التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)(١).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ)(٢).

لأن الكتاب الذي منه محكم ومتشابه ، هو هذا الكتاب الذي نزل تدريجا. (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً)(٣) ؛ إذ الذي نزل مفصّلا هو هذا القرآن الذي نزل منجما.

وأخيرا فما هي الفائدة المتوخّاة من وراء نزول القرآن دفعة واحدة إلى السماء الدنيا أو إلى السماء الرابعة ، في البيت المعمور أو بيت العزة ـ على الاختلاف في ألفاظ الروايات ـ ، ثم نزوله بعد ذلك تدريجا في طول عهد الرسالة؟

وهل لوجود القرآن بوجوده البسيط الروحاني ـ في ذلك المكان الرفيع ـ فائدة تعود على أهل السماوات أو سكان الأرضين؟

وأجاب الفخر الرازي عن ذلك ، وعلل وجود القرآن هناك ، في مكان أنزل من العرش وأقرب إلى الأرض ؛ ليسهل التناول منه لجبرائيل عند مسيس الحاجة. (٤)

وعلّل بعض الأساتذة المعاصرين ذلك ، بأنّ الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى ، وهذا القرآن المعروض على الناس ، هو «رابط العليّة» فكل ما في هذا القرآن من حكم ومواعظ وآداب ، وتعاليم ومعارف وأحكام ، إنما تنشأ مما حواه

__________________

(١) البقرة / ٢٢.

(٢) آل عمران / ٧.

(٣) الأنعام / ١١٤.

(٤) التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ٨٥.

٤١

ذلك القرآن ، على بساطته وعلوّ رفعته ؛ فهذا إشعاع من ذلك النور الساطع ، وإفاضة من ذلك المقام الرفيع. (١)

غير أن هذا كله تكلّف في التأويل ، وتمحّل في القول بلا دليل ، ولعلّنا في غنىّ عن البسط فيه والتذييل.

وأما الآيات التي استندوا إليها لإثبات وجود آخر للقرآن محفوظ عند الله ، في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهرون ... فهي تعني أمرا آخر غير ما راموه.

وليعلم أن المقصود من الكتاب المكنون ، هو : علم الله المخزون ، المعبّر عنه ب (اللوح المحفوظ) أيضا ، وهكذا التعبير ب (امّ الكتاب) كناية عن علمه تعالى الذاتي الأزلي ، بما يكون مع الأبد.

وقد ذكر العلامة الطباطبائي ـ في تفسير سورة الرعد حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «كل أمر يريده الله ، فهو في علمه قبل أن يضعه ، وليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه» قال ذلك تفسيرا لقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٢).

فقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٣) يعني قضى الله في علمه الأزلي الحتم أن القرآن ـ في مسيرته الخالدة ـ سوف يشغل مقاما عليّا ، مترفعا عن أن تناله أيدي السفهاء ، حكيما مستحكما قوائمه ، لا يتضعضع ولا يتزلزل ، يشق طريقه إلى الأمام بسلام (٤).

__________________

(١) مباني وروشهاى تفسير ، ص ٧٣.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٤٢٠ ، الرعد / ٣٩.

(٣) الزخرف / ٤.

(٤) راجع : الطبرسي ، مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٣٩. والطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ١٧٩. وأبا الفتوح الرازي ، ج ١٠ ، ص ٧٤. والفخر الرازي ، ج ٢٧ ، ص ١٩٤.

٤٢

وكذا قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(١) أي هكذا قدر في علمه تعالى المكنون (٢).

وهكذا ذكر الطبرسي وغيره في تفسير قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٣) أنه إشارة إلى مقامه الرفيع عند الله ، وقد جرى في علمه تعالى أنه محفوظ عن مناوشة المناوئين.

قال سيد قطب : «(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) : كريم بمصدره ، وكريم بذاته ، وكريم باتجاهاته. في كتاب مكنون : مصون ، وتفسير ذلك في قوله تعالى بعده : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ). فقد زعم المشركون أن الشياطين تنزّلت به ، فهذا نفي لهذا الزعم. فالشيطان لا يمسّ هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه ، إنما تنزل به الملائكة المطهرون ؛ ولذلك قال ـ بعدها ـ : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي لا تنزيل من الشياطين» (٤).

هل يعلم التأويل غير الله؟

سؤال أثارته ظاهرة الوقف على (إِلَّا اللهُ) من قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ثم الاستئناف لقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)(٥).

وما ورد في بعض الأحاديث من اختصاص علم التأويل بالله تعالى ، وأنّ

__________________

(١) البروج ، ٢٢.

(٢) راجع : تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ، ص ٢٩. والفخر الرازي ، ج ٢٣ ، ص ٦٦ وج ٢٨ ، ص ١٥٢.

(٣) الواقعة / ٨٠.

(٤) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٧٠٦. وراجع : المجمع ، ج ٩ ، ص ٢٢٦.

(٥) آل عمران / ٧.

٤٣

الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله ، وإنما يكلون علمه إلى الله سبحانه ؛ من ذلك ما ورد في خطبة الأشباح من كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«فانظر أيّها السائل ، فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به واستضئ بنور هدايته ، ومما كلّفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه. فإن ذلك منتهى حقّ الله عليك».

«واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب. فمدح الله تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين» (١)

هذه الخطبة من جلائل الخطب وأعلاها سندا ، فلا مغمز في صحّة إسنادها ، وإنما الكلام في فحوى المراد منها.

وقد أجمع شرّاح النهج (٢) على أنّ مراده عليه‌السلام بهذا الكلام هو الصفات ، وأنّ صفاته تعالى إنما يجب التعبّد بها والتوقف فيها دون الولوج في معرفة كنهها ؛ إذ لا سبيل إلى معرفة حقيقة الصفات ، كما لا سبيل إلى معرفة حقيقة الذات.

حيث قوله عليه‌السلام : «فما دلّك القرآن من صفته فائتمّ به ، وما كلّفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه».

__________________

(١) الخطبة رقم ٩١ نهج البلاغة. وبحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ٢٧٧.

(٢) راجع : منهاج البراعة للراوندي ، ج ١ ، ص ٣٨٢. وابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٤٠٤. وابن ميثم البحراني ، ج ٢ ، ص ٣٣٠ ، شرح الخطبة. والمنهاج للخوئي ، ج ٦ ، ص ٣١٠.

٤٤

إذ من وظيفتنا أن نصفه تعالى بما وصف به نفسه في كلامه : سميع بصير ، حكيم عليم ، حيّ قيوم ... ولم نكلّف الولوج في معرفة حقائق هذه الصفات منسوبة إلى الله تعالى ؛ إذ ضربت دون معرفتها السّدد والحجب ، فلا سبيل إلى بلوغها ؛ فيجب التوقف دونها.

إذن فلا مساس لكلامه عليه‌السلام هنا ، مع متشابهات الآيات التي لا ينبغي الجهل بها للراسخين في العلم ؛ حيث تحلّيهم بحلية العلم هي التي مكّنتهم من معرفة التنزيل والتأويل جميعا.

نعم لا نتحاشى القول بأنهم في بدء مجابهتهم للمتشابهات يقفون لديها ، وقفة المتأمّل فيها ؛ حيث المتشابه متشابه على الجميع على سواء ، لو لا أنهم بفضل جهودهم في سبيل كشفها وإرجاعها إلى محكمات الآيات صاروا يعرفونها في نهاية المطاف. فعجزهم البادئ كان من فضل رسوخهم في العلم ، بأنّ المتشابه كلام صادر ممن صدر عنه المحكم ، فزادت رغبتهم في معرفتها بالتأمّل فيها والاستمداد من الله في العلم بها ، ومن جدّ في أمر وجده بعون الله.

فوجه تناسب استشهاده عليه‌السلام بهذه الآية بشأن الصفات محضا ، هو العجز البادئ لدى المتشابهات ، يقرّبه الراسخون في أوّل مجابهتهم للمتشابهات ، وإن كان الأمر يفترق في نهاية المطاف.

قال ابن أبي الحديد : إن من الناس من وقف على قوله : (إِلَّا اللهُ). ومنهم من لم يقف. وهذا القول أقوى من الأوّل ؛ لأنه إذا كان لا يعلم تأويل المتشابه إلّا الله لم يكن في إنزاله ومخاطبة المكلّفين به فائدة ، بل يكون كخطاب العربي بالزنجيّة ، ومعلوم أن ذلك عيب قبيح.

وأما موضع (يَقُولُونَ) من الإعراب ، فيمكن أن يكون نصبا على أنه حال من الراسخين ، ويمكن أن يكون كلاما مستأنفا ، أي هؤلاء العالمون بالتأويل ، يقولون :

٤٥

آمنّا به.

وقد روي عن ابن عباس أنه تأوّل آية ، فقال قائل من الصحابة : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) فقال ابن عباس : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وأنا من جملة الراسخين. (١) ونحن قد تكلمنا عن هذه الآية بتفصيل وتوضيح ، عند الكلام عن متشابهات القرآن ، فراجع (٢).

هل التفسير توقيف؟

ربما كان بعض السلف يحتشم عن القول في القرآن ، خشية أن يكون قولا على الله بغير علم ، أو تفسيرا برأيه الممنوع شرعا. وتبعهم على ذلك بعض الخلف ، فأمسكوا عن تفسير القرآن ، سوى ما ورد فيه أثر صحيح ونقل صريح.

فقد أخرج الطبري بإسناده إلى أبي معمر ، قال : قال أبو بكر : «أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تظلّني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم» ، وفي رواية أخرى أيضا عنه : «إذا قلت في القرآن برأيي» (٣).

وهذا عند ما سئل عن «الأبّ» في قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)(٤) ، فقد أخرج السيوطي بإسناده إلى إبراهيم التميمي ، قال : سئل أبو بكر عن قوله تعالى : (وَأَبًّا) ، فقال : «أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٢) التمهيد ، ج ٣ ، ص ٣٥ ـ ٤٩.

(٣) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٧.

(٤) سورة عبس ، ٣١ و ٣٢.

٤٦

قلت في كتاب الله ما لا أعلم» (١).

وهكذا روي عن عمر أنه جعل التكلم في الآية تكلّفا يجب تركه وإيكاله إلى الله ، أخرج السيوطي بعدّة أسانيد أن عمر قرأ على المنبر : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً) ـ إلى قوله ـ (وَأَبًّا) قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأبّ؟ ثم رفض عصا كانت في يده ، فقال : هذا لعمرو الله هو التكلّف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ ، اتّبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه (٢).

وعن عبيد الله بن عمر قال : لقد أدركت فقهاء المدينة ، وأنّهم ليعظّمون القول في التفسير ، منهم سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيّب ، ونافع. وعن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيّب عن آية من القرآن ، فقال : لا أقول في القرآن شيئا. وفي رواية أخرى : أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال : أنا لا أقول في القرآن شيئا ، وكان لا يتكلم إلّا في المعلوم من القرآن. قال يزيد : وإذا سألنا سعيدا عن تفسير آية من القرآن ، سكت كأن لم يسمع ..

وعن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن آية ، قال : عليك بالسّداد ، فقد ذهب الذين علموا فيم أنزل القرآن.

وجاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله ، فسأله عن آية من القرآن ، فقال له : أحرج عليك إن كنت مسلما ، لمّا قمت عنّي ، أو قال : أن تجالسني.

وروي عن الشعبي ، قال : ثلاث لا أقول فيهنّ حتى أموت : القرآن ، والرّوح ، والرأي ، وكان يقول : والله ما من آية إلّا قد سألت عنها ، ولكنها الرواية عن الله.

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣١٧.

(٢) المصدر نفسه ، والطبري ، ج ٣٠ ، ص ٣٨ ـ ٣٩.

٤٧

وروي عنه أنه قال : أدركتهم ـ أي الأوائل ـ وما شيء أبغض إليهم أن يسألوا عنه ولا هم له أهيب ، من القرآن. ذكره صاحب كتاب المباني.

ورووا في ذلك بطريق ضعيف عن عائشة ، قالت : ما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفسّر شيئا من القرآن إلّا آيا تعدّ ، علّمهنّ إياه جبريل (١) ، أي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يفسّر إلا القلائل من الآيات ، تلك القلائل أيضا كان بوحي وتوقيف ، ولم يكن عن فهمه.

وروي عن إبراهيم ، قال : كان أصحابنا يتّقون التفسير ويهابونه.

قال ابن كثير : فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف ، محمولة على تحرّجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه. فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة ؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه. وهذا هو الواجب على كل واحد ، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم به ، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه ؛ لقوله تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(٢).

وبعين ذلك ذكر ابن تيميّة في مقدمته (٣).

وقال ابن جرير الطبري : إن معنى «إحجام» من أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من علماء السلف ، إنما كان إحجامه عنه حذرا أن لا يبلغ أداء ما كلّف من إصابة صواب القول فيه ، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء

__________________

(١) الطبري ، في التفسير ، ج ١ ، ص ٢٩. ومقدمة كتاب المباني في نظم المعاني ، ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٦. وآل عمران / ١٨٧.

(٣) مقدمته في أصول التفسير ، ص ٥٥.

٤٨

الأمّة ، غير موجود بين أظهرهم. (١)

قلت : والدليل على صحة ذلك أنّ من تحرّج من القول في معاني القرآن من السلف ، كانوا هم القلة القليلة من الأصحاب والتابعين ، أما الأكثرية الساحقة من علماء الأمة ونبهاء الصحابة فقد عنوا بتفسير القرآن وتأويله عناية بالغة ، كانت الوفرة الوفيرة من رصيدنا اليوم في التفسير.

قال ابن عطيّة : وكان جلّة من السلف كثير عددهم يفسرونه ، وهم أبقى على المسلمين في ذلك.

فأما صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويتلوه عبد الله ابن عباس ، وهو تجرّد للأمر وكمّله ، وتبعه العلماء عليه ، كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما. والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن عليّ بن أبي طالب.

وقال ابن عباس : ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب.

وكان عليّ بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ، ويحضّ على الأخذ عنه. وكان عبد الله بن مسعود يقول : نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس.

وهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ فقّهه في الدين» ، وحسبك بهذه الدعوة. وقال عنه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق».

ويتلوه عبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص.

__________________

(١) الطبري ـ التفسير ـ ج ١ ، ص ٣٠.

٤٩

قال : وكلّ ما أخذ عن الصحابة فحسن متقدم. (١)

وأما حديث عائشة ـ فضلا عن تكلم ابن جرير وابن عطية وغيرهما في تأويله وضعف سنده ـ فالأرجح في تأويله : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفسّر لهم القرآن أعدادا فأعدادا ، كل فترة عددا خاصا حسبما كان جبرئيل يعلّمه عن الله ـ جلّ جلاله ـ ولم يكن التعليم فوضى من غير انتظام. وسيوافيك حديث ابن مسعود في ذلك : كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات ، لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيهنّ.

قال صاحب كتاب المباني : وأما ما روي عن عائشة ، فإن ذلك يدل على أنه عليه‌السلام كان يحتاج مع ما أنزل عليه من القرآن إلى تفسير آيات يعلّمهن إياه جبريل عليه‌السلام وتلك آيات معدودة قد أجملت فيها أحكام الشريعة ؛ بحيث لا يوقف عليه إلّا ببيان الرسول عن الله تعالى.

وأما ما ذكروه من امتناع من امتنع من القول في التفسير ، فإن ذلك بمنزلة من امتنع منهم عن الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا فيما لم يجد فيه بدّا.

ولذلك قلّت روايات رجال من أكابر الصحابة ، مثل عثمان وطلحة والزبير وغيرهم. روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : قلت للزبير : ما لي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله ، كما أسمع ابن مسعود وفلانا وفلانا؟ فقال : أما إنّي لم أفارقه منذ أسلمت ، ولكنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار».

وقيل لربيعة : إنا لنجد عند غيرك من الحديث ما لا نجد عندك! فقال : ما عندهم شيء إلّا وقد سمعت منه ، ولكني سمعت رجلا من آل الهدير يقول :

__________________

(١) مقدمة ابن عطية لتفسيره الجامع المحرّر ، المطبوعة مع مقدمة المباني ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٥٠

صحبت طلحة وما سمعته يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا حديثا واحدا.

قال : وهذا عبد الله بن عباس ، لم يدع آية في القرآن إلّا وقد ذكر من تفسيرها ، على ما روت عنه الرواة ؛ ولذلك قيل : ابن عباس ترجمان القرآن.

وروي عن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس في تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فيقول ابن عباس : اكتبه ، حتى سأله عن التفسير كلّه.

وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : من قرأ القرآن ولم يفسّره كان كالأعمى أو كالأعرابي.

وروى مسلم عن مسروق بن الأجدع قال : كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثمّ يحدّثنا فيها ، ويفسّرها عامة النهار.

وعن أبي عبد الرحمن قال : حدّثونا الذين كانوا يقرءوننا : أنهم كانوا يستقرءون من النبيّ ، فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعلموا ما فيها من العمل ، فيعلموا القرآن والعمل جميعا.

وعن ابن مسعود : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيهنّ. (١)

وبعد ، فقد ذكر الراغب الأصبهاني هنا شرائط يجب توفّرها في المفسّر ، حتى لا يكون تفسيره تفسيرا بالرأي الممنوع شرعا والمقبوح عقلا ، نذكره بتفصيله ، فإنّ فيه الفائدة المتوخّاة في هذا الباب.

__________________

(١) مقدمة كتاب المباني ، ص ١٩١ ـ ١٩٣.

٥١

صلاحية المفسّر

قال الراغب : اختلف الناس في تفسير القرآن ، هل يجوز لكلّ ذي علم الخوض فيه؟ فبعض تشدّد في ذلك ، وقال : لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن ، وإن كان عالما أديبا ، متّسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار. وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة ، والذين أخذوا عنهم من التابعين. واحتجّوا في ذلك بما روي عنه عليه‌السلام : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» ، وقوله : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». وفي خبر : «من قال في القرآن برأيه فقد كفر».

قال : وذكر آخرون أن من كان ذا أدب وسيع ، فموسّع له أن يفسّره ، فالعقلاء الأدباء فوضى فضا في معرفة الأغراض. واحتجوا في ذلك بقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١).

وذكر بعض المحققين أنّ المذهبين هما : الغلوّ والتقصير ، فمن اقتصر على المنقول إليه فقد ترك كثيرا مما يحتاج إليه ، ومن أجاز لكل أحد الخوض فيه فقد عرضه للتخليط ، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

قال : والواجب أن يبيّن أوّلا ما ينطوي عليه القرآن ، وما يحتاج إليه من العلوم ، فنقول وبالله التوفيق :

إن جميع شرائط الإيمان والإسلام التي دعينا إليها واشتمل القرآن عليها ضربان : علم غايته الاعتقاد ، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وعلم غايته العمل ، وهو معرفة أحكام الدين والعمل بها.

__________________

(١) ص / ٢٩.

٥٢

والعلم مبدأ ، والعمل تمام. ولا يتم العلم من دون عمل ، ولا يخلص العمل دون العلم ؛ ولذلك لم يفرد تعالى أحدهما من الآخر في عامة القرآن ، نحو قوله :

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً)(١) ، (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(٢). (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٣).

ولا يمكن تحصيل هذين (العلم والعمل) إلّا بعلوم لفظية ، وعقلية ، وموهبيّة :

فالأول : معرفة الألفاظ ، وهو علم اللغة.

والثاني : مناسبة بعض الألفاظ إلى بعض ، وهو علم الاشتقاق.

والثالث : معرفة أحكام ما يعرض الألفاظ من الأبنية والتصاريف والإعراب ، وهو النحو ..

والرابع : ما يتعلق بذات التنزيل ، وهو معرفة القراءات.

والخامس : ما يتعلق بالأسباب التي نزلت عندها الآيات ، وشرح الأقاصيص التي تنطوي عليها السور ، من ذكر الأنبياء عليهم‌السلام والقرون الماضية ، وهو علم الآثار والأخبار.

والسادس : ذكر السنن المنقولة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمّن شهد الوحي ، وما اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه ، مما هو بيان لمجمل ، أو تفسير لمبهم المنبأ عنه بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٤) وبقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(٥) ، وذلك علم السنن.

__________________

(١) التغابن / ٩.

(٢) غافر / ٤٠.

(٣) الرعد / ٢٩.

(٤) النحل / ٤٤.

(٥) الأنعام / ٩٠.

٥٣

والسابع : معرفة الناسخ والمنسوخ ، والعموم والخصوص ، والإجماع والاختلاف ، والمجمل والمفسّر ، والقياسات الشرعيّة ، والمواضع التي يصحّ فيها القياس ، والتي لا يصحّ ، وهو علم أصول الفقه.

والثامن : أحكام الدين وآدابه ، وآداب السياسات الثلاث التي هي سياسة النفس والأقارب والرعيّة ؛ مع التمسّك بالعدالة فيها ، وهو علم الفقه والزهد.

والتاسع : معرفة الأدلّة العقلية ، والبراهين الحقيقية ، والتقسيم والتحديد ، والفرق بين المعقولات والمظنونات وغير ذلك ، وهو علم الكلام.

والعاشر : وهو علم الموهبة ، وذلك علم يورثه الله من عمل بما علم. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قالت الحكمة : من أرادني فليعمل بأحسن ما علم ، ثم تلا (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(١). وروي عنه عليه‌السلام حيث سئل : هل عندك علم عن النبي لم يقع إلى غيرك؟ قال : «لا ، إلّا كتاب الله ، وما في صحيفتي ، وفهم يؤتيه الله من يشاء».

وهذا هو التذكر الذي رجّانا الله تعالى إدراكه بفعل الصالحات ؛ حيث قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) ـ إلى قوله ـ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٢) ، وهو الهداية المزيدة للمهتدي في قوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)(٣) ، وهو الطيّب من القول المذكور : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٤).

__________________

(١) الزمر / ١٨.

(٢) النحل / ٩٠.

(٣) محمد / ١٧.

(٤) الحج / ٢٤.

٥٤

فجملة العلوم التي هي كالآلة للمفسّر ، ولا تتمّ صناعته إلّا بها ، هي هذه العشرة : علم اللغة ، والاشتقاق ، والنحو ، والقراءات ، والسير ، والحديث ، وأصول الفقه ، وعلم الأحكام ، وعلم الكلام ، وعلم الموهبة.

فمن تكاملت فيه هذه العشرة واستعملها ، خرج عن كونه مفسّرا للقرآن برأيه. ومن نقص عن بعض ذلك ممّا ليس بواجب معرفته في تفسير القرآن ، وأحسّ من نفسه في ذلك بنقصه ، واستعان بأربابه ، واقتبس منهم ، واستضاء بأقوالهم ، لم يكن ـ إن شاء الله ـ من المفسّرين برأيهم.

وأخيرا قال : ومن حقّ من تصدّى للتفسير أن يكون مستشعرا لتقوى الله ، مستعيذا من شرور نفسه والإعجاب بها ، فالإعجاب أسّ كل فساد. وأن يكون اتّهامه لفهمه أكثر من اتّهامه لفهم أسلافه الذين عاشروا الرسول وشاهدوا التنزيل وبالله التوفيق (١).

ولقد أحسن وأجاد فيما أفاد ، وأدّى الكلام حقّه في بيان الشرائط التي يجب توفّرها في كل مفسّر ، حتى يخرج عن كونه مفسّرا برأيه ، وبشرط أن يراعي تقوى الله ، فلا يقول في شيء بغير علم ولا كتاب منير.

قال جلال الدين السيوطي : ولعلك تستشكل علم الموهبة ، وتقول : هذا شيء ليس في قدرة الإنسان. وليس كما ظننت من الإشكال ، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد. قال الإمام بدر الدين الزركشي : اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ، ولا يظهر له أسراره ، وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حبّ الدنيا ، أو هو مصرّ على ذنب ، أو غير متحقّق

__________________

(١) مقدمته في التفسير ، ص ٩٣ ـ ٩٧.

٥٥

بالإيمان ، أو ضعيف التحقيق ، أو يعتمد على قول مفسّر ليس عنده علم ، أو راجع إلى معقوله وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من البعض. قال السيوطي : وفي هذا المعنى قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)(١). قال سفيان بن عيينة : يقول تعالى : أنزع عنهم فهم القرآن (٢).

قلت : وهكذا قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٣) فلا تتجلّى حقائق القرآن ومعارفه الرشيدة إلّا لمن خلص باطنه وزكت نفسه عن الأدناس والأرجاس.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في خطبة خطبها بذي قار ـ : «إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه ، فعلم بالعلم جهله ، وبصر به عماه ، وسمع به صممه ، وأدرك به علم ما فات ، وحيي به بعد إذ مات ، وأثبت به عند الله الحسنات ، ومحا به السيّئات ، وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى ، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصّة» (٤)

وقال ـ في حديث آخر ـ : «إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ، ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعلمه إلّا الله وأمناؤه والراسخون في العلم» (٥).

__________________

(١) الأعراف / ١٤٦.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ، الإتقان ، ج ٤ ، ص ١٨٨.

(٣) الواقعة / ٧٧ ـ ٧٩.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٣٧ ، رقم ٢٦. عن روضة الكافي ، ج ٨ ، ص ٣٩٠ ـ ٣٩١ ، رقم ٥٨٦.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٤٣ ، رقم ٤٤. عن كتاب الاحتجاج ، ج ١ ، ص ٣٧٦.

٥٦

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(١) ، وقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)(٢).

أوجه التفسير

أخرج الطبري بعدّة أسانيد إلى ابن عباس ، قال : التفسير أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذّر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله تعالى (٣).

قال الزركشي ـ في شرح هذا الكلام ـ : وهذا تقسيم صحيح :

فأما الذي تعرفه العرب ، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم ؛ وذلك شأن اللغة والإعراب.

فأما اللغة ، فعلى المفسّر معرفة معانيها ، ومسمّيات أسمائها ، ولا يلزم ذلك القارئ. ثم إن كان ما تتضمّنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم ، كفى فيه خبر الواحد والاثنين ، والاستشهاد بالبيت والبيتين. وإن كان مما يوجب العلم ، لم يكف ذلك ، بل لا بدّ أن يستفيض ذلك اللفظ ، وتكثر شواهده من الشعر.

وأما الإعراب ، فما كان اختلافه محيلا للمعنى ، وجب على المفسّر والقارئ تعلّمه ، ليتوصّل المفسّر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللّحن. وإن لم يكن محيلا للمعنى ، وجب تعلّمه على القارئ ليسلم من اللحن ، ولا يجب على المفسّر ؛ لوصوله إلى المقصود دونه ، على أن جهله نقص في حقّ الجميع.

إذا تقرّر ذلك ، فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم ، فسبيل المفسّر

__________________

(١) الأنفال / ٢٩.

(٢) البقرة / ٢٨٢.

(٣) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٦.

٥٧

التوقّف فيه على ما ورد في لسان العرب ، وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفاهيمها تفسير شيء من الكتاب العزيز ، ولا يكفي في حقّه تعلّم اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا ، وهو يعلم أحد المعنيين.

الثاني : ما لا يعذر أحد بجهله ، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمّنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد. وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليّا لا سواه ، يعلم أنه مراد الله تعالى.

فهذا القسم لا يختلف حكمه ، ولا يلتبس تأويله ؛ إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد ، من قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)(١) وأنه لا شريك له في إلهيّته ، وإن لم يعلم أنّ «لا» موضوعة في اللغة للنفي و «إلّا» للإثبات ، وأنّ مقتضى هذه الكلمة الحصر. ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٢) ونحوها من الأوامر ، طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود ، وإن لم يعلم أن صيغة «أفعل» مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا. فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد أن يدّعي الجهل بمعاني ألفاظه ؛ لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة.

الثالث : ما لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فهو يجري مجرى الغيوب ، نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ، ونزول الغيث ، وما في الأرحام ، وتفسير الروح ، والحروف المقطّعة.

وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق ، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ،

__________________

(١) محمد / ١٩.

(٢) البقرة / ٤٣.

٥٨

ولا طريق إلى ذلك إلّا بالتوقيف ، من أحد ثلاثة أوجه :

إما نصّ من التنزيل ، أو بيان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع الأمّة على تأويله.

فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات ، علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه.

قلت : وهذا إنّما يصدق بشأن الحروف المقطّعة ، فإنها رموز بين الله ورسوله ، لا يعلم تأويلها إلّا الله والرسول ، ومن علّمه الرسول بالخصوص.

والرابع : ما يرجع إلى اجتهاد العلماء ، وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل ، وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول إليه. فالمفسّر ناقل ، والمؤوّل مستنبط ؛ وذلك استنباط الأحكام ، وبيان المجمل ، وتخصيص العموم.

وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا ، فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ؛ وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرّد رأيهم فيه.

ثم أخذ في بيان كيفية الاجتهاد واستنباط الأحكام من ظواهر القرآن ، عند اختلاف اللفظ أو تعارض ظاهرين ، بحمل الظاهر على الأظهر ، وترجيح أحد معنيي المشترك ، وما إلى ذلك مما يرجع إلى قواعد (علم الأصول).

ثمّ قال : فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل ، والله العالم.

وأخيرا قال : إذا تقرّر ذلك فينزّل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تكلّم في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» على قسمين من هذه الأربعة : أحدهما : تفسير اللفظ ؛ لاحتياج المفسر له إلى التبحّر في معرفة لسان العرب ، الثاني : حمل اللفظ المحتمل

٥٩

على أحد معنييه ؛ لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم :

علم العربية واللغة والتبحّر فيهما.

ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء ، وصيغ الأمر والنهي ، والخبر ، والمجمل والمبيّن ، والعموم والخصوص ، والظاهر والمضمر ، والمحكم والمتشابه ، والمؤوّل ، والحقيقة والمجاز ، والصريح والكناية ، والمطلق والمقيّد.

ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا ، والاستدلال على هذا أقلّ ما يحتاج إليه ، ومع ذلك فهو على خطر. فعليه أن يقول : يحتمل كذا ، ولا يجزم إلا في حكم اضطرّ إلى الفتوى به (١).

التفسير بالرأي

وأما الذي هابه أهل الظاهر ، وزعموا من التكلّم في معاني القرآن تفسيرا بالرأي ، فيجب الاحتراز منه ؛ فهو مما اشتبه عليهم أمره ، ولم يمعنوا النظر في فحواه إمعانا.

ولا بدّ أن نذكر نصّ الحديث أوّلا ، ثم النظر في محتواه : (٢) ١ ـ

روى أبو جعفر الصدوق بإسناده عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله ـ جلّ جلاله ـ : «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» (٣).

٢ ـ وأيضا روي عنه عليه‌السلام قال ـ لمدّعي التناقض في القرآن ـ : «إيّاك أن تفسّر

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٨.

(٢) ممّا أورده العلامة المجلسي في بحار الأنوار ، كتاب القرآن ، باب / ١٠ ، ج ٨٩ ، ص ١٠٧ ـ ١١٢ ، (ط بيروت)

(٣) الأمالي للصدوق (ط نجف) ؛ ص ٦ ، المجلس الثاني.

٦٠