة إلى زلفى من الليل وتقريره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مشتغلا بأمرين أحدهما عبادة الله تعالى والثاني هداية الخلق فإذا لم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة قبل الطلوع وقبل الغروب ، لأنهما وقتا اجتماعهم ويكون المراد بقوله تعالى : ومن الليل أوّله لأنه أيضا وقت اجتماعهم وقال أكثر المفسرين قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان والتهجد (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) التنقل بعد المكتوبات وقيل : الوتر بعد العشاء وقال مجاهد ومن الليل : يعني صلاة الليل أيّ وقت صلى. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسر الهمزة على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان كقولهم آتيك خفوق النجم وخلافة الحجاج ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انقضائها وتمامها والباقون بالفتح جمع دبر وهو آخر الليل وعقبها ومنه قول أوس (١) :

على دبر الشهر الحرام بأرضنا

وما حولها جدّت سنون تلمع

ولم يختلفوا في وأدبار النجوم وقوله تعالى : وأدبار معطوف إما على قبل الغروب وإما على ومن الليل وقال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما : أدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه مرفوعا. قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين عن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح» (٢) وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (٣) يعني بذلك سنة الفجر

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح المفصل ٢ / ٤٥ ، وهو ليس في ديوان أوس بن حجر.

(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٧٢٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٢٥٤.

(٣) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٧٢٥ ، والترمذي حديث ٤١٦ ، والنسائي في قيام الليل باب ٥٦.

٨١

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» (١) وعن مجاهد وأدبار السجود : هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين فذاك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (٢) وعنه أيضا «أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما ذاك فقالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال : أفلا أخبركم بأمر تدركون به من قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد مثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا» (٣).

وقوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ) أي : لما أخبرك به من أحوال القيامة فيه تهويل وتعظيم للمخبر به والمحدّث عنه. كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول ثم حدّثه بعد ذلك» (٤) وقوله تعالى (يَوْمَ) ظرف لاستمع أي استمع ذلك في يوم (يُنادِ الْمُنادِ) أي : إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر فيقول : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.

وقيل : المنادي جبريل (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) بحيث يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب يكونون في السماع سواء ، لا تفاوت بينهم أصلا. واختلف في ذلك المكان القريب. فأكثر المفسرين : أنه صخرة بيت المقدس فإنها أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا وهي وسط الأرض. وقيل : من تحت أقدامهم. وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) بدل من يوم ينادي والصيحة النفخة الثانية وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) حال من الصحية أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع حق (ذلِكَ) أي : اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين الجدّ (يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي : الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى المحشر وهو من أسماء يوم القيامة.

(إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (نَحْنُ) أي : خاصة (نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي : نجدد ذلك شيئا بعد شيء سنة مستقرّة وعادة مستمرّة كما تشاهدونه فقد كان منا بالإحياء الأوّل المبدأ (وَإِلَيْنَا) أي :

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٤٣.

(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٥٩٧ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٧١ ، والنسائي في السهو حديث ١٣٥٤.

(٣) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٣٢٩.

(٤) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٨٢

خاصة بالإماتة ثم الإحياء (الْمَصِيرُ) أي : في الآخرة. وقيل تقديره نميت في الدنيا ونحيي في الآخرة للبعث. وإلينا المصير بعد البعث.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) بدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض. وقرأ (تَشَقَّقُ الْأَرْضُ) نافع وابن كثير وابن عامر بتشديد الشين والباقون بالتخفيف (عَنْهُمْ) أي : مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء حال كونهم (سِراعاً) أي : إجابة منادينا وهو جمع سريع وأشار إلى عظمة الأمر بقوله تعالى (ذلِكَ) أي : الإخراج العظيم جدّا (حَشْرٌ) أي : جمع بكره وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقدم الجار فقال تعالى : (عَلَيْنا) أي : خاصة (يَسِيرٌ) فكيف يتوقف فيه عاقل فضلا عن أن ينكره وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه.

تنبيه : علينا متعلق بيسير ففصل بمعمول الصفة بينها وبين موصوفها ولا يضرّ ذلك. وقال الزمخشريّ : التقديم للاختصاص وهو ما أشرت إليه أي لا يتيسر ذلك إلا على الله تعالى وحده وهو إعادة جواب قولهم ذلك رجع بعيد.

وقوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ) أي : عالمون (بِما يَقُولُونَ) أي : في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي : بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما أنت منذر وقد فعلت ما أمرت به ونحن القادرون على ردهم بما لنا من العلم المحيط وهذا قبل الأمر بالقتال (فَذَكِّرْ) أي : بطريق البشارة والنذارة (بِالْقُرْآنِ) أي : الجامع بمجده لكل خير المحيط بكل صلاح (مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فإنه لا ينتفع به غيره وهم المؤمنون. وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الدال وصلا لا وقفا وحذفها الباقون وصلا ووقفا وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قرأ سورة ق هوّن الله عليه ثأرات الموت وسكراته» (١) حديث موضوع وثأرات الموت بمثلثة وهمزة مفتوحة أهواله.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٣٩٧.

٨٣

سورة الذاريات

مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي المحيط بصفات الكمال فهو لا يخلف الميعاد (الرَّحْمنِ) الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد (الرَّحِيمِ) الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد.

ولما ختم الله سبحانه وتعالى ق بالتذكير بالوعيد افتتح هذا بالقسم البالغ على صدقه ، فقال عز من قائل مناسبا بين القسم والمقسم عليه.

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

(وَالذَّارِياتِ) أي : الرياح تذرو التراب وغيره ، وقيل : النساء الوالدات ، فإنهنّ يذرين الأولاد ، وقوله تعالى (ذَرْواً) منصوب على المصدر المؤكد والعامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل والمفعول محذوف اقتصارا ، يقال : ذرت الريح التراب وأذرته.

(فَالْحامِلاتِ) أي : السحب تحمل الماء وقيل : الرياح الحاملة للسحاب وقيل النساء الحوامل وقوله تعالى : (وِقْراً) أي : ثقلا مفعول به بالحاملات كما يقال حمل فلان عدلا ثقيلا ، قال الرازي : ويحتمل أن يكون اسما أقيم مقام المصدر كقوله : ضربته سوطا.

(فَالْجارِياتِ) أي : السفن ، وقيل : الرياح الجارية في مهابها ، وقيل الكواكب التي تجري في منازلها ، وقوله تعالى : (يُسْراً) أي : بسهولة ، مصدر في موضع الحال أي ميسرة.

(فَالْمُقَسِّماتِ) أي الملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد والبلاد وقوله تعالى : (أَمْراً) يجوز أن يكون مفعولا به كقولك : فلان قسم الرزق أو المال ، وأن يكون حالا ، أي : مأمورة ، وهذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات والفاء للترتيب في

٨٤

القسم لا في المقسم به ، قال الزمخشريّ : ويجوز أن يراد الرياح وحدها ؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جريا سهلا ، وعلى هذا يكون من عطف الصفات والمراد واحد فتكون الفاء على هذا الترتيب الأمور في الوجود وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو على المنبر : سلوني ، قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي فقام ابن الكواء فقال : ما الذاريات؟ قال : الرياح ، قال : فالحاملات وقرا قال : السحاب ، قال : فالجاريات يسرا ، قال : الفلك قال : فالمقسمات أمرا ، قال : الملائكة وكذا عن ابن عباس وعن الحسن المقسمات السحاب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد وقد حملت على الكواكب السبعة ، ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جريا سهلا وتقسم الأمطار بتصريف السحاب.

فإن قيل : إن كان وقرا مفعولا فلم لم يجمع وقيل : أوقارا؟ أجيب بأن جماعة من الرياح قد تحمل وقرا واحدا وكذا القول في المقسمات أمرا إذا قيل إنه مفعول به لأنّ جماعة من الملائكة قد تجتمع على أمر واحد.

فائدة : أقسم الله تعالى بجمع السلامة المؤنث في خمس سور ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورة أصلا فلم يقل والصالحين من عبادي ولا المقربين إلى غير ذلك مع أنّ المذكر أشرف لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل

ولما كانوا يكذبون بالوعيد أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) أي مطابق الإخبار به للواقع وسترون مطابقته له.

تنبيه : ما يجوز أن تكون اسمية وعائدها محذوف أي توعدونه وأن تكون مصدرية فلا عائد على المشهور وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مبنيا من الوعد وأن يكون مبنيا من الوعيد ، لأنه يصلح أن يقال أوعدته فهو يوعد ووعدته فهو يوعد لا يختلف فالتقدير : إن وعدكم أوان وعيدكم (وَإِنَّ الدِّينَ) أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث (لَواقِعٌ) لا بدّ منه وإن أنكرتم.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قال ابن عباس وقتادة وعكرمة : ذات الخلق الحسن المستوي ، يقال للنساج إذا نسج الثوب فأجاد ما أحسن حبكه ، وقال سعيد بن جبير : ذات الزينة ، أي : المزينة بزينة الكواكب ، قال الحسن : حبكتها النجوم وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح ، وحبك الرمل والشعر الجعد وهو آثار تثنيه وتكسره قال زهير (١) :

مكلل بأصول النجم تنسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك

والحبك يحتمل أن يكون مفرده حبيكة كطريقة وطرق أو حباك نحو حمار وحمر قال الشاعر (٢) :

كأنما جللها الحوّاك

ظننته في وشيها حباك

وأصل الحبك إحكام الشيء وإتقانه ، ومنه يقال للدرع : محبوكة.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٧٦ ، ولسان العرب (نسج) ، (خرق) ، (حبك) ، (نجم) ، وجمهرة اللغة ص ٢٨٣ ، وبلا نسبة في المخصص ٩ / ١٤٩.

(٢) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٨٥

وجواب القسم (إِنَّكُمْ) يا معشر قريش (لَفِي قَوْلٍ) محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دينكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق (مُخْتَلِفٍ) فتقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين ، وفي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر وشاعر ومجنون وكاهن وكاذب.

(يُؤْفَكُ) أي يصرف (عَنْهُ) أي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن أي عن الإيمان بذلك (مَنْ أُفِكَ) أي صرف عن الهداية في علم الله تعالى ومعناه حينئذ الذم ، وقيل : إنه مدح للمؤمنين ومعناه يصرف عن القول المختلف من يصرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي.

(قُتِلَ) أي لعن (الْخَرَّاصُونَ) أي الكذابون وهم الذين لا يجزمون بأمر بل هم شاكون متحيرون وهم أصحاب القول المختلف.

ثم وصفهم الله تعالى فقال تعالى : (الَّذِينَ هُمْ) أي خاصة (فِي غَمْرَةٍ) أي جهل يغمرهم (ساهُونَ) أي غريقون في السهو وهو النسيان والغفلة والحيرة وذهاب القلب إلى غير ما يهمه ، ففاعل ذلك ذو ألوان متخالفة من هول ما هو فيه وشدة كربه.

(يَسْئَلُونَ) النبيّ استهزاء (أَيَّانَ) أي متى وأي حين (يَوْمُ الدِّينِ) أي وقوع الجزاء الذي تخبرنا به ولو لا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يترك عبيده وإجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم ، وينظر قطعا في أحوالهم ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف الظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيده الذين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما كل ما يحتاجون إليه فيتركهم سدى ويوجدهم عبثا؟.

وقوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ) منصوب بمضمر ، أي : الجزاء كائن يوم هم (عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يعذبون فيها جواب لسؤالهم أيان يوم الدين ، وقال الرازي يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون جوابا عن قولهم أيان يقع فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب للعلم ، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين ، بل قال (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) فجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأوّل ، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى ، فلو قال قائل : متى يقدم زيد فلو أجيب بقوله : يوم يقدم رفيقه ، ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لم يصح هذا الجواب.

ثانيهما : أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه في قوله تعالى : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي تعذيبكم فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار أجيب : بأن الإضمار لا بدّ منه لأنّ قوله تعالى : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) لا يتصل بما قبله إلا بإضمار يقال (هذَا) أي العذاب الملون (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في الدنيا استهزاء.

ولما بين تعالى حال المجرمين بين بعده حال المتقين فقال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين كانت التقوى لهم وصفا ثابتا (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين عظيمة تجن داخلها أي تستره من كثرة ظلالها لكثرة أشجارها وعظمها (وَعُيُونٍ) جارية في خلال الجنان.

تنبيه : المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك وأعلاها أن يتقي الدنيا والآخرة ، وأدنى درجات المتقي الجنة فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة.

وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائيّ بكسر العين والباقون بالضم.

٨٦

وقوله تعالى : (آخِذِينَ) حال من الضمير في خبر إن. وقوله تعالى : (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي المحسن إليهم المدبر لهم بتمام علمه وشامل قدرته إن كان مما في الجنة فتكون حالا حقيقية وإن كان مما آتاهم من أمره ونهيه في الدنيا فتكون حالا محكية لاختلاف الزمانين.

تنبيه : اعلم أن الله تعالى وحد الجنة تارة قال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥] وأخرى جمعها كقوله تعالى هنا : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) وتارة ثناها قال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] والحكمة فيه أنّ الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما جمعها فإنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنات لا يحصرها عدد وأما تثنيتها فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في سورة الرحمن وهو قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ٤٦) [الرحمن : ٤٦] فقيل : جنة لخوفه من ربه ، وجنة لتركه شهوته ، وقيل جنة لخائف الإنس وجنة لخائف الجن فيكون من باب التوزيع قال الرازي : غير أنا نقول ههنا إنّ الله تعالى عند الوعد وحد الجنة وكذلك عند الشراء فقال تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجنات ثم يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود.

ومعنى آخذين : قابضين ما آتاهم شيئا فشيئا ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له وقيل : قابلين قبول رضا كقوله تعالى (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة : ١٠٤] أي يقبلها قاله الزمخشريّ وقوله تعالى : (ويأخذ الصدقات إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) إشارة إلى أنهم أخذوها بثمنها وملكوها بالإحسان يكون في الدنيا ، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة وإما لإيتاء الله تعالى وإمّا ليوم الدين والإحسان يكون في معاملة الخالق والخلائق وقيل هو قول لا إله إلا الله ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] وقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.

ثم فسر إحسانهم معبرا عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله تعالى : (كانُوا) أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعين فيه (قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ) الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات (ما يَهْجَعُونَ) أي يفعلون الهجوع وهو النوم الخفيف القليل بالليل فما ظنك بما فوقه فما مزيدة ويهجعون خبر كان وقليلا ظرف أي : ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره ، وقال ابن عباس رضي الله عنه كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا إما من أوّلها أو من وسطها ، وعن أنس بن مالك كانوا يصلون من المغرب إلى العشاء ، وقال محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة ، وقال مطرف بن عبد الله : قلّ ليلة أتت عليهم هجوعا كلها وقال مجاهد : كانوا لا ينامون كل الليل.

ووقف بعضهم على قليلا ليؤاخي بها قوله تعالى (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٢٤] و (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] ويبتدئ من الليل ما يهجعون أي ما يهجعون من الليل والمعنى : كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ فقال : ما يهجعون من الليل وجعله جحدا أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون للصلاة والعبادة وهو قول الضحاك ومقاتل ، وقيل : إنّ ما بمعنى الذي وعائدها محذوف تقديره : كانوا قليلا من الليل الوقت الذي يهجعونه وهذا فيه تكلف ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصرا.

٨٧

قال تعالى دالا على ذلك وعلى أن تهجدهم متصل بآخر الليل : (وَبِالْأَسْحارِ) قال ابن زيد : السحر السدس الأخير من الليل (هُمْ) أي : دائما بظواهرهم وبواطنهم (يَسْتَغْفِرُونَ) أي : يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى ، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا أحصي ثناء عليك» (١) وإبراز الضمير دلّ على أنّ غيرهم لو فعل هذا ليلة لأعجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه ، وعلى أنّ استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظنّ أنهم أحق بالتذلل من المصرّين على المعاصي ، فإنّ استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ما له سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه تعالى لا يقدر حق قدره.

تنبيه : بالأسحار متعلق بيستغفرون والباء بمعنى في وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.

وقال الكلبي ومجاهد : بالأسحار يصلون وذلك أنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل الله إلى السماء كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له ، من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له» (٢) وهذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان :

أحدهما : وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمّر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل وترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب سبحانه عن صفات الأجسام.

المذهب الثاني : وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أنّ الصعود والنزول من صفات الأجسام فالله تعالى منزه عن ذلك فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل ، لأنّ ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس وعن ابن عباس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال : «اللهمّ لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت» (٣) وزاد في رواية «وما أنت أعلم به مني أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» (٤) زاد النسائي «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (٥).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٨٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٨٧٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٢٤٩٣ ، والنسائي في التطبيق حديث ١١٠٠ ، ١١٣٠ ، وابن ماجه في الدعاء حديث ٣٨٤١ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ٣١ ، وأحمد في المسند ١ / ٩٦ ، ١١٨ ، ١٥٠ ، ٦ / ٥٨.

(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٧٥٨ ، والترمذي في الصلاة حديث ٤٤٦.

(٣) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٣٨٥ ، ومسلم في المسافرين حديث ٧٦٩ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٧٧١ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤١٨

(٤) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٣١٧ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٣٥٥.

(٥) أخرجه النسائي في قيام الليل حديث ١٦١٩.

٨٨

ولما ذكر تعالى معاملتهم للخالق أتبعه المعاملة للخلائق تكميلا لحقيقة الإحسان فقال تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ) أي كل أصنافها (حَقٌ) أي نصيب ثابت (لِلسَّائِلِ) أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف (وَالْمَحْرُومِ) وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يفطن له ليتصدّق عليه وهذه صفة أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم ، فالمحسنون يعرفون صاحب الوصف لما لهم من ناقد البصيرة ولله تعالى بهم العناية ، وقدم السائل لأنه يعرف بسؤاله أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤال ، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلا ومسؤولا.

وقيل قدّم السائل لتجانس رؤوس الآي. وقيل : السائل هو الآدمي ، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في كل كبد حراء أجر» (١) وهذا ترتيب حسن لأنّ الآدمي مقدّم على البهائم ، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب : السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء ، وقال قتادة والزهري : المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس وقال زيد بن أسلم : المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ما شيته وهو قول محمد بن كعب القرظي قال : المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة : ٦٦ ـ ٦٧].

(وَفِي الْأَرْضِ) أي من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها (آياتٌ) أي دلالات على قدرة الله تعالى ووحدانيته (لِلْمُوقِنِينَ) أي الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها قال القشيري : من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء ، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحدا أو تبرم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة ، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ، ومن الآيات فيها أنه يلقي عليها كل قذر وقمامة فتنبت كل زهر ونور فكذلك العارف يتشرّب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق حسن عليّ وشيمة زكية.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات أيضا من مبدإ خلقكم إلى منتهاه ، وما في تركيب خلقكم من العجائب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي : بأبصاركم وبصائركم فتتأمّلوا ما في ذلك من الآيات فمن تأمّلها علم أنه عبد ، ومتى علم ذلك علم أن له ربّا غير محتاج إلى أحد.

(وَفِي السَّماءِ) أي : جهة العلو (رِزْقُكُمْ) بما يأتي من المطر والرياح والحرّ والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه وتعالى لمنافع العباد ، وقال ابن عباس يعني بالرزق المطر لأنه سبب الأرزاق ، وقيل : في السماء رزقكم مكتوب وقيل تقدير الأرزاق كلها من السماء ولو لاه لما حصل في الأرض حبة قوت (وَما تُوعَدُونَ) قال عطاء : من الثواب والعقاب وقال مجاهد : من الخير والشرّ وقال الضحاك : من الجنة والنار.

ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال عز من قائل : (فَوَ رَبِ) أي : مبدع ومدبر (السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : وما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه (إِنَّهُ) أي : الذي توعدونه من الخير

__________________

(١) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في المساقاة باب ٩ ، والمظالم باب ٢٣ ، والأدب باب ٢٧ ، ومسلم في السلام حديث ١٥٣ ، وأبو داود في الجهاد باب ٤٤ ، وابن ماجه في الأدب باب ٨ ، ومالك في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ٢٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٢٢ ، ٣٧٥ ، ٥١٧ ، ٤ / ١٧٥.

٨٩

والشرّ والجنة والنار وما ذكر من أمر الرزق وما تقدّم الإقسام عليه (لَحَقٌ) أي ثبات يطابقه الواقع (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم كما أنه لا شك في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن لا تشكوا في تحقيق ذلك وقال بعض الحكماء : معناه أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكن أن ينطق بلسان غيره ، كذلك كل أحد يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره وأنشدوا في المعنى (١) :

ما لا يكون فلا يكون بحيلة

أبدا وما هو كائن سيكون

سيكون ما هو كائن في وقته

وأخو الجهالة مكمد مغبون

وقيل : معناه أنّ القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون ، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة برفع اللام على أنه نعت لحق ، وما مزيدة وأنكم مضاف إليه أي لحق مثل نطقكم ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة لأنها لا تتعرف بذلك لإبهامها ، والباقون بالنصب على أنه نعت لحق أيضا كما في القراءة الأولى : وإنما بنى الاسم لإضافته إلى غير ممكن كما بناه القائل في قوله (٢) :

فتداعى منخراه بدم

مثل ما أثمر حماض الجبل

بفتح مثل مع أنها نعت لدم وقيل أنها نعت لمصدر محذوف أي لحق حقا مثل نطقكم. وقوله تعالى:

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

(هَلْ أَتاكَ) أي يا أكمل الخلق (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشير له بالفرج وسماهم ضيفا ؛ لأنه حسبهم كذلك ويقع على الواحد والجمع لأنه مصدر ، وسماهم مكرمين عند الله تعالى ، أو لأنّ إبراهيم عليه‌السلام أكرمهم بأن عجل قراهم وأجلسهم في أكرم المواضع واختيار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بأن يتبع ملته وكان إبراهيم عليه‌السلام أكرم الخليقة ، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : لأنّ إبراهيم عليه‌السلام خدمهم بنفسه ، وعن ابن عباس سماهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (٣).

__________________

(١) البيتان من الكامل ، وهما لابن أبي عيينة أو غيره في الأغاني ٢٠ / ١٠٤.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠١٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٤٧ ، وأبو داود في الأطعمة حديث ٣٧٤٨ ، والترمذي في البر حديث ١٩٦٧ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٦٧٢ ، والدارمي في الأطعمة حديث ٢٠٣٥ ، ومالك في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ٢٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧٤ ، ٢٦٧ ، ٢٦٩ ، ٤٣٣ ، ٤٦٣ ، ٣ / ٧٦ ، ٤ / ٣١ ، ٥ / ٤١٢ ، ٦ / ٦٩ ، ٣٨٤ ، ٣٨٥.

٩٠

فإن قيل : إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار ، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟ أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الفرج في حق الأنبياء والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا كقوله تعالى : (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [الزمر : ٢٥] فلم يكن عند إبراهيم عليه‌السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته قال القشيري : وقيل كان عددهم اثني عشر ملكا وقيل : جبريل عليه‌السلام وكان معه تسعة وقيل : كانوا ثلاثة ، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها.

(إِذْ) أي حديثهم حين (دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف ، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند الدال والباقون بالإدغام.

تنبيه : اختلف في العامل في إذ على أربعة أوجه : أحدها : أنه حديث أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. ثانيها : أنه منصوب بما في ضيف من معنى الفعل ، لأنه في الأصل مصدر ولذلك استوى فيه الواحد المذكر وغيره ، كأنه قيل : الذين أضافهم في وقت دخولهم عليه. ثالثها : أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أن إبراهيم عليه‌السلام أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول : أكرموا إذ دخلوا. رابعها : أنه منصوب بإضمار اذكر ، ولا يجوز نصبه بأتاك لاختلاف الزمانين.

فإن قيل : إنما أرسلوا إلى قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه‌السلام؟ أجيب من وجهين : أحدهما : أن إبراهيم عليه‌السلام شيخ المرسلين ولوط من قومه ، وعادة الملك إذا أرسل رسولا لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له : اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. ثانيهما : أن إبراهيم عليه‌السلام كان شديد الشفقة حليما فكان يشق عليه إهلاك أمّة عظيمة ، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه‌السلام شفقة منه على العباد ، فقال لهم : بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف من هلك ويكون من صلبه فروع الأنبياء عليهم‌السلام (فَقالُوا سَلاماً) أي هذا اللفظ. (قالَ سَلامٌ) أي : هذا اللفظ ، والمشهور أنّ السلام الأوّل المراد به التحية أي نسلم سلاما ، وقيل : إن سلاما معناه حسنا ؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم ، فكأنهم قالوا قولا حسنا سليما من الإثم فيكون مفعولا به ، لأنه في معنى القول ، وأمّا رفع الثاني فالمشهور أنه التحية فهو مبتدأ وخبره محذوف أي عليكم ، وقيل : إنه السلامة ، أي : أمري سلام لأني لا أعرفكم ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها والمعنى واحد.

وقوله تعالى : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي غرباء لا أعرفهم قال ذلك في نفسه كما قاله ابن عباس خبر مبتدأ مقدّر أي هؤلاء. وقيل : إنما أنكر أمرهم ؛ لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان وقال أبو العالية : أنكر إسلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.

(فَراغَ) أي ذهب في خفية من ضيفه ، فإنّ من آداب المضيف أن يبادر بالقرى حذرا من أن يكفه الضيف أو يصير منتظرا (إِلى أَهْلِهِ) أي الذين عندهم بقرة (فَجاءَ بِعِجْلٍ) أي فتى من أولاد البقر لأنه كان عامة ماله البقر (سَمِينٍ) قد شواه وأنضجه كما قال تعالى في سورة هود (حَنِيذٍ) [هود : ٦٦] أي : مشوي.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه بين أيديهم ليأكلوا فلم يأكلوا (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) والهمزة إمّا

٩١

للإنكار عليهم في عدم أكلهم ، وإمّا للعرض وإمّا للتحضيض فلم يجيبوا.

(فَأَوْجَسَ) أي أضمر في نفسه (مِنْهُمْ خِيفَةً) لما رأى إعراضهم على طعامه لظنه أنهم جاؤوه لشرّ. وقيل : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا بعذاب فلما عرفوا منه ذلك (قالُوا) مؤنسين له (لا تَخَفْ) وأعلموه أنهم رسل الله (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ) يأتيه على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السنّ بعد عقمها وهو إسحاق عليه‌السلام (عَلِيمٍ) أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه ، فإنّ جميع الأنبياء بعده من ذريته إلا نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه من ذرية إسماعيل عليه‌السلام.

تنبيه : ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضيف ولقاءه بالوجه الحسن والمبالغة في الإكرام بقوله سلام وهو آكد وسلامهم بالمصدر في قوله سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم ، لأنّ الامتناع من الطعام يدل على العداوة ، والغدر لا يليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مسالمة ثم فيها من آداب المضيف تعجيل الضيافة فإنّ الفاء في قوله فراغ تدل على التعقيب وإخفاؤها.

لأن الروغان يقتضي الإخفاء وغيبة المضيف عن الضيف ليستريح ويأتي بما يمنعه الحياء منه ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله سمين ، ويقدّم الطعام للضيف في مكانه ولا ينقل الضيف للطعام لقوله قربه إليهم ، ويعرض الأكل عليه ولا يأمره لقوله تعالى (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) ولم يقل كلوا وسروره بأكله لا كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاما كثيرا ، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه لقوله تعالى : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لعدم أكلهم.

ومن آداب الضيف إذا حضر الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضرّا به أو يكون ضعيف القوّة عن هضم ذلك الطعام أن لا يقول هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل يأتي بعبارة حسنة ويقول : فيّ مانع من أكل الطعام لأنهم أجابوه بقولهم (لا تَخَفْ) ولم يذكروا في الطعام شيئا ولا أنه يضر بهم بل بشروه بالولد إشعارا بأنهم ملائكة وبشروه بالأشرف وهو الذكر ، حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال ؛ لأنّ العلم أشرف الصفات

ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّه دفعة واحدة لأنه يورث مرضا لأنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم ثم قالوا نبشرك فإن قيل : قال تعالى في سورة هود (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) [هود : ٧٠] فدل على أنّ إنكاره ، حصل بعد تقريب العجل إليهم وههنا قال (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ثم قال (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) بفاء التعقيب وذلك يدل على أنّ تقريب الطعام منهم بعد حصول إنكاره فما وجهه؟ أجيب بأن يقال لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ولذلك قال (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي عند كل أحد واشترك إبراهيم عليه‌السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتم بل قال : أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا ، ثم لما امتنعوا من الطعام تأكد الإنكار لأنّ إبراهيم تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأوّل وحكاية الحال في سورة هود أبسط مما ذكره ههنا ، فإنه هنا لم يبين المبشر به وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إنّ القوم قوم من ، وهناك قال : قوم لوط.

ولما كانا بعيدين عن قبول الولد تسبب عن ذلك قوله تعالى دالا على أنّ الولد إسحاق مع الدلالة على أنّ خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات.

٩٢

(فَأَقْبَلَتِ) أي : من سماع هذا الكلام (امْرَأَتُهُ) سارة قيل : لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان بل كانت في البيت ، فهو كقول القائل : أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه وقوله تعالى : (فِي صَرَّةٍ) أي : صيحة حال ، أي : جاءت صائحة لأنها قد امتلأت عجبا (فَصَكَّتْ) قال ابن عباس : لطمت (وَجْهَها) واختلف في صفته فقيل : هو الضرب باليد مبسوطة وقيل : هو ضرب الوجه بأطراف الأصابع فعل المتعجب ، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئا ، وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض. وقيل : جمعت أصابعها وضربت جبهتها عجبا وذاك من عادة النساء أيضا إذا أنكرن شيئا (وَقالَتْ) تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أو من غيرها (عَجُوزٌ) قال القشيري : قيل إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة ومع ذلك (عَقِيمٌ) فهي حال شبابها لم تكن تقبل الحبل فلم تلد قط.

ولما قالت ذلك قالوا مجيبين لها : (قالُوا كَذلِكَ) أي مثل ما قلنا من هذه البشرى العظيمة (قالَ رَبُّكِ) أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (الْحَكِيمُ) أي : الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها (الْعَلِيمُ) المحيط العلم ، فهو لذلك لا يعجزه شيء.

ثم بين سبحانه وتعالى ما كان من حال إبراهيم وحال الملائكة بعد ذلك بقوله تعالى : (قالَ) أي إبراهيم عليه‌السلام مسببا عما رأى من حالهم وأنّ اجتماع الملائكة على تلك الحالة لم يكن لهذه البشارة فقط (فَما خَطْبُكُمْ) أي : خبركم العظيم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي لأمر عظيم وهذا أيضا من آداب المضيف إذا بادر الضيف بالخروج قال له : ما هذه العجلة وما شأنك لأنّ في سكوته ما يوهم اشتغاله ، ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسرّ عن الصديق شيئا وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه‌السلام على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق عليه‌السلام.

فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولم لا قال : ما هذا الاستعجال وما خطبكم المعجل لكم. أجيب : بأنه لما أوجس منهم خيفة لو خرجوا من غير بشارة وإيناس فلما آنسوه قال : فما خطبكم ، أي : بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم.

(قالُوا) قاطعين بالتأكيد بأنّ مضمون خبرهم حتم لا بدّ منه ولا مدخل للشفاعة فيه (إِنَّا أُرْسِلْنا) أي : بإرسال من تعلم (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي : هم في غاية القوّة على ما يحاولونه ، وقد صرفوا ما أنعم الله تعالى به عليهم من القوّة في قطع ما يحق وصله ، ووصل ما يحق قطعه يعنون قوم لوط.

(لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ) أي : من السماء التي فيها ما وعد العباد به وتوعدوا (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أي : مهيأ للإحراق والاحتراق.

(مُسَوَّمَةً) أي : معلمة بعلامة العذاب المخصوص عليها اسم من يرمى بها وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ظرف المسوّمة ، أي : معلمة عنده (لِلْمُسْرِفِينَ) أي : المتجاوزين الحدود غير قانعين بما أبيح لهم فالمسرف المتمادي ولو في الصغائر ، فهم مجرمون أي : مسرفون. والمجرم قال ابن عباس : هو المشرك لأنّ الشرك أعظم الذنوب.

٩٣

وهنا لطيفة : وهي أنّ الحجارة سوّمت للمصرّ المسرف الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى فلذلك قال (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ.)

ولما كان الإجرام ظاهرا قالوا (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) واللام في المسرفين لتعريف العهد أي لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوّمة ، وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يسبقهم به أحد من العالمين وفي هذا دليل على رجم اللائط ، والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم إذ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما أهلك النمروذ بالبعوض ، وكما أهلك فرعون بالقمل والجراد بل بالريح التي بها الحياة إظهارا للقدرة ، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أمر خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهارا لعظيم قدرته.

تنبيه : قوله تعالى : (مِنْ طِينٍ) أي ليس من البرد والفاعل لذلك هو الله تعالى لا كما تقول الحكماء فإنهم يقولون : إنّ البرد يسمى حجارة فقوله تعالى : (مِنْ طِينٍ) يدفع ذلك التوهم قال الرازي : إن بعض من يدّعي العقل يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوّرات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة قالوا : وسبب ذلك أنّ الإعصار تصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ذلك إلى هواء ندي فيصير ذلك طينا رطبا ، والرطب إذا نزل وتفرّق استدار ، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته يقطر كرات مدوّرات كاللآلىء الكبار ، ثم في النزول إن اتفق أن تضربه النيران التي في الجوّ جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من هيأ الله تعالى هلاكه ، وقد ينزل كثيرا في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدري به فلهذا قال : (مِنْ طِينٍ ،) لأنّ ما لا يكون من طين كالحجر الذي يكون في الصواعق لا يكون كثيرا بحيث يمطر وهذا تعسف ، لأنّ ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع لحادث آخر لزم التسلسل ولا بدّ من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلا مختارا ، والمختار له أن يفعل ذلك وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه ، وما لا يصل العقل إليه لا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أنّ نزول حجارة الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها.

ولما أراد الله تعالى أن يهلك المجرمين ميز المؤمنين بقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا) أي : بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليه‌السلام محاورات معروفة لم يدع الحال هنا إلى ذكرها (مَنْ كانَ فِيها) أي : قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : المصدّقين بقلوبهم لأنا لا نسوّيهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوّة المخالفين وكثرتهم.

(فَما وَجَدْنا فِيها) أي : تلك القرى ، أسند الأمر إليه تشريفا لرسله وإعلاما بأنّ فعلهم فعله تعالى (غَيْرَ بَيْتٍ) أي : واحد وهو بيت ابن أخي إبراهيم عليهما‌السلام ، وقيل : كانت عدّة الناجين منهم ثلاثة عشر (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : العريقين في إسلام الظاهر والباطن لله تعالى من غير اعتراض أصلا ، وهم إبراهيم وآله عليهم‌السلام وإنهم أوّل من وجد منهم الإسلام الأتم وتسموا به كما مرّ في سورة البقرة ، وسموا به أتباعهم فكان هذا البيت الواحد صادقا عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الانقياد قال البغوي : وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم يعني لما بينهما من التلازم وإن اختلف المفهومان ، وقال الأصفهاني : وقيل :

٩٤

كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر وقيل : هم لوط وابنتاه وصفوا بالإيمان والإسلام أي هم مصدّقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات.

تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين ، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شر ذمة يسيرة يسرقون ويزنون ومثاله : أنّ العالم كالبدن ، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم والواردة عليه الضارة ، ثم إنّ البدن إذا خلا عن النافع وفيه الضار هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما ، وإن وجدا فيه معا فالحكم للأغلب ، وإطلاق الخاص على العام لا مانع منه لأنّ المسلم أعم من المؤمن ، فإذا سمى المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين ، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.

(وَتَرَكْنا) أي : بما لنا من العظمة (فِيها) أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب (آيَةً) أي علامة عبرة على هلاكهم كالحجارة أو الماء المنتن ، فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجوّ كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت وأتبعت بالحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبهه شيء من مياه الأرض ، كما أنّ جنايتهم لم تكن تشبه جناية أحد ممن تقدّمهم من أهل الأرض (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي : أن يحل بهم كما حل بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذاري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة ، وغمرهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه ، وما ادّخر لهم في الآخرة أعظم وخص الذين يخافون بالذكر لأنهم المعتبرون بها.

وقوله تعالى :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

(وَفِي مُوسى) عطف على قوله تعالى : (فِيها) بإعادة الجار ، لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق بتركنا من حيث المعنى ويكون التقدير وتركنا في قصة موسى آية (إِذْ أَرْسَلْناهُ) أي : بما لنا من العظمة (إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة وهي معجزاته الظاهرة كاليد والعصا ومع ذلك لم ينتفع بها ، ولذلك سبب عنها وعقب بها قوله تعالى : (فَتَوَلَّى) أي : كلف نفسه الإعراض عنها بعد ما دعاه علمها إلى الإقبال إليها وأشار إلى قواه بقوله تعالى : (بِرُكْنِهِ) أي : بسبب ما يركن إليه من القوّة في نفسه وبأعوانه وجنوده ، لأنهم له كالركن وقيل : بجميع بدنه كناية عن المبالغة في الإعراض (وَقالَ) معلما بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر (ساحِرٌ) ثم ناقض

٩٥

كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله (أَوْ مَجْنُونٌ) أي : لاجترائه عليّ مع ما لي من عظيم الملك بمثل هذا الذي يدعو إليه

تنبيه : أو هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشك نزل نفسه مع أنه يعرفه نبيا حقا منزلة الشاك في أمره تمويها على قومه ، وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو قال : لأنه قد قالهما قال تعالى : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩] وقال في موضع آخر (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] وردّ الناس عليه هذا وقالوا : لا ضرورة تدعو إلى ذلك وأمّا الآيتان فلا تدلان على أنه قالهما معا في آن واحد ، وإنما يفيدان أنه قالهما أعمّ من أن يكونا معا ، أو هذه في وقت وهذه في آخر.

ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء قال تعالى محذرا للأعداء : (فَأَخَذْناهُ) أي : أخذ غضب وقهر بعظمتنا وقوله تعالى : (وَجُنُودَهُ) يجوز أن يكون معطوفا على مفعول أخذناه وهو الظاهر وأن يكون مفعولا معه.

(فَنَبَذْناهُمْ) أي : طرحناهم طرح مستهين بهم كما تطرح الحصيات (فِي الْيَمِ) أي : البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح عليه فغرقته لما ضربه موسى عليه‌السلام بعصاه ونشفت أرضه وأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا (وَهُوَ) أي والحال أنّ فرعون (مُلِيمٌ) أي آت بما يلام عليه من تكذيب الرسول ودعوى الربوبية وغير ذلك.

ثم ذكر تعالى قصصا أخر تسلية لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحداها : قوله تعالى : (وَفِي عادٍ) أي : إهلاكهم وهم قوم هود عليه‌السلام آية عظيمة (إِذْ) أي حين (أَرْسَلْنا) بعظمتنا (عَلَيْهِمُ الرِّيحَ) فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تدر الرمل وترمي بالحجارة كما مرّت الإشارة إليه على كيفية لا تطاق (الْعَقِيمَ) أي التي لا خير فيها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور.

ثم بين عقمها وإعقامها بقوله تعالى : (ما تَذَرُ) أي : تترك على حالة رديئة ، وأغرق في النفي فقال تعالى : (مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي : إتيانا أراد مرسلها إهلاكه بها (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي : الشيء البالي الذي دهكته الأيام والليالي إلى حالة الدمار وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض وديس ، قاله ابن جرير.

فإن قيل : الجبال والصخور وغير ذلك أتت عليهم وما جعلتهم كالرميم أجيب بأنّ المراد أتت عليه قاصدة له وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم ، لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم فما تركت شيئا من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم.

ثانيها : قوله تعالى : (وَفِي ثَمُودَ) أي إهلاكهم وهم قوم صالح عليه‌السلام آية عظيمة (إِذْ) أي حين (قِيلَ لَهُمْ) أي ممن لا يخلف الميعاد ، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها (تَمَتَّعُوا) أي بلبن الناقة وغيره مما مكناهم فيه من الزروع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور على الوجه الذي أمرناكم به ، ولا تطغوا (حَتَّى حِينٍ) أي وقت ضربناه لآجالكم.

(فَعَتَوْا) أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتوّ وهو التكبر والإباء (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي : مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا ناقته وأرادوا قتل نبيه صالح عليه‌السلام (فَأَخَذَتْهُمُ) أي : بسبب عتوّهم أخذ قهر وعذاب (الصَّاعِقَةُ) أي : الصيحة العظيمة التي حملتها الريح

٩٦

فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق ، وقرأ الكسائي بإسكان العين ولا ألف قبلها ، والباقون بكسر العين وقبلها ألف وقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) دال على أنها كانت في غمام وكان فيها نار ، ويجوز مع كونه من النظر أن يكون أيضا من الانتظار فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وجعل في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه في اليوم الرابع. وقال بعض المفسرين : المراد منه هو ما أمهلهم الله تعالى بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام بقوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥] وكان في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتحمر وتصفر وتسودّ قال الرازي : وهذا ضعيف ، لأنّ قوله تعالى (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) بحرف الفاء دليل على أنّ العتوّ كان بعد قوله تعالى : (تَمَتَّعُوا) فإذا الظاهر أنّ المراد هو ما قدّر الله تعالى للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل انتهى. ولحسن هذا فسرت الآية به.

(فَمَا) أي : فتسبب عن ذلك أنهم ما (اسْتَطاعُوا) أي : تمكنوا ، وأكد النفي بقوله تعالى : (مِنْ قِيامٍ) أي : فما قاموا بعد نزول العذاب وما قدروا على نهوض ، قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة كقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٧٨] وقيل : هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه (وَما كانُوا) أي : كونا ما (مُنْتَصِرِينَ) أي : لم يكن فيهم أهلية الانتصار بوجه لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة ، لأن تهيؤهم لذلك سقط بكل اعتبار.

ثالثها : قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) بالجرّ ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي عطف على ثمود أي وفي إهلاكهم بماء السماء والأرض آية ، وبالنصب وهي قراءة الباقين أي وأهلكنا قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إهلاك هؤلاء المذكورين ثم علل إهلاكهم بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا) خلقا وطبعا لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم (قَوْماً) أي : أقوياء (فاسِقِينَ) أي : غريقين في الخروج عن حظيرة الدين.

ثم ذكر ما يدلّ على تمام القدرة على البعث بقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) أي : بما لنا من العظمة (بِأَيْدٍ) أي : بقوّة وشدّة عظيمة لا يقدر قدرها.

فائدة : رسمت بأيد بيائين بعد الألف.

(وَإِنَّا) على عظمتنا بعد ذلك (لَمُوسِعُونَ) أي : أغنياء وقادرون ذووا سعة لا تتناهى ، ولذلك أوسعنا بقدر جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا تصح معها الشركة أصلا فلسنا كمن تعرفون من الملوك ، لأنهم إذا فعلوا شيئا لم يقدروا على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى ما ترون في جنبه ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد ، وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي : بسطناها ومهدناها بما لنا من العظمة ، فصارت ممهدة جديرة بأن تستقرّ عليها الأشياء ، وهي آية على تمهيد أرض الجنة وشقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها (فَنِعْمَ) أي : فتسبب عن ذلك أن يقال : في وصفنا نعم (الْماهِدُونَ) والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، أي : نحن لكمال قدرتنا فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا واختيارنا وتقديرنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئا علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إفنائه

٩٧

ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا ، وذلك تذكير بالجنة والنار فما فيها من خير فهو آية على الجنة ، وما فيها من شر فهو آية على النار.

وقوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا) يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا من كل شيء (زَوْجَيْنِ) وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من زوجين ، لأنه في الأصل صفة له إذ التقدير خلقنا زوجين كائنين من كل شيء ، أي صنفين كل منهما يزاوج الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ولا يتم نفع أحدهما إلا بالآخر من الحيوان والنبات وغيرهما ، ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر والحسن والقبح والحياة والموت والظلام والنور والليل والنهار والصحة والسقم والبر والبحر والسهل والجبل والشمس والقمر والحر والبرد اللذين هما من نفس جهنم آية بينة عليها وبناؤها على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوّقة إليها ، والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر قال الحسن : كل اثنين منها زوج والله سبحانه وتعالى فرد لا مثل له (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعلموا أنّ خالق هذه الأشياء واحد لا شريك له لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح ، وقرأ حفص والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد

(فَفِرُّوا) أي : أقبلوا والجؤوا (إِلَى اللهِ) أي : الذي لا سمي له فضلا عن مكافىء ، وله الكمال كله فهو في غاية العلو فلا يفرّ ويسكن أحد إلى غير محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ولا يفرّ إليه سبحانه إلا من تجرّد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دلّ عليهما بالزوجين فتكمل السياق بالتحذير والاستعطاف بالاستدعاء فهو من باب لا ملجأ منك إلى إليك أعوذ بك منك قال القشيري : ومن صح فراره إلى الله تعالى صح قراره مع الله تعالى قال البقاعي : وهو بكمال المتابعة ليس عينا ومن فهم منه اتحادا بذات أو صفة فقد نابذ طريق القوم فعليه لعنة الله.

(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي : لا من غيره (نَذِيرٌ) أي : من أن يفرّ أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصد (مُبِينٌ) أي : بين الإنذار ففرار العامّة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا ، ومن الكسل إلى التشمير حذرا وحزما ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق استغراقا في وحدانيته.

(وَلا تَجْعَلُوا) أي : بأهوائكم (مَعَ اللهِ) وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعيينا للمراد ، لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيها على ما له من صفات الكمال وتعميما لوجوه المقاصد لئلا يظنّ لو قيل معه إنّ المراد النهي على الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها (إِلهاً آخَرَ) ثم علل النهي مع التأكيد بطعنهم في نذارته فقال (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي لا من غيره ، فإن غيره لا يقدر على شيء (نَذِيرٌ) أي : محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لا خلاص معها إن فعلتم ذلك (مُبِينٌ) أي : لا أقول شيئا من واضح النقل إلا ودليله ظاهر.

(كَذلِكَ) أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة البعيد من الصواب بما له من الاضطراب وقع لمن قبلهم ودلّ على هذا المقدّر بقوله تعالى مستأنفا (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : كفار مكة وعمم النفي فقال تعالى : (مِنْ رَسُولٍ) أي من عند الله تعالى (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي مثل تكذيبهم لك بقولهم ذلك لأنّ الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها

٩٨

أهواؤهم ، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء أكانت أو للتفصيل ، لأنّ بعضهم قال : واحدا ، وبعضهم قال : آخر ، أو كانت للشك لأنّ الساحر يكون لبيبا فطنا آتيا بما يعجز عنه كثير من الناس ، والمجنون بالضدّ من ذلك.

فإن قيل : قوله تعالى (إِلَّا قالُوا) يدل على أنهم كلهم قالوا ذلك والأمر ليس كذلك ، لأنّ ما من رسول إلا وآمن به قوم أجيب : بأنّ ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قالوا كلهم وإنما قال إلا قالوا ولما كان كثير منهم قائلين قال تعالى (إِلَّا قالُوا.)

فإن قيل : فلم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذبين ، وقال : إلا قال بعضهم : صدقت وبعضهم كذبت أجيب : بأنّ المقصود التسلية وهي أعلى التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإنّ أقواما قبلك كذبوا ورسلا كذبوا.

ثم عجب منهم بقوله تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ) فهو استفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في به يعود على القول المدلول عليه بقالوا ، أي أتواصوا الأوّلون والآخرون بهذا القول المتضمن لساحر أو مجنون والمعنى : كيف اتفقوا على معنى واحد ، كأنهم تواطؤوا عليه وأوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وقوله تعالى (بَلْ هُمْ قَوْمٌ) أي : ذوو شماخة وكبر (طاغُونَ) إضراب عن أنّ التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.

ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (فَتَوَلَ) أي : أعرض (عَنْهُمْ) أي : كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لأنك بلغتهم الرسالة وما قصرت فيما أمرت به.

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية «حزن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وإن العذاب قد حضر إذ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى عنهم فأنزل الله تعالى : (وَذَكِّرْ) أي : ولا تدع التذكير والموعظة (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسهم ، والمعنى : ليس التولي مطلقا بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرّك إذا كان عليهم ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين ، وقال مقاتل : معناه عظ بالقرآن كفار مكة فإنّ الذكرى تنفع من علم الله تعالى أنه مؤمن منهم ، وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم.

ولما بين حال من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) واختلف في تفسير ذلك فأكثر المفسرين على أن المراد بهم العموم ، ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأنّ الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به هكذا قال الجلال المحلي ، وأوضح منه ما قاله ابن عادل : إنّ المعنى إلا معدّين للعبادة ثم منهم من يتأتى منه ذلك ومنهم من لا ، كقولك : هذا القلم بريته للكتابة ثم قد لا تكتب به وقد تكتب انتهى أو أنّ المراد إلا لأمرهم بالعبادة وليقروا بها وهذا

٩٩

منقول عن عليّ بن أبي طالب ، أو أنّ المراد ليطيعوا وينقادوا لقضائي ، فالمؤمن يفعل ذلك طوعا والكافر يفعل ذلك كرها ، أو أنّ المراد إلا ليوحدون فأمّا المؤمن فيوحد اختيارا في الشدّة والرخاء ، وأمّا الكافر فيوحد اضطرارا في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء. وقال مجاهد : معناه إلا ليعرفون قال البغوي : وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده بدليل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] وقيل : المراد به الخصوص أي : ما خلقت السعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قال زيد بن أسلم : قال هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، ويؤيده قوله تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] وقيل : وما خلقت الجنّ والإنس المؤمنين وقيل : الطائعين.

تنبيه : استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وأجيبوا بوجوه منها : أنّ اللام قد ثبتت لغير الغرض كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وقوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] ومعناه المقارنة فيكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة ومنها قوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦] ومنها ما يدلّ على أنّ الإضلال بفعل الله كقوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٧] وأمثاله ، ومنها قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] وقوله تعالى (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠](يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) [المائدة : ١] فإن قيل : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلفين قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] وقال تعالى (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأعراف : ٢٠٦] أجيب بوجوه.

أحدها : أنّ الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجنّ والإنس ، لأنّ الكفر موجود فيهما دون الملائكة. ثانيها : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجنّ والإنس فلما قال تعالى : (وَذَكِّرْ) بين ما يذكر به ، وهو كون الخلق للعبادة وخصص أمّته بالذكر أي ذكر الجنّ والإنس ثالثها : أن عباد الأصنام كانوا يقولون إنّ الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله تعالى وخلقهم لعبادته ، ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله تعالى فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله تعالى كما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فقال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلما من القوم فذكر المنازع فيه. رابعها : فعل الجنّ يتناول الملائكة لأنّ أصل الجنّ من الاستتار وهم مستترون عن الخلق فذكر الجنّ لدخول الملائكة فيهم.

ولما خص سبحانه خلقهم في إرادة العبادة صرّح بهذا المفهوم بقوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ) أي : في وقت من الأوقات وعمم في النفي بقوله تعالى : (مِنْ رِزْقٍ) أي : شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع ، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر كما يفعل غيري من الموالي مع عبيدهم ، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصل معايشهم وأرزاقهم ، فإمّا مجهز في تجارة ليفيء ربحا ، أو مرتب في فلاحة ليغتل أرضا ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب أو محتش أو مستق أو طابخ أو خابز وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرّف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ.

(وَما أُرِيدُ) أصلا (أَنْ يُطْعِمُونِ) أي : أن يرزقون رزقا خاصا هو الإطعام وفيه تعريض

١٠٠