تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

سورة الهمزة

مكية ، وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الحكم العدل (الرَّحْمنِ) الذي عمّ جوده أهل البخل وأولي العدل (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بزيادة الفضل

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

وقوله تعالى : (وَيْلٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه كلمة عذاب ، والثاني : أنه واد في جهنم (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال ابن عباس : هم المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب ، فعلى هذا هما بمعنى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب» (١). وقال مقاتل : الهمزة الذي يعيبك في الغيب ، واللمزة الذي يعيبك في الوجه. وقال أبو العالية والحسن : الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة الذي يغتابه من خلفه ، وهذا اختيار النحاس. ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨]. وقال سعيد بن جبير : الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم ، واللمزة الطعان عليهم. وقال ابن زيد : الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري : يهمز بلسانه ويلمز بعينه. وقال ابن كيسان : الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ ، واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه. وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب ، ويدخل في ذلك من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منهم. وأصل الهمز الكسر واللمز الطعن ، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم حتى صار ذلك عادة ، لأنه خلق ثابت في جبلتهم والذي دلّ على الاعتياد صيغة فعلة بضم ففتح ، كما يقال : ضحكة للذي يفعل الضحك كثيرا حتى صار عادة له وضرى به.

واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية ، فقال الكلبي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم. وقال محمد بن إسحاق : ما زلنا نسمع أنّ سورة الهمزة نزلت في أمية بن

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣١٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٩٣.

٦٨١

خلف الجمحيّ. وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه. وقال مجاهد : هي عامّة في حق من هذه صفته.

وقوله تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً) بدل من كل ، أو ذمّ منصوب أو مرفوع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد الميم على المبالغة والتكثير ولأنه يوافق قوله تعالى : (وَعَدَّدَهُ) والباقون بتخفيفها ، وهي محتملة للتكثير وعدمه ، ومعنى عدّده : أحصاه وجعله للحوادث. وقال الضحاك : أعدّ ماله لمن يرثه من أولاده ، وقيل : فاخر بعدده وكثرته والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة كقوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) [ق : ٢٥] وقوله تعالى : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعراج : ١٨] (يَحْسَبُ) أي : يظنّ لجهله (أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي : أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا فيصير خالدا فيها لا يموت ، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض عمل من يظنّ أنّ ماله أبقاه حيا ، أو هو تعريض بالعمل الصالح ، أو أنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ، فأمّا المال فما أخلد أحدا فيه. وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار ، وقيل : عشرة آلاف دينار. وعن الحسن : أنه عاد موسرا فقال : ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال : لماذا؟ قال : لنبوة الزمان ، وجفوة السلطان ونوائب الدهر ، ومخافة الفقر قال : إذا تدعه لمن لا يحمدك ، وترد على من لا يعذرك. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين ، والباقون بكسرها.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع له عن حسبانه ، وقيل : معناه حقا. وقوله تعالى : (لَيُنْبَذَنَ) جواب قسم محذوف ، أي : ليطرحن بعد موته (فِي الْحُطَمَةِ) أي : الطبقة من جهنم التي شأنها أن تحطم ، أي : تكسر بشدّة وعنف كل ما طرح فيها فيكون أخسر الخاسرين ويقال للرجل الأكول : إنه لحطمة.

(وَما أَدْراكَ) أي : وأيّ شيء أعلمك ، ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الحكماء (مَا الْحُطَمَةُ) أي : الدركة النارية التي سميت هذا الاسم بهذه الخاصة ، وأنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالا لها ، ثم فسرها بقوله تعالى : (نارُ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي له الملك كله (الْمُوقَدَةُ) أي : التي وجد وتحتم إيقادها ، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقد فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتا.

روى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» (١).

(الَّتِي تَطَّلِعُ) أي : اطلاعا شديدا (عَلَى الْأَفْئِدَةِ) جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدّة ذكائه فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص ، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالا بليغا سمّي بذلك لشدّة توقدّه وخصّ لأنه ألطف ما في البدن وأشدّ تألما بأدنى شيء من الأذى ، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة ، ومعدن حبّ المال الذي هو منشأ حبّ الفساد والضلال ، وعنه تصدر الأفعال القبيحة. وقيل : معنى (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي : تعمل ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب يقال : اطلع على كذا ، أي : علمه.

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

٦٨٢

ثم أشار إلى خلودهم فيها بقوله تعالى مؤكدا لأنهم يكذبون بها : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال الحسن : مطبقة ، أي : بغاية الضيق. وقال مجاهد : مغلقة بلغة قريش ، يقال : آصدت الباب ، أي : أغلقته ومنه قول عبد الله بن قيس (١) :

إنّ في القصر لو دخلنا غزالا

مفتنا مؤصدا عليه الحجاب

ثم بين حال عذابهم بقوله تعالى : (فِي) أي : في حال كونهم موثوقين في (عَمَدٍ) قرأ حمزة والكسائي وشعبة بضم العين والميم جمع عمود نحو رسول ورسل ، وقيل : جمع عماد ككتاب وكتب ، والباقون بفتحهما فقيل : هو اسم جمع لعمود ، وقيل : بل هو جمع له. قال الفراء : كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة : هو جمع عماد. (مُمَدَّدَةٍ) أي : معترضة كأنها موضوعة على الأرض في غاية المكنة فلا يستطيع الموثوق بها على نوع حيلة في أمرها. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار ، وعمد من نار ، فيطبق عليهم بتلك الأطباق ، وتسدّ بتلك المسامير ، وتمدّ بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غم فيكون كلامهم فيها زفيرا وشهيقا» (٢). وقال قتادة : عمد تعذبون بها ، واختاره الطبريّ. وقال ابن عباس : إنّ العمد الممدّدة أغلال في أعناقهم. وقال أبو صالح قيود في أرجلهم. وقال القشيري : العمد أوتاد الأطباق. وقيل : المعنى في دهور ممدودة لا انقطاع لها. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠٣.

٦٨٣

سورة الفيل

مكية ، وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي قدّر به في كل شيء عاملة (الرَّحْمنِ) الذي له النعمة الشاملة (الرَّحِيمِ) الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) استفهام تعجب ، أي : أعجب (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) أي : المحسن إليك (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) فهو خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها ، وإنما قال تعالى : كيف لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته ، وشرف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة ، فخرج إليها فدخلها ليلا فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ عليّ ، فقيل : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع الذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ، وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له محمود ، وكان فيلا لم ير مثله عظما وجسما وقوّة فبعث به إليه فخرج أبرهة في الحبشة سائرا إلى مكة ، وخرج معه بالفيل واثني عشر فيلا غيره ، وقيل : ثمانية عشر ، وقيل : كان معه ألف فيل.

وقيل : كان وحده ، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر ، فقال له : أيها الملك استبقني فإن استبقائي خير لك من قتلي فاستبقاه فأوثقه ، وكان أبرهة رجلا حليما. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلا ، فقال نفيلا : أيها الملك إني دليل بأرض العرب وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة فاستبقاه ، وخرج معه يدله حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف ، فقال : أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك إنما تريد البيت

٦٨٤

الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه فبعثوا أبا رغال مولى لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة من المغمس رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مسعود على مقدمة خيله وأمره بالغارة على نعم الناس فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.

ثم إنّ أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة فقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال : إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك إنه لم يأت لقتال إنما جئت لأهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم ، فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ، ولا لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء إليه ، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه‌السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فو الله ما لنا به قوّة.

قال : فانطلق معي إلى الملك ، قال بعض العلماء : أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بنيه حتى قدم العسكر ، وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ، فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا ، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل ، فإنه صديق لي فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده ، فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إنّ هذا سيد قريش صاحب عير مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب الملك له مائتي بعير ، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي أحبّ ما وصل إليه من الخير.

فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك هذا سيد قريش صاحب عير مكة يطعم الناس في السهل والوحوش على رؤوس الجبال يستأذن عليك ، وأنا أحبّ أن تأذن له فيكلمك وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك فأذن له ، وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على السرير ، وأن يجلس تحته فهبط إلى البساط فجلس عليه ، ثم دعاه فأجلسه معه.

ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك؟ فقال الترجمان ذلك ، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ إليّ مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه : قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت فيك ، قال لم؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك ، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطلب : أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. قال : ما كان ليمنعه مني ، قال : فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه ، وقيل : عرض عليه عبد المطلب أموال تهامة ليرجع فأبى فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج فأخبر قريشا الخبر ، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشعاب ، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال تخوّفا عليهم من معرّة الجيش ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول (١) :

يا رب لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

أمنعهم أن يخربوا قراكا

__________________

(١) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٨٥

وقال أيضا (١) :

لا هم إن المرء يم

نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

جروا جموع بلادهم

والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه فأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله ، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال : أبرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام مهرولا ، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فضربوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم وخرج عبد المطلب يشتدّ حتى صعد الجبل فأرسل الله تعالى عليهم ما قصه في قوله سبحانه :

(أَلَمْ يَجْعَلْ) أي : جعل بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش (كَيْدَهُمْ) أي : في هدم الكعبة (فِي تَضْلِيلٍ) أي : خسارة وهلاك.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ) أي : خاصة من بين ما هناك من كفار العرب (طَيْراً) أي : طيورا سوداء ، وقيل : خضراء وقيل : بيضاء (أَبابِيلَ) أي : جماعات بكثرة متفرّقة يتبع بعضها بعضا من نواحي شتى فوجا فوجا وزمرة أمام كل فرقة منها طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق. وقيل : أبابيل كالإبل المؤبلة. قال الفراء : لا واحد لها من لفظها ، وقيل : واحدها إبالة. وقال الكسائي : كنت أسمع النحويين يقولون : واحدها أبول كعجول وعجاجيل. وقال ابن عباس : كانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال سعيد بن جبير : خضر لها مناقير صفر وقال قتادة : طير سود.

(تَرْمِيهِمْ) أي : الطير (بِحِجارَةٍ) أي : عظيمة في الكثرة والفعل ، صغيرة في المقدار والحجم مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بالحمرة كالجزع الظفاري ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففرّوا فهلكوا في كل طريق ومنهل وأمّا أبرهة فتساقطت أنامله كلها كلما سقطت أنملة اتبعها مدّة وقيح ودم ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير ، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه ، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر فخرّ ميتا بين يديه لأن تلك الحجارة كانت (مِنْ سِجِّيلٍ) أي : طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو

ولما تسبب عن هذا الرمي هلاكهم ، وكان ذلك بفعل الله تعالى لأنه الذي خلق الأثر قطعا ،

__________________

(١) الأبيات من مجزوء الكامل ، وهي لعبد المطلب بن هاشم في لسان العرب (محل) ، (غدا) ، (حلل).

٦٨٦

لأنّ مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك قال الله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ) أي : ربك المحسن إليك بإحسانه على قومك لأجلك بذلك (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي : كورق زرع أكلته فراثته فيبس وتفرّقت أجزاءه شبه قطع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث. قال مجاهد : العصف ورق الحنطة. وقال قتادة : هو التبن. وقال عكرمة كالحبّ إذا أكل وصار أجوف ، لأنّ الحجر كان يأتي في الرأس فيحرق بما له الحرارة وشدّة الوقع كلما مرّ به حتى يخرج من الدبر ، ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية. وقال ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له ، وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة وعن عكرمة : من أصابه جدره وهو أوّل جدري ظهر. وعن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها ، وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم.

واختلف في تاريخ عام الفيل ، فقيل : كان قبل مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة وقيل : بثلاث وعشرين سنة.

والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن عائشة قالت : رأيت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس ، وقال عبد الملك بن مروان لعتاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكبر مني ، وأنا أسنّ منه ، ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس ، بل قيل : لم يكن بمكة أحد إلا رأى قائد الفيل وسائسه أعميين يتكففان الناس لأنّ عائشة مع صغر سنها رأتهما. وقال ابن إسحاق لما ردّ الله تعالى الحبشة عن مكة المشرّفة عظمت العرب قريشا ، وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوّهم ، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.

وقال بعض العلماء : كانت قصة الفيل مما نعدّه من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانت قبله ، لأنها كانت توكيدا لأمره وتمهيدا لشأنه. وقول البيضاوي تبعا للزمخشريّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠٦.

٦٨٧

سورة قريش

مكية ، في قول الجمهور ومدنية في قول الضحاك والكلبي وهي أربع آيات وسبع عشرة كلمة وثلاثة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له جميع الكمال (الرَّحْمنِ) ذي النعم والأفضال (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بالقرب والإجلال.

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

وقوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) في متعلقه أوجه أحدها : أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٥]. قال الزمخشري : وهذا بمنزلة التضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل ، وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب ، وقرأ في الأولى والتين ا ه. وإلى هذا ذهب الأخفش. وقال الرازي : المشهور أنهما سورتان ولا يلزم من التعلق الاتحاد لأنّ القرآن كسورة واحدة.

ثانيها : أنه مضمر تقديره فعلنا ذلك ، وهو إيقاعهم للإيلاف وهو الفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم وقيل : تقديره اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب هذا البيت.

ثالثها : أنه متعلق بقوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين لأنهما أظهر نعمة عليهم ، وهذا هو الذي صدر به الزمخشري كلامه ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه ، وأنه إذا أراد شيئا يسر سببه لأنّ التدبير كله له يخفض من يشاء ، وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، وقريش هم ولد النضر بن كنانة ومن ولده النضر فهو قرشيّ ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم» (١) وأخرج الحاكم

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٢٢٧٦ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٠٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٠٧.

٦٨٨

وصححه البيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل الله قريشا بسبع خلال أني منهم ، وأنّ النبوّة فيهم ، وأنّ الله نصرهم على الفيل ، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم وأنّ الحجابة والسقاية فيهم ، وأنّ الله أنزل فيهم سورة من القرآن» (١) وسموا قريشا من القرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش ، أي : يكتسب ، وهم كانوا تجارا حرّاصا على جمع المال ، وقال أبو ريحانة : سأل معاوية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : لم سميت قريش قريشا؟ قال : لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه تعبث بالسفن ، ولا تطاق إلا بالنار يقال لها : القرش ، ولا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى ،. قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ، قال : نعم فأنشده شعر الجمحي (٢) :

وقريش هي التي تسكن البح

ر بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين فلا تت

رك فيه لذي الجناحين ريشا

هكذا في الكتاب حي قريش

يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبيّ

يكثر القتل منهمو والخموشا

وقيل : هو من تقرش الرجل إذا تنزه عن مدانس الأمور ، أو من تقارشت الرماح في الحرب إذا دخل بعضها في بعض.

وقوله تعالى : (إِيلافِهِمْ) بدل من الإيلاف الأول ، وقرأ ابن عامر لإلاف بغير ياء بعد الهمزة ، والباقون لإيلاف بياء بعدها ، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو إيلافهم بالياء بعد الهمزة. قال ابن عادل : ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء ، وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا ، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منها خطا ، وهذا أدل دليل على أنّ القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرّد الخط. وقوله تعالى : (رِحْلَةَ الشِّتاءِ) منصوب بإيلافهم مفعول به كما نصب يتيما بإطعام ، وهي التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون منها متاجر الحبوب. (وَالصَّيْفِ) التي يرحلونها إلى الشام في زمنه ؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الثمار ، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المعظم وبيت الله ، والناس يتخطفون من حولهم ولا يجترىء أحد عليهم.

والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافا إذا بلغته فأنا مؤلف ، والأصل رحلتي الشتاء والصيف ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم. قال مالك : الشتاء نصف السنة والصيف نصفها.

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٥٣٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٩٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٣٨١٩ ، ٣٣٨٢٠ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٥١٢.

(٢) الأبيات من الخفيف ، وهي للمشمرج بن عمرو الحميري في خزانة الأدب ١ / ٢٠٤ ، وللهبي في المقتضب ٣ / ٣٦٢ ، وبلا نسبة في لسان العرب (قرش) ، والبيت الثاني بلا نسبة في تهذيب اللغة ٨ / ٣٢٢.

٦٨٩

وقال قوم : الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف ، وقيل : شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي : الذي قاله مالك أصح لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين ، ولم يجعل لهما ثالثا ، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف ، وقال آخرون : كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة إحداهما : في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ولو لا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولو لا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر (١) :

قل للذي طلب السماحة والندى

هلا مررت بآل عبد مناف

هلا مررت بهم تريد قراهم

منعوك من ضر ومن اتلاف

الرائشين وليس يوجد رائش

والقائلين هلم للأضياف

والخالطين فقيرهم بغنيهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي

والقائلين بكل وعد صادق

والراحلين برحلة الإيلاف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنهما له ولقومه

سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وتبع هاشما على ذلك إخوته فكان هاشم يؤالف إلى الشام ، وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هذه الإخوة ، أي : بعهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي.

ولما كان هذا التدبير لهم من الله تعالى كافيا لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن ، وكان شكر المنعم واجبا ، قال تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا) أي : قريش على سبيل الوجوب شكرا على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى ، لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي : الموجد له والمحسن إلى أهله بحفظه من كل طاغ ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم ، وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة ، والمراد به الكعبة عبر عنها بالإشارة تعظيما لشأنها.

ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت بقوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ) أي : قريشا بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين إطعاما مبتدأ (مِنْ جُوعٍ) أي : عظيم فيه غيرهم من العرب ، أو كانوا هم فيه قبل ذلك ؛ لأنّ بلدهم ليس بذي زرع فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع فكفاهم ذلك وحده ، ولم يشركه أحد في كفايتهم فليس من الشكر إشراكهم غيره

__________________

(١) الأبيات من الكامل ، والبيت الثالث بلا نسبة في لسان العرب (ريش) ، وتاج العروس (ريش) ، ويروى البيت الخامس بلفظ :

المنعمين إذا النجوم تغيرت

والظاعنين لرحلة الإيلاف

وهو لمطرود بن كعب الخزاعي في لسان العرب (رجف).

٦٩٠

معه في عبادته ، ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه‌السلام الذي دعا لهم بالرزق بقوله عليه‌السلام : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) [إبراهيم : ٣٧] ونهى أشدّ النهي عن عبادة الأصنام ولم يقل أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع ولأنّ من كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب (وَآمَنَهُمْ) أي : تخصيصا لهم (مِنْ خَوْفٍ) أي : شديد جدّا من أصحاب الفيل الذين أرادوا خراب البيت الذي به نظامهم ، وما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات ، ومن الجذام بدعوة أبيهم إبراهيم عليه‌السلام ، ومن الطّاعون والدخان بتأمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويسبي بعضهم بعضا فأمنت قريش ذلك لمكان الحرم. وقيل : شق عليهم السفر في الشتاء والصيف فألقى الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن ، فحملوا فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم ، فخرجوا إليهم متحرزين فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات ، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدّة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وقيل : إنّ قريشا لما كذبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم فقال : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» (١) فاشتدّ القحط فقالوا : يا محمد ، ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى مكة وأخصب أهلها». وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ،) أي : من خوف الحبشة. وقال عليّ : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أن تكون الخلافة إلا فيهم. قال الزمخشريّ : من بدع التفاسير (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أن تكون الخلافة في غيرهم ا ه. لكن إن ثبت ذلك عن علي كرم الله وجهه فليس كما قال وقيل : كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستسقاء حديث ١٠٠٦ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٧٩٨ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٥٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٩ ، ٢٥٥ ، ٢٧٠ ، ٤١٨ ، ٤٧٠ ، ٥٠٢ ، ٥٢١.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠٨.

٦٩١

سورة الدين

وتسمى سورة الماعون مكية ، في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس رضي الله عنهما ، ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره ، وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وثلاثة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له كل كمال (الرَّحْمنِ) الذي عم جميع عباده بالنوال (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بنعمة الإفضال.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

وقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ) استفهام معناه التعجب. وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش أيضا إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائيّ. قال الزمخشريّ : وليس بالاختيار لأن حذفها مختص بالمضارع ، ولم يصح عن العرب ريت ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام ، ونحوه (١) :

صاح هل ريت أو سمعت براع

رد في الضرع ما قرى في الحلاب

وخففها الباقون ، والمعنى : أرأيت (الَّذِي يُكَذِّبُ) أي : يوقع التكذيب لمن يخبره كائنا من كان (بِالدِّينِ) أي : بالجزاء والحساب ، أي : هل عرفته أم لم تعرفه.

(فَذلِكَ) بتقدير هو بعد الفاء ، أي : البغيض البعيد المبعد من كل خير (الَّذِي يَدُعُ) أي : يدفع دفعا عظيما بغاية القسوة (الْيَتِيمَ) ولا يحث على إكرامه لأنّ الله تعالى نزع الرحمة من قلبه ، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله تعالى ، فكان التكذيب بجزائه مسببا للغلظة عليه. وقال قتادة : يقهره ويظلمه فإنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا الصغار ، ويقولون : إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ضم يتيما من

__________________

(١) يروى البيت بلفظ :

صاح يا صاح هل سمعت براع

ردّ في الضرع ما قرى في العلاب

والبيت من الخفيف ، وهو لإسماعيل بن يسار النسائي في ديوانه ص ٢٩ ، والأغاني ٤ / ٤١١ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣١٦ ، وللربيع بن ضبع الفزاري في جمهرة اللغة ص ٣٦٦ ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٣٣٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٧٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٣٨ ، ولسان العرب (علب).

٦٩٢

المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة» (١).

واختلف فيمن نزل ذلك فيه ، فقال مقاتل : في العاصي بن وائل السهمي. وقال السديّ : في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك : في عمرو بن عابد المخزومي. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : في رجل من المنافقين. وقيل : في أبي جهل.

(وَلا يَحُضُ) أي : يحث نفسه ولا غيره (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي : بذله له وإطعامه إياه ، بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه ، وقد تضمن هذا أنّ علامة التكذيب بالبعث إيذاء الضعيف ، والتهاون بالمعروف

ولما كان هذا مع الخلائق أتبعه حاله مع الخالق بقوله تعالى : (فَوَيْلٌ) أي : عذاب ، أو واد في جهنم (لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ) أي : بضمائرهم وخالص سرائرهم (عَنْ صَلاتِهِمْ) التي هي جديرة بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها (ساهُونَ) أي : عريقون في الغفلة عنها وتضييعها ، وعدم المبالاة بها ، وقلة الالتفات إليها. وروى البغويّ بسنده أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذه الآية فقال : «هو إضاعة الوقت» (٢). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : «هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس ويصلونها في العلانية مع الناس إذا حضروا» (٣) لقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ) أي : بجملة سرائرهم (يُراؤُنَ) أي : بصلاتهم وغيرها الناس ، لأنهم يفعلون الخير ليراهم الناس لا لرجاء الثواب ، ولا لخوف العقاب من الله تعالى ، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس.

وقال إبراهيم : هو الذي يلتفت في صلاته. وقال قطرب : هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين. وقال عطاء : الحمد لله الذي قال تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ولم يقل في صلاتهم ساهون فدل على أنّ الآية في المنافقين وقال قتادة : ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصلّ. وقال مجاهد : غافلون عنها متهاونون بها. وقال الحسن : هو الذي إن صلاها صلاها رياء ، وإن فاتته لم يندم ، وقيل : هم الذي يسهون عنها قلة مبالاة بها حتى تفوتهم ، أو يخرج وقتها ، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسلف ، ولكن ينقرونها نقرا من غير خشوع ، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات ، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف ، ولا ما قرأ من السورة ، وكما ترى صلاة أكثر من ترى من الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ، ومنع حقوق أموالهم والمعنى : أنّ هؤلاء أحق أن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين.

والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام علما على أنهم مكذبون بالدين ، وكم ترى من المتسمين بالإسلام بل بالعلم من هو منهم على هذه الصفة فيا مصيبتاه.

__________________

(١) أخرجه بنحوه أحمد في المسند ٤ / ٣٤٤ ، ٥ / ٢٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٤ / ٢٤٣ ، ٨ / ١٦٠ ، ١٦١ ، وابن كثير في تفسيره ٥ / ٦٢.

(٢) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٣١٢.

(٣) انظر البغوي في تفسيره ٥ / ٣١٢.

٦٩٣

فإن قيل : كيف جعل المصلين قائما مقام ضمير الذي يكذب ، وهو واحد؟ أجيب : بأن معناه الجمع لأنّ المراد به الجنس. فإن قيل : أي فرق بين قوله تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ) وقولك في صلاتهم؟ أجيب : بأن معنى عن أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة التفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين ، ومعنى في أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره ، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم ، وقد مرّت الإشارة إلى بعض ذلك. فإن قيل : ما معنى المراآة؟ أجيب : بأنها مفاعلة من الإراءة ، لأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا غمة في فرائض الله» (١) لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين ، ولأنّ تاركها يستحق الذم والمقت فوجب إناطة الهمة بالإظهار ، وإن كان تطوّعا فحقه أن يخفي لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه ، فإن أظهره قاصدا للاقتدار به كان جميلا.

وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم : أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطال ، فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك ، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة على أنّ اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود» (٢).

ثم بين أن من هو بهذه الصفة يغلب عليه الشح بقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ) أي : على تجدد الأوقات (الْماعُونَ) أي : حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : الماعون الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال مجاهد : الماعون أعلاها الزكاة المفروضة ، وأدناها عارية المتاع. وعن عليّ أنها الزكاة. وقال محمد بن كعب الكلبيّ : الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.

وقال قطرب : أصل الماعون من القلة ، تقول العرب : ما له سعنة ولا معنة ، أي : شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونا لأنه قليل من كثير وقيل : الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار. وقول البيضاويّ تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة أرأيت غفر له إن كان للزكاة مؤدّيا» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٢١٣.

(٢) أخرجه البغوي في شرح السنة ١٤ / ٣٢٤ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٠٥.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨١١.

٦٩٤

سورة الكوثر

وتسمى سورة النحر مكية ، في قول ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة ، وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ) الذي لا حد لفائض فضله (الرَّحْمنِ) الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره (الرَّحِيمِ) الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

وقوله تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (أَعْطَيْناكَ) أي : خوّلناك مع التمكين العظيم يا أشرف الخلق (الْكَوْثَرَ) أي : نهرا في الجنة هو حوضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترد عليه أمّته ، لما روي عن أنس أنه قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) إلى آخرها ، ثم قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم؟! قال : فإنه نهر وعدنيه ربي خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمّتي ، فيقول : ما تدري ما أحدث بعدك» (١). وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» (٢). وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن ، وأحلى من العسل ، وحافتاه خيام الدر ، فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أذفر ،. فقلت لجبريل : ما هذا؟ قال : الكوثر أعطاكه الله تعالى» (٣). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبدا» (٤).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (٥). وعن ثوبان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن عرضه فقال : «من مقامي

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٠٠ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٤٧ ، والنسائي في الافتتاح حديث ٩٠٤.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٦١.

(٣) أخرجه بنحوه أحمد في المسند ٣ / ١٠٣ ، ١١٥ ، ٢٦٣ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٨٠.

(٤) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٧٩ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٢٩٢.

(٥) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٧٦.

٦٩٥

إلى عمان» وسئل عن شرابه فقال : «أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق» (١). وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي» ، أو قال : «من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول : أي رب أصحابي ، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك كأنهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى» (٢).

ولمسلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ترد عليّ أمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله ، قالوا : يا نبيّ الله تعرفنا قال : نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون عليّ غرّا محجلين من آثار الوضوء ، وليصدنّ عني طائفة منكم فلا يصلون ، فأقول : يا رب هؤلاء أصحابي فيجيبني فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك» (٣). وأحاديث الحوض كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية لأولي الألباب فنسأل الله تعالى أن يروينا منه نحن وأحبابنا ، ويدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب.

قال القاضي عياض : أحاديث الحوض صحيحة ، والإيمان به فرض ، والتصديق به من الإيمان. وقال ابن عادل : وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأوّل ولا يختلف فيه ، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة ا ه. وقيل : الكوثر القرآن العظيم ، وقيل : هو النبوّة والكتاب والحكمة وقيل : هو كثرة أتباعه.

وقيل : الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : الكوثر الخير الكثير. قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : إن ناسا يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة؟ فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه.

وأصل الكوثر فوعل من الكثرة والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثرا قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : آب ابنك ، قالت : آب بكوثر ، وقال الشاعر (٤) :

وأنت كثير يا ابن مروان طيب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

وقيل : الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضلها على جميع الخلائق.

تنبيه : لا منافاة بين هذه الأقوال كلها فقد أعطيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبوّة والحكمة والعلم والشفاعة والحوض المورود ، والمقام المحمود ، وكثرة الاتباع ، وإظهاره على الأديان كلها ، والنصر على الأعداء ، وكثرة الفتوح في زمنه إلى يوم القيامة ، وأولى الأقاويل في الكوثر وهو الذي عليه جمهور العلماء أنه نهر في الجنة.

ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٣٢٠١.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٨٥.

(٣) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٢٤٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو للكميت في ديوانه ١ / ٢٠٩ ، ولسان العرب (كثر) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ١٧٨ ، وجمهرة اللغة ص ١١٧٤ ، وأساس البلاغة (كثر) ، وتاج العروس (كثر) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ١٦١ ، ومجمل اللغة ٤ / ٢١٦ ، والمخصص ٣ / ٣.

٦٩٦

سبب عنه قوله تعالى آمرا بما هو جامع لمجامع الشكر : (فَصَلِ) أي : بقطع العلائق عن الخلائق بالوقوف بين يدي الله تعالى في حضرة المراقبة شكرا لإحسان المنعم ، خلافا للساهي عنها والمرائي فيها. (لِرَبِّكَ) أي : المحسن إليك بأنواع النعم مراغما من شئت فلا سبيل لأحد عليك (وَانْحَرْ) أي : أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنعهم الماعون ، والنحر أفضل نفقات العرب لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين ، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل.

وقال محمد بن كعب : إن ناسا كانوا يصلون لغير الله تعالى ، وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي وينحر لله عزوجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) صلاة العيد يوم النحر ، وانحر نسكك ، واقتصر على هذا الجلال المحلي وقال سعيد بن جبير ومجاهد : فصل الصلاة المفروضة بجمع ، أي : مزدلفة ، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي : أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ : استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره.

(إِنَّ شانِئَكَ) أي : مبغضك والشانىء المبغض ، يقال : شنأه يشنؤه ، أي : أبغضه (هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : المنقطع عن كل خير ، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين فاجتمعت لك العطيتان السنيتان إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم ، أو المنقطع العقب لا أنت لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكرك ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة وقال الرازي : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون وذكر ههنا في مقابلة البخل (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) وفي مقابلة الصلاة (فَصَلِ) أي : دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء (لِرَبِّكَ) أي : لرضاه خالصا ، وفي مقابلة منع الماعون (وَانْحَرْ) أي : تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : إنّ المشاقق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل.

واختلف المفسرون في الشانىء فقيل : هو العاصي بن وائل وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر فقيل : إنّ العاصي وقف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفا فقال مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا أبتر فلان فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال : بتر محمد فنزلت. وقال السديّ : إنّ قريشا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت.

٦٩٧

وقيل : لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا قريشا إلى الإيمان قالوا : أبتر منا محمد ، أي : خالفنا وانقطع عنا فنزلت.

تنبيه : قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيرا من كثير ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه ، ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقا لوقوعه كما في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

ومنها : تأكيد الجملة بإن. ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين.

ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة.

ومنها : حذف الموصوف بالكوثر لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته ، ومنها تعريفه بأل الجنسية الدالة على الاستغراق.

ومنها : فاء التعقيب الدالة على السبب فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة ، ومنها التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى ، ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها ، ومنها حذف متعلق انحر إذ التقدير فصل لربك وانحر له ، ومنها مراعاة السجع فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف ، ومنها قوله تعالى : (لِرَبِّكَ) في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربي له والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كل خير إلا منه ومنها الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : (لِرَبِّكَ) ومنها الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف ، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة ، ولو كان المراد شخصا معينا لعينه الله تعالى.

ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئا البتة ، لأنّ من يشنأ شخصا قد يؤثر شنؤه شيئا.

ومنها : تأكيد الجملة بإن المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم وتقدير القسم يصلح هنا. ومنها الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا هو فصلا ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد ؛ إذ يصير الإسناد مرّتين.

ومنها : تعريف الأبتر بأل المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة. ومنها إقباله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها. وقول البيضاويّ تبعا للزمخشريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم النحر ، أو يقرّبونه» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨١٣.

٦٩٨

سورة الكافرون

مكية ، في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة ، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك ، وتسمى أيضا سورة المعابدة والإخلاص لأنها في إخلاص العبادة والدين كما أن (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في إخلاص التوحيد ، واجتماع النفاق فيهما محال لمن اعتقدهما وعمل بهما. ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشقشتان ، أي : المبرئتان من النفاق. قال الشاعر (١) :

أعيذك بالمقشقشتين مما

أحاذره ومن نظر العيون

وهي ست آيات وستة وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ) الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره (الرَّحْمنِ) الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره (الرَّحِيمِ) الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

وقوله تعالى : (قُلْ) أي : يا أشرف الخلق (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وأمية بن خلف. قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كله ، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه ، فقال : معاذ الله أن نشرك به غيره ، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك ، قال : حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي فأنزل الله تعالى هذه السورة ، فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا منه عند ذلك وأذوه وأصحابه ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم ، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) [التحريم : ٧] وههنا قال : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟)

أجيب : بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة ، وثم لا يكون رسولا إليهم فأزال الواسطة فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي ، وأمّا هنا

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٩٩

فكانوا موصوفين بالكفر ، وكان الرسول رسولا إليهم فقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ،) أي : الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون ، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل ، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة ، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وقال الله تعالى له : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩] وقال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وقال تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [آل عمران : ١٥٩] ثم كان مأمورا بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن ، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون : كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق ، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي.

ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه ، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم قال :

(لا أَعْبُدُ) أي : الآن (ما تَعْبُدُونَ) من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادات في سرّ ولا علن ؛ لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) أي : الآن (ما أَعْبُدُ) وهو الله تعالى وحده.

(وَلا أَنا عابِدٌ ،) أي : في الاستقبال (ما عَبَدْتُّمْ) من دون الله تعالى.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ،) أي : في الاستقبال (ما أَعْبُدُ) وهو الله وحده لا شريك له ، وهذا خطاب لمن علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون. وإطلاق ما على الله تعالى على جهة المقابلة ، وبهذا زال التكرار ووجه التكرار كما قال أكثر أهل المعاني : هو أن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ومن مذاهبهم التكرار لإرادة التأكيد والإفهام ، كما أنّ من مذاهبهم الاختصار لإرادة التخفيف والإيجاز فالقائل بالتأكيد يقول قوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) تأكيد لقوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [التكاثر : ٣ ـ ٤] وقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ثانيا تأكيد لقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ومثله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٧٧] و (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥] في سورتيهما و (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣ ـ ٤] وفي الحديث : «فلا إذن ثم لا إذن إنما فاطمة بضعة مني» (١) وفائدة التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الأخبار وهو إقامتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبدا وعلى الأوّل قد تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر قال ابن عادل : وفيه نظر كيف يقيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفي

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني» ، أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ١٢ ، ١٦ ، ٢٩ ، والنكاح باب ١٠٩ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٩٣ ، ٩٤ ، وأبو داود في النكاح باب ١٢ ، والترمذي في المناقب باب ٦٠ ، وابن ماجه في النكاح باب ٥٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٥ ، ٣٢٦.

٧٠٠