التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

لله ، فلا تشملها عقوبة الحدّ التي هي جزاء سيئة ، لا تحلّ فيما لا يعود إلى مرتكبها ، فإنّ راحة الكف موضع السجود لله.

وللأستاذ الذهبي ـ هنا ـ محاولة غريبة يجعل من التفسير بالرأي قسمين : قسما جائزا وممدوحا ، وآخر مذموما غير جائز. وحاول تأويل حديث المنع إلى القسم المذموم.

قال : والمراد بالرأي هنا الاجتهاد ، وعليه فالتفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد ، بعد معرفة المفسّر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ، ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر.

قال : واختلف العلماء قديما في جواز تفسير القرآن بالرأي ، فقوم تشدّدوا في ذلك ولم يجيزوه ، وقوم كان موقفهم على العكس فلم يروا بأسا من أن يفسّروا القرآن باجتهادهم ، والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو ، وكل يعزّز رأيه بالأدلة والبراهين.

ثم جعل يسرد أدلّة لكل من الفريقين ، ويجيب عليها واحدة واحدة بإسهاب ، وأخيرا قال : ولكن لو رجعنا إلى أدلّة الفريقين وحلّلنا أدلتهم تحليلا دقيقا ؛ لظهر لنا أن الخلاف لفظي ، وأن الرأي قسمان :

قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول ، مع موافقة الكتاب والسنّة ، ومراعاة سائر شروط التفسير ، وهذا القسم جائز لا شكّ فيه.

وقسم غير جار على قوانين العربيّة ، ولا موافقة للأدلة الشرعيّة ، ولا مستوف

٨١

لشرائط التفسير ، وهذا هو مورد النهي ومحطّ الذمّ. (١)

قلت : أما تورّع بعض السلف عن القول في القرآن ، فلعدم ثقته بذات نفسه وضآلة معرفته بمعاني كلام الله. أما العلماء العارفون بمرامي الشريعة ، فكانوا يتصدّون التفسير عن جرأة علمية وإحاطة شاملة لجوانب معاني القرآن.

وأما التفسير بالرأي فأمر وقع المنع منه على إطلاقه ، وليس على قسم منه ، كما زعمه هذا الاستاذ.

والذي أوقعه في هذا الوهم ، أنه حسب التفسير بالرأي هنا بمعنى الاجتهاد ، في مقابلة التفسير بالمأثور ، ولا شك من جواز الاجتهاد في استنباط معاني الآيات الكريمة إن وقع عن طريقه المألوف.

حجّية ظواهر الكتاب

قد يزعم البعض أن هناك من يرى عدم جواز الأخذ بظواهر كلام الله تعالى ؛ حيث ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا يسبر غوره ولا يبلغ أقصاه ، ولا سيّما بعد كثرة الصوارف عن هذه الظواهر ، من تخصيص وتقييد ونسخ وتأويل.

غير أنّ هذا يتنافى والأمر بالتدبّر في آياته ، والحثّ على التعمّق فيها واستخراج لآلئها.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢).

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٣).

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٥٥ وص ٢٦٤.

(٢) محمد / ٢٤.

(٣) الدخان / ٥٨.

٨٢

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١).

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٢).

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٣).

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٤).

وقد رغّب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرجوع إلى القرآن عند مدلهمّات الأمور وعرض مشتبهات الأحاديث عليه ، وهكذا ندب الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام إلى فهم الأحكام من نصوص الكتاب ، والوقوف على رموزه ودقائقه في التعبير والبيان.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدّق. (٥) ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار. وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل. (٦) وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم (٧) ، ظاهره أنيق وباطنه عميق. له نجوم وعلى نجومه نجوم ، (٨)

__________________

(١) القمر / ١٧.

(٢) الزخرف / ٣.

(٣) الزمر / ٢٨.

(٤) ص / ٢٩.

(٥) يعني : إن شفع لأحد قبلت شفاعته ، وإن سعى بأحد صدّق.

(٦) أي جاء لبيان الحق وفصله عن الباطل ، وليس مجرد تفنّن في الكلام والأدب الرفيع.

(٧) فإنّ ظواهر القرآن هي بيان الأحكام التكليفية والتشريعات الظاهرة. أما باطنه فملؤه علم وحكمة وحقائق راهنة.

(٨) أي دلائل لائحة ، بعضها على بعض شاهدة.

٨٣

لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه. (١) فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة ، لمن عرف الصفة. (٢) فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره (٣) ، ينج من عطب ، ويتخلص من نشب. (٤) فإن التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور. فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص. (٥)

وبهذا المعنى قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى. فليجل جال بصره ، ويفتح للضياء نظره. فإن التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور». (٦)

والتفكر المندوب إليه هنا هو التعمّق في دلائل القرآن ودقائق تعبيره ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٧).

فالتفكر فيه ـ بعد التبيين والبيان ـ هو المندوب إليه ، وهي الغاية القصوى من

__________________

(١) لأنّه أتى بحديث لا يبلى على مرّ الدهور.

(٢) أي دلائله على الهداية واضحة لمن رام الاهتداء به ، فمن عرف هذا الوصف للقرآن أمكنه الاستفادة منه ، قال العلامة المجلسي : صفة التعرّف والاستنباط (مرآة العقول ، ج ١٢ ، ص ٤٧٩)

(٣) أي وليلتفت بنظره إلى هذا الوصف للقرآن ، وإنه هداية عامّة لكافة الناس ، دلائله واضحة ومعالمه لائحة ، لمن استهدى أدلّاء.

(٤) النشب : ما لا مخلص منه.

(٥) الكافي الشريف ، ج ٢ (كتاب فضل القرآن رقم ٢) ، ص ٥٩٨ ـ ٥٩٩. والمراد بحسن التخلص : الصدق في الاخلاص .. وقلة التربّص : كناية عن سرعة الإقدام وأن لا يكف بنفسه عن السعي في الخير.

(٦) الكافي الشريف ، ج ٢ ، ص ٦٠٠ ، رقم ٥.

(٧) النحل / ٤٤.

٨٤

نزول القرآن.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ، ولكنهم لا يبصرون» (١).

وقال : «إنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه» (٢).

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ألا لا خير في قراءة لا تدبّر فيها» (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنعم الله على عبد ، بعد الإيمان بالله ، أفضل من العلم بكتاب الله والمعرفة بتأويله» (٤).

ولما نزلت الآية (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)(٥) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبّرها». (٦)

وبعد ، فنقول : ويل لمن نظر في هذه الآيات الكريمة والأحاديث المأثورة عن أهل بيت الوحي والرسالة ، ولاكها بين لحييه ثمّ لم يتدبّرها بإمعان ، فأخذها بالهزل ولم يعتبرها الحكم الفصل.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٩٢ ، ص ١٠٧.

(٢) المحاسن البرقي ، ص ٢٦٧.

(٣) معاني الأخبار للصدوق ، ص ٦٧.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٩٢ ، ص ١٨٣.

(٥) آل عمران / ١٩١ ـ ١٩٢.

(٦) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥٥٤.

٨٥

وأيضا ، فإن أخبار العرض على كتاب الله ، خير شاهد على إمكان فهم معانيه والوقوف على مبانيه.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه».

وخطب بمنى ، وكان من خطبته : «أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله».

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».

وقال : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ، أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» (١).

وفي كثير من إرجاعات الأئمّة عليهم‌السلام أصحابهم إلى القرآن ، لفهم المسائل واستنباط الأحكام منه ، لدليل ظاهر على حجّية ظواهر القرآن ، وضرورة الرجوع إليه.

قال زرارة بن أعين : قلت لأبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟

فضحك ، وقال : يا زرارة ، قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل به الكتاب من الله ؛ لأن الله عزوجل قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل ، ثم قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنه

__________________

(١) الأحاديث مستخرجة من الكافي الشريف ، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ، ج ١ ، ص ٦٩ ، رقم ١ و ٥ و ٣ و ٢.

٨٦

ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ، ثم فصل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) أن المسح ببعض الرأس ، لمكان «الباء». ثم وصل الرجلين بالرأس ، كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(١) فعرفنا حين وصلهما بالرأس ، أنّ المسح على بعضهما.

ثم قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ). فأثبت بعض الغسل مسحا (٢).

فقد نبّه الإمام على أن زيادة «الباء» في مدخول فعل متعدّ بنفسه لا بدّ فيها من نكتة لافتة ، وليست سوى إرادة الاكتفاء بمجرد مماسّة الماسح مع الممسوح ؛ لأن الباء تدلّ على الربط والإلصاق ، والتكليف يتوجه إلى القيد الملحوظ في الكلام. فإذا وضع الماسح يده على رأسه وأمرّها عليه ، فبأوّل الإمرار يحصل التكليف فيسقط ، ولا دليل على الإدامة ، فالاستيعاب ليس شرطا في المسح.

هكذا نبّه الإمام على إمكان استفادة مثل هذا الحكم التكليفي الشرعي من الآية ، بإمعان النظر في قيود الكلام.

وعن عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري ، فجعلت على إصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟

__________________

(١) هذا بناء على قراءة «وأرجلكم» بالخفض ، كما هي أيضا قراءة مشهورة ، غير أنّ القراءة بالنصب من العطف على المحلّ كما رجّحناه فى مجاله المناسب ، غير أنّ خصوصيّة البعضيّة مفقودة فيها ، حسبما نبهنا عليه.

(٢) من لا يحضره الفقيه ـ أبو جعفر الصدوق ، ج ١ ، ص ٥٦ ـ ٥٧ ، باب ٢١ ، التيمم ، رقم ١ / ٢١٢. والكافي الشريف ، ج ٣ ، ص ٣٠. والوسائل ، ج ١ ، ص ٢٩١ (إسلامية)

٨٧

قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل ، قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) امسح عليه (٢).

يعني : أنّ آية نفي الحرج تدل على رفع التكليف ؛ حيث وجود ضرر أو حرج على المكلّف ، فيجب أن يفهم ذلك كلّ مسلم من القرآن ذاته.

وكذلك استدلالات الأئمّة عليهم‌السلام في كثير من الموارد ، بآيات قرآنية ، لإثبات مطلوبهم لدى المخاطبين ، ففي ذلك عرض مباشر لشمول فهم القرآن للعموم. وقد أتى سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ حفظه الله ـ بأمثلة على ذلك كثيرة ، فليراجع (٣).

نسبة خاطئة

نعم نسب إلى جماعة الأخباريين ـ في عصر متأخّر ـ ذهابهم إلى رفض حجّية الكتاب ، فلا يصح الاستناد إليه ولا استنباط الأحكام منه ، وهي نسبة غير صحيحة على إطلاقها ؛ إذ لم يذهب إلى هذا المذهب الغريب أحد من الفقهاء ، لا في القديم ولا في الحديث ، ولا لمسنا في شيء من استناداتهم الفقهية ما يشيء بذلك ، بل الأمر بالعكس.

ولعلّ فيما فرط من بعض المتطرّفين منهم بصدد المغالاة بشأن أهل البيت ـ وموضعهم القريب من القرآن المجيد ـ بعض تعابير أوجبت هذا الوهم ، ومع ذلك فإن له تأويلا ، وليس على ظاهره المريب.

__________________

(١) الحجّ / ٧٨.

(٢) الوسائل ، ج ١ ، ص ٣٢٧ ، رقم ٥.

(٣) البيان ، لسيدنا الإمام الخوئي ـ حفظه الله ـ ، ص ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

٨٨

قال المولى محمد أمين الاسترابادي (ت ١٠٣٣) :

«الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريين وطريقتهم. أما مذهبهم فهو أن كلّ ما يحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة ، عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى أرش الخدش. وأن كثيرا ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأحكام ، ومما يتعلق بكتاب الله وسنة نبيه ، من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل ، مخزون عند العترة الطاهرة ، وأن القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة (١) ، وكذلك كثير من السنن النبويّة. وأنه لا سبيل لنا في ما لا نعلمه من الأحكام النظريّة (٢) الشرعية ، أصليّة كانت أو فرعيّة ، إلا السماع من الصادقين عليهم‌السلام وأنه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر الكتاب ولا ظواهر السنن النبوية ، ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر عليهم‌السلام ، بل يجب التوقف والاحتياط فيهما» (٣).

وقال بصدد بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين من المسائل الشرعية ، أصليّة كانت أو فرعيّة ، في السماع عن الصادقين عليهم‌السلام.

«الدليل الثاني : حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ؛ إذ معناه : أنه يجب التمسّك بكلامهم عليهم‌السلام ليتحقّق التمسّك بالأمرين. والسرّ فيه أنه لا سبيل إلى فهم مراد الله (٤) إلّا من جهتهم ؛ لأنهم عارفون بناسخه ومنسوخه ، والباقي على إطلاقه ،

__________________

(١) أي على وجه الإجمال والإبهام من غير بيان التفصيل وذكر القيود والشرائط ، فإنها خافية على أذهان العامة غير المطلعين على الشرح والتبيين الذي جاء في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) مقصوده من الأحكام النظرية ، المسائل غير الضرورية التي هي بحاجة إلى اجتهاد وإعمال نظر.

(٣) الفوائد المدنية ، ص ٤٧.

(٤) أي المراد الجدّي ـ الذي لا يعرف إلّا بعد الفحص واليأس عن الصوارف من تخصيص أو تقييد أو قرينة مجاز ، دون المراد الاستعمالي المفهوم من ظاهر اللفظ لمجرد العلم بالوضع. ومن الواضح أن التسرّع في الأخذ بظاهر الاستعمال ، في نصوص الشريعة ، غير جائز ، إلّا بعد التريّث والفحص التام.

٨٩

والمؤوّل وغير ذلك ، دون غيرهم ، خصّهم الله والنبي بذلك» (١).

قلت : ليس في كلامه ـ ولا في كلام من تبعه من الأخباريين المتأخّرين ـ ما يشي بترك كتاب الله وإبعاده عن مجال الفقه والاستنباط. نعم سوى عدم إفراده في الاستناد ، ولزوم مقارنته بالمأثور من صحاح الأحاديث الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

ولا شك أنّ في القرآن أصول التشريع وكلياته ، وإيكال التفاصيل إلى بيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أودع الكثير من بيانه بشأن التشريع إلى خلفائه المرضيّين ، فعندهم ودائع النبوّة ، وهم ورثة الكتاب وحملته إلى الخلائق.

فلا يجوز إفراد الكتاب عن العترة ، ولا يفترقان حتى يردا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الحوض.

وهذا هو مراد الاسترابادي «لا يجوز استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر» ، أي بعد الفحص عن الدلائل في كلامهم بشأنهما ، إمّا العثور على بيان منهم ، أو اليأس من التخصيص أو التقييد ، فعند ذلك يجوز.

وللمولى الكبير محمد بن الحسن الحرّ العاملي (١٠٣٣ ـ ١١٠٤) بيان مسهب بشأن مواضع آل البيت من القرآن الكريم ، وأن لتفسيرهم بالذات مدخلية تامّة في

__________________

(١) الفوائد المدنية ، ص ١٢٨.

٩٠

فهم معاني الآيات ، ولا سيما آيات الأحكام.

وقد توسّع في الكلام حول ذلك في فوائده الطوسيّة (فائدة ٤٨) ، كما عقد لذلك أبوابا في كتاب القضاء من كتابه وسائل الشيعة ، ذكر فيها ما يقرب من مائتين وعشرين حديثا ، قال بشأنها :

«أوردنا منها ما تجاوز حدّ التواتر ، وهي لا تقصر سندا ولا دلالة عن النصوص على كل واحد من الأئمّة ، وقد تضمّنت أنه لا يعلم المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، وغير ذلك إلّا الأئمّة ، وأنه يجب الرجوع إليهم في ذلك ، وأنه لا يعلم تفسيره ولا تأويله ، ولا ظاهره ولا باطنه غيرهم ، ولا يعلم القرآن كما أنزل غيرهم ، وأن الناس غير مشتركين فيه كاشتراكهم في غيره ، وأنّ الله إنما أراد بتعميته (أي الإجمال والإبهام في لفظه) أن يرجع الناس في تفسيره إلى الإمام ، وأنه كتاب الله الصامت ، والإمام كتاب الله الناطق. ولا يكون حجة إلّا بقيّم (أي من يقوم بتبيينه وتفسيره) وهو الإمام ، وأنه ما ورث علمه إلّا الأئمّة ، ولا يعرف ألفاظه ومعانيه غيرهم ، وأنه لاحتماله للوجوه الكثيرة ، يحتج به كل محقّ ومبطل ، وأنه إنما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

وظاهر كلامه هو ظاهر عنوان الباب الذي عقده أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني ، في كتاب الحجة من الكافي الشريف ، لبيان : «أنه لم يجمع القرآن كله ولم يحط به علما ، ظاهره وباطنه ، سوى الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وأن علم المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص علما كاملا ، مودع

__________________

(١) الفوائد الطوسية ، ص ١٩١ ـ ١٩٢. وراجع : صفحات : ١٦٣ ـ ١٩٦. والوسائل ، ج ١٨ ، باب ٤ و ٥ و ٦ و ٧ من كتاب القضاء أبواب صفات القاضي. صفحات : ٩ ـ ٤١ (ط إسلاميه)

٩١

عندهم ، ورثوه من جدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وهذا شيء لا ينكر ، ولا يجوز الأخذ بظاهر الكتاب ، ما لم يرجع إلى ما ورد عن الرسول وخلفائه العلماء ، فإن في كلامهم التبيين والتفصيل لما جاء في القرآن من الإجمال والإبهام ، في التكليف والتشريع.

وهكذا فهم معاصره السيد نعمة الله الجزائري (١٠٥٠ ـ ١١١٢) من ظاهر الروايات ، وبذلك جمع بين متعارضاتها.

قال : «ذهب المجتهدون ـ رضوان الله عليهم ـ إلى جواز أخذ الأحكام من القرآن ، وبالفعل قد أخذوا الأحكام منه ، وطرحوا ما ظاهره المنافاة أو أوّلوه ، ومن ثم دوّنوا كتبا بشأن «آيات الأحكام» واستنبطوا منها ما هداهم إليه أمارات الاستنباط.

وأما الأخباريّون ـ قدّس الله ضرائحهم ـ فذهبوا إلى أن القرآن كله متشابه بالنسبة إلينا ، وأنه لا يجوز لنا أخذ حكم منه ، إلّا من دلالة الأخبار على بيانه.

قال : حتى أنّي كنت حاضرا في المسجد الجامع من شيراز ، وكان أستاذي المجتهد الشيخ جعفر البحراني ، وشيخي المحدّث صاحب جوامع الكلم ـ قدّس الله روحيهما ـ يتناظران في هذه المسألة. فانجرّ الكلام بينهما حتى قال له الفاضل المجتهد : ما تقول في معنى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟ فقال : نعم ، لا نعرف معنى «الأحديّة» ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك.

ثم عقّبه بكلام الشيخ في التبيان ـ على ما سنذكر ـ واردفه بتحقيق عن المولى

__________________

(١) الكافي الشريف (الأصول) ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

٩٢

كمال الدين ميثم البحراني ، بشأن حديث التفسير بالرأي. وأخيرا قال : وكلام الشيخ أقرب من هذا ، بالنظر إلى تتبع الأخبار ، والجمع بين متعارضات الأحاديث. وحاصل هذه المقالة : أن أخذ الأحكام من نصّ القرآن أو ظاهره أو فحواه ونحو ذلك ، جائز كما فعله المجتهدون.

قال : يرشد إلى ذلك ما رواه أمين الإسلام الطبرسي ـ في كتاب الاحتجاج ـ من جملة حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيه :

«إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه وشرح صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأمناؤه والراسخون في العلم» (١).

وأصرح من الجميع كلام الفقيه البارع الشيخ يوسف البحراني (١١٠٧ ـ ١١٨٦) في موسوعته الفقهية الكبرى (الحدائق الناضرة) ذكر أوّلا الأخبار من الطرفين ، ثم عقّبها بما حقّقه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠) في المقام ، وجعله (القول الفصل والمذهب الجزل) الذي تلقّاه العلماء بالقبول ، قال :

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي ـ بعد نقل الروايات المتعارضة والدلائل المتناقضة ـ ما ملخّصه : «أن معاني القرآن على أربعة أقسام :

أحدها : ما اختصّ الله تعالى بعلمه فلا يجوز لأحد التكلّف فيه. ولعل منه الحروف المقطعة في أوائل السور.

ثانيها : ما يكون ظاهره متطابقا مع معناه ، معروفا من اللغة والعرف ، لا غبار عليه. فهذا حجة على الجميع ، لا يعذر أحد الجهل به ، مثل قوله تعالى : (وَلا

__________________

(١) رسالة (منبع الحياة) ، ص ٤٨ ـ ٥٢ م ٥.

٩٣

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ ..)(١).

ثالثها : ما أجمل في تعبيره وأوكل التفصيل فيه إلى بيان الرسول ، كالأوامر بالصلاة والزكاة والحج والصيام ، فتكلّف القول فيه ـ من دون مراجعة دلائل الشرع ـ محظور منه.

رابعها : ما جاء مشتركا محتملا لوجوه فلا يجوز البتّ في تبيين مراده تعالى بالذات ، إلّا بدليل قاطع من نصّ معصوم أو حديث متواتر» (٢).

وبذلك قد جمع الشيخ بين روايات المنع ودلائل الترخيص ، باختلاف الموارد.

قال المحدّث البحراني ـ تعقيبا على كلام الشيخ ـ : «وعليه تجتمع الأخبار على وجه واضح المنار» (٣).

قلت : فهذا شيخ المحدثين ورائد الأخباريين في العصور المتأخرة نراه قد وافق القول مع شيخ الطائفة ورأس الأصوليين بشأن التفسير ، والخوض في فهم معاني كلام الله العزيز الحميد.

فيا ترى ، ما الذي يدعو إلى فرض الافتراق في هذا المجال العصيب!!

والحمد لله على ما أنعم علينا من لمس نعومة الوفاق وذوق حلاوة الاتفاق.

__________________

(١) الأنعام / ١٥١.

(٢) الحدائق الناضرة ، ج ١ ، ص ٣٢. وراجع : التبيان ، ج ١ ، ص ٥ ـ ٦. ورسالة (منبع الحياة) للسيد نعمة الله الجزائري ، ص ٤٨ ـ ٥١ (ط بيروت)

(٣) الحدائق الناضرة ، ج ١ ، ص ٣٢.

٩٤

دلائل مزعومة

لم نجد في كلام من يعتدّ به من المنتسبين إلى الأخباريّة احتجاجا يرفض حجيّة الكتاب ، سوى ما جاء في كلام غيرهم من حجج مفروضة ، ولعله تطوّع لهم في تدليل أو حدس وهموه بشأنهم ، وإليك أهم ما ذكروه :

١ ـ اختصاص فهم معاني القرآن بمن خوطب به.

٢ ـ احتواؤه على مطالب غامضة ، لا تصل إليها أفكار ذوي الأنظار.

٣ ـ النهي عن الأخذ بالمتشابه ، الشامل للظواهر أيضا ؛ لوجود احتمال الخلاف.

٤ ـ النهي عن التفسير بالرأي ، الشامل لحمل اللفظ على ظاهره.

٥ ـ العلم إجمالا بطروء التخصيص والتقييد والمجاز ، في كثير من ظواهر القرآن.

٦ ـ احتمال التحريف ولو بتغيير حرف عن موضعه.

قالوا : إنها حجج احتج بها نافو حجية ظواهر القرآن (١).

لكن المراجع يجد كلمات من نوّهنا عنهم خلوا عن مثل هذا الترصيف الغريب ، ولا سيّما مسألة التحريف لا تجدها في كلامهم البتة ، وإنما أوردها صاحب الكفاية تبعا للشيخ في الرسائل ، احتمالا في المقام ، من غير نسبته إلى الأخبارية أو غيرهم (٢).

__________________

(١) راجع : كفاية الأصول للمحقق الخراساني (آل البيت) ص ٢٨١ ـ ٢٨٢. والبيان للإمام الخوئي ، ص ٢٩١.

(٢) راجع : رسائل الشيخ (ط رحمة الله) ص ٤٠. والكفاية ، ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥. وقد حققنا عن مسألة التحريف في رسالة (صيانة القرآن)

٩٥

والعمدة : أن نظر القوم في مسألة حجّية الكتاب ، إنما يعود إلى جانب آيات الأحكام التي اكتنفها لفيف ـ في حجم ضخم ـ من الأحاديث المأثورة بوفرة ؛ حيث جاءت أصول الأحكام في الكتاب وفروعها في الأحاديث ، فلا تخلو آية من تلكم الآيات إلّا وحولها روايات عدّة.

وفي ذلك ـ بالذات ـ يقول الأخباريون ، كسائر الفقهاء الأصوليين : لا يجوز إفراد الكتاب بالاستنباط ، بعيدا عن ملاحظة الروايات الواردة بشأنها.

وهذا هو مقتضى التمسّك بالثقلين : الكتاب والعترة ، لا يفترقان بعضهما عن بعض.

نعم لا يتضايقون القول بجواز مراجعة سائر الآيات ، بشأن فهم معارف الدين والحكم والآداب مراجعة ذاتية (١) ، اللهمّ إلّا إذا وجدت رواية صحيحة صريحة المفاد ، فيجب ملاحظتها أيضا ، كما هي العادة المتعارفة عند المفسرين.

__________________

(١) راجع : الفوائد الطوسيّة للحرّ العاملي ، ص ١٩٤.

٩٦

منهج القرآن في الإفادة والبيان

إن للقرآن في إفادة معانيه منهجا يخصّه ، لا هو في مرونة أساليب كلام العامّة ، ولا هو في صعوبة تعابير الخاصّة ، جمع بين السهولة والامتناع ، وسطا بين المسلكين ، سهلا في التعبير والأداء ؛ بحيث يفهمه كل قريب وبعيد ، ويستسيغه كل وضيع ورفيع ، وهو في نفس الوقت ممتنع في الإفادة بمبانيه الشامخة ، والإدلاء بمراميه الشاسعة ، ذلك أنه جمع بين دلالة الظاهر وخفاء الباطن ، في ظاهر أنيق وباطن عميق.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق. له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه. فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة» (١).

«فما من آية إلّا ولها ظهر وبطن» ، كما في حديث آخر مستفيض (٢) ، فهناك

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ٢ ، ص ٥٩٩.

(٢) رواه الفريقان. راجع : تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١١. وبحار الأنوار ، ج ٨٩ (ط بيروت) ، ص ٨٨ ـ

٩٧

عبارات لائحة يستجيد فهمها العامّة فهما كانت لهم فيه قناعة نفسيّة كاملة ، ولكنّها إلى جنب إشارات غامضة كانت للخاصة ، فيحلّوا من عقدها ، ويكشفوا من معضلها ، حسبما أوتوا من مهارة علمية فائقة.

وبذلك قد وفّق القرآن في استعمالاته للجمع بين معان ظاهرة وأخرى باطنة ؛ لتفيد كل لفظة معنيين أو معاني متراصّة ، وربما مترامية حسب ترامي الأجيال والأزمان ، الأمر الذي كان قد امتنع حسب المتعارف العام ، فيما قال الأصوليون : من امتناع استعمال لفظة واحدة وإرادة معان مستقلة. لكن القرآن رغم هذا الامتناع نراه قد استسهله ، وأصبح منهجا له في الاستعمال.

كان ممن سلف من الأصوليين من يرى امتناع استعمال اللفظ وإرادة معنيين امتناعا عقليّا ، نظرا إلى أن حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللّفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى ؛ ولذا يسري إليه قبحه وحسنه. وعليه فلا يمكن جعل اللفظ كذلك إلّا لمعنى واحد ، ضرورة أن لحاظه كذلك لا يكاد يمكن إلّا بتبع لحاظ المعنى ، فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه الأوّل في نفس الوقت. هكذا جاء في تقرير كلام العلّامة الأصولي الكبير المحقق الخراساني (١).

وجاء الخلف ليجعلوا من هذا الامتناع العقلي ممكنا في ذاته ، وممتنعا في

__________________

٩٥.

(١) هو المولى محمد كاظم الخراساني صاحب كفاية الأصول. (راجع : حقائق الأصول للإمام الحكيم ، ج ١ ، ص ٨٩ ـ ٩٠)

٩٨

العادة ؛ حيث لم يتعارف ذلك ولم يعهد استعمال لفظة وإرادة معنيين مستقلّين في المتعارف العام ، فالاستعمال كذلك كان خلاف المتعارف حتى ولو كان ممكنا في ذاته ، نظرا لأن الاستعمال (استعمال اللفظة وإرادة المعنى) إنّما هو بمثابة جعل العلامة من قبيل الإشارات والعلائم الإخطاريّة ، فلا مانع عقلا من استعمال علامة لغرض الإخطار إلى معنيين أو أكثر ؛ إذا كان اللفظ صالحا له بالذات ، فيما إذا كان قد وضع لكلا المعنيين مشتركا لفظيا ، أو أمكن انتزاع مفهوم عام. نعم لم يعهد ذلك في الاستعمالات المتعارفة.

الأمر الذي استهسله القرآن وخرج على المتعارف ، وجعله جائزا وواقعا في استعمالاته. (١) فقد استعمل اللفظة وأراد معناها الظاهري ، حسب دلالته الأوّلى ، لكنه في نفس الوقت صاغ منه مفهوما عاما وشاملا ثانيا ، يشمل موارد أخر ليكون هذا المفهوم العام الثانوي هو الأصل المقصود بالبيان ، والضامن لبقاء المفاهيم القرآنية عامة وشاملة عبر الأيام ، وليست بالمقتصرة على موارد النزول الخاصة.

وكان المفهوم البدائي للآية ، والذي كان حسب مورد نزولها الخاص ، هو معناها الظاهر ، ويسمّى ب «التنزيل». أما المفهوم العام المنتزع من الآية الصالح للانطباق على الموارد المشابهة ، فهو معناها الباطن ، المعبّر عنه ب «التأويل» ، وهذا المفهوم الثانوي العام للآية هو الذي ضمن لها البقاء عبر الأيام.

سئل الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام عن الحديث المتواتر عن

__________________

(١) وذلك نظرا لإحاطته تعالى وشمول عنايته لجميع عباده. ولا يخفى أن المفهوم العام المنتزع من الآية ، هو بنفسه معنى آخر مقصود مستقلا وراء إرادة المعنى الظاهري الأوّلي ، فكل من المعنيين الظاهر والباطن مقصود بذاته ، وليس مندرجا تحت الآخر ، فهو من موضوع البحث وليس خارجا عنه ، كما زعم.

٩٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من آية إلّا ولها ظهر وبطن ...» ، فقال : «ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما قد مضى ومنه ما لم يجئ ، يجري كما تجري الشمس والقمر ، كلّما جاء شيء منه وقع ...» (١).

وقال : «ظهر القرآن : الذين نزل فيهم ، وبطنه : الذين عملوا بمثل أعمالهم» (٢).

وأضاف عليه‌السلام : «ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ، ثم مات أولئك القوم ، ماتت الآية ، لما بقي من القرآن شيء ، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ» (٣).

نعم كان العلم بباطن الآية ، أي القدرة على انتزاع مفهوم عام صالح للانطباق على موارد مشابهة ، خاصا بالراسخين في العلم ، وليس يفهمه كل أحد حسب دلالة الآية في ظاهرها البدائي.

والخلاصة : أنّ لتعابير القرآن دلالتين : دلالة بالتنزيل ؛ وهو ما يستفاد من ظاهر التعبير ، ودلالة أخرى بالتأويل ؛ وهو المستفاد من باطن فحواها ، وذلك بانتزاع مفهوم عام صالح للانطباق على الموارد المشابهة عبر الأيام. إذن أصبح القرآن ذا دلالتين : ظاهرة وباطنة ، الأمر الذي امتاز به على سائر الكلام.

مثلا آية الإنفاق في سبيل الله ، نزلت بشأن الدفاع عن حريم الإسلام ، فكان واجبا على المسلمين القيام بهذا الواجب الديني ؛ ليأخذوا بأهبة الأمر ويعدّوا له عدّته ، ومنها بذل الأموال فضلا عن بذل النفوس. هذا شيء كان واجبا على عامّة المكلّفين أنفسهم كلّ حسب إمكانه ، هذا ما يفهم من ظاهر الآية البدائي.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٩ (ط بيروت) ، ص ٩٤ ، رقم ٤٧ و ٤٦.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٩٧ ، رقم ٦٤.

(٣) تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١٠ رقم ٧.

١٠٠