تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

العين ويسر النفس كزينة النسوان وأتبعها ثمرتها بقوله تعالى : (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أي : كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض فيجر ذلك إلى الحسد والبغضاء وأتبع ذلك بما يحصل به الفخر بقوله تعالى : (وَتَكاثُرٌ) أي : من الجانبين كتكاثر الرهبان (فِي الْأَمْوالِ) أي : التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة (وَالْأَوْلادِ) أي : التي لا يغتر بها إلا سفيه لأنها زائلة وآفاتها هائلة وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره ، ثم ذلك كله قد يكون ذهابه عن قريب فيكون على أضداد ما كان عليه فيكون أشد في الحسرة ثم في آخر ذلك يموت فإذا هو قد اضمحل أمره ونسي عما قليل ذكره وصار ماله لغيره وزينته متمتعا بها سواه ، فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها لأنها جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر وأخسهم من يبخل بها ، وقال علي لعمار : لا تحزن على الدنيا فإنّ الدنيا ستة أشياء : مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة ، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة ، وأفضل المركوب الفرس وعليها تقتل الرجال ، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مبال والله إنّ المرأة لتزين أحسنها فيراد منها أقبحها ا. ه. ويناسب بعض ذلك قول الشاعر (١) :

فخير لباسها نسجات دود

وخير شرابها قيء الذباب

وأشهى ما ينال المرء فيها

مبال في مبال مستطاب

قال القشيري : وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا ا. ه. أي : وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة ثم ضرب الله للدنيا مثلا بقوله تعالى : (كَمَثَلِ) أي : هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل (غَيْثٍ) أي : مطر حصل بعد جدب وسوء حال (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أي : الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذر الذي يستره الحارث كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان (نَباتُهُ) أي : نبات ذلك الغيث كما يعجب الكافر في الغالب بسط الدنيا له استدراجا من الله تعالى : (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : ييبس فيتم جفافه فيحين حصاده (فَتَراهُ) أي : عقب كل ذلك وبالقرب منه (مُصْفَرًّا) أي : على حالة لا نموّ بعدها (ثُمَ) أي : بعد تناهي الجفاف (يَكُونُ) أي : كونا كأنه مطبوع عليه (حُطاماً) أي : فتاتا يضمحل بالرياح.

ولما ذكر تعالى الظل الزائل ذكر أثره الثابت الدائم مقسما له إلى قسمين فقال تعالى : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : على من آثر الدنيا وأخذها بغير حقها معرضا عن ذكر الله تعالى وعن الآخرة هذا أحد القسمين ، وأما القسم الآخر فهو : ما ذكره بقوله تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ) أي : ولمن أقبل على الآخرة ورفض الدنيا ولم تشغله عن ذكر الله تعالى مغفرة (مِنَ اللهِ) أي : الملك الأعظم (وَرِضْوانٌ) أي : في جنة عالية تفضلا منه تعالى ورحمة ، وقوله تعالى جل وعلا : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي : هو في نفسه غرور لا حقيقة له إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق ، قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٢٢١

ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال ، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى :

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

(سابِقُوا) أي : سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار (إِلى مَغْفِرَةٍ) أي : ستر لذنوبكم عينا وأثرا (مِنْ رَبِّكُمْ) أي : المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم ، وقال الكلبي : سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة ، وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام ، وقيل : الصف الأول (وَجَنَّةٍ) أي : وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعا ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة ، وقال مقاتل : إنّ السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان ، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار؟ فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا : إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه : أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك ، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس (أُعِدَّتْ) أي : هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوقعوا هذه الحقيقة (بِاللهِ) أي : الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان (وَرُسُلِهِ) فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر ، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية (ذلِكَ) أي : الفضل العظيم جدا (فَضْلُ اللهِ) أي : الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله ، لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لن يدخل الجنة أحدا منكم عمله

٢٢٢

قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته» (١). ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣٢] لأنّ الباء في الحديث عوضية ، وفي الآية سببية ، فإن قيل : يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟ أجيب : بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم (وَاللهُ) أي : والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي : الذي جل أن تحيط بوصفه العقول (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) أي : من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) أي : من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي : مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي : نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس ، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره (إِنَّ ذلِكَ) أي : الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه (عَلَى اللهِ) أي : لما له من الإحاطة بصفات الكمال (يَسِيرٌ) لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء.

ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى : (لِكَيْلا) أي : أعلمناكم بأنا على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن» (٢) لأجل أن (تَأْسَوْا) أي : تحزنوا حزنا كبيرا زائدا على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء (عَلى ما فاتَكُمْ) أي : من المحبوبات الدنيوية (وَلا تَفْرَحُوا) أي : تسروا سرورا يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى : (بِما آتاكُمْ) قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة ، أي : جاءكم منه ، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه : ما لك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت وما لك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا. ه.

ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده ، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده ، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بإدخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول : المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر ؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفا عند النعمة قائلا في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن ، وأكمل من هذا أن يكون مسرورا بذكر ربه في كلتا الحالتين ، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا وغنيمته شكرا والحزن والفرح المنهي عنهما

__________________

(١) أخرجه البخاري في المرض حديث ٥٦٧٣ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٨١٦ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٠١.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي. وأخرج العجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٧٤ ، حديثا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن مسعود : «لا يكثر همك ما يقدر يكن وما ترزق يأتك».

٢٢٣

هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز (وَاللهُ) أي : الذي له صفات الكمال (لا يُحِبُ) أي : لا يفعل فعل المحب بأن يكرم (كُلَّ مُخْتالٍ) أي : متكبر نظرا إلى ما في يده من الدنيا (فَخُورٍ) أي : به على الناس قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها ، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدل من كل مختال فخور فإنّ المختال بالمال يضن به غالبا (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ) أي : كل من يعرفونه (بِالْبُخْلِ) إرادة أن يكونوا لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : يكلف نفسه الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ) الذي له جميع صفات الكمال (هُوَ) أي : وحده (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لأنّ معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإنّ الله غني أي : عن ماله وعن إنفاقه وكل شيء مفتقر إليه وهو مستحق للحمد سواء أحمده الحامدون أم لا (لَقَدْ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (أَرْسَلْنا) أي : الذين لهم نهاية الجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ومن الأنبياء إلى الأمم (بِالْبَيِّناتِ) أي : الحجج القواطع (وَأَنْزَلْنا) أي : بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها (مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي : الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين (وَالْمِيزانَ) أي : العدل ، وقيل : الآلة روي أن جبريل عليه‌السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه‌السلام وقال مر قومك يزنوا به (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي : ليتعاملوا بينهم بالعدل (وَأَنْزَلْنا) أي : خلقنا خلقا عظيما بما لنا من القوة (الْحَدِيدَ) أي : المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالا ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزل آدم عليه‌السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة ، وحكاه القشيري قال : والميقعة ما يحدد به يقال : وقعت الحديدة أقعها أي : حددتها وفي الصحاح : الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل ، وروى ومعه المبرد والمسحاة ، وعن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح» (١). وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه‌السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج وعصا موسى عليه‌السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى» (٢) ؛ وعن الحسن (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) خلقناه كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦] وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه (فِيهِ بَأْسٌ) أي : قوة وشدّة (شَدِيدٌ) أي : قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها ، وقال مجاهد : يعني جنة ، وقيل : انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك ، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد ، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم ؛ وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في يوم الثلاثاء

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٤٦٥١ ، والذهبي في الطب النبوي ٩٠ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٦٠ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٥٦٦ ، والسيوطي في جمع الجوامع ٤٧١٥.

(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٦٠.

٢٢٤

ساعة لا يراق فيها الدم» (١).

وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) أي : الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم ، عطف على قوله تعالى : (لِيَقُومَ النَّاسُ) أي : لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله (مَنْ يَنْصُرُهُ) أي : ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى : (وَرُسُلَهُ) عطف على مفعول ينصره أي : وينصر رسله وقوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) حال من هاء ينصره ، أي : غائبا عنهم في الدنيا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له العظمة كلها (قَوِيٌ) أي : فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه (عَزِيزٌ) فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب.

ولما أجمل الرسل في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) فصل هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (نُوحاً) وهو الأب الثاني وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال (وَإِبْراهِيمَ) وهو أبو العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله وجعلنا الأغلب على رسالته تجلي الإكرام (وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ) فلا يوجد نبي إلا من نسلهما (وَالْكِتابَ) أي : الكتب الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الكتاب الخط بالقلم يقال : كتب كتابا وكتابة والضمير في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) يعود على الذرية لتقدم ذكرها لفظا وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة أرسلنا ، أي : هو بعين الرضا منا وهو من لزم طريقة الأصفياء وإن كان من أولاد الأعداء (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي : المذكورين (فاسِقُونَ) أي : هم بعين السخط وإن كانوا من أولاد الأصفياء ، والمراد بالفاسق ههنا : الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين ، وقيل : هو الذي ارتكب الكبيرة سواء أكان كافرا أم لم يكن لإطلاق هذا الاسم وهو يشمل الكافر وغيره (ثُمَّ قَفَّيْنا) أي : أتبعنا بما لنا من العظمة (عَلى آثارِهِمْ) أي : الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل أو عاصرهما منهم (بِرُسُلِنا) أي : فأرسلناهم واحدا في أثر واحد كموسى وإلياس وداود وغيرهم ، ولا يعود الضمير على الذرية لأنها باقية مع الرسل وبعدهم وأيضا الرسل المقفى بهم من الذرية (وَقَفَّيْنا) أي : أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تندرس (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وهو آخر من جاء قبل النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام فأمته أولى الأمم باتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآتَيْناهُ) أي : بما لنا من العظمة (الْإِنْجِيلَ) كتابا ضابطا لما جاء به مقيما لملته مبشرا بالنبيّ العربيّ موضحا لأمره مكثرا من ذكره (وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي : على دينه بغاية جهدهم فكانوا على منهاجه (رَأْفَةً) أي : أشدّ رقة على من كان ينسب إلى الاتصال بهم (وَرَحْمَةً) أي : رقة وعطفا على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أنّ

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٦١ ، وأخرجه ابن حجر في المطالب العالية ٢٤٧٨ ، بلفظ : «إن في يوم الجمعة لساعة لا يحتجم ...».

٢٢٥

قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين متوادين بعضهم لبعض وقوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً) منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر وهو قوله تعالى : (ابْتَدَعُوها) قال أبو علي : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرحمة والرأفة لما كانتا من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه ، وقيل : إن رهبانية معطوفة على رأفة ورحمة ، وجعل إما بمعنى خلق أو بمعنى صيّر وابتدعوها على هذا صفة الرهبانية ، وإنما خصت بذكر الابتداع لأنّ الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكلف للإنسان فيهما بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب ، لكن أبو البقاء منع هذا بأن ما جعله الله تعالى ليبتدعونه. وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك فيها والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفا زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلو واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الكهوف والغيران.

روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال : في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ؛ قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه‌السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقي بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة : الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال.

وقوله تعالى : (ما كَتَبْناها) صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك ، قال ابن زيد : معناه ما فرضناها (عَلَيْهِمْ) ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي : الملك الأعظم استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، وقيل : متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى : قضى فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي : ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَآتَيْنَا) أي : بما لنا من صفات الكمال (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) أي : اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا (فاسِقُونَ) أي : عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه‌السلام ، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال : «دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه‌السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عزوجل : وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق

٢٢٦

رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» (١).

وعن ابن مسعود أيضا قال : «كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمار فقال : يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه‌السلام يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) إلى قوله تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة» (٢)

وعن أنس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى» (٣) وعن ابن عباس قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه‌السلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا ، فقالت طائفة : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك ، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه‌السلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عزوجل : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها ، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني : الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) هم الذين جاؤوا من بعدهم قال : فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بموسى وعيسى عليهما‌السلام إيمانا صحيحا (اتَّقُوا اللهَ) أي : خافوا عقاب الملك الأعظم (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا مضموما إلى إيمانكم بمن تقدّمه ،

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٧ / ٣٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٦٣ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ٢٧٢.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره ٧ / ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٨ / ١٩٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٢٧٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٧٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٠٦٤٩.

٢٢٧

هذا إذا كان خطابا لمؤمني أهل الكتاب ، وأمّا إذا كان خطابا للمؤمنين من أهل الكتاب وغيرهم ، فالمعنى : آمنوا برسوله إيمانا مضموما إلى إيمانكم بالله تعالى فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا مع الإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْتِكُمْ) أي : يثبكم على اتباعه (كِفْلَيْنِ) أي : نصيبين ضخمين (مِنْ رَحْمَتِهِ) يحصنانكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقي مقدّمة على الكاهل ومؤخره على العجز وهذا التحصين لأجل إيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانكم بمن تقدّمه مع خفة العمل ورفع الآصار ، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخا ببركة الإسلام. وقيل : الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقال أبو موسى الأشعري : كفلين ضعفين بلسان الحبشة ، وقال ابن زيد : كفلين أجر الدنيا وأجر الآخرة ، وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده» (١)(وَيَجْعَلْ لَكُمْ) أي : مع ذلك (نُوراً) مجازيا في الدنيا من العلوم والمعارف القلبية وحسيا في الآخرة بسبب العمل (تَمْشُونَ بِهِ) أي : مجازا في الدنيا بالتوفيق للعمل وحقيقة في الآخرة بسبب العمل ، وقال مجاهد : النور هو البيان والهدى ، وقال ابن عباس : هو القرآن ، وقال الزمخشري : هو النور المذكور في قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى) [التحريم : ٨] وقيل : يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي : ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ (وَاللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (غَفُورٌ) أي : بليغ المحو للذنوب عينا وأثرا (رَحِيمٌ) أي : بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.

ولما بلغ من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) قالوا للمسلمين : أمّا من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ومن لم يؤمن منا فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا فأنزل الله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أي : ليعلم ولا زائدة للتأكيد (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والمعنى أنهم لا يقدرون على شيء في زمن من الأزمان (مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : الملك الأعلى فلا أجر لهم ولا نصيب في فضله إن لم يؤمنوا بنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال قتادة : حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد : قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فنزلت الآية. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادّعوا الفضل عليهم فنزلت ، وقيل : المراد من فضل الله الإسلام ، وقيل : الثواب ، وقال الكلبي : من رزق الله وقيل : نعم الله تعالى التي لا تحصى (وَأَنَ) أي : وليعلموا أن (الْفَضْلَ) أي : الذي لا يحتاج إليه من هو عنده (بِيَدِ اللهِ) الذي له الأمر كله (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لأنه قادر مختار فآتى المؤمنين منهم أجرهم مرتين (وَاللهُ) أي : الذي أحاط بجميع صفات الكمال (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي : مالكه ملكا لا ينفك

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم حديث ٩٧.

٢٢٨

ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلا فلذلك يخص من يشاء بما يشاء

روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو قائم على المنبر : «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين ، قال أهل التوراة : ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا : لا ، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء» (١) وفي رواية «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : ربنا» الحديث ، وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من كان قبلكم خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط ، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين ، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فإنه فضلي أوتيه من شئت». وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل ، فقال لهم : لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال : أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكلموا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور». وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٥٩ ، وفضائل القرآن حديث ٥٠٢١ ، والترمذي في الأمثال حديث ٣٨٧١.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤٨٢.

٢٢٩

سورة المجادلة

مدنية ، في قول الجميع إلّا رواية عن عطاء إلا العشر الأول منها مدني وباقيها مكي ، وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) نزلت بمكة وهي ثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي تمت قدرته وكملت جميع صفاته (الرَّحْمنِ) الذي شمل الخلائق جودا بالإيجاد وإرسال الهداة (الرَّحِيمِ) الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته

ونزل في خولة بنت ثعلبة وكانت تحت أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها.

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))

(قَدْ سَمِعَ اللهُ) أي : أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات (قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) أي : تراجعك أيها النبيّ (فِي زَوْجِها) المظاهر منها روي «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ بها في خلافته وهو على حمار والناس معه ، فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت : يا عمر قد كنت تدعى عميرا ثم قيل لك : عمر ثم قيل لك : أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب وهو واقف يسمع كلامها فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز هي : خولة بنت ثعلبة سمع الله تعالى قولها من فوق سبع سموات أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر» (١) وعن

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٧٠.

٢٣٠

عائشة : «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهمّ إني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل بهذه الآية «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها» (١) الآية. وروي «أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها ، قال عروة : وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّ أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما علا سني ونثرت بطني أي : كثر ولدي جعلني عليه كأمّه فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حرمت عليه فقالت : والله ما ذكر طلاقا وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقد طالت صحبتي ونفضت له بطني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما آراك إلا حرمت عليه أو أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حرمت عليه ، هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهمّ أني أشكو إليك ، فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أوّل ظهار في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) الآية فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زوجها وقال : ما حملك على ما صنعت؟ قال : الشيطان فهل من رخصة؟ فقال : نعم وقرأ عليه الأربع آيات فقال له : هل تستطيع العتق؟ فقال لا والله فقال : هل تستطيع الصوم؟ فقال لا والله إني إن أخطأني أن آكل في اليوم مرّة أو مرتين لكل صبري ولظننت أني أموت قال : فأطعم ستين مسكينا ، قال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا ، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكينا» (٢).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : مريه أن يعتق رقبة فقالت : أيّ رقبة والله لا يجد رقبة وما له خادم غيري ، فقال : مريه أن يصوم شهرين ، فقالت : والله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا كذا مرّة ، فقال : مريه فليطعم ستين مسكينا ، فقالت : أنّى له ذلك» (٣)(وَتَشْتَكِي) أي : تتعمد بتلك المجادلة الشكوى منتهية (إِلَى اللهِ) أي : سؤال الملك الأعظم الرحمة الذي أحاط بكل شيء علما.

فإن قيل : ما معنى قد في قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ) أجيب : بأنّ معناها التوقع لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله تعالى مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها لصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله إنّ الله تعالى يكشف كربتها (وَاللهُ) أي : والحال أنّ الذي وسعت رحمته كلّ شيء ، لأنّ له الأمر كله (يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما)

__________________

(١) أخرجه بنحوه ابن ماجه في الطلاق باب ٢٥.

(٢) أخرجه ابن حبان في سننه حديث ٤٢٧٩.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤١١ ، والطبراني في المعجم الكبير ١ / ١٩٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٧٩ ، ١٨٠ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ١٣١.

٢٣١

أي : تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب (إِنَّ اللهَ) أي : الذي أحاط بجميع صفات الكمال (سَمِيعٌ) أي : بالغ السمع لكل مسموع (بَصِيرٌ) أي : بالغ البصر لكل ما يبصر فهما صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفا بهما

ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) أي : يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى : (مِنْكُمْ) أي : أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصا بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجنا عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجانا (مِنْ نِسائِهِمْ) أي : يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم.

والظهار لغة : مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، وخصوا الظهر دون البطن والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج.

وقيل : من العلو قال تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [الكهف : ٩٧] أي : أن يعلوه وكان طلاقا في الجاهلية ، وقيل : في أوّل الإسلام ويقال : كان في الجاهلية إذا كره أحدهم أمرأته أنه ولم يرد أن تتزوج بغيره آلى منها أو ظاهر فتبقى لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره ؛ فغير الشارع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة كما سيأتي.

وحقيقته الشرعية : تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلاله وسمى هذا المعنى ظهارا لتشبيه الزوجة بظهر الأم ، وله أركان أربعة : مظاهر ومظاهر منها وصيغة ومشبه به وشرط في المظاهر كونه زوجا يصح طلاقه ، وشرط في المشبه به كونه كلّ أنثى محرم أو جزء أنثى محرم لم تكن حلاله كابنته وأخته ، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالظهار صريح كأنت أو رأسك أو بدنك كظهر أمي أو كجسمها أو بدنها أو كناية كأنت أمي أو كعينها أو غيرها مما يذكر للكرامة كرأسها أو روحها ويصح تأقيته وتعليقه ، وأصل يظهرون يتظهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) والذي يظاهرون عاصم بضم الياء وتخفيف الظاء وبعدها ألف وتخفيف الهاء مكسورة ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وتخفيف الهاء مع فتحها وبين الظاء والهاء ألف ، والباقون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ولا ألف بينهما (ما هُنَ) أي : نساؤهم (أُمَّهاتِهِمْ) أي : على الحقيقة (إِنْ) أي : ما (أُمَّهاتِهِمْ) أي : حقيقة (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) ونساؤهم لم يلدنهم فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام ، ولا هنّ ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح كأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهنّ أمّهات لما لهنّ من حق الإكرام والاحترام والإعظام ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم في أبوة الدين من أبي النسب ، وكذا المرضعات ، لما لهنّ من حق الرضاع الذي هو وظيفة الأمّ بالأصالة. وأمّا الزوجة فمباينة لجميع ذلك.

وقرأ قالون وقنبل : بالهمزة المكسورة ولا ياء بعدها ، وقرأ ورش والبزي وأبو عمرو بتسهيل الهمزة مع المدّ والقصر وللبزي وأبو عمرو أيضا موضع الهمزة ياء ساكنة مع المدّ والباقون بهمزة مكسورة وبعدها ياء وهم على مراتبهم في المدّ (وَإِنَّهُمْ) أي : المظاهرون (لَيَقُولُونَ) أي : في هذا التظهر على كلّ حالة (مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) إذ الشرع أنكره وهو حرام اتفاقا كما نقل عن الرافعي في باب الشهادات (وَزُوراً) أي : قولا مائلا عن السداد منحرفا عن القصد ، لأنّ الزوجة معدّة

٢٣٢

للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان والأمّ في غاية البعد عن ذلك.

فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنت عليّ كظهر أمي فشبه بأمه ولم يقل أنها أمّه فما معنى أنه منكر من القول وزور والزور الكذب وهذا ليس بكذب.

أجيب : بأنّ قوله هذا إن كان خبرا فهو كذب وإن كان إنشاء فهو كذلك لأنه جعله سببا للتحريم والشرع لم يجعله سببا لذلك ، وأيضا فإنما وصف بذلك لأنّ الأم مؤبدة التحريم والزوجة لا يتأبد تحريمها بالظهار فهو زور محض.

فإن قيل : قوله تعالى : (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) يقتضي أن لا أمّ إلا الوالدة وهذا مشكل بقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء : ٢٣] وقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

أجيب : بأنّ الشارع ألحقهنّ بالوالدات لما مر (وَإِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره (لَعَفُوٌّ) أي : من صفاته أن يترك عقاب من شاء (غَفُورٌ) أي : من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره.

ثم بين أحكام الظهار بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) والعود في ظهار غير مؤقت من غير رجعية أن يمسكها بعد ظهاره مع علمه بوجود الصفة في المعلق زمن إمكان فرقة ولم يفارق ، لأن العود للقول مخالفته ، يقال : قال فلان قولا ثم عاد له وعاد فيه أي : خالفه ونقضه ، وهو قريب من قولهم عاد في هبته ، ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه ، فلو اتصل بظهاره جنونه أو إغماؤه أو فرقة بموت أو فسخ من أحدهما بمقتضيه كعيب بأحدهما أو بطلاق بائن أو رجعي ولم يراجع فلا عود ، والعود في ظهار غير مؤقت من رجعية سواء أطلقها عقب الظهار أم قبله أن يراجع.

ولو ارتد متصلا بالظهار بعد الدخول ثم أسلم في العدّة فلا عود بالإسلام بل بعده ، والفرق أنّ الرجعة إمساك في ذلك النكاح والإسلام بعد الردّة تبديل للدّين الباطل بالحق والحّل تابع له فلا يحصل به إمساك وإنما يحصل بعده فالعود في ظهار مؤقت يحصل بتغييب حشفة أو قدرها من فاقدها في المدّة ويجب في العود به وإن حلّ نزع لما غيبه ، كما لو قال : إن وطأتك فأنت طالق لحرمة الوطء قبل التكفير كما سيأتي وانقضاء المدة واستمرار الوطء وطء ولما كان المبتدأ الموصول يتضمن معنى الشرط أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرّر الوجوب بتكرير سببه فقال عز من قائل : (فَتَحْرِيرُ) أي : فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير (رَقَبَةٍ) مؤمنة فلا تجزىء كافرة قال تعالى في كفارة القتل : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] وألحق بها غيرها قياسا عليها بجامع حرمة سببيهما من القتل والظهار أو حملا للمطلق على المقيد كما في حمل المطلق في قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] على المقيد في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] بلا عوض وبلا عيب يخل بعمل فيجزئ صغير ولو ابن يوم وأقرع وأعرج يمكنه تباع مشي بأن يكون عرجه غير شديد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة ضعفا يخل بالعمل وأصم وأخرس يفهم الإشارة وتفهم عنه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه لا فاقد رجل أو خنصر وبنصر من يد أو أنملتين من كلّ منهما أو فاقد أنملتين من أصبع غيرهما أو فاقد أنملة إبهام لإخلال كل من الصفات المذكورة بالعمل.

ولا يجزىء مريض لا يرجى برؤه ولم يبرأ كيد شلاء وهرم بخلاف من يرجى برؤه ومن لا

٢٣٣

يرجى برؤه إذا برىء ، ولا مجنون إفاقته أقلّ من جنونه تغليبا للأكثر ، ويجزي معلق عتقه بصفة بأن ينجز عتقه بنية الكفارة أو معلقه كذلك بصفة أخرى وتوجد قبل الأولى ، ويجزئ نصفا رقبتين أعتقهما عن كفارة باقيهما أو في أحدهما كما استظهره بعضهم ، ويجزئ إعتاق رقبتيه عن كفارتيه لا جعل العتق المعلق كفارة عند وجود الصفة ولا مستحق عتق كأم ولد وصحيح كتابة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي : يتجدّد بينهما مس روى أبو داود وغيره «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها : لا تقربها حتى تكفّر» (١). وكالتكفير مضي مدة المؤقت لانتهائه بها وحمل التماس هنا لشبه الظهار بالحيض على التمتع بما بين السرّة والركبة ومن حمله على الوطء ألحق به التمتع بغيره فيما بينهما ، ولو ظاهر من أربع بكلمة كأنتن كظهر أمي فإن أمسكهنّ فأربع كفارات لوجود سببها أو ظاهر منهنّ بأربع كلمات ولو متوالية فعائد من غير أخيرة ، ولو كرر في امرأة متصلا تعدد الظهار إن قصد استئنافا ويصير المظاهر بالاستئناف عائدا (ذلِكُمْ) أي : ذلك الحكم بالكفارة (تُوعَظُونَ بِهِ) أي : أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة بالكمال (بِما تَعْمَلُونَ) أي : تجدّدون فعله (خَبِيرٌ) أي : عالم بظاهره وباطنه فهو عالم بما يكفره فافعلوا بما أمر به وقفوا عند حدوده ، وإنما يلزم الإعتاق عن الكفارة من ملك رقيقا أو ثمنه فاضلا عن كفاية ممونة من نفسه وغيره.

قال الرافعي : وسكتوا عن تقدير مدة ذلك ويجوز أن تقدر بالعمر الغالب وأن تقدّر بسنة ا. ه. والذي عليه الجمهور هو : الأوّل ولا يلزمه بيع عقار ورأس تجارة وماشية لا يفضل دخلها عن غلة العقار وربح مال التجارة وفوائد الماشية من نتاج وغيره عن كفاية ممونة ولا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما ولا يلزمه شراء بغبن.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي : الرقبة بأن عجز المكفر عن الإعتاق حسا أو شرعا وقت أداء الكفارة (فَصِيامُ) أي : فعليه صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) عن كفارته فالرقيق لا يكفر إلا بالصوم لأنه معسر لا يملك شيئا وليس لسيده منعه من الصوم إن ضره ، وإنما اعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الوجوب قياسا على سائر العبادات.

ولو ابتدأ الصوم ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه ، لأنه أمر به حيث دخل فيه ، وقال أبو حنيفة : يعتق قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدم قبل انقضاء عدّتها فإنها تستأنف الحيض إجماعا ويكفيه نية صوم الكفارة ، وإن لم ينو الولاء ، فإن انكسر الشهر الأول أتمه من الثالث ثلاثين لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال.

وينقطع التتابع بفوات يوم ولو بعذر كمرض أو سفر فيجب الاستئناف ولو كان الفائت اليوم الأخير أو اليوم الذي نسيت النية له بخلاف ما إذا فات بجنون أو إغماء مستغرق لمنافاة ذلك الصوم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) كما مرّ في العتق ، فإن جامع ليلا عصى ولم ينقطع التتابع لأنه ليس محلا للصوم بخلافه نهارا وقال أبو حنيفة ومالك : يبطل بكلّ حال ويجب عليه ابتداء الكفارة لقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.)

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) بأن عجز عن صوم أو لا لمرض يدوم شهرين بالظنّ المستفاد من العادة

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق حديث ٢٢٢١ ، وابن ماجه ، في الطلاق حديث ٢٠٦٥.

٢٣٤

في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض (فَإِطْعامُ) أي : فعليه إطعام (سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي : من قبل أن يتماسا حملا للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّا من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق ، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق ، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال.

(ذلِكَ) أي : الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه‌السلام (لِتُؤْمِنُوا) أي : ليتحقق إيمانكم (بِاللهِ) أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية (وَرَسُولِهِ) أي : الذي تعظيمه من تعظيمه.

ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى : (وَتِلْكَ) أي : هذه الأحكام العظيمة المذكورة (حُدُودُ اللهِ) أي : أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها ، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه (وَلِلْكافِرِينَ) أي : العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها ، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها ، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه ، إلا لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته.

قال الزمخشري : فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبدا حقها فإن قلت : فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعثها فقال عليه الصلاة والسلام : «استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر» (١) ا. ه. والمراد بالاستغفار هنا : التوبة.

ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) أي : يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدودا غيرها وذلك صورته صورة العداوة ؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) [الحشر : ٤](وَرَسُولَهُ) أي : الذي عزه من عزه ، وقيل : يحادّون الله أي : أولياء الله كما في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» (٢) والضمير في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يحتمل أن يرجع إلى المنافقين ، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم (كُبِتُوا) أي :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الطلاق حديث ١١٩٩ ، والنسائي في الطلاق حديث ٣٤٥٧.

(٢) أخرجه ابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٨٩ بلفظ : «من عادى لله وليا فقد بارز الله بالمحاربة» ، وأخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ١٠٢ ، ٤٧٧.

٢٣٥

أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا ، وقال قتادة : أخذوا ، وقال أبو زيد : عذبوا ، وقال السدي : لعنوا ، وقال الفراء : أغيظوا يوم الخندق. وقيل : يوم بدر (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان.

قال القشيريّ : ومن ضيع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك (وَقَدْ أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي : دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان (وَلِلْكافِرِينَ) أي : الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى : (عَذابٌ مُهِينٌ) بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) منصوب باذكر كما قاله الزمخشري قال : تعظيما لليوم أو بلهم أي بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبرا أو بفعل مقدّر قدّره أبو البقاء يهانون أو يعذبون أو استقرّ ذلك يوم (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي : الملك الأعظم (جَمِيعاً) أي : حال كونهم مجتمعين ، الكافرين المصرّح بهم والمؤمنين المشار إليهم الرجال والنساء أحياء كما كانوا لا يترك منهم أحد ، وقيل : مجتمعين في حال واحد (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي : يخبرهم إخبارا عظيما مستقصى (بِما عَمِلُوا) تخجيلا وتوبيخا وتشهيرا لحالهم (أَحْصاهُ اللهُ) أي : أحاط به عددا وكما وكيفا وزمانا ومكانا بما له من صفات الكمال والجلال (وَنَسُوهُ) لأنهم تهاونوا به حيث ارتكبوه ولم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي وإنما تحفظ معظمات الأمور أو لخروجه عن الحدّ في الكثرة فكيف كل واحد على انفراده (وَاللهُ) أي : بما له من القدرة الشاملة والعلم المحيط (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي : على الإطلاق (شَهِيدٌ) أي : حفيظ حاضر لا يغيب ورقيب لا يغفل.

ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالما بكل المعلومات فقال جل ذكره :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

(أَلَمْ تَرَ) أي : تعلم علما هو في وضوحه كالرؤية بالعين (أَنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال كلها (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) كلها (وَما فِي الْأَرْضِ) كذلك كليات ذلك وجزئياته لا

٢٣٦

يغيب عنه شيء منه بدليل أنّ تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون ، وهو يخبر من شاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك القاصية والدانية والماضية والآتية فيكون كما أخبر ، وقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى) يكون فيه من كان التامة ، ومن نجوى فاعلها ، ومن مزيدة فيه أي : ما يقع من تناجي (ثَلاثَةٍ) ويجوز أن يقدره مضاف أي : أهل نجوى فيكون ثلاثة صفة لأهل وإن يؤوّل نجوى بمتناجين جعلوا نجوى مبالغة فيكون ثلاثة صفة لنجوى واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإنّ السر يرتفع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه وقوله تعالى : (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) استثناء من أعمّ الأحوال.

أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء في حال من الأحوال إلا وهو يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم وشاهدهم كما تكون نجواهم عند الرابع الذي يكون معهم (وَلا خَمْسَةٍ) أي : من نجواهم (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي : يعلم نجواهم كما مرّ.

فإن قيل : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ أجيب : بوجهين أحدهما : أن قوما من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) أي : من عددهم (وَلا أَكْثَرَ) أي : من ذلك (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يسمع ما يقولون (أَيْنَ ما) أي : في أي مكان (كانُوا) فإنه لا مسافة بينه وبين شيء فقد روي عن ابن عباس : أنها نزلت في ربيعة وخبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدّثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا وقال الثالث : إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأنّ من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها ، لأنّ كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم.

والوجه الثاني : أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندوبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النّهى والأحلام ورهط من أهل الرأي والتجارب ، وأوّل عددهم اثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، وحكم به الاستصواب.

ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع فذكر عزوجل الثلاثة والخمسة وقال (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) فدلّ على الاثنين والأربعة ، وقال : (وَلا أَكْثَرَ) فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته الكبرى أخرجها الحارث بن أبي أسامة رقى المنبر وقال : «يا أيها الناس ادنوا واسمعوا لمن خلفكم ثلاث مرات» فدنا الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض والتفتوا فلم يروا أحدا فقال : رجل منهم بعد الثالثة : لمن نسمع يا رسول الله الملائكة فقال : «لا أنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم» (١) وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي : يخبر أصحاب النجوى إخبارا عظيما (بِما عَمِلُوا) دقيقه وجليله (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي هو المراد

__________________

(١) حديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٢٣٧

الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار (أَنَّ اللهَ) الذي له الكمال كله (بِكُلِّ شَيْءٍ) أي : مما ذكر وغيره (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات.

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : تعلم علما هو كالرؤية (إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) فقيل : في اليهود وقيل : في المنافقين ، وقيل : في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال : «كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدجال فرقا منه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه قلنا بلى يا رسول الله قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» (١) ذكره الماوردي.

وقال ابن عباس : «نزلت في اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون : ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ) أي : على سبيل الاستمرار ، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفوا عنها (لِما نُهُوا عَنْهُ) أي : من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده (وَيَتَناجَوْنَ) أي : يقبل بعضهم على المناجاة إقبالا واحدا فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار.

وقرأ حمزة بعد الياء : بنون ساكنة وبعدها تاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم ، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم (بِالْإِثْمِ) أي : بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل (وَالْعُدْوانِ) أي : العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي : مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلا إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام.

فائدة : رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة ، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف ، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء

(وَإِذا جاؤُكَ) أي : يا أشرف الخلق (حَيَّوْكَ) أي : واجهوك بما يعدونه تحية (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي : الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون السام عليك ، والسام الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرد عليهم فيقول : وعليكم فقالت السيدة عائشة : السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم ، فقال

__________________

(١) أخرجه بنحوه أحمد في المسند ٣ / ٣٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ٣١٥ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٨٤ ، وابن كثير في تفسيره ٥ / ٢٠١ ، ٨ / ٦٨ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٩١.

٢٣٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، فقالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو لم تسمعي ما قلت ، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ» (١) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليك ما قلت» (٢) فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وروى أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» (٣) بالواو فقال بعض العلماء : إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأما ، وقال بعضهم : الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر :

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

(٤) أي : لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال : آخرون هي للاستئناف ، كأنه قيل : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة.

تنبيه : اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمر بذلك ، وقال مالك : ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك ، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث ، وقال بعضهم : يقول في الردّ علاك السلام أي : ارتفع عنك ، وقال بعض المالكية : يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة

ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم عبر عن ذلك بقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) من غير أن يطلع عليه أحد (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (يُعَذِّبُنَا اللهُ) أي : الذي له الإحاطة بكل شيء (بِما نَقُولُ) أي : لو كان نبينا لعذبنا الله بما نقول وقيل : قالوا إنه يردّ علينا ويقول : وعليكم السام فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب (حَسْبُهُمْ) أي : كافيهم في الانتقام (جَهَنَّمُ) أي : الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة (يَصْلَوْنَها) أي : يقاسون عذابها دائما ، فإنا قد أعددناها لهم (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : مصيرهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة (إِذا تَناجَيْتُمْ) أي : اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّا (فَلا تَتَناجَوْا) أي : توجدوا هذه الحقيقة (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي : الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود ، وقال مقاتل : أراد

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠٣٠.

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٣٣٠١ ، وابن ماجه حديث ٣٦٩٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩.

(٣) أخرجه البخاري في الاستئذان حديث ٦٢٥٨ ، ومسلم في السلام حديث ٢١٦٣.

(٤) عجزه :

نبا بطن حقف ذي قفاف عقنقل

والبيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ١٥ ، وأدب الكاتب ص ٣٥٣ ، والأزهية ص ٢٣٤ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٣ ، ٤٥ ، ولسان العرب (جوز) ، وتاج العروس (عقل) ، والمنصف ٣ / ٤١.

٢٣٩

تعالى بقوله : (آمَنُوا) المنافقين آمنوا بلسانهم ، وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم ، وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اقصدوا قصدا يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية (الَّذِي إِلَيْهِ) خاصة (تُحْشَرُونَ) أي : تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة ، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير ، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية.

(إِنَّمَا النَّجْوى) أي : المعهود وهي المنهي عنها (مِنَ الشَّيْطانِ) أي : مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى ، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه (لِيَحْزُنَ) أي : الشيطان (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم ، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق ، يقال : حزنه وأحزنه بمعنى ، قال في القاموس : أو أحزنه جعله حزينا.

وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن ، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس

(وَلَيْسَ) أي : الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي (بِضارِّهِمْ) أي : الذين آمنوا (شَيْئاً) من الضرر وإن قلّ (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئة الملك المحيط علما وقدرة.

فإن قيل : كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله؟ أجيب : بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى : لا يضرّهم الشيطان والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي : بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم الغلبة على الغزاة (وَعَلَى اللهِ) أي : الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم ، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه ، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة ، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة ، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإنّ ذلك يحزنه» (١) وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه» (٢) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة ، خرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله : من أجل أن يحزنه أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا ، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة

__________________

(١) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢١٨٤ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٧٧٥ ، والدارمي في الاستئذان حديث ٢٦٥٧.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

٢٤٠