تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

فسر اقتحام العقبة بذلك. قال أبو حيان : ولا يتمّ له هذا إلا على قراءة فك فعلا ماضيا. وعن مجاهد : أنّ قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على أن : لا بمعنى لم ولا يلزم التكرير مع لم فإن كرّرت لا كقوله تعالى (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) فهو كقوله تعالى : (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان : ٦٧].

تنبيه : ثم كان معطوف على اقتحم وثم للترتيب ، والمعنى : كان وقت الاقتحام من الذين آمنوا. وقال الزمخشري : جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت ، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره ، ولا يثبت عمل صالح إلا به. (وَتَواصَوْا ،) أي : وصبروا وأوصى بعضهم بعضا (بِالصَّبْرِ ،) أي : على الطاعة وعن المعصية والمحن التي يبتلى بها المؤمن.

(وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ،) أي : بالرحمة على عباده بأن يكونوا متراحمين متعاطفين ، أي : بما يؤدّي إلى رحمة الله تعالى.

(أُولئِكَ ،) أي : الموصوفون بهذه الصفات (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ،) أي : الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة. وقال محمد بن كعب : ، أي : الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقال يحيى بن سلام : لأنهم ميامين على أنفسهم. وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقال ميمون بن مهران : لأنّ منزلتهم عن اليمين. وقال الزمخشري : الميمنة اليمين أو اليمن.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا ،) أي : ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم (بِآياتِنا ،) أي : على ما لها من العظمة بالإضافة إلينا ، والظهور الذي لا يمكن خفاؤه من القرآن وغيره (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي : الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان قال محمد بن كعب : ، أي : الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقال يحيى بن سلام : لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر عليه‌السلام. وقال ميمون : لأنّ منزلتهم عن اليسار. وقال الزمخشري : المشأمة الشمال أو الشؤم.

قال القرطبي : ويجمع هذه الأقوال أصحاب الميمنة هم أصحاب الجنة وأصحاب المشأمة هم أصحاب النار.

(عَلَيْهِمْ ،) أي : خاصة (نارٌ مُؤْصَدَةٌ ،) أي : مطبقة وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة بالهمزة ، والباقون بغير همزة ، أي : بواو ساكنة ، وهما لغتان. يقال : أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته ، وقيل : معنى المهموز المطبقة ، وغير المهموز المغلقة. وإذا وقف حمزة أبدل على أصله. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٦١.

٦٢١

سورة الشمس

مكية ، وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمة ومائتان وسبعة وأربعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الأسماء الحسنى (الرَّحْمنِ) الذي يعلم السرّ وأخفى (الرَّحِيمِ) الذي خص خواصه بالفردوس الأعلى.

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

وقوله تعالى : (وَالشَّمْسِ ،) أي : الجامعة بين النفع والضرّ ، بالنور والحرّ (وَضُحاها) قسم وقد تقدّم الكلام على أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وقيل : التقدير ورب الشمس إلى تمام القسم. واختلف في قوله تعالى : (وَضُحاها) فقال مجاهد والكلبي : ضوئها وقال قتادة : هو النهار كله. وقال مقاتل : هو حرّها ، وقال لقوله تعالى في طه : (وَلا تَضْحى) [طه : ١١٩] ، أي : لا يؤذيك الحرّ. وقال البريدي : انبساطها. قال الرازي : إنما أقسم بالشمس لكثرة ما يتعلق بها من المصالح ، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل ، فلما ظهر الصبح في المشرق صار ذلك الضوء كالروح الذي تنفخ فيه الحياة فصارت الأموات أحياء ، ولا تزال تلك الحياة في القوّة والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحوة ، وذلك يشبه استقرار أهل الجنة.

(وَالْقَمَرِ ،) أي : المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول (إِذا تَلاها ،) أي : تبعها ، وذلك إذا سقطت رؤى الهلال. قال الليث : يقال تلوت فلانا إذا اتبعته. وقال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. وقال الفرّاء : تلاها ، أي : أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال الزجاج : تلاها ، أي : حين استوى ودار وكان مثلها في الضياء والنور وذلك في الليالي البيض.

(وَالنَّهارِ ،) أي : الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار (إِذا جَلَّاها ،) أي : الشمس بارتفاعه لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء وقيل : الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر ، كقولهم : أصبحت باردة يريدون الغداة ، وأرسلت يريدون السماء.

(وَاللَّيْلِ ،) أي : الذي هو ضدّ النهار فهو محل السكون والانقباض (إِذا يَغْشاها ،) أي :

٦٢٢

يغطيها بظلمته فتغيب وتظلم الآفاق وقيل : الكناية للأرض ، أي : يغشى الدنيا بالظلمة فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور ، وجيء يغشاها مضارعا دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل ؛ إذ لو أتى به ماضيا لكان التركيب إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.

تنبيه : إذا في الثلاثة لمجرّد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.

(وَالسَّماءِ وَما ،) أي : ومن (بَناها ،) أي : خلقها على هذا السقف المحكم. أقسم تعالى بنفسه وبأعظم مخلوقاته.

وقوله تعالى : (وَالْأَرْضِ ،) أي : التي هي فراشكم (وَما ،) أي : ومن (طَحاها ،) أي : بسطها وسطحها على الماء كذلك.

وكذا قوله تعالى : (وَنَفْسٍ ،) أي : أي نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره (وَما ،) أي : ومن (سَوَّاها ،) أي : عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها ، وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. فإن قيل : لم نكرت النفس؟ أجيب : بوجهين :

أحدهما : أنه يريد نفسا خاصة من بين النفوس ، وهي نفس آدم عليه‌السلام ، كأنه قال تعالى : وواحدة من النفوس.

ثانيهما : أنه يريد كل نفس ، ونكره للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤] وإنما أوثرت ما على من فيما ذكر لإرادة الوصفية بما ضمنا وإن لم يوصف بلفظها ؛ إذ المراد أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته ، ولذلك مثلوا بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] وقدّروها بانكحوا الطيب ، وهذا تنفرد به ما دون من. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم.

أقسم الله تعالى بأنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمّل المكلف فيها ويشكر عليها ، لأنّ الذي يقسم الله تعالى به يحصل به روح في القلب فتكون الدواعي إلى تأمّله أقرب.

(فَأَلْهَمَها ،) أي : النفس (فُجُورَها وَتَقْواها) قال ابن عباس رضي الله عنهما : بين لها الخير والشرّ ، وعنه : علمها الطاعة والمعصية. وعن أبي صالح : عرّفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.

قال البغوي : وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ، أشيء قضي عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثبتت الحجة عليهم؟ قلت : بل شيء قضى عليهم ، ومضى عليهم ، فقال : أفلا يكون ظلما؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا وقلت : إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلا من جهينة أو مزينة أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة ، فقال : في شيء قد مضى عليهم ، قال فقلت : ففيم العمل الآن؟ قال : من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها». وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى :

٦٢٣

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(١). وعن جابر قال : «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، أو فيما يستقبل؟ قال : «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا وكل ميسر لما خلق له» (٢).

واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه : (قَدْ أَفْلَحَ ،) أي : ظفر بجميع المرادات ، والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل : إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعا لقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، والجواب محذوف تقديره : ليدمدمن الله عليهم ، أي : أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود ؛ لأنهم قد كذبوا صالحا أو لتبعثن وقيل : هو على التقديم والتأخير من غير حذف.

والمعنى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ،) أي : طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها ، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة (وَقَدْ خابَ ،) أي : خسر (مَنْ دَسَّاها ،) أي : أغواها إغواء عظيما أو أفسدها وأهلكها بخبائث الاعتقادات ، ومساوئ الأعمال وقبائح السيئات. (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) وفاعل زكاها ودساها ضمير من ، وقيل : ضمير الباري سبحانه ، أي : قد أفلح من زكاها بالطاعة ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ،) أي : خسرت نفس دساها الله تعالى بالمعصية. وأنكر الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه ، ولكن قال بعض المفسرين : الحق أنه خلاف الظاهر لا كما قاله الزمخشري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خابت نفس أضلها الله تعالى وأغواها ، وأصل الزكاة النموّ والزيادة ، ومنه زكى الزرع إذا كثر ريعه ، ومنه تزكية القاضي الشاهد ؛ لأنه يرفعه بالتعديل. وأصل دساها دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء فأبدل من السين الثانية ياء ، والمعنى : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية ، وعن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمّ» (٣). وفي رواية : «والهرم وعذاب القبر اللهمّ آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن دعوة لا يستجاب لها» (٤).

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ) وهم قوم صالح ، كذبوا رسولهم صالحا عليه‌السلام وأنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم ؛ لأنّ كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم (بِطَغْواها ،) أي : أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى ، أي : طغيانها. وقيل : إن الباء للاستعانة. قال الزمخشري : مثلها في كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم ، وتركوا القلب في الصفة ، فقالوا : امرأة خزيا وصديا ، يعني : فعلت

__________________

(١) انظر البغوي في تفسيره ٥ / ٢٥٩.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٣) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٢٣ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٧٠٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٥٤٠ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٨٤ ، والنسائي في الاستعاذة حديث ٥٤٤٨.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٧١ ، ٦ / ٢٠٩.

٦٢٤

التكذيب بطغيانها كما تقول : ظلمني بجراءته على الله تعالى. وقيل : كذبت بما أوعدت به من عذاب ذي الطغوى كقوله تعالى : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥].

(إِذِ ،) أي : تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين (انْبَعَثَ أَشْقاها ،) أي : قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب ، وكذبوا صالحا عليه‌السلام انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف وكان رجلا أشقر أزرق قصيرا فعقر الناقة ، وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها انبعث لها رجل عزيز عارم متبع في أهله مثل أبي زمعة» (١). وقوله : عارم ، أي : شديد ممتنع. قال الزمخشري : ويجوز أن يكونوا جماعة. والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

تنبيه : إذ منصوب بكذبت أو بطغواها.

(فَقالَ لَهُمْ ،) أي : بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى (رَسُولُ اللهِ ،) أي : صالح عليه‌السلام ، وعبر بالرسول لأنّ وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا ، ولذلك قال تعالى مشيرا بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى. وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة (ناقَةَ اللهِ ،) أي : الملك الأعظم الذي له الأمر كله ، وهي منصوبة على التحذير كقولك : الأسد الأسد ، والصبي الصبي بإضمار اتقوا أو احذروا ناقة الله. (وَسُقْياها ،) أي : وشربها في يومها ، وكان لها يوم ولهم يوم ؛ لأنهم لما اقترحوا الناقة فأخرجها لهم من الصخرة جعل لهم شرب يوم من بئرهم ، ولها شرب يوم فشق عليهم. وإضافة الناقة إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله.

(فَكَذَّبُوهُ ،) أي : صالحا عليه‌السلام بطغيانهم في وعيدهم بالعذاب (فَعَقَرُوها ،) أي : عقرها الأشقى بسبب ذلك التكذيب ، وأضيف إلى الكل ؛ لأنهم رضوا بفعله ، وإن كان العاقر جماعة فواضح. وقال قتادة : بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. وقال الفرّاء : عقرها اثنان ، والعرب تقول : هذان أفضل الناس وهذان خير الناس ، وهذه المرأة أشقى القوم ولهذا لم يقل أشقياها.

(فَدَمْدَمَ) أي فأطبق (عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ،) أي : الذي أحسن إليهم فغمرهم إحسانه فقطعه عنهم بسبب تكذيبهم فأهلكهم وأطبق عليهم العذاب ، يقال : دمدمت عليه القبر أطبقته عليه (بِذَنْبِهِمْ ،) أي : بسبب كفرهم وتكذيبهم وعقرهم الناقة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ ،) أي : بجرمهم. وقال القشيري : وقيل : دمدمت على الميت التراب ، أي : سوّيته عليه. فالمعنى على هذا : فجعلهم تحت التراب ، (فَسَوَّاها ،) أي : فسوّى عليهم الأرض فجعلهم تحت التراب وعلى الأوّل فسوّى الدمدمة عليهم ، أي : عمهم بها فلم يفلت منهم أحدا.

وقرأ (وَلا يَخافُ) نافع وابن عامر بالفاء ، والباقون بالواو فالفاء تقتضي التعقيب ، والواو يجوز أن تكون للحال ، وأن تكون للاستئناف الإخباري. وضمير الفاعل في يخاف الأظهر عوده على الله تعالى ؛ لأنه أقرب مذكور ، وهو قول ابن عباس ، ويؤيده قراءة الفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية والهاء في قوله تعالى : (عُقْباها) ترجع إلى الفعلة ، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحقّ.

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ٧ / ٢٤١.

٦٢٥

وكل من فعل فعلا بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.

وقيل : المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك. وقيل : المعنى أنه تعالى بالغ في الإنذار إليهم مبالغة كمن لا يخاف عاقبة عذابهم. وقيل : يرجع ذلك إلى رسولهم صالح عليه‌السلام ، أي : لا يخاف عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم ونجاه الله وأهلكهم. وقال السدّي : يرجع الضمير إلى أشقاها ، أي : انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء.

وقرأ الكسائي جميع رؤوس آي هذه السورة بالإمالة محضة ، وقرأها أبو عمرو بين بين ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، وأمال حمزة مثل الكسائي إلا (تلاها) و (ضحاها) ففتحهما ، والباقون بالفتح واتفقوا على فتح (فعقروها). وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٦٥.

٦٢٦

سورة والليل

مكية ، وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الحق المبين (الرَّحْمنِ) الذي عمّ رزقه العالمين (الرَّحِيمِ) الذي خص بجنته المؤمنين.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

وقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ ،) أي : الذي هو آلة الظلام (إِذا يَغْشى) قسم. وقد مرّ الكلام على ذلك ، ولم يذكر تعالى مفعولا للعلم به ، فقيل : يغشى بظلمته كل ما بين السماء والأرض ، وقيل : يغشى النهار ، وقيل : الأرض ، وقيل : الخلائق. قال قتادة : أوّل ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، والنور نهارا مضيئا مبصرا.

وقوله تعالى : (وَالنَّهارِ ،) أي : الذي هو سبب انكشاف الأمور (إِذا تَجَلَّى ،) أي : تكشف وظهر قسم آخر. قال الرازي : أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب ، ويغشاهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى ؛ لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة ، وجاء الوقت الذي تتحرّك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوامّ من مكانها ، فلو كان الدهر كله ليلا لتعذّر المعاش ، ولو كان كله نهارا لبطلت الراحة ، لكن المصلحة في تعاقبهما كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [إبراهيم : ٣٣]. (وَما) بمعنى من أي : ومن (خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ،) أي : فيكون قد أقسم بنفسه ، أو مصدرية ، أي : وخلق الله الذكر والأنثى وجاز إضمار اسم الله تعالى لأنه معلوم لانفراده بالخلق ؛ إذ لا خالق سواه والذكر والأنثى آدم وحوّاء عليهما‌السلام ، أو كل ذكر وأنثى من سائر الحيوانات. والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة ، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق ذكرا ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلا كان حانثا ، لأنه في الحقيقة ذكر أو أنثى

٦٢٧

وإن كان مشكلا عندنا. وقيل : كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.

وقوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ ،) أي : عملكم (لَشَتَّى) جواب القسم ، والمعنى : إنّ أعمالكم لتختلف ، فعامل للجنة بالطاعة وعامل للنار بالمعصية ، ويجوز أن يكون محذوفا كما قيل في نظائره المتقدّمة ، وشتى : واحده شتيت مثل : مريض ومرضى ، وإنما قيل للمختلف شتى : لتباعد ما بين بعضه وبعضه ، أي : إنّ عملكم المتباعد بعضه من بعض لشتى ؛ لأنّ بعضه ضلال وبعضه هدى ، أي : فيكم مؤمن وبر وكافر وفاجر ، ومطيع وعاص. وقيل : لشتى ، أي : لمختلف الجزاء ، فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار. وقيل : لمختلف الأخلاق فمنكم راحم وقاس وحليم وطائش وجواد وبخيل قال بعض المفسرين : نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان بن حرب. وروى أبو مالك الأشعري «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (١) ، أي : مهلكها.

وقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ،) أي : وقع منه إعطاء على ما حدّدناه له وأمرناه به (وَاتَّقى ،) أي : ووقعت منه التقوى ، وهي إيجاد الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفا من سطواتنا.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) تفصيل مبين لتشتيت المساعي. واختلف في الحسنى فقال ابن عباس : أي : بلا إله إلا الله. وقال مجاهد : بالجنة لقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦]. وقال زيد بن أسلم : الصلاة والزكاة والصوم.

(فَسَنُيَسِّرُهُ) أي : نهيئه بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه (لِلْيُسْرى ،) أي : لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل فعلها. وقال زيد بن أسلم : لليسرى ، أي : للجنة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نفس منفوسة إلا كتب الله تعالى مدخلها ، فقال القوم : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ميسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)(٢).

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) أي : أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه. (وَاسْتَغْنى) أي : طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب ، أو وجده بما زعمت له نفسه الخائنة وظنونه الكاذبة فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى.

(وَكَذَّبَ) أي : أوقع التكذيب لمن يستحق التصديق (بِالْحُسْنى) أي : فأنكرها وكان عامدا مع المحسوسات كالبهائم.

(فَسَنُيَسِّرُهُ) أي : نهيئه (لِلْعُسْرى) أي : للخلة المؤدية إلى العسرة والشدة كدخول النار.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥١٧ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٨٠ ، والدارمي في الطهارة حديث ٦٥٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٤٢.

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٣٣٤٤ ، وعبد الرزاق في المصنف ٢٠٠٧٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٨٠.

٦٢٨

وعن ابن عباس قال : نزلت في أمية بن خلف ، وعنه فسنيسره للعسرى ، أي : سأحول بينه وبين الإيمان بالله ورسوله.

وعنه أيضا (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ،) أي : بماله واستغنى عن ربه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ،) أي : بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله سبحانه : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ : ٣٩] وقال مجاهد : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ،) أي : بالجنة ، وعنه بلا إله إلا الله.

ويجوز في ما في قوله تعالى :

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) أن تكون نافية ، أي : لا يغني عنه ماله شيئا وأن تكون استفهاما إنكاريا ، أي : أيّ شيء يغني عنه ماله (إِذا تَرَدَّى) قال أبو صالح : أي إذا سقط في جهنم. وقيل : هو كناية عن الموت كما قال القائل (١) :

نصيبك مما تجمع الدهر كله

رداآن تطوى فيهما وحنوط

ولما عرفهم سبحانه أنّ سعيهم شتّى وبين ما للمحسنين من اليسرى وما للمسيئين من العسرى أخبرهم بأنّ عليه بيان الهدى من الضلال بقوله تعالى :

(إِنَّ عَلَيْنا ،) أي : بما لنا من القدرة والعظمة (لَلْهُدى ،) أي : للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا ، أو بمقتضى حكمتنا فنبين طريق الهدى من طريق الضلال ليمتثل أمرنا بسلوك الأوّل ، ونهينا عن ارتكاب الثاني. وقال الفراء : معناه إن علينا للهدى والإضلال فحذف المعطوف ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وهو معنى قول ابن عباس : يريد أرشد أوليائي للعمل بطاعتي ، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي ، وهو معنى الإضلال. وقيل : معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله تعالى سبيله كقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل : ٩].

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ،) أي : لنا ما في الدنيا والآخرة فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق. وعن ابن عباس قال : ثواب الدنيا والآخرة. وهو كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤].

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ،) أي : حذرتكم وخوّفتكم يا أيها المخالفون للطريق الذي بينته (ناراً تَلَظَّى) بحذف إحدى التاءين من الأصل ، أي : تتلهب وتتوقد وتتوهج ، يقال : تلظت النار تلظيا ، ومنه سميت جهنم لظى. وقرأ البزي في الوصل بتشديد التاء وهو عسر لالتقاء الساكنين على غير حدّهما ، وهو نظير قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) [النور : ١٥] والباقون بغير تشديد.

(لا يَصْلاها ،) أي : لا يقاسي شدّتها على طريق اللزوم والانغماس (إِلَّا الْأَشْقَى ،) أي : الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر فإنّ الفاسق وإن دخلها لم يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله تعالى : (الَّذِي كَذَّبَ) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتَوَلَّى ،) أي : عن الإيمان ، أو كذب الحق وأعرض عن الطاعة أو الأشقى بمعنى الشقي كقوله : لست فيها بأوحد ، أي : واحد. والحصر مؤوّل لقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فيكون المراد الصليّ المؤبد.

(وَسَيُجَنَّبُهَا ،) أي : النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه (الْأَتْقَى ،) أي : الذي اتقى الشرك

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٢٩

والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلا أن يدخلها ويصلاها ، ومفهوم ذلك على التفسير الأوّل أنّ من أتقى الشرك دون المعصية لا يتجنبها ولا يلزم ذلك صليها ولا يخالف الحصر السابق ، أو الأتقى بمعنى التقي على وزان ما مرّ.

(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ ،) أي : يصرفه في وجوه الخير لقوله تعالى : (يَتَزَكَّى) فإنه بدل من يؤتى أو حال من فاعله فعلى الأوّل : لا محل له لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلة لا محل لها. وعلى الثاني : محله نصب. قال البغوي : يعني أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه في قول الجميع. قال ابن الزبير : كان يبتاع الضعفة فيعتقهم ، فقال له أبوه : أي بنيّ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، فقال : منع ظهري أريد ، فأنزل الله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) إلى آخر السورة. وذكر محمد بن إسحاق قال : كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح واسم أمّه حمامة ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، فيقول : وهو في ذلك أحد أحد. قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال : مرّ به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك ، وكانت دار أبي بكر في بني جمح ، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين ، قال : أنت أفسدته فأنقذه مما ترى ، قال أبو بكر : أفعل عندي غلام أسود أجلد منه ، وهو على دينك أعطيكه ، قال : قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه. وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر وبلال سابعهم ، وهم عامر بن هبيرة شهد بدرا وأحدا ، وقتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأعتق أمّ عميس فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى ، فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان ، فرد الله تعالى بصرها وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأة لبني عبد الدار ، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول لهما : والله لا أعتقكما أبدا ، فقال أبو بكر : كلا يا أمّ فلان ، فقالت : كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما ، قال : فبكم؟ قالت : بكذا وكذا ، قال : قد أخذتهما وهما حرّتان. ومرّ بجارية من بني المرسل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها.

وقال سعيد بن المسيب : بلغني أنّ أمية بن خلف قال له أبو بكر في بلال : أتبيعه؟ قال : نعم أبيعه بقسطاس عبد لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا ، حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى ، فأبغضه أبو بكر فلما قال له أمية : أبيعه بغلامك قسطاس اغتنمه أبو بكر وباعه به. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : عذب المشركون بلالا وبلال يقول أحد أحد ، فمرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أحد ـ يعني الله تعالى ـ ينجيك ، ثم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : يا أبا بكر إنّ بلالا يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانصرف إلى منزله فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف ، فقال له : أتبيعني بلالا قال : نعم فاشتراه فأعتقه ، فقال : المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده» فأنزل الله تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ ،) أي : أبي بكر (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ،) أي : يد يكافئه عليها.

وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ) استثناء منقطع ، أي : لم يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء (وَجْهِ رَبِّهِ ،) أي : المحسن إليه (الْأَعْلى) وطلب رضاه. ويجوز أن يكون متصلا عن محذوف مثل لا يؤتى (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) لا لمكافأة نعمة (وَلَسَوْفَ

٦٣٠

يَرْضى) ، أي : بما يعطى من الثواب في الجنة. وروي عن عليّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالا» (١) والآية تشمل من فعل مثل فعله فيبعد عن النار ويثاب. وقرأ حمزة والكسائيّ (يغشى) ، (تجلى) ، و (الأنثى) ، (لشتى) ، (من أعطى) ، (وأتقى) ، (وصدّق بالحسنى) (واستغنى بالحسنى) ، (تردّى) ، (للهدى) ، (والأولى) ، (تلظى) ، (الأشقى) ، (وتولى) ، (الأتقى) ، (يتزكى) ، (تجزى) ، (الأعلى) ، (يرضى) بالإمالة محضة في جميع ذلك ، وأمال ورش جميع ذلك بين بين والفتح عنه قليل ، وله في من أعطى الفتح وبين اللفظين سواء ، وأمال أبو عمرو بين بين إلا (من أعطى) لأنه ليس برأس آية ، والباقون بالفتح ، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي (لليسرى) (للعسرى) بالإمالة محضة ، وورش بين اللفظين والباقون بالفتح ، وأمال حمزة والكسائي (يصلاها) محضة ولورش الفتح وبين اللفظين وإذا فتح اللام وإذا أمال رققها ، وأمّا (الأشقى) و (الأتقى) فلا يمالان إلا في الوقف دون الوصل. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة والليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٣٧١٤ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٦١٢٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٣١٢٤ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٧٦ ، والطبراني في الأوسط ٥٩٠٦.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٦٧.

٦٣١

سورة الضحى

مكية ، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وسبعون حرفا.

ولما نزلت كبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسنّ التكبير آخرها وروي الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها وهو الله أكبر أو لا إله إلا الله والله أكبر.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك ذي الجلال والإكرام (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بنعمته الخاص والعام (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ودّه بإتمام الإنعام.

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

وقوله تعالى : (وَالضُّحى) قسم ، وقد مرّ الكلام على ذلك وخصه بالقسم لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه‌السلام وألقى السحرة فيها سجدا ، وهو صدر النهار كله بدليل أنه قابله بالليل في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ ،) أي : الذي به تمام الصلاح (إِذا سَجى ،) أي : سكن وركد ظلامه يقال ليلة ساجية ساكنة الريح وقيل : معناه سكون الناس والأصوات فيه ، وسجى البحر : سكنت أمواجه ، وطرف ساج فاتر.

وقال قتادة : أقسم بالضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى وبليلة المعراج التي عرج فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى قدّم هنا الضحى وفي السورة التي قبلها الليل؟ أجيب : بأنّ لكل منهما أثرا عظيما في صلاح العالم.

ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وللنهار فضيلة النور فقدّم سبحانه هذا تارة وهذا أخرى ، كالركوع والسجود في قوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج : ٧٧] وقوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] أو أنه قدّم الليل في سورة أبي بكر لأنّ أبا بكر سبقه كفر ، وقدّم الضحى في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه نور محض ولم يتقدّمه ذنب ، أو أنّ سورة والليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أنّه لا واسطة بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

فإن قيل : ما الحكمة في كونه تعالى ذكر الضحى ، وهو ساعة وذكر الليل بجملته؟ أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أن ساعة من نهار توازن جميع الليل كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوازن جميع الأنبياء

٦٣٢

عليهم‌السلام ، وأيضا الضحى وقت السرور والليل وقت الوحشة ففيه إشارة إلى أنّ سرور الدنيا أقل من شرورها ، وأنّ هموم الدنيا أدوم من سرورها ، فإنّ الضحى ساعة والليل ساعات.

ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت : أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلا ونادرا ، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل ؛ لأنه يشبه الموت.

وقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ ،) أي : تركك يا أشرف الرسل تركا تحصل به فرقة كفرقة المودّع ، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع (رَبُّكَ ،) أي : المحسن إليك جواب القسم (وَما قَلى ،) أي : وما أبغضك بغضا ما ، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [الأحزاب : ٣٥] أي الله.

تنبيه : اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :

أحدها : ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال : «اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلتين أو ثلاثا فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب ، فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث» (١) فنزلت.

ثانيها : ما روى أبو عمرو قال : «أبطأ جبريل عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية».

ثالثها : ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّ جروا دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه‌السلام لا يأتيني؟ قالت خولة : فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة ، فقال : يا خولة ، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة (٢).

ولما نزل جبريل عليه‌السلام سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التأخير فقال : أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة» (٣).

رابعها : ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤] فأخبره بما سئل عنه ، وفي هذه القصة نزلت ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ» (٤) واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير : اثنا عشر يوما. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما. وقال مقاتل : أربعون يوما. قالوا : وقال المشركون : إنّ محمدا ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٩٥٠ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٩٧.

(٢) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٦١ ، والقرطبي في تفسيره ٢ / ٩٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٣٨ ، والطبراني في المعجم الكبير ٢٤ / ٢٤٩.

(٣) أخرجه البخاري في اللباس حديث ٥٩٦٠.

(٤) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٩٣ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ٢٦٥.

٦٣٣

ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبريل عليه‌السلام : إني كنت إليك أشدّ شوقا ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)(١) [مريم : ٦٤].

(وَلَلْآخِرَةُ) التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر (خَيْرٌ لَكَ ،) أي : لما فيها من الكرامات لك (مِنَ الْأُولى ،) أي : الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه : (لَكَ) لأنها ليست خيرا لكل أحد.

قال البقاعي : إنّ الناس على أربعة أقسام : منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء ، ومنهم : من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء ، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء ، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا» (٢).

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ،) أي : بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة (رَبُّكَ ،) أي : المحسن إليك بسائر النعم في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا (فَتَرْضى ،) أي : به فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا لا أرضى وواحد من أمّتي في النار» (٣). وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع يديه وقال : «اللهمّ أمّتي أمّتي وبكى فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمّتك ولا نسوؤك» (٤). وعن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئا» (٥) وعن عوف بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني آت من عند ربي يخيرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئا» (٦). وعن شريح قال : سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ يقول : إنكم معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وفي هذا موعد لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الفتح والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وأنهبتهم من كنوز الأكاسرة وما

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟» أخرجه بهذا اللفظ البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢١٨ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣١٥٨.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ١٠٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٨٦٧٧.

(٣) انظر القرطبي في تفسير ٢٠ / ٩٦.

(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٠٢ ، والنسائي في السنن الكبرى ، في التفسير.

(٥) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٩٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٦٠٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٠٧ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ٢٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٨١ ، ٢٩٥ ، ٢ / ٢٧٥ ، ٣٨١ ، ٣٩٦ ، ٤٢٦ ، ٤٨٦ ، ٤٨٧ ، ٣ / ١٣٤ ، ٢٠٨ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، ٢٥٨ ، ٢٧٦ ، ٢٩٢ ، ٣٨٤ ، ٣٩٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ٣٢٦.

(٦) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٣٢ ، وانظر الحاشية السابقة.

٦٣٤

قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين. ولما أعطاه في الآخرة من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.

قال ابن عباس : له في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قيل : ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ أجيب : بأنها لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك ، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم أو ابتداء فلام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد نبقي أن تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بدّ من تقدير مبتدأ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك.

فإن قيل : ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ أجيب : بأن معناه : أنّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة على أنه تعالى أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحال التي كان عليها.

فقال جل ذكره : (أَلَمْ يَجِدْكَ) وهو استفهام تقرير ، أي : وجدك (يَتِيماً) وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر ، وقيل : مات قبل ولادته وماتت أمّه وهو ابن ثمان سنين. (فَآوى ،) أي : بأن ضمك إلى عمك أبي طالب فأحسن تربيتك. وعن مجاهد : هو من قول العرب درة يتيمة إذا لم يكن لها نظير ، فالمعنى : ألم يجدك يتيما واحدا في شرفك فآواك الله تعالى بأصحاب يحفظونك ويحوطونك. وهذا خلاف الظاهر من الآية ، ولهذا قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنه من قولهم : درة يتيمة ، وأنّ المعنى : ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك. فإن قيل : كيف أنّ الله تعالى يمنّ بنعمه والمنّ بها لا يليق ، ولهذا ذمّ فرعون في قوله لموسى عليه‌السلام : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء : ١٨]؟ أجيب : بأنّ ذلك يحسن إذا قصد به تقوية قلبه ووعده بدوام النعمة ، فامتنان الله تعالى زيادة نعمة بخلاف امتنان الآدمي.

واختلفوا في قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فأكثر المفسرين على أنه كان ضالا عما هو عليه الآن من الشريعة فهداه الله تعالى إليها ، وقيل : الضلال بمعنى الغفلة كقوله تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢] ، أي : لا يغفل. وقال تعالى في حق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ٣]. وقال الضحاك : المعنى : لم تكن تدري القرآن وشرائع الإسلام فهداك إلى القرآن وشرائع الإسلام.

وقال السدي : وجدك ضالا ، أي : في قوم ضلال فهداهم الله تعالى بك ، أو فهداك على إرشادهم. وقيل : وجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها. وقيل : ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك كقوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [البقرة : ٢٨٢]. وقيل : وجدك طالبا للقبلة فهداك إليها. كقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] الآية ، ويكون الضلال بمعنى الطلب لأنّ الضال طالب وقيل : وجدك ضائعا في قومك فهداك إليهم ، ويكون الضلال ، بمعنى المحبة كما قال تعالى : (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف : ٩٥] ، أي : محبتك. قال الشاعر (١) :

هذا الضلال أشاب مني المفرقا

والعارضين ولم أكن متحققا

عجبا لعزة في اختيار قطيعتي

بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٣٥

وروى الضحاك عن ابن عباس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فردّه إلى عبد المطلب. وقال سعيد بن المسيب : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة عبد خديجة ، فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة ناقة فجاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل بها عن الطريق فجاء جبريل عليه‌السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة وردّه إلى القافلة ، فمنّ الله تعالى عليه بذلك وقيل : وجدك ضالا نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك. وقال كعب : إنّ حليمة لما قضت حق الرضاع جاءت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتردّه على عبد المطلب فسمعت عند باب مكة هنيأ لك يا بطحاء مكة اليوم يرد إليك النور والبهاء والجمال قالت : فوضعته لأصلح شأني فسمعت هدّة شديدة فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس أين الصبي؟ فقالوا : لم نر شيئا فصحت وا محمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصا ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم فإن شاء أن يرده إليك فعل ثم طاف الشيخ بالصنم وقبل رأسه ، وقال : يا رب لم تزل منتك على قريش وهذه السعدية تزعم أنّ ابنها قد ضلّ فردّه إن شئت فانكب على وجهه وتساقطت الأصنام ، وقالت إليك عنا أيها الشيخ فهلاكنا على يد محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد ، وقال : إنّ لابنك ربا لا يضيعه فاطلبيه على مهل فانحشرت قريش إلى عبد المطلب ، وطلبوه في جميع مكة فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرّع إلى الله تعالى أن يرده ، وقال (١) :

يا رب ردّ ولدي محمدا

اردده ربي واصطنع عندي يدا

فسمعوا مناديا ينادي من السماء معاشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وإنّ محمدا بوادي ثمامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل فإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان وبالورق. وفي رواية ما زال عبد المطلب يردّد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يديه ، وهو يقول : ألا تدري ماذا جرى من ابنك فقال عبد المطلب : ولم؟ فقال : إني أنخت الناقة وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة. قال ابن عباس : ردّه الله تعالى إلى جده بيد عدوّه كما فعل بموسى عليه‌السلام حين حفظه عند فرعون. وقيل : وجدك ضالا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق فهداك إلى ساق العرش. وقال بعض المتكلمين إذا وجدت العرب شجرة منفردة من الأرض لا شجرة معها سموها ضالة فيهدى بها إلى الطريق ، فقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَجَدَكَ ضَالًّا ،) أي : لا أحد على دينك بل أنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إليّ.

وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره فقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ،) أي : وجد قومك ضلالا فهداهم بك ، وقيل : غير ذلك. قال الزمخشري : ومن قال : كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه كان على خلوّهم من العلوم السمعية فنعم ، وإن أراد أنه كان على كفرهم ودينهم فمعاذ الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة ، فما بال الكفر والجهل بالصانع ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، وكفى بالنبيّ نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً ،) أي : فقيرا (فَأَغْنى) قال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق واختاره

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٣٦

الفراء ، وقال : لم يكن غنى عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه ، وذلك حقيقة الغنى. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه» (٢).

قيل : أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب ، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم. روى الزمخشري : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جعل رزقي تحت ظل رمحي» (٣). وقال الرزاي : العائل ذو العيلة ثم أطلق على الفقير ، ويجوز أن يراد ووجدك ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم فأغناك بما جعل لك من ربح التجارة ، ثم من كسب الغنائم.

وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما ، وآتيت فلانا كذا وفلانا كذا قال : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك ، قلت : بلى يا رب. قال : ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت : بلى يا رب» (٤). وفي رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قلت بلى يا رب» (٥).

ثم أوصاه باليتامى والمساكين والفقراء فقال تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ ،) أي : هذا النوع (فَلا تَقْهَرْ) قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما. وقال الفراء : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى ، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ، ثم قال بإصبعيه : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وهو يشير بإصبعيه» (٦).

تنبيه : اليتيم منصوب بتقهر ، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل ، ألا ترى أنّ اليتيم منصوب بالمجزوم وقد تقدّم على الجازم ، ولو تقدّم على لا ، لامتنع ؛ لأنّ المجزوم لا يتقدّم على جازمه كالمجرور لا يتقدّم على جاره وفي الآية دلالة على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ضمّ يتيما وكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجابا من النار يوم القيامة» (٧). وقال : «من مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة» (٨). وقال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٤٤٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٥١ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٧٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٣٧.

(٢) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠٥٤ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٤٨.

(٣) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٨٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٥٠ ، ٩٢.

(٤) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٥) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٢٥٤.

(٦) أخرجه ابن ماجه حديث ٣٦٧٩ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٤٩٧٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٩١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٩٩٤.

(٧) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٠١ ، وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٤٤ ، ٥ / ٢٩ ، بلفظ : «من ضم يتيما بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت ...».

(٨) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٨ / ٢٨٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ١٦٠.

٦٣٧

فإن قيل : ما الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليتم؟ أجيب : بوجوه :

أحدها : أن يعرف حرارة اليتيم فيرفق باليتيم.

ثانيها : يشاركه في الاسم فيكرمه لأجل ذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه ووسعوا له في المجلس» (١).

ثالثها : ليستند من أوّل عمره على الله تعالى فيشبه إبراهيم عليه‌السلام في قوله : «حسبي من سؤالي علمه بحالي» (٢).

رابعها : أنّ اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا عيبا لم يجدوا فيه مطعنا.

خامسها : جعله يتيما ليعلم كل أحد أن فضيلته ابتداء من الله تعالى لا من تعليم ، لأن من له أب فإنه يؤدّبه ويعلمه.

سادسها : اليتم والفقر نقص في العادة فكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلبا للعادة فيكون معجزة.

(وَأَمَّا السَّائِلَ ،) أي : الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال (فَلا تَنْهَرْ ،) أي : فلا تزجر ، يقال نهره وأنهره إذا زجره وأغلظ عليه القول ولكن ردّه ردا جميلا قال إبراهيم ابن أدهم : نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي : السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وقيل : المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين. وروى الزمخشري أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» (٣).

وقيل : أما أنه ليس السائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ،) أي : المحسن إليك بالنبوّة وغيرها (فَحَدِّثْ) بها فإن التحدّث بها شكرها ، وإنما يجوز لغيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا إذا قصد به اللطف وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة والستر أفضل ولو لم يكن في الذكر إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفى.

والمعنى : إنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك الله وهداك وأغناك ، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث ، واقتد بالله فتعطف على اليتيم وآوه فقد ذقت اليتم وهوانه ورأيت كيف فعل الله تعالى بك ، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر ، وحدث بنعمة الله كلها. ويدخل تحته هدايته الضلال وتعليمه الشرائع ، والقرآن مقتديا بالله تعالى في أن هداه من الضلالة.

وقال مجاهد : تلك النعمة هي القرآن ، والتحديث به أن يقرأ ويقرئ غيره. وعنه أيضا : تلك النعمة هي النبوّة ، أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقيل : تلك النعمة هي أن وفقك الله سبحانه

__________________

(١) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٣ / ٩١ ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٢٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥١٩٨.

(٢) أخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة ٢١ ، وابن الجوزي في زاد المسير ٥ / ٣٦٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٢٧.

(٣) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٦٢٥٣ ، ١٦٧٩١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٩٩.

٦٣٨

وتعالى فراعيت حق اليتيم والسائل فحدّث بها ليقتدي بك غيرك. وعن الحسن بن علي قال : إذا عملت خيرا فحدّث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء وظن أنّ غيره يقتدي به كما علم مما مرّ. وروي «أنّ شخصا كان جالسا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآه رث الثياب فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألك مال؟ قال : نعم. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» (١). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله جميل يحب الجمال» (٢) «ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده» (٣). فإن قيل : ما الحكمة في أن الله تعالى أخر حق نفسه عن حق اليتيم والسائل؟ أجيب : بكأنه يقول : أنا أغنى الأغنياء وهما محتاجان ، وحق المحتاج أولى بالتقديم وأختار قوله سبحانه وتعالى : فحدث على قوله تعالى فأخبر ليكون ذلك حديثا عنه لا ينساه ويعيده مرّة بعد أخرى.

وقرأ (وَالضُّحى ، سَجى ، قَلى ، الْأُولى ، فَتَرْضى ، فَآوى ، فَهَدى ، فَأَغْنى ،) حمزة والكسائيّ بإمالة محضة لكن حمزة لم يمل (سجى) ، وأمال ورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل ، والباقون بالفتح.

وروى أبيّ بن كعب «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بلغ الضحى كبر بين كل سورتين إلى أن يختم القرآن ، ويفصل بينهما بسكتة» (٤). وكان المعنى : في ذلك «أنّ الوحي تأخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر» (٥). قال مجاهد : قرأت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأمرني به ، وأخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره به. وبعض القرّاء لا يكبر لأنّ ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن.

وقال القرطبي : القرآن ثبت نقله بالتواتر سوره وآياته وحروفه بغير زيادة ولا نقصان فالتكبير ليس بقرآن.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة والضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل» (٦) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه بنحوه أبو داود حديث ٤٠٦٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٧٣ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ١٨١ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٩ / ٢٨١.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٩١ ، وأبو داود في اللباس حديث ٤٠٩١ ، والترمذي في البر حديث ١٩٩٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٣٣ ، ١٣٤ ، ١٥١.

(٣) تقدم الحديث بنحوه مع تخريجه قبل قليل.

(٤) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٥) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٦) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٧٤.

٦٣٩

سورة ألم نشرح

مكية ، وهي ثمان آيات وتسع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الظاهر الباطن الملك العلام (الرَّحْمنِ) الذي عمّ المخلوقين بالإنعام (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بدار السلام.

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

وقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ) استفهام تقرير ، أي : شرحنا بما يليق بعظمتنا (لَكَ) يا أشرف الخلق (صَدْرَكَ) بالنبوّة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق ، أو فسحناه بما أودعنا فيه من الحكم والعلوم وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي كان يكون معه العمى والجهل. وعن الحسن : ملىء حكمة وعلما.

وقيل : إنه إشارة إلى ما روي أنّ جبريل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صباه أو في يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيمانا وعلما.

فإن قيل : لم قال تعالى صدرك ولم يقل قلبك؟ أجيب : بأن محل الوسوسة هو الصدر كما قال تعالى : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥] وأبدلها بدواعي الخير فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب. وقال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة ، والشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب ، فإذا وجد مسلكا أغار فيه وثبت جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة ، فإذا طرد العدوّ في الابتداء حصل الأمن وانشرح الصدر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ولم يقل : ألم نشرح صدرك؟ أجيب : بوجهين :

أحدهما : كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعة لأجلي ، وأنا أيضا جميع ما أفعله لأجلك.

ثانيهما : أنّ فيه تنبيها على أنّ منافع الرسالة عائدة إليك لأجلك لا لأجلنا.

واختلف في قوله تعالى : (وَوَضَعْنا ،) أي : بما لنا من العظمة (عَنْكَ وِزْرَكَ) فقال الحسن ومجاهد : حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية وهو قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ

٦٤٠