تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

السلام سأل العذاب على الكافرين ، وقيل : هو نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعجل بعذاب الكافرين ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي : لا تستعجل فإنه قريب ، وقرأ نافع وابن عامر بغير همز بعد السين ، والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين.

تنبيه : ما تقدم من الوجهين في كون سأل ضمّن أو أنّ الباء بمعنى عن هو على القراءة بالهمز ، وأما على عدمه ففيه وجهان : أحدهما : أنه لغة في السؤال يقال : سأل يسأل كخاف يخاف وعين الكلمة واو ، قال الزمخشري : وهي من لغة قريش.

والثاني : أنه من السيل ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب ، وقيل : سال واد من أودية جهنم وقوله تعالى : (لِلْكافِرينَ) فيه أوجه : أحدها : أنه يتعلق بسأل مضمنا معنى دعا كما مر ، أي : دعا لهم بعذاب واقع. الثاني : أنه يتعلق بواقع واللام للعلة ، أي : نازل لأجلهم. الثالث : أن يتعلق بمحذوف صفة ثانية للعذاب ، أي : كائن للكافرين. الرابع : أن يكون جوابا للسائل فيكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو للكافرين. الخامس : أن تكون اللام بمعنى على ، أي : واقع على الكافرين.

(لَيْسَ لَهُ) أي : بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل (دافِعٌ) يردّه.

وقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له يجوز أن يتعلق بدافع بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته لتعلق إرادته به وأن يتعلق بواقع ، وبه بدأ الزمخشري ، أي : واقع من عنده (ذِي الْمَعارِجِ) أي : المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم ، أو مراتب الملائكة أو السموات ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي : ذي السموات ، سماها معارج الملائكة لأن الملائكة يعرجون فيها فوصف نفسه بذلك ، أو ذي العلوّ والدرجات الفواضل والنعم ، لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ، قاله ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم ، فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق. وقيل : ذي العظمة والعلا ، وقيل : المعارج الغرف ، أي : إنه ذو الغرف ، أي : جعل لأوليائه الجنة غرفا.

وقرأ : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) الكسائي بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية ، وأدغم جيم المعارج في تاء تعرج هنا السوسي ، واستضعف بعضهم ذلك من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء. وأجيب عن ذلك بأن الإدغام يكون لمجرد الصفات وإن لم يتقاربا في المخرج والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشدة والجملة من تعرج مستأنفة.

وقوله تعالى : (وَالرُّوحُ) من عطف الخاص على العام إن أريد بالروح جبريل عليه‌السلام كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] أو ملك آخر من جنسهم عظيم الخلقة : وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين يقبض ، (إِلَيْهِ) أي : مهبط أمره من السماء. وقيل : هو كقول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] ، أي : إلى الموضع الذي أمرني به ، وقيل : إلى عرشه ، وعلق بالعروج أو بواقع قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ) أي : من أيامكم ، وبين عظمه بقوله تعالى : (كانَ) أي : كونا هو في غاية الثبات (مِقْدارُهُ) أي : لو كان الصاعد فيه آدميا (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي : من سني الدنيا وذلك أن تصعد من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة ، روي عن مجاهد رضي الله عنه أن مقدار هذا خمسين ألف سنة. وقال محمد بن

٤٢١

إسحاق : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقال عكرمة وقتادة رضي الله عنهما : هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ليس يعني به أن مقدار طوله هكذا دون غيره ؛ لأن يوم القيامة ليس له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود ، ولو كان له آخر لكان منقطعا.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : «قيل : لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» (١).

وقيل : معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله تعالى لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة قال عطاء رضي الله عنه : ويفرغ الله تعالى في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، وقيل : فيه خمسون موطنا على الكافر ، كل موطن ألف سنة وما ورد ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.

وروي عن الكلبي أنه قال : يقول الله تعالى : لو وليت حساب ذلك الملائكة والإنس والجن وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار. وقال بيان : هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة ، وفيه تقديم وتأخير كأنه قال : ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه.

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة : ٥]؟ أجيب : بأنه يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنة ، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن عرض كل سماء خمسمائة وما بين أسفل إلى قرار الأرض خمسمائة ، فقوله في يوم من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى أعلى العرش.

وقوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) متعلق كما قال الرازي : بسأل سائل ، لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بالصبر ، والمعنى : جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك ، والصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله تعالى. وقيل : أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو ، وقال ابن زيد والكلبي رضي الله عنهم : هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال.

(إِنَّهُمْ) أي : الكفار (يَرَوْنَهُ) أي : ذلك اليوم الطويل أو عذابه (بَعِيداً) أي : زمن وقوعه لأنهم يرونه غير ممكن ، أو يفعلون أفعال من يستبعده (وَنَراهُ) أي : لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين (قَرِيباً) سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة ، وكل آت قريب ، والقريب والبعيد عندنا على حد سواء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بين بين ، والباقون بالفتح.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) متعلق بمحذوف ، أي : يقع فيه من الأهوال (كَالْمُهْلِ)

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ١٥١.

٤٢٢

أي : كدردي الزيت ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كالفضة البيضاء في تلونها (وَتَكُونُ الْجِبالُ) أي : التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها (كَالْعِهْنِ) أي : كالصوف في الخفة والطيران بالريح. وقيل : أول ما تتفرق الجبال تصير رملا ثم عهنا منفوشا ثم هباء منثورا منبثا.

(وَلا يَسْئَلُ) أي : من شدة الأهوال (حَمِيمٌ حَمِيماً) أي : قريب في غاية القرب والصداقة قريبا مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشفت لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئا وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب وعلم أنه لا عز إلا بالتقوى.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) أي : يبصرهم بهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي : يتمنى الكافر أو هذا النوع سواء كان كافرا أم مسلما عاصيا علم أنه يعذب بعصيانه (لَوْ) بمعنى أن (يَفْتَدِي) أي : يفدي نفسه (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) أي : يوم إذ كانت هذه المخاوف. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بكسرها ، (بِبَنِيهِ) أي : بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه لشدة ما يرى.

ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه نصره والذب عنه أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة بقوله تعالى : (وَصاحِبَتِهِ) أي : زوجه التي يلزمه الذب عنها لا سيما عند العرب من أقبح العار ولكونه دائما معها. ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة أتبعها الشقيق الذي هو عليه شفيق بقوله تعالى : (وَأَخِيهِ) أي : الذي له به النصرة على من يريد ، قال الشاعر (١) :

أخاك أخاك إن من لا أخا له

كنازل الهيجاء بغير سلاح

ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم بقوله تعالى : (وَفَصِيلَتِهِ) أي : عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه ، وقال ثعلب : الفصيلة الآباء الأدنون ، وقال أبو عبيدة رضي الله عنه : الفخذ ، وقال مجاهد وابن زيد رضي الله عنهم : عشيرته الأقربون ، (الَّتِي تُؤْوِيهِ) أي : تضمه إليها عند الشدائد وتحميه لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها.

ولما خصص عمم بقوله تعالى : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بدّ في كل حال منه أم لا ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (جَمِيعاً) وقوله تعالى : (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي : ذلك الافتداء عطف على يفتدى ، وقوله تعالى : (كَلَّا) ردّ وردع وزجر لما يودّه ، وقال القرطبي : وإنها تكون بمعنى حقا وبمعنى لا وهي هنا تحتمل الأمرين فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام ينجيه ، وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها إذ ليس من عذاب الله افتداء.

ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر أشار إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب قال تعالى : (إِنَّها) أي : النار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة لفظ عذاب عليها ، وقيل : الضمير للقصة. وقيل : مبهم يفسره قوله تعالى : (لَظى) أي : ذات اللهب الخالص المتناهي في الحرّ اسم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لمسكين الدارمي في ديوانه ص ٢٩ ، والأغاني ٢٠ / ١٧١ ، ١٧٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦٥ ، ٦٧ ، والدرر ٣ / ١١ ، ولمسكين أو لابن هرمة في فصل المقال ص ٢٦٩ ، ولقيس بن عاصم في حماسة البحتري ص ٢٤٥ ، ولقيس بن عاصم أو لمسكين الدارمي في الحماسة البصرية ٢ / ٦٠ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٨٠ ، والكتاب ١ / ٢٥٦.

٤٢٣

لجهنم تتلظى ، أي : تتوقد فتأكل بسببه بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله وتأكل كل ما وجدته كائنا ما كان ، وقوله تعالى : (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) جمع شواة وهي جلدة الرأس ، أي : شديدة النزع لجلود الرؤوس. وقال في «القاموس» : اليدان والرجلان والأطراف ومخ الرأس وما كان غير مقتل ا. ه. وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص والحال المؤكدة والمستقلة على أن لظى متلظية ، والباقون بالرفع على أنها خبر إن.

(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) عن الإيمان ، تقول : إليّ يا مشرك ، إليّ يا فاسق ونحو هذا ، ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب.

ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين ، فكان الإقبال على أحدهما دالا على الإعراض عن الأخرى قال تعالى دالا على إدباره بقلبه : (وَجَمَعَ) أي : كل ما كان منسوبا إلى الدنيا (فَأَوْعى) أي : جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصا وطول أمل ولم يعط حق الله تعالى منه فكان همه الإعطاء لا إبطاء ما وجب من الحق إقبالا على الدنيا وإعراضا عن الآخرة ، وقرأ : (لَظى) و (لِلشَّوى) و (تَوَلَّى فَأَوْعى) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش وأبو عمرو بين بين ، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : الجنس عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولدينه (خُلِقَ هَلُوعاً) أي : جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والسرعة فيما لا ينبغي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنه الحريص على ما لا يحل له.

وروي عنه أن تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى : (إِذا مَسَّهُ) أي : أدنى مس (الشَّرُّ) أي : هذا الجنس ، وهو ما تطاير شرره من الضرر (جَزُوعاً) أي : عظيم الجزع وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقدّ نصفين ويتفتت (وَإِذا مَسَّهُ) كذلك (الْخَيْرُ) هذا الجنس وهو ما يلائمه فيجمعه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق (مَنُوعاً) أي : مبالغا في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفا مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة ، وهذا الوصف ضد الإيمان لأنه نصفان شكر وصبر.

فإن قيل : حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضارّ طالب للراحة ، وهذا هو اللائق بالعقل فلم

٤٢٤

ذمه الله تعالى عليه؟ أجيب : بأنه إنما ذمه عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة ، والواجب عليه أن يكون شاكرا راضيا في كل حال.

وقوله تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) استثناء للموصوفين بالصفات الآتية من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل مضادّة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق ، والإشفاق على الخلق ، والإيمان بالجزاء ، والخوف من العقوبة ، وكسر الشهوة ، وإيثار العاجل على الآجل ، وتلك ناشئة عن الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها (الَّذِينَ هُمْ) أي : بكلية ضمائرهم وظواهرهم (عَلى صَلاتِهِمْ) أي : التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم بما أفادته الإضافة ، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض ، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله تعالى : (دائِمُونَ) أي : لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها ، وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا ، والدائم : الساكن ، ومنه نهي عن البول في الماء الدائم (١) ، أي : الساكن. وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها.

فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وقال تعالى في موضع آخر : (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الأنعام : ٩٢]؟ أجيب : بأن دوامهم عليها أن لا يتركوها في وقت ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى تأتي على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها ، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة ، وفي تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة ، وأن لا يلتفت يمينا ولا شمالا ، وأن يكون حاضر القلب فاهما للأذكار ، مطلعا على حكم الصلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلاة.

ولما ذكر تعالى زكاة الروح أتبعه زكاة عديلها ، فقال تعالى مبينا للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ) التي منّ الله سبحانه بها عليهم (حَقٌّ مَعْلُومٌ) أي : من الزكوات وجميع النفقات الواجبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق (لِلسَّائِلِ) أي : الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) أي : الذي لا يسأل ، فيحسب غنيا فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره ، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار ، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى ، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق ، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور ، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل : كان شخص يأتي إلينا ليلا بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا ، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك ، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصا رآه ماشيا في زمن خلافته في الليل فتبعه ، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال : أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ ، فأعطينه جرة فأخذها

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» أخرجه البخاري في الوضوء باب ٦٨ ، ومسلم في الطهارة حديث ٩٥ ، ٩٦ ، والترمذي في الطهارة باب ٥١ ، والنسائي في الطهارة باب ٤٥ ، والغسل باب ١ ، والدارمي في الوضوء باب ٤٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٩ ، ٢٦٥ ، ٣١٦ ، ٣٤٦ ، ٣٦٢ ، ٤٣٣ ، ٤٦٤ ، ٤٩٢ ، ٥٢٩.

٤٢٥

وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهنّ. والحكايات عنهم في هذا كثيرة.

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ) أي : يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجدّدونه كل وقت (بِيَوْمِ الدِّينِ) أي : الجزاء الذي ما مثله يوم وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه على النقير والقمطير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة ، فالذين يعملون لذلك اليوم هم العمال ، وأما المصدّقون بمجرّد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال.

(وَالَّذِينَ هُمْ) أي : بجميع ضمائرهم وظواهرهم (مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم لا من عذاب غيره فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه (مُشْفِقُونَ) أي : خائفون في هذه الدار خوفا عظيما هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما ، فهم لذلك لا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ) أي : الذي هم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان (غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي : لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة ؛ لأن الملك مالك وهو تام الملك ، له أن يفعل ما شاء ، ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحا بين الخوف والرجاء.

(وَالَّذِينَ هُمْ) أي : ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم (لِفُرُوجِهِمْ) أي : سواء أكانوا ذكورا أم إناثا (حافِظُونَ) أي : حفظا ثابتا دائما عن كل ما نهى الله تعالى عنه (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي : من الحرائر بعقد النكاح ، وقدمهنّ لشرفهنّ وشرف الولد بهنّ ، ثم أتبعه قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي : من السراري التي هي محل الحرث والنسل واللاتي هن أقل عقلا من الرجال ، ولهذا عبر بما التي هي في الأغلب لغير العقلاء ، وفي ذلك إشارة إلى اتساع النطاق في احتمالهن.

(فَإِنَّهُمْ) أي : بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك (غَيْرُ مَلُومِينَ) أي : في الاستمتاع بهن من لائم ما ، كما نبه عليه البناء للمفعول ، فهم يصحبونهن للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله تعالى ، واكتفى في مدحهم بنفي اللوم لإقباله عن تحصيل ما له من المرام.

(فَمَنِ ابْتَغى) أي : طلب وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح. (وَراءَ ذلِكَ) أي : شيئا من هذا خارجا عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى له ، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة وأحسنها وأجملها (فَأُولئِكَ) أي : الذين هم في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة (هُمُ) أي : بضمائرهم وظواهرهم (العادُونَ) أي : المختصون بالخروج عن الحدّ المأذون فيه. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أي : من كل ما ائتمنهم الله تعالى عليه من حقه وحق غيره ، وقرأ ابن كثير بغير ألف بعد النون على التوحيد ، والباقون بالألف على الجمع (وَعَهْدِهِمْ) أي : ما كان من الأمانات بربط وتوثيق (راعُونَ) أي : حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار.

(وَالَّذِينَ هُمْ) أي : بغاية ما يكون من توجه القلوب (بِشَهاداتِهِمْ) التي شهدوا بها أو يستشهدون بها بطلب أو غيره ، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها (قائِمُونَ) أي : يتحملونها ويؤدّونها على غاية التمام والحسن أداء من

٤٢٦

هو متهيىء لها واقف في انتظارها ، وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع اعتبارا بتعدد الأنواع والباقون بغير ألف على التوحيد إذ المراد الجنس. قال الواحديّ : والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإنّ أضيف إلى الجمع كصوت الحمير. قال أكثر المفسرين : يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد ، يقومون بها عند الحكام ولا يكتمونها. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بشهادتهم أنّ الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي : من الفرض والنفل (يُحافِظُونَ) أي : يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم ويسابقون غيرهم في حفظها ، وتقدم أنّ المداومة غير المحافظة ، فدوامهم عليها محافظتهم على أوقاتها وشروطها وأركانها ومستحباتها في ظواهرها وبواطنها من الخشوع والمراقبة وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ناهية لفاعلها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة والمحافظة إلى أحوالها ذكره القرطبي.

ولما ذكر تعالى خلالهم أتبعه ما أعطاهم ، فقال عز من قائل مستأنفا أو منتجا من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة : (أُولئِكَ) أي : الذين في غاية العلوّ لما لهم من الأوصاف العالية (فِي جَنَّاتٍ) أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلا ، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور ، وضدها النار. وزادهم على ذلك بقوله تعالى : (مُكْرَمُونَ) معبرا باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره ، لأنه سبحانه قضى بأن يعلي مقدارهم فيكرمهم بأنواع الكرامات فيتلقاهم بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى دخولهم إلى قصورهم هذا حال المؤمنين.

وأما حال الكافرين فقال الله تعالى في حقهم : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقف أبو عمرو على الألف بعد الميم والكسائي يقف على الألف وعلى اللام ، ووقف الباقون على اللام ، وأما الابتداء فالجميع يبتدؤون أوّل الكلمة أي : أيّ شيء من السعادات للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم (قِبَلَكَ) أي : نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك ، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه (عَنِ) أي : متجاوزين إليك مكانا عن جهة (الْيَمِينِ) أي : منك حيث يتيمنون به (وَعَنِ الشِّمالِ) أي : منك وإن كانوا يتشاءمون به ، وقوله تعالى : (عِزِينَ) حال من الذين كفروا ، وقيل : من الضمير في مهطعين فتكون حالا متداخلة ، أي : جماعات جماعات وحلقا حلقا متفرقين فرقا شتى أفواجا لا يتمهلون ليأتوا جميعا. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون ، قال الكميت (١) :

ونحن وجندل باغ تركنا

كتائب جندل شتى عزينا

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للكميت في ديوانه ٢ / ١٣٢ ، ولسان العرب (عزا).

٤٢٧

وجمع عزة جمع سلامة شذوذا.

وقيل : كان المستهزؤون خمسة أرهط روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون كلامه ويستهزؤون به ويكذبونه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فندخلها قبلهم ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل : (أَيَطْمَعُ) أي : هؤلاء البعداء البغضاء ، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له.

ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي : على انفراده (أَنْ يُدْخَلَ) أي : وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم ، فيستوي المسيء والمحسن (جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي : لا شيء فيها غير النعيم.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع لهم عن طمعهم ودخولهم الجنة ، أي : لا يكون ما طمعوا فيه أصلا ؛ لأنّ ذلك ثمن فارغ لا سبب له بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ثم علل ذلك بقوله تعالى : (أَنَّا خَلَقْناهُ) أي : بالقدرة التي لا يقدر أحد أن يقاومها (مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم ، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل : كانوا يستهزؤون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي : من القذر وهو منصبهم الذي لا منصب أوضع منه ولذلك أبهم وأخفى إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فلا يليق بهم هذا التكبر ويدعون التقدم ويقولون : ندخل الجنة قبلهم.

قال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر ، فاتّق الله. وروي أنّ مطرّف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز ، فقال له : يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له : أتعرفني؟ قال : نعم ، أوّلك نطفة مزرة وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته.

فائدة : قال ابن عربي في «الفتوحات» : خلق الله الناس على أربعة أقسام : قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه‌السلام ، وقسم من ذكر فقط وهو حوّاء ، وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه‌السلام ، وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.

(فَلا) زيدت فيه لا (أُقْسِمُ بِرَبِ) أي : سيد ومبدع ومدبر (الْمَشارِقِ) أي : التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة ، كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره والطريق والقانون الذي أتقنه وسخره ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة (وَالْمَغارِبِ) كذلك وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة ، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب ، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه تعالى قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده من غير كلفة ما. كما قال تعالى : (إِنَّا) أي : على ما لنا من العظيمة (لَقادِرُونَ.)

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ) أي : تبديلا عظيما بما لنا من الجلالة عوضا عنهم (خَيْراً مِنْهُمْ) أي : بالخلق أو بتحويل الوصف فيكونون أشدّ بطشا في الدنيا وأكثر أموالا وأولادا وأعلى قدرا وأكثر حشما وجاها وخدما ، فيكونون عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك ،

٤٢٨

وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر والتمكين في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة ، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي : لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده بوجه من الوجوه.

(فَذَرْهُمْ) أي : اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم (يَخُوضُوا) أي : في باطلهم من مقالهم وفعالهم (وَيَلْعَبُوا) أي : يفعلوا في دنياهم فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان واشتغل أنت بما أمرت به (حَتَّى يُلاقُوا) أي : يلقوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم كشف الغطاء الذي أوّل مجيئه عند الغرغرة ، وتناهيه النفخة الثانية ، ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره ، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قاله البقاعيّ وابن عادل.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) يجوز أن يكون بدلا من يومهم أو منصوبا بإضمار أعني (مِنَ الْأَجْداثِ) أي : القبور التي صاروا بتغييبهم فيها تحت وقع الحوافر والخف ، فهم بحيث لا يدفعون شيئا يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ ، فإنّ الجدث : القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم.

وقوله تعالى : (سِراعاً) أي : نحو صوت الداعي ذاهبين إلى المحشر ، حال من فاعل يخرجون جمع سريع كظراف في ظريف ، وقرأ قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) ابن عامر وحفص بضم النون والصاد ، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد على أنه مصدر بمعنى المفعول كما تقول هذا نصب عيني وضرب الأمير ، والنصب كل ما نصب فعبد من دون الله (يُوفِضُونَ) أي : يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إلى نصب ، أي : إلى غاية وهي التي ينتصب إليها بصرك ، وقال الكلبي : هو شيء منصوب علم أو راية. وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا يلوي أوّلهم على آخرهم.

وقوله تعالى : (خاشِعَةً) حال إما من فاعل يوفضون وهو أقرب ، أو من فاعل يخرجون وفيه بعد منه ، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة وفيه الخلاف المشهور. وقوله تعالى : (أَبْصارُهُمْ) فاعل ، والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله تعالى (تَرْهَقُهُمْ) أي : تغشاهم فتعمهم وتحمل عليهم ، فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع عليهم (ذِلَّةٌ) أي : ضد ما كانوا عليه في الدنيا ؛ لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة ، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.

(ذلِكَ) أي : الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي : يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب ، وأخرج الخبر بلفظ الماضي ؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة ، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة ، فقد رجع آخرها على أوّلها.

وما قاله البيضاويّ تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» (١). حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦١٧.

٤٢٩

سورة نوح عليه‌السلام

مكية ، وهي سبع وعشرون آية ، ومائتان وأربع وعشرون كلمة ، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) ذي الجلال والإكرام (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بما أفاضه من ظاهر الإنعام (الرَّحِيمِ) الذي حفظ أولياءه من الابتداء إلى الختام.

ولما ختمت سأل بالإنذار للكفار وكانوا عباد أوثان بعذاب الدنيا والآخرة أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا على تكذيب الرسل بقصة نوح عليه‌السلام فقال تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

(إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة البالغة (أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أي : الذين كانوا في غاية القوّة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان ، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين ، روى قتادة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول نبي أرسل نوح عليه‌السلام» (١) وأرسل إلى جميع أهل الأرض ولذلك لما كفروا أغرق الله تعالى أهل الأرض جميعا ، وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه‌السلام. قال وهب : وكل مؤمنون أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وهو ابن أربعين سنة. وقال

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٩٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٣٩١ ، والألباني في السلسلة الصحيحة ١٢٨٩.

٤٣٠

عبد الله بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.

ويجوز في قوله تعالى : (أَنْ أَنْذِرْ) أي : حذر تحذيرا عظيما (قَوْمَكَ) أي : الاستمرار على الكفر أن تكون أن مفسرة فلا يكون لها من الإعراب لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار ، ويجوز أن تكون المصدرية أي : أرسلناه بالإنذار. قال الزمخشري : والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر قومك أي : أرسلناه بالأمر بالإنذار ا. ه. وهذا الذي قدره جواب عن سؤال وهو أنّ قولهم إنّ أن المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل ؛ لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر ألا ترى أنك إذا قدرت كتبت إليه بأن قم : كتبت إليه القيام تفوت الدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشري أي : كتبت إليه بأن قلت له : قم ، أي : كتبت إليه بالأمر بالقيام.

وقال القرطبي : أي بأن أنذر قومك (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) أي : على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : عذاب الآخرة أو الطوفان (قالَ) أي : نوح عليه‌السلام (يا قَوْمِ) فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) أي : مبالغ في إنذاركم (مُبِينٌ) أي : أمري بين في نفسه بحيث إنه صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي ، ويجوز في قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : الملك الأعظم الذي له جميع الكمال ، أن تكون أن تفسيرية لنذير ، وأن تكون مصدرية والكلام فيها كما تقدّم في أختها. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بالضم ، والمعنى وحدوا الله (وَاتَّقُوهُ) أي : اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته ، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء (وَأَطِيعُونِ) أي : لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم ، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم واجتناب شبه ترديكم ، ففي طاعتي فلأحكم برضا الملك عنكم. وقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الأمر ، وفي من في قوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أوجه أحدها : أنها تبعيضية ، الثاني : أنها لابتداء الغاية ، الثالث : أنها مزيدة. قال ابن عطية : وهو مذهب كوفي ، وردّ بأنّ مذهبهم ليس ذلك لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ولا يشترطون غيره ، والأخفش لا يشترط شيئا ، فالقول بزيادتها هنا ماش على قوله لا على قولهم ، قاله القرطبيّ ، وقيل : لا يصح كونها زائدة لأنّ من لا تزاد في الموجب وإنما هي هنا للتبعيض وهو بعض الذنوب وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.

(وَيُؤَخِّرْكُمْ) أي : بلا عذاب تأخيرا ينفعكم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : قد سماه الله تعالى وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه فيكون موتكم على العادة أو يأخذكم جميعا ، فالأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ليعلم أنّ الإرسال إنما هو مظهر لما قدره في الأزل ، ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة والعصيان ، وقرأ : ويوخركم ولا يوخر ورش بإبدال الهمزة واوا وقفا ووصلا ، وحمزة في الوقف دون الوصل ، والباقون بالهمز.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي : الذي له الكمال كله فلا رادّ لأمره (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) أي : إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب ، وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته ، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) [يونس : ٤٩] لأنه مضروب لهم. (لَوْ كُنْتُمْ

٤٣١

تَعْلَمُونَ) أي : لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.

ولما كان عليه‌السلام أطول الأنبياء عمرا وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغيانا وكفرا (قالَ) مناديا لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره : (رَبِ) أي : يا سيدي وخالقي (إِنِّي دَعَوْتُ) أي : أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة (قَوْمِي) أي : الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني ، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون (لَيْلاً وَنَهاراً) أي : دائما متصلا لا أفتر عن ذلك. وقيل : معناه سرا وجهرا. (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) أي : شيئا من أحوالهم التي كانوا عليها (إِلَّا فِراراً) أي : بعدا وإعراضا عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء ، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.

(وَإِنِّي كُلَّما) أي : على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات (دَعَوْتُهُمْ) أي : إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي : ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محوا بالغا ، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ) كراهة منهم واحتقارا للداعي (فِي آذانِهِمْ) حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء ، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك ، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي : أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى ، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائما. (وَأَصَرُّوا) أي : أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة ، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها (وَاسْتَكْبَرُوا) أي : أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله : (اسْتِكْباراً) تنبيها على أن فعلهم منابذ للحكمة ، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحا عليه‌السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهرا بتعطيل الأسماع والأبصار وباطنا بالإصرار والاستكبار.

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي : معلنا بالدعاء ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بأعلى صوتي.

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) أي : كررت لهم الدعاء معلنا ، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد الرجل بعد الرجل ، أكلمه سرا بيني وبينه ، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.

(فَقُلْتُ) أي : في دعائي لهم (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه (إِنَّهُ كانَ) أي : أزلا وأبدا ودائما سرمدا (غَفَّاراً) أي : متصفا بصفة الستر على من رجع إليه.

(يُرْسِلِ السَّماءَ) أي : المظلة لأن المطر منها ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً.)

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي : ويكثر أموالكم وأولادكم ، وذلك أن قوم نوح عليه‌السلام

٤٣٢

لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم ، فقال لهم نوح : استغفروا ربكم من الشرك ، أي : استدعوه المغفرة بالتوحيد (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.) روى الشعبي : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار ، فلما نزل قيل : يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر ، ثم قرأ هذه الآية ، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا الآية. وقال القشيري : من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال : إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك ، كلما ازداد نوح عليه‌السلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ) أي : في الدارين (جَنَّاتٍ) أي : بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد ، فقال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي : يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك ، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٦٦] وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦].

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ) أي : الملك الذي له الأمر كله (وَقاراً) أي : ما لكم لا تأملون له توقيرا ، أي : تعظيما ، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار ، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال ، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره ، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقا ولا تنازع له اختيارا ، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة.

(وَقَدْ) أي : والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره ، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم ، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] ورجاء لدوام إحسانه وخوفا من قطعه لأنه (خَلَقَكُمْ) أي : أوجدكم من العدم مقدّرين (أَطْواراً) أي : تارات عناصر أولا ثم مركبات تغذي الحيوانات ، ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما وأعصابا ودماء ، ثم خلقا آخر تاما ناطقا ذكرانا وإناثا إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور ، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة.

(أَلَمْ تَرَوْا) أي : أيها القوم (كَيْفَ خَلَقَ اللهُ) أي : الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة (سَبْعَ سَماواتٍ) هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة (طِباقاً) أي : متطابقة بعضها فوق بعض ، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج ، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ) أي : الذي ترونه (فِيهِنَّ نُوراً) أي : لامعا منتشرا كاشفا للمرئيات ، أحد

٤٣٣

وجهيه يضيء لأهل الأرض ؛ والثاني لأهل السموات. قال الحسن : يعني في السماء الدنيا ، كما تقول : أتيت بني فلان ، وإنما أتيت بعضهم وفلان متوار في دور بني فلان ، وهو في دار واحدة ، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر وغيبوبته في بعض الليالي ، ثم ظهوره وذلك أعجب في القدرة.

ولما كان نوره مستفادا من نور الشمس قال تعالى : (وَجَعَلَ) أي : فيها (الشَّمْسَ) أي : في السماء الرابعة (سِراجاً) أي : نورا عظيما كاشفا لظلمة الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة كما مرّ. وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر : أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وأقفيتهما إلى الأرض ، وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المؤمنين له في الجنة.

(وَاللهُ) أي : الملك الأعظم الذي له الأمر كله (أَنْبَتَكُمْ) أي : بخلق أبيكم آدم عليه‌السلام (مِنَ الْأَرْضِ) أي : كما ينبت ، وعبر بذلك تذكيرا لنا بما كان من خلق أبينا آدم عليه‌السلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض (نَباتاً) أي : أنشأكم منها إنشاء ، فاستعير الإنبات له لأنه أدل على الحدوث والتكوّن ، وأصله أنبتكم فنبتم نباتا فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ) على التدريج (فِيها) أي : الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال (وَيُخْرِجُكُمْ) أي : منها بالإعادة ، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدّة العناية به وتحتم وقوعه لإنكارهم له فقال تعالى : (إِخْراجاً) أي : غريبا ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لا حكما عن الآخر.

(وَاللهُ) أي : المستجمع لجميع الجلال والإكرام (جَعَلَ لَكُمُ) أي : نعمة عليكم اهتماما بأمركم (الْأَرْضَ بِساطاً) أي : سهل عليكم التصرّف فيها والتقلب عليها سهولة التصرّف في البساط.

ثم علل ذلك بقوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا) أي : متخذين (مِنْها) أي : الأرض مجددين ذلك (سُبُلاً) أي : طرقا واضحة مسلوكة بكثرة (فِجاجاً) أي : ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة برا وبحرا ، فيعم الانتفاع بجميع البقاع فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرّف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.

ولما أكثروا مع نوح عليه‌السلام الجدال ونسبوه إلى الضلال وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

٤٣٤

(قالَ نُوحٌ) أي : بعد رفقه بهم ولينه لهم : (رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري (إِنَّهُمْ) أي : قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاما (عَصَوْنِي) أي : فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه ، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد ، وخالفوني أقبح مخالفة.

(وَاتَّبَعُوا) أي : بغاية جهدهم نظرا إلى المظنون العاجل (مَنْ) أي : رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم ، وفسرهم بقوله تعالى : (لَمْ يَزِدْهُ) أي : شيئا من الأشياء (مالُهُ) أي :

كثرته (وَوَلَدُهُ) كذلك (إِلَّا خَساراً) أي : بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام ، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام.

(وَمَكَرُوا) أي : هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني (مَكْراً) وزاده تأكيدا بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله : (كُبَّاراً) فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير ، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس : قالوا قولا عظيما. وقال الضحاك : افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل : منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليه‌السلام ، فلم يدعوا أحدا منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله.

(وَقالُوا) أي : لهم (لا تَذَرُنَ) أي : تتركن (آلِهَتَكُمْ) أي : عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة ، وأضافوها إليهم تحبيبا فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحا بالمقصود ، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيدا : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها ، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر (١) :

حيال وودّ من هداك لقيته

وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد

وقال القرطبي : قال الليث : ودّا بفتح الواو : صنم كان لقوم نوح ، وودّا بالضم : صنم لقريش وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح والودّ بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ا. ه. ثم أعادوا النفي تأكيدا فقالوا : (وَلا سُواعاً) وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا : (وَلا يَغُوثَ.) ولما بلغ التأكيد نهايته وعلم أنّ القصد النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع تركوا التأكيد في قولهم : (وَيَعُوقَ وَنَسْراً) للعلم بإرادته.

واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره : هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : إنها للعرب لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم عليه‌السلام وعنده بنوه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به.

قال محمد بن كعب : كان لآدم عليه‌السلام خمسة بنين : ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عبادا ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه فقال الشيطان : أنا أصوّر لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجد من صفر ورصاص ، ثم مات آخر فصوّره حتى ماتوا كلهم وصوّرهم وتناقصت الأشياء كما تناقصت اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٤٣٥

لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا : وما نعبد؟ قال : آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله تعالى حتى بعث الله نوحا عليه‌السلام ، فقالوا : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) الآية.

وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس : بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح عليهما‌السلام ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوّروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم ، فلما ماتوا جاء آخرون فقالوا : ليت شعري ما هذه الصور التي كان يعبدها آباؤنا ، فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت ، وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة : «أنّ أمّ حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أولئك كانوا إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، ثم صوّروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (١).

وروي عن ابن عباس أنّ نوحا عليه‌السلام كان يحرس جسد آدم عليه‌السلام على جبل الهند فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطان : إنّ هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم وإنما هو جسد وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به ، فصوّر لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها ، فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكان للعرب أصنام أخر ، فاللات كانت لقديد وإساف ونائلة ، وهبل كانت لأهل مكة ، وكان إساف حيال الحجر الأسود ، ونائلة حيال الركن اليماني ، وكان هبل في جوف الكعبة.

وقال الماوردي : أما ودّ فهو أوّل صنم معبود فسمي ودّا لودّهم له وكان بعد قوم نوح لكليب بدومة الجندل في قول ابن عباس وعطاء ، وأمّا سواع فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم. وقال الرازي : وسواع لهمدان وأمّا يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة. وقال المهدوي : لمراد ثم لغطفان. وقال أبو عثمان الهندي : رأيت يغوث وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ويسيرونه معهم ولا ينيخونه حتى يبرك بنفسه فإذا برك نزلوا ، وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، وأمّا يعوق فكان لهمدان ، وقيل : لمراد ، وأمّا نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل.

وقال الواقدي : كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر من الطير. قال البقاعي : ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأنّ تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعا من معانيهم ، فكان ودّ للكامل في الرجولية ، وكان سواع امرأة كاملة في العبادة ، وكان يغوث شجاعا ، وكان يعوق سابقا قويا ، وكان نسر عظيما طويل العمر ا. ه.

ولما ذكرهم مكرهم وما أظهروا من قولهم عطف عليه ما توقع السامع من أمرهم فقال تعالى :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة حديث ٤٢٧ ، ومسلم في المساجد حديث ٥٢٨ ، والنسائي في المساجد حديث ٧٠٤.

٤٣٦

(وَقَدْ أَضَلُّوا) أي : الرؤساء أو الأصنام وجمعهم جمع العقلاء معاملة لهم معاملة العقلاء كقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ) [إبراهيم : ٣٦](كَثِيراً) من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم ، فإنهم أوّل من سنّ هذه السنة السيئة ، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. وقول نوح عليه‌السلام : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي : الراسخين في الوصف الموجب للنار (إِلَّا ضَلالاً) أي : طبعا على قلوبهم حتى يعموا عن الحق.

عطف على قد أضلوا دعاء عليهم بعدما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ،) وكذلك دعا موسى وهارون عليهما‌السلام في الشدّ على قلوب فرعون وملئه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه وما في قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي : من أجل خطيئاتهم مزيدة للتأكيد والتفخيم ، وقرأ أبو عمرو بفتح الطاء وبعدها ألف وبعد الألف ياء وبعد الياء ألف وضم الهاء على وزن قضاياهم ، والباقون بكسر الطاء وبعدها ياء تحتية ساكنة ، وبعد الياء همزة مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف تاء فوقية مكسورة وكسر الهاء على وزن قضياتهم (أُغْرِقُوا) أي : بالطوفان طاف عليهم جميع الأرض السهل والجبل فلم يبق منهم أحد ، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه في قوله : (فَأُدْخِلُوا) في الآخرة التي أوّلها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشيا (ناراً) أي : عظيمة جدا أخفها ما يكون من مباديها في البرزخ. قال الملوي : عذبوا في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالحرق. وقال الضحاك : في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ) أي : عندما أناخ الله بهم سطوته ، وأحل بهم نقمته (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي تضمحل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته (أَنْصاراً) تنصرهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما أراده سبحانه من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوّتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه عليه‌السلام ومن آمن معه على ضعفهم وقلتهم لم يفقد منهم أحد لكونهم أولياءه كما أنه لم يسلم ممن أراد إغراقهم أحد على كثرتهم وقوّتهم. قال البقاعي : فمن قال عن عوج ما تقوله القصّاص فهو ضلال أشدّ ضلال ، قال : وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة ، وزاد في الحط عليه وعلى ابن الفارض وعلى الحلاج وعلى من شابههم ، وأمر هؤلاء إلى الله تعالى ، فإنه العالم بحقائق الأمور وما تخفي الصدور.

(وَقالَ نُوحٌ) وأسقط الأداة كما هو عادة أهل الحضرة فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ) أي : لا تترك (عَلَى الْأَرْضِ) أي : كلها (مِنَ الْكافِرِينَ) أي : الراسخين في الكفر (دَيَّاراً) أي : أحدا يدور فيها وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي فيعال من الدور أو الدار لا فعال وإلا لكان دوارا. قال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فأجاب الله تعالى دعوته وأغرق أمّته وهذا كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ منزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم» (١). وقيل : سبب دعائه أنّ رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمرّ بنوح عليه‌السلام فقال : احذر هذا فإنه يضلك ، فقال : يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجه فحينئذ غضب ودعا عليهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٣٣ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٤١ ، والترمذي في الجهاد حديث ١٦٧٨ ، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٧٩٦.

٤٣٧

فإن قيل : ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ أجيب : بأنهم أغرقوا معهم لا على وجه العقاب ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت وكم منهم من يموت بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى» (١).

وعن الحسن أنه سئل عن ذلك؟ فقال : علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقال محمد بن كعب ومقاتل : إنما قال هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام أمّهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة فأخبر الله تعالى نوحا عليه‌السلام أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا كما قال تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم كلهم ، ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب لأنّ الله تعالى قال : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] ولم يوجد التكذيب من الأطفال. وقال ابن عربي : دعا نوح عليه‌السلام على الكافرين أجمعين ، ودعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من تحزب على المؤمنين وكفى بهذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، وأمّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ، لأنّ مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بما لهم وما كشف الله له من الغطاء عن حالهم.

ولما كان الرسل عليهم‌السلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما كان فيه مصلحة الدين علل دعاءه بقوله : (إِنَّكَ) أي : يا رب (إِنْ تَذَرْهُمْ) أي : تتركهم على أيّ حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض ولو كانت حالة دنيئة (يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي : الذين آمنوا بك وبي والذين يولدون على الفطرة السليمة (وَلا يَلِدُوا) أي : إن قدرت بقاءهم (إِلَّا فاجِراً) أي : مارقا عن كل ما ينبغي الاعتصام به (كَفَّاراً) أي : بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله.

فإن قيل : بم علم أنّ أولادهم يكفرون وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ أجيب : بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول : احذر من هذا فإنه كذاب ، وإنّ أبي حذرنيه ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ، وقد أخبر الله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦]. ومعنى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً :) لم يلدوا إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل قتيلا فله سلبه» (٢).

ولما دعا على أعداء الله تعالى دعا لأوليائه وبدأ بنفسه فقال مسقط الأداة على عادة أهل الخصوص : (رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني (اغْفِرْ لِي) أي : فإنه لا يسعني ـ وإن كنت معصوما ـ إلا حلمك وعفوك ومغفرتك ، (وَلِوالِدَيَ) وكانا مؤمنين يريد أبويه اسم أبيه لمك بن متوشلخ ، وأمّه شمخا بنت أنوش. وعن ابن عباس : لم يكفر لنوح عليه

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٢٨٨٤.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٣٢٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٥١ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٧١٧ ، والترمذي في السير حديث ١٥٦٢.

٤٣٨

السلام أب فيما بينه وبين آدم عليه‌السلام ، وقيل : هما آدم وحوّاء وأعاد الجار إظهارا للاهتمام فقال : (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي : منزلي ، وقيل : مسجدي ، وقيل : سفينتي (مُؤْمِناً) أي : مصدّقا بالله تعالى فمؤمنا حال ، وعن ابن عباس : أي : دخل في ديني.

فإن قيل : على هذا يصير قوله : (مُؤْمِناً) تكرارا؟ أجيب : بأنّ من دخل في دينه ظاهرا قد يكون مؤمنا وقد لا يكون ، فالمعنى ولمن دخل دخولا مع تصديق القلب. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) خص نفسه أوّلا بالدعاء ، ثم من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك. وقال الكلبي : من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : من قومه والأوّل أولى وأظهر.

ثم ختم الكلام مرّة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي : العريقين في الظلم في حال من الأحوال (إِلَّا تَباراً) أي : هلاكا مدمرا والمراد بالظالمين الكافرون ، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل : أراد مشركي قومه. وتبارا مفعول ثان والاستثناء مفرغ. وقيل : الهلاك الخسران.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه‌السلام» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٢٤.

٤٣٩

سورة الجن

وتسمى سورة قل أوحي

مكية وهي ثمان وعشرون آية ، ومائتان وخمس وثمانون كلمة ، وثمانمائة وسبعون حرفا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) المحيط بالكمال (الرَّحْمنِ) الذي عمّ برحمته الناس بالإرسال (الرَّحِيمِ) الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال.

ولما كان نوح عليه‌السلام أوّل رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض ، وكان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم ناسب ذكره بعد نوح ، فقال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣))

(قُلْ) أي : يا أشرف الرسل للناس (أُوحِيَ إِلَيَ) وقال ابن عباس : قل يا محمد لأمّتك : أوحي إليّ على لسان جبريل (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) والنفر الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة قال البغوي : وكانوا تسعة من جنّ نصيبين ، وقيل : كانوا سبعة وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : «انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض

٤٤٠