التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

حديثه في صحيحه ، مع شدة الحاجة إليه ، وكونه أصلا من أصول الإسلام ، ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به (١)

قال ابن حبّان ـ في ترجمة عبد الملك هذا ـ : منكر الحديث جدّا ، يروي عن أبيه ما لم يتابع عليه. قال : وسئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك عن أبيه عن جدّه ، فقال : ضعاف (٢).

هذه حالة الأحاديث المزرية ، والتي استندها القوم دليلا على التحريم ، فتدبّر ، واقض ما أنت قاض.

محاورة مفيدة

ويتناسب هنا أن ننقل محاورة وقعت بين الشيخ أبي عبد الله المفيد ، وشيخ من الإسماعيلية كان على مذهب الجماعة يعرف بابن لؤلؤ. قال المفيد : حضرت دار بعض قوّاد الدولة ، وكان بالحضرة شيخ من الإسماعيلية ، فسألني : ما الدليل على إباحة المتعة؟

فقلت له : الدليل على ذلك قول الله عزوجل : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٣).

فأحلّ جلّ اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها ، وبذكر أوصافها من الأجر عليها ،

__________________

(١) أوردنا تمام كلامه فيما تقدّم ، راجع : زاد المعاد لابن قيم ، ج ٢ ، ص ١٨٤.

(٢) كتاب المجروحين والضعفاء لأبي حاتم محمد بن حبّان ، ج ٢ ، ص ١٣٢ ـ ١٣٣. وتهذيب التهذيب ، ج ٣ ، ص ٢٤٥.

(٣) النساء / ٢٤.

٥٤١

والتراضي بعد الفرض له ، من الإزدياد في الأجل ، وزيادة الأجر فيها.

فقال : ما أنكرت أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(١). فحظر الله تعالى النكاح إلّا لزوجة أو ملك يمين. وإذا لم تكن المتعة زوجة ولا ملك يمين ، فقد سقط من أحلّها.

فقلت له : قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين :

أحدهما : إنّك ادّعيت أن المستمتع بها ليست بزوجة ، ومخالفك يدفعك عن ذلك ، ويثبتها زوجة في الحقيقة.

والثاني : إن سورة المؤمنون مكّية ، وسورة النساء مدنية ، والمكّي متقدّم على المدني ، فكيف يكون ناسخا له وهو متأخّر عنه ، وهذه غفلة شديدة! فقال : لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ، ويقع بها الطلاق.

فقلت له : وهذا أيضا غلط منك في الديانة ؛ وذلك أن الزوجة لم يجب لها الميراث ، ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط ، وإنّما حصل لها ذلك بصفة تزيد على الزوجيّة (٢).

والدليل على ذلك أن الأمة إذا كانت زوجة لم ترث ولم تورّث (٣). والقاتلة لا ترث ، والذمّية لا ترث والأمة المبيعة تبين بغير طلاق (٤) ، والملاعنة أيضا تبين

__________________

(١) المؤمنون / ٥ ـ ٦.

(٢) يعني أن مسألة الطلاق ليست من لوازم الطبيعة للزوجيّة ، بل لكونها دائمة أو نحو ذلك ممّا هو خارج الطبيعة ...

(٣) بناء على أن المملوك لا يتملك.

(٤) يعني إذا بيعت الأمة المزوّجة ولم يأذن مالكها الجديد بالزواج ، فإن الزوجية تنفسخ حالا بغير طلاق.

٥٤٢

بغير طلاق (١) ، وكذلك المختلعة (٢) ، والمرتدّ عنها زوجها (٣) ، والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الأم ، والزوجة تبين بغير طلاق (٤).

وكل ما عدّدناه زوجات في الحقيقة ، فبطل ما توهّمت. فلم يأت بشيء.

فقال صاحب الدار ـ وهو رجل أعجمي ، لا معرفة له بالفقه وإنما يعرف الظواهر ـ : أنا أسألك في هذا الباب عن مسألة : هل تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعة ، أو تزوج أمير المؤمنين؟ فلو كان في المتعة ما تركاها!

فقلت له : ليس كلّ ما لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان محرما ، وذلك أنّ رسول الله والأئمّة عليهم‌السلام لم يتزوّجوا الإماء ولا نكحوا الكتابيّات ولا خالعوا ، ولم يفعلوا كثيرا من أشياء كانت مباحة. وبعد ان تبادلت مسائل من هذا القبيل ، قال الشيخ المفيد :

فقلت له : إن أمرنا مع هؤلاء المتفقّهة عجيب ، وذلك أنهم مطبقون على تبديعنا في نكاح المتعة مع إجماعهم على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان أذن فيها ، وأنّها عملت على عهده ، ومع ظاهر الكتاب وإجماع آل محمد عليهم‌السلام على إباحتها ، والاتفاق على أن عمر حرّمها في أيّامه ، مع إقراره بأنها كانت حلالا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلو كنّا على ضلالة فيها لكنّا في ذلك على شبهة ، تمنع ما يعتقده المخالف

__________________

(١) بناء على أن اللعان يوجب الفرقة من غير حاجة إلى طلاق.

(٢) بناء على عدم الحاجة إلى الطلاق وكفاية صيغة الخلع.

(٣) إذا ارتدّ الزوج تبين منه زوجته بغير طلاق.

(٤) إذا أرضعت أمّ الزوجة وليدتها ، أي وليدة زوجة الرجل ، حرمت عليه ؛ إذ لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن. وكذا لو أرضعت الزوجة الكبيرة المدخول بها الزوجة الصغيرة حرمتا ؛ لأن الأولى أصبحت أمّ الزوجة ، والثانية بنت المدخول بها.

٥٤٣

فينا من الضلال والبراءة منا. وفيمن خالفنا من يقول في النكاح وغيره بضد القرآن وخلاف الإجماع والمنكر في الطباع ـ ثم جعل يعدّد موارد منها (١) ـ ثم قال : وهم يتولى بعضهم بعضا ، وليس ذلك إلّا لاختصاص قولنا بآل محمد عليهم‌السلام (٢).

ب ـ متعة الحج

تنقسم فريضة الحج إلى تمتّع وقران وإفراد. والأوّل فرض من نأى عن مكة ، ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، فيهلّ بالعمرة إلى الحج. فإذا طاف وسعى قصّر وخرج عن إحرامه ، حتى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج ، وذهب إلى عرفات. وكان له بين تحلّله وإحرامه هذا أن يتمتّع بما كان قد حرم عليه لأجل إحرامه ؛ ومن ذلك جاءت هذه التسمية.

ولا زال يعمل بها المسلمون على مختلف مذاهبهم ، جريا مع نصّ الكتاب وسنّة الرسول وعمل الأصحاب. غير أن عمر حاول المنع منه ، لما استهجنه من توجّه الناس إلى عرفات ورءوسهم تقطر ماء ، اجتهادا مجرّدا في مقابلة النصّ الصريح.

وقد عرفت تشديده بشأن المتعتين ، لكن تعليله لذلك يبدو أغرب.

أخرج مسلم بإسناده عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد ، حتى

__________________

(١) راجع تلك الموارد في الفصول المختارة من العيون والمحاسن للشيخ المفيد ، ص ١٢٢ ـ ١٢٣ ، فإنه ممتع!

(٢) الفصول المختارة ، ص ١١٩ ـ ١٢٣ (ط نجف)

٥٤٤

لقيه بعد فسأله ، فقال عمر : كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك (١) ، ثم يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم (٢).

ولعلّها بقية من عقائد قديمة (٣) ، وقع مثلها في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا أثار غضبه.

فقد أخرج مسلم بإسناده عن عطاء : أن جماعة من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهلّوا بالحج مفردا ، فقدم النبيّ صباح رابعة مضت من ذي الحجة ، فأمرهم أن يحلّوا ويصيبوا النساء ، قال عطاء : لم يعزم عليهم ولكن أحلّهنّ لهم. فقال بعضهم لبعض : ليس بيننا وبين عرفة إلّا خمس ، فكيف يأمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة ، تقطر مذاكيرنا.

فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام فيهم ، وقال ـ مستغربا هذا الفضول من الكلام ـ :

قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم أبرّكم ، ولو لا هديي لحللت كما تحلّون. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى ، فحلّوا. قال جابر : فحللنا ، وسمعنا وأطعنا.

وفي رواية : فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ... وفي أخرى : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحج ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افعلوا ما آمركم به ، ففعلوا (٤).

__________________

(١) يقال : أعرس الرجل بامرأته إذا بنى بها. والأراك : موضع قرب نمرة.

(٢) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٤٥ ـ ٤٦ باب نسخ التحلل.

(٣) قال ابن قيّم الجوزي : كانت العرب في الجاهلية تكره العمرة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إذا أدبر الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر ، (زاد المعاد ، ج ١ ، ص ٢١٤) و (البخاري ، ج ٢ ، ص ١٧٥) و (مسلم ، ج ٤ ، ص ٥٦)

(٤) راجع : صحيح مسلم في عدة روايات ، ج ٤ ، ص ٣٦ ـ ٣٨. وصحيح البخاري ، ج ٢ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

٥٤٥

وفي حديث طويل أخرجه مسلم بإسناده إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عن جابر ، يشرح حجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ينتهي إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» قال : فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل لأبد أبد (١).

قال العلّامة الأميني : ولم يكن نهي عمر عن المتعتين إلّا رأيا محضا واجتهادا مجردا تجاه النصّ ، أما متعة الحج فقد نهى عنها لما استهجنه من توجّه الناس إلى الحج ورءوسهم تقطر ماء. لكن الله سبحانه أبصر منه بالحال ، ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم ذلك حين شرّع إباحة متعة الحج حكما باتّا أبديّا (٢).

قال ابن قيّم : ومنهم من يعدّ النهي رأيا رآه عمر من عنده ، لكراهته أن يظلّ الحاجّ معرسين بنسائهم في ظلّ الأراك. قال أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد ، قال : بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشيّة عرفة ، فإذا هو برجل مرجّل شعره يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم. فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر (٣). قال : إني قدمت متمتّعا وكان معي أهلي ، إنما أحرمت اليوم. فقال عمر ـ عند ذلك : لا تتمتّعوا في هذه الأيّام ، فإنّي لو رخّصت في المتعة لهم لعرّسوا بهنّ في الأراك ثم راحوا بهنّ حجاجا. قال ابن قيم : وهذا يبيّن أنّ هذا من عمر رأي

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٣٩ ـ ٤٣. وفي المحلّى لابن حزم (ج ٧ ، ص ١٠٨) : بل لأبد الأبد.

(٢) الغدير ، ج ٦ ، ص ٢١٣.

(٣) الذفر ـ بالتحريك ـ : يقع على الطيب والكريه ، ويفرق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به. والمراد هنا الريح الكريهة.

٥٤٦

رآه (١).

مذاهب الفقهاء في حج التمتع

ذهب الفقهاء من الإمامية إلى أفضليّة حج التمتّع على الإفراد والقران ، وأنه فرض من نأى عن مكة (٢).

وقالت الشافعيّة : بأفضليّة الإفراد ثم التمتع ثمّ القران ، إن كان قد اعتمر في عامه ؛ لأن تأخير العمرة عن عام الحج عندهم مكروه (٣).

وقالت المالكية : بأفضليّة الإفراد ثم القرآن ثم التمتع (٤).

والحنابلة : أفضلها التمتّع ثم الإفراد ثم القران (٥).

والحنفيّة : أفضلها القران ثم التمتع ثم الإفراد (٦).

والمذاهب الأربعة جميعا قائلون بالتخيير.

التاسع ـ حديث الرجعة

قال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ

__________________

(١) زاد المعاد لابن قيم ، ج ١ ، ص ٢١٤. وهكذا ذهب ابن حزم أن هذا رأي رآه عمر (المحلى ، ج ٧ ، ص ١٠٢)

(٢) شرائع الإسلام ، ج ١ ، ص ٢٣٦ ـ ٢٤٠.

(٣) الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٦٨٨.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٦٩٠.

(٥) المصدر نفسه ، ص ٦٩٢.

(٦) المصدر نفسه ، ص ٦٩٣.

٥٤٧

يُوزَعُونَ)(١).

هذه الآية الكريمة أظهر آية دلّتنا على ثبوت الرّجعة ، وهي الحشرة الصغرى قبل الحشرة الكبرى يوم القيامة ؛ حيث التعبير وقع في هذه الآية بحشر فوج من كلّ أمّة ، أي جماعة منهم وليس كلهم. أما الحشر الأكبر فهو الذي قال فيه تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢). وقد تكرّر قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً)(٣).

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : هذا في الرجعة ، فقيل له : إنّ القوم يزعمون أنه يوم القيامة! فقال : فيحشر الله يوم القيامة من كل أمّة فوجا ويدع الباقين؟! لا ، ولكنّه في الرجعة ، أما يوم القيامة فهي : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٤).

ومسألة الرجعة ، حسبما تعتقده الشيعة الإمامية ، وهي رجعة أموات إلى الحياة قبل قيام الساعة ، ثم يموتون موتهم الثاني. ليست بدعا من القول إلى جنب قدرة الله تعالى في الخلق ، كما قصّ في كتابه من قصّة عزير ، وأصحاب الكهف ، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ، والسبعين رجلا من قوم موسى ، وغير ذلك ، ممّا وقع في أمم خلت ، فلا بدع أن يقع في هذه الأمة مثلها.

ولعلمائنا الأعلام بهذا الشأن دلائل ومسائل استقصوا فيها الكلام نذكر منها :

وللصدوق رحمه‌الله في رسالة الاعتقاد بيان واف بشأن إثبات الرجعة ، استشهد

__________________

(١) النمل / ٨٣.

(٢) الكهف / ٤٧.

(٣) الأنعام / ٢٢ و ١٢٨. يونس / ٢٨. سبأ / ٤٠.

(٤) تفسير الصافي ، ج ٢ ، ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٥٤٨

بآيات جاء فيها ذكر الإحياء لأموات في هذه الحياة ، فبعثهم الله أحياء بعد ما أماتهم ، فعاشوا زمانا ثم ماتوا موتهم الثاني. نظير ما نقوله في الرجعة ، يعود أقوام إلى الحياة ويعيشون فترة ثم يموتون قبل قيام الساعة. كل ذلك دليل على إمكان الرجعة ، وأنها ليست بدعا من القول ، أو يستنكر إلى جنب قدرة الله تعالى في الخلق.

والآيات التي استشهد بها هي :

١ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ)(١). هؤلاء قوم حزقيل ـ ويقال له ابن العجوز (٢) ـ فرّوا من القتال أو الطاعون ، فأماتهم الله ، فخرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى ، فدعا الله أن يعيد إليهم الحياة ، فأحياهم الله ، فرجعوا إلى الدنيا وسكنوا الدور ، وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ، ومكثوا ما شاء الله ثم ماتوا بآجالهم (٣).

٢ ـ قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) ـ إلى قوله ـ (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ)(٤). هو عزير ، وقيل : أرميا. وكلاهما مرويّ ، الأول عن الإمام أبي عبد الله ، والثاني عن الإمام أبي جعفر عليهما‌السلام.

وروي عن عليّ عليه‌السلام أنّ عزير خرج من أهله وامرأته حامل ، وله خمسون سنة ، ثم لما رجع وهو على سنه الأولى وجد ابنه أكبر منه ، ابن مائة سنة ، وهذا من

__________________

(١) البقرة / ٢٤٣.

(٢) وذلك أن أمّه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت فوهبه الله لها. (مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٤٦)

(٣) روى ذلك حمران بن أعين عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٤٧)

(٤) البقرة / ٢٥٩.

٥٤٩

آيات الله (١).

٣ ـ وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢). قال الطبرسي : أي ثم أحييناكم لاستكمال آجالكم.

قال : واستدلّ قوم من أصحابنا بهذه الآية على جواز الرجعة. وقول القائل : لا تجوز إلّا في حياة النبيّ لتكون دليلا على نبوّته ، باطل ؛ لأنه عندنا بل عند أكثر الأمة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمّة والأولياء. وقال أبو القاسم البلخي : لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها ، لاستلزامه الإغراء بالمعاصي اتّكالا على التوبة عند الكرّة. وجوابه : أنّ الرجعة التي نقول بها ليست لجميع الناس فلا إغراء ؛ إذ لا قطع برجوع أيّ أحد (٣).

٤ ـ وقوله تعالى ـ خطابا مع عيسى عليه‌السلام ـ : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي)(٤). قال الصدوق : وجميع الموتى الذين أحياهم عيسى المسيح بإذن الله ، عاشوا فترة ثم ماتوا بآجالهم.

٥ ـ وأصحاب الكهف (لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) ثم بعثهم الله ، قال تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ، ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) ـ إلى قوله ـ (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)(٥).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٧٠.

(٢) البقرة / ٥٥ ـ ٥٦.

(٣) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١١٥.

(٤) المائدة / ١١٠.

(٥) الكهف / ١١ ـ ٢٥.

٥٥٠

قال الصدوق : وحيث كانت الرجعة في الأمم السالفة ، فلا غرو أن يقع مثلها في هذه الأمّة ، كما في الحديث : يكون في هذه الأمة ما وقع في الأمم السالفة (١).

٦ ـ وزاد أبو عبد الله المفيد الاستدلال بقوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(٢) ، فهذا الاعتراف والاستدعاء كان يوم القيامة ، والمراد بالحياتين والمماتين : الحياة قبل الرجعة والحياة بعدها ، وكذا الموتتان قبل وبعد الرجعة ؛ وذلك لأنهم ندموا على ما فرط منهم في تينك الحياتين ، ومعلوم أن لا عمل نافعا ولا تكليف إلّا في الحياة الدنيا.

وقد استوفى الكلام حول الآية بمناسبة المقام ، حسبما يأتي عند نقل كلامه.

٧ ـ وهكذا قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(٣). حيث سئل عن هذا النصر ، فأجاب من وجوه : وقال : وقد قالت الإماميّة : إن الله تعالى ينجز الوعد بالنصر للأولياء قبل الآخرة عند قيام القائم ، والكرّة التي وعد بها المؤمنين في العاقبة (٤).

٨ ـ واستدل الصدوق أيضا بقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٥).

قال : يعني في الرجعة ، وذلك أنه يقول : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ)(٦) ،

__________________

(١) عقائد الصدوق ، ص ٦٢. والبحار ، ج ٥٣ ، ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) غافر / ١١.

(٣) غافر / ٥١.

(٤) في أجوبة المسائل العكبرية. (البحار ، ج ٥٣ ، ص ١٣٠)

(٥) النحل / ٣٨.

(٦) النحل / ٣٩.

٥٥١

والتبيين يكون في الدنيا (١).

٩ ـ وذكر جار الله الزمخشري في حديث ذي القرنين عن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، سأله ابن الكوّاء : ما ذو القرنين ، أملك أم نبيّ ، فقال : ليس بملك ولا نبيّ ، ولكن كان عبدا صالحا. ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ، ثم بعثه الله. فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه الله ؛ فسمّي ذا لقرنين. وفيكم مثله (٢) ، يعني نفسه عليه‌السلام.

قال السيد رضي الدّين بن طاوس : قول مولانا عليّ عليه‌السلام : «وفيكم مثله» إشارة إلى ضرب ابن ملجم له ، وأنّه يعود إلى الدنيا بعد وفاته كما رجع ذو القرنين. وهذا أبلغ من روايات الشيعة في الرجعة (٣).

١٠ ـ وروى الشيخ حسن بن سليمان في كتابه المحتضر حديث الأئمّة الاثني عشر ، رواه سلمان الفارسي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال سلمان : فبكيت وقلت يا رسول الله ، فأنّى لسلمان لإدراكهم؟ قال : يا سلمان إنّك مدركهم وأمثالك ومن تولّاهم حقيقة المعرفة. قال سلمان : فشكرت الله كثيرا ، ثمّ قلت : يا رسول الله ، إنّي مؤجّل إلى عهدهم؟ قال : يا سلمان ، اقرأ : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً)(٤).

قال سلمان : قلت بعهد منك يا رسول الله؟ قال : إي ... وكل من هو منا ومظلوم فينا ، ثم ليحضرون إبليس وجنوده وكل من محض الإيمان محضا

__________________

(١) رسالة الاعتقاد والبحار ، ج ٥٣ ، ص ١٣٠.

(٢) تفسير الكشاف ، ج ٢ ، ص ٧٤٣ سورة الكهف / ٨٣ ـ ٨٨.

(٣) سعد السعود ، ص ٦٥.

(٤) الإسراء / ٦.

٥٥٢

ومحض الكفر محضا. حتى تؤخذ الأوتار والثارات ، ولا يظلم ربك أحدا. ونحن تأويل هذه الآية : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ...)(١).

قال العلامة المجلسي : ورواه ابن عياش في المقتضب بإسناده إلى سلمان أيضا (٢).

قلت : وهذا عن تأويل الآيتين ، وتفسير معاني القرآن الباطنة.

قال أبو علي الطبرسي : واستدل بهذه الآية ـ سورة النمل / ٨٣ ـ على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية. بأن قال : إنّ دخول «من» في الكلام يوجب التبعيض ، فدلّ ذلك على أن اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم دون قوم ، وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

قال : وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدّم موتهم من أوليائه وشيعته ، ليفوزوا بثواب نصرته ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقّونه من الخزي والهوان.

قال : ولا يشكّ عاقل أنّ هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه. وقد فعل الله ذلك في الأمم الخالية ، ونطق به القرآن في عدّة مواضع ، مثل قصّة عزير وغيره على ما فسّرناه في موضعه.

__________________

(١) القصص / ٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٤.

٥٥٣

قال : إلّا أنّ جماعة من الإمامية تأوّلوا ما ورد من الأخبار في الرجعة ، إلى رجوع دولة الحق ، دون رجوع الأشخاص بإحياء الأموات. وأوّلوا الأخبار الواردة في ذلك ، ما ظنّوا أنّ الرجعة تنافي التكليف.

قال : وليس كذلك ؛ لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح ، والتكليف يصحّ معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة.

قال : ولان الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار ليتطرّق إليها التأويل ، وإنما المعوّل في ذلك إجماع الشيعة الإمامية ، وإن كانت الأخبار تعضده (١).

وللعلّامة المجلسي كلام مسهب حول مسألة الرجعة ، أورد أكثر من مائتي حديث عن مصادر معتبرة ، ثم يقول : وكيف يشكّ مؤمن بحقّية الأئمّة الأطهار ، فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح رواها نيّف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام ، في أزيد من خمسين من مؤلّفاتهم ... ثم يأخذ في تعداد من ألّف في ذلك بالخصوص ، أو أورد أحاديثه في كتابه من قدماء أصحابنا ومتأخّريهم. ويأخذ بالاستشهاد بآيات ، وكذا روايات عن غير طرق أهل البيت ، ممّا يمسّ مسألة الرجعة أو تكون نظيرة لها ، فراجع (٢).

وكان بين السيد إسماعيل بن محمد الحميري والقاضي سوّار (٣) مناوشة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٣ (باب ٢٩ الرجعة) ، ص ٣٩ ـ ١٤٤.

(٣) هو سوّار بن عبد الله بن قدامة بن عنزة ، وينتهي نسبه إلى كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم. ولّاه

٥٥٤

وعداء على عهد المنصور العباسي. فممّا جرى بينهما ـ فيما رواه الشيخ أبو عبد الله المفيد بإسناده إلى الحرث بن عبد الله الربعي ـ قال : كنت جالسا في مجلس المنصور ، وهو بالجسر الأكبر ، وسوّار عنده ، والسيد ينشده :

إن الإله الذي لا شيء يشبهه

آتاكم الملك للدنيا وللدين

آتاكم الله ملكا لا زوال له

حتى يقاد إليكم صاحب الصّين

وصاحب الهند مأخوذ برمّته

وصاحب الترك محبوس على هون

حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور.

فقال سوّار : هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه ، والله إنّ القوم الذين يدين بحبّهم لغيركم ، وإنه لينطوي على عداوتكم.

فقال السيد : والله إنّه لكاذب ، وإنّني في مديحك لصادق ، ولكنه حمله الحسد ؛ إذ رآك على هذه الحال. وأن انقطاعي ومودّتي لكم أهل البيت لمعرق (١) لي فيها عن أبويّ ، وأن هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهلية والإسلام ، وقد أنزل الله عزوجل في أهل بيت هذا (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٢).

__________________

المنصور قضاء البصرة سنة ١٣٨ ، ومات بها سنة ١٥٦. (تهذيب التهذيب ، ج ٤ ، ص ٢٦٩)

(١) يقال : أعرق الرجل ، أي صار عريقا ، أي أصيلا في الشرف. أي مودّتي ذات عرق وأصالة قديمة.

(٢) الحجرات / ٤. نزلت في بني العنبر. كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبى قوما منهم فجاءوا في فدائهم ، فأعتق نصفهم وفادى النصف ، وكانوا مذ أتوا النبيّ جعلوا ينادونه من وراء الحجرات ليخرج إليهم ، وكان ذلك منهم سوء أدب ؛ إذ لم يعرفوا مقام النبيّ. يقول تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) الحجرات / ٤ ـ ٥ (مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣١) وكان سوّار من بني العنبر ، وكان عثمانيا خرج مع أصحاب الجمل أيضا. وفي ذلك يقول السيد الحميري يهجوه بمحضر المنصور :

٥٥٥

فقال المنصور : صدقت.

فقال سوّار : يا أمير المؤمنين ، إنه يقول بالرجعة ، ويتناول الشيخين.

فقال السيد : أمّا قوله : بأنّي أقول بالرجعة ، فإن قولي في ذلك على ما قال الله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)(١) ، وقد قال في آخر : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢). فعلمت أن هاهنا حشرين : أحدهما عام والآخر خاص. وقال سبحانه : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(٣) ، وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ)(٤) ، وقال الله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)(٥).

فهذا كتاب الله عزوجل. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحشر المتكبرون في صورة الذرّ يوم القيامة» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لم يجر في بني إسرائيل شيء إلّا ويكون

__________________

يا أمين الله يا منصور يا خير الولاة إنّ سوّار بن عبد الله من شرّ القضاة

نعثلي جملي لكم غير مؤات

جدّه سارق عنز فجرة من فجرات

والذي كان ينادي من وراء الحجرات

يا هنات اخرج إلينا إننا أهل هنات

(الفصول المختارة للشيخ المفيد ، ص ٦٠)

وراجع : اخبار السيد في الأغاني (ج ٧ ، ص ٢٤٨ ـ ٢٩٧) ولا سيّما ما جرى بينه وبين القاضي سوّار فانّه ممتع.

(١) النمل / ٨٣.

(٢) الكهف / ٤٧.

(٣) غافر / ١١.

(٤) البقرة / ٢٤٣.

(٥) البقرة / ٢٥٩.

٥٥٦

في أمّتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف». وقال حذيفة : «والله ما أبعد أن يمسخ الله كثيرا من هذه الأمّة قردة وخنازير».

فالرجعة التي نذهب إليها هي ما نطق به القرآن وجاءت به السنّة. وإنّني أعتقد أنّ الله تعالى يردّ هذا ـ يعني سوّارا ـ إلى الدنيا كلبا أو قردا أو خنزيرا أو ذرّة ، فإنه والله متجبّر متكبّر كافر ، فضحك المنصور (١).

وقال الشيخ أبو عبد الله المفيد ، في جواب من سأله عن قول مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «ليس منا من لم يقل بمتعتنا ولم يؤمن برجعتنا» أهي حشر في الدنيا مخصوص للمؤمنين أو لغيرهم من الظلمة الجائرين يوم القيامة؟

فأجاب عن المتعة بما أسلفنا ، ثم قال : وأما قوله عليه‌السلام : من لم يؤمن برجعتنا فليس منا ، فإنما أراد بذلك ما اختصه من القول به في أنّ الله تعالى يحيي قوما من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موتهم قبل يوم القيامة. وهذا مذهب مختص به آل محمد ، وقد أخبر الله عزوجل في ذكر الحشر الأكبر : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) وقال في حشر الرجعة قبل يوم القيامة : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ). فأخبر أنّ الحشر حشران : حشر عام وحشر خاص. وقال سبحانه يخبر عمّن يحشر من الظالمين أنه يقول في القيامة يوم الحشر : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).

وللعامّة في هذه الآية تأويل مردود ، وهو : أن المعنى بقوله : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أنه

__________________

(١) الفصول المختارة من العيون والمحاسن للشيخ أبي عبد الله المفيد (ص ٦١ ـ ٦٢) ونقله العلامة المجلسي في البحار (ج ٥٣ ، ص ١٣٠ ـ ١٣١)

٥٥٧

خلقهم أمواتا ثم أماتهم بعد الحياة (١).

وهذا باطل لا يجري على لسان العرب ؛ لأن الفعل لا يدخل إلّا على ما كان بغير الصفة التي انطوى اللفظ على معناها ، ومن خلقه الله ميتا لا يقال له : أماته ، وإنما يقال ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة (٢) ؛ ولذلك لا يقال : جعله الله ميّتا إلّا بعد ما كان حيّا. وهذا بيّن.

قال : وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمسائلة ، فتكون الأولى قبل الإحياء والثانية بعده.

وهذا أيضا باطل من وجه آخر ، وهو : أن الحياة للمسائلة ليست لتكليف فيندم الإنسان على ما فاته في حياته ، وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم مرّتين ، يدل على أنه لم يرد حياة المسائلة ، لكنه أراد حياة الرجعة التي يكون لتكليفهم الندم على تفريطهم ، فلم يفعلوا فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك (٣).

وسئل السيد المرتضى علم الهدى عن حقيقة الرجعة ؛ لأنّ شذاذ الإماميّة يذهبون إلى أن الرجعة رجوع دولتهم في أيّام القائم عليه‌السلام ، من دون رجوع أجسامهم.

فأجاب قدس‌سره بأنّ الذي تذهب الشيعة الإماميّة إليه : أنّ الله يعيد عند ظهور إمام

__________________

(١) ذكر الفخر الرازي أن كثيرا من المفسّرين قالوا بأن الموتة الأولى هي الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة ، ورجح ذلك بقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ، ورتب على ذلك إنكار الحياة البرزخية في القبر. (التفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٣٩)

(٢) أما قوله تعالى : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ البقرة / ٢٨. فلأن الميّت يصدق على ما لا حراك فيه ولا حياة منذ البداية ، نظير الموات من الأرضين.

(٣) المسائل السروية (ضمن رسائل المفيد) ، ص ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٥٥٨

الزمان المهدي عليه‌السلام قوما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذّوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله.

والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه بما لا شبهة على عاقل في أنه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه ، فإنّا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة.

وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور ، فالطريق إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها ، فإنّهم لا يختلفون في ذلك ، وإجماعهم قد بيّنّا في مواضع من كتبنا أنه حجة.

وقد بيّنّا أن الرجعة لا تنافي التكليف ، وأنّ الدواعي متردّدة معها ؛ حيث لا يظنّ ظانّ أنّ تكليف من يعاد باطل. وذكرنا أن التكليف كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة ، فكذلك مع الرجعة ؛ لأنه ليس في الجميع ملجئ إلى فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح.

فأما من تأوّل الرجعة من أصحابنا ، على أن معناها رجوع الدولة والأمر والنهي ، من دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات ، فإن قوما من الشيعة لما عجزوا عن نصرة الرّجعة وبيان جوازها وأنها تنافي التكليف ، عوّلوا على هذا التأويل للأخبار الواردة بالرجعة. وهذا منهم غير صحيح ؛ لأنّ الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة ، فيطرق التأويلات عليها ، فكيف يثبت ما هو مقطوع على صحّته بأخبار الآحاد التي لا توجب العلم؟! وإنما المعوّل في إثبات الرجعة على إجماع الإمامية (١).

__________________

(١) المسائل الرازيّة (المسألة الثامنة) رسائل الشريف الرضي المجموعة الأولى ، ص ١٢٥ ـ ١٢٦ و

٥٥٩

وقال الإمام كاشف الغطاء ـ ردّا على من زعم أن القول بالرجعة ركن من أركان التشيّع ـ (١).

«وليس التديّن بالرجعة في مذهب التشيّع بلازم ، ولا إنكارها بضارّ ، وإن كانت ضروريّة عندهم ، ولكن لا يناط التشيع بها وجودا وعدما. وليست هي إلّا كبعض أنباء الغيب ، وحوادث المستقبل ، وأشراط الساعة ، مثل : نزول عيسى من السماء ، وظهور الدجّال ، وخروج السفياني وأمثالها ، من القضايا الشائعة عند المسلمين. وما هي من الإسلام في شيء ، ليس إنكارها خروجا منه ، ولا الاعتراف بها بذاته دخولا فيه. وكذا حال الرجعة عند الشيعة.

ثم قال : هل ترى المتهوّسين على الشيعة بحديث الرجعة قديما وحديثا ، عرفوا معنى الرجعة والمراد بها عند من يقول بها من الشيعة؟ وأيّ غرابة واستحالة في العقول أن سيحيي الله سبحانه جماعة من الناس بعد موتهم ، وأي نكر في هذا بعد أن وقع مثله بنصّ الكتاب الكريم. ألم يسمع المتهوّسون قصّة ابن العجوز التي قصّها الله سبحانه بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ)(٢) ، ألم تمرّ عليهم كريمة قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً)(٣) ، مع أنّ يوم القيامة تحشر فيه جميع الأمم ، لا من كل أمّة فوج.

قال : وحديث الطعن بالرجعة كان دأب علماء السنّة من العصر الأول إلى هذه

__________________

نقلها البحار ، ج ٥٣ ، ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(١) يقول أحمد أمين : فاليهوديّة ظهرت في التشيّع بالقول بالرجعة (فجر الإسلام ، ص ٢٧٦) ، وراجع : صفحات (٢٦٩ ـ ٢٧٠ و ٢٧٣ أيضا)

(٢) البقرة / ٢٤٣.

(٣) النمل / ٨٣.

٥٦٠