التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

عباس وآل جعفر وآل عقيل (١).

وفي الصحيح عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، قال : ذو القربى هم قرابة الرسول. والخمس لله وللرسول ولنا. وفي حديث الرضا عليه‌السلام : فما كان لله فلرسوله ، وما كان لرسول الله فهو للإمام (٢).

والصحيح عندنا : أنّ الخمس كلّه للإمام ـ الذي هو وليّ أمر المسلمين ـ يضعه حيث يشاء ، نعم عليه أن يعول منه فقراء بني هاشم من نصف الخمس ، فإن احتاجوا زادهم من عند نفسه. والمسألة محرّرة في الفقه ، على اختلاف في الأقوال.

الرابع ـ آية القطع

روى أبو النضر محمد بن مسعود العياشي ، بإسناده إلى زرقان صاحب ابن أبي داود قاضي القضاة ، قال : أتي بسارق إلى محضر المعتصم ، وقد أقرّ على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه. فجمع الخليفة لذلك الفقهاء ، وقد أحضر محمد بن علي الجواد عليه‌السلام ، فسألهم عن موضع القطع.

فقال ابن أبي داود : من الكرسوع (طرف الزند) واستدلّ بآية التيمّم ، ووافقه قوم. وقال آخرون : من المرفق ، نظرا إلى آية الوضوء.

فالتفت الخليفة إلى الإمام الجواد مستفهما رأيه في ذلك ، فاستعفاه الإمام. لكنه أصرّ على معرفة رأيه ، وأقسم عليه بالله أن يخبره برأيه.

فقال الإمام : أما إذا أقسمت عليّ بالله ، إني أقول : إنّهم أخطئوا فيه السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ، فيترك الكف.

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ١٨٦.

(٢) الوسائل ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٥٠١

قال الخليفة : وما الحجّة في ذلك؟

قال الإمام : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «السجود على سبعة أعضاء ، الوجه واليدين والركبتين والرجلين» فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق ، لم يبق له يد يسجد عليها ، وقد قال الله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ، يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(١) ، وما كان لله لم يقطع.

فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ (٢).

انظر إلى هذه الالتفاتة الرقيقة التي تنبّه لها الإمام ولم يلتفت إليها سائر الفقهاء ، ذلك أن اليد في آية القطع وقعت مجملة قد أبهم المراد منها ، فلا بدّ من تبيينها إما من السنّة أو الكتاب ذاته. وقد التفت الإمام عليه‌السلام لوجه التبيين إلى السنّة مدعمة بنصّ الكتاب ، فبيّن أنّ راحة الكف هي إحدى المواضع السبعة التي يجب على المصلّي أن يسجد عليها ، وذلك بنص الحديث الوارد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا كبيان الصغرى. ثم أردفه ببيان الكبرى المستفادة من الآية الكريمة الشاملة بعمومها لكل مسجد ، سواء الموضع الذي يسجد فيه ، أو العضو الذي يسجد عليه ، كل ذلك لله. وما كان لله لا تشمله عقوبة الحد ، لأن العقوبة إنما ترجع إلى ما للعبد المذنب ، ولا تعود على ما كان لله تعالى ، وهو استنباط ظريف جدّا.

وممّا يستغرب في المقام ما ذكره الجزيري تعليلا بوجوب القطع من مفصل

__________________

(١) الجنّ / ١٨.

(٢) تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٠ وراجع : الوسائل ، ج ١٨ باب ٤ حد القطع ، ص ٤٨٩ ـ ٤٩١. والآية من سورة المائدة / ٣٨.

٥٠٢

الكف ، أي الزند ، قال : لأن السرقة تقع بالكف مباشرة ، والساعد والعضد يحملان الكف ، والعقاب إنما يقع على العضو المباشر للجريمة ، ولذلك تقطع اليمنى أوّلا ؛ لان التناول يكون بها في غالب الأحيان (١).

قلت : هذا التعليل يقتضي وجوب القطع من مفصل الأصابع ، كما عليه فقهاء الإمامية وبه رواياتهم ؛ لأن الأصابع هي التي تناوش المتاع المسروق ، والكف تحمل الأصابع.

وقد ذكر ابن حزم الأندلسي أن عليّا عليه‌السلام كان يقطع الأصابع من اليد ونصف القدم من الرجل. وكان عمر يقطع كل ذلك من المفصل. وأمّا الخوارج فرأوا القطع من المرفق أو المنكب (٢).

الخامس ـ تحريم الخمر

لم ترد آية في المنع عن شرب الخمر ، بلفظ التحريم صريحا ، وإنما هو أمر بالاجتناب عنه أو ممّا ينبغي الانتهاء منه ، ممّا هو ظاهر في الإرشاد إلى حكم العقل محضا ، الأمر الذي قد يوهم أنها غير محرّمة في شريعة الإسلام!

ومن ثمّ سأل المهديّ العباسيّ الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام عن ذلك ، قال : هل هي محرّمة في كتاب الله عزوجل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها؟

فقال له الإمام : بل هي محرّمة في كتاب الله ، يا أمير المؤمنين.

قال : في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله ، يا أبا الحسن؟

فقال : في قول الله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما

__________________

(١) الفقه على المذاهب ، ج ٥ ، ص ١٥٩.

(٢) المحلى ، ج ١١ ، ص ٣٥٧ رقم ٢٢٨٤.

٥٠٣

بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..)(١).

قال عليه‌السلام : أمّا «ما ظهر» فهو الزّنى المعلن ، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية ، وأمّا «ما بطن» فيعني ما نكح من الآباء ، كان الناس قبل البعثة إذا كان للرجل زوجة ومات عنها ، تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه.

قال : وأما «الإثم» فإنّها الخمرة بعينها. وقد قال تعالى في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ...)(٢).

فالتفت المهديّ إلى علي بن يقطين ـ وكان حاضر المجلس ومن وزرائه ـ وقال : يا عليّ ، هذه والله فتوى هاشميّة! فقال ابن يقطين : صدقت والله يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ، فما صبر المهديّ أن قال : صدقت يا رافضي ، وكان يعرف منه الولاء لآل البيت (٣).

وبهذه المقارنة الدقيقة بين آيتين قرآنيتين يعرف التحريم صريحا في كتاب الله ، الأمر الذي أعجب المهديّ العباسي ، واستعظم هذا التنبّه الرقيق والذكاء المرهف الذي حظي به البيت الهاشمي الرفيع.

وهكذا روي عن الحسن تفسير «الإثم» في الآية «بالخمر» (٤).

قال العلامة المجلسي : المراد بالإثم ما يوجبه ، وحاصل الاستدلال أنه تعالى حكم في تلك الآية بكون ما يوجب الإثم محرما ، وحكم في الآية الأخرى بكون

__________________

(١) الأعراف / ٣٣.

(٢) البقرة / ٢١٩.

(٣) الكافي الشريف ، ج ٦ ، ص ٤٠٦.

(٤) مجمع البيان للطبرسي ، ج ٤ ، ص ٤١٤.

٥٠٤

الخمر والميسر ممّا يوجب الإثم ، فثبت بمقتضاهما تحريمهما (١).

والكناية بالإثم عن الخمر ؛ لأنّها أمّ الخبائث ورأس كل إثم (٢) ، كان قد شاع ذلك الوقت وقبله ، وتعارف استعماله. أنشد الأخفش :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم تذهب بالعقول

وقال آخر :

نهانا رسول الله أن نقرب الخنا

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا (٣)

وأيضا قال قائلهم في مجلس أبي العباس :

نشرب الإثم بالصّواع جهارا

وترى المسك بيننا مستعارا (٤)

وقد صرّح الجوهري بوروده في اللغة ، قال : وقد تسمّى الخمر إثما ، ثمّ أنشد البيت الأول. كذلك عدّها الفيروزآبادي أحد معانيه.

وأما إنكار جماعة أن يكون الإثم اسما للخمر ، فهو إنما يعني الإطلاق الحقيقي دون المجاز والاستعارة ، فكل معصية إثم ، غير أن الخمر لشدة تأثيمها

__________________

(١) مرآة العقول بشرح الكافي ، ج ٢٢ ، ص ٢٦٤.

(٢) أخرج الكليني بإسناده إلى أبي عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أن الخمر رأس كل إثم» (الكافي الشريف ، ج ٦ ، ص ٤٠٣)

(٣) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤١٤.

والخنا : الفحش من الكلام ، واستعير لكل أمر قبيح. وقد كنّى بالإثم عن الخمر فإنّها ؛ إذ لو كان بمعنى الوزر لم يكن يوجب الوزر ، ولم يصح تعلّق الشرب به.

(٤) ذكره ابن سيده. (ابن منظور ـ لسان العرب)

والصواع : إناء يشرب فيه. ومستعار : متداول ، أي نتعاوره بأيدينا نشتّمه.

٥٠٥

سمّيت إثما ؛ لأنها رأس المآثم وأصلها وأساسها ، كما نبّهنا. وإلى هذا يرجع كلام ابن سيده ، قال : وعندي أنه إنما سمّاها إثما ؛ لأن شربها إثم ، فهو من الإطلاق الشائع الدائر على الألسن ، وضعا ثانويا عرفيا بكثرة الاستعمال. نعم ليس من الوضع اللغوي الأصل.

وإلى هذا المعنى أيضا يرجع إنكار ابن الأنباري أبي بكر النحوي أن يكون الإثم من أسماء الخمر (١) ، لا إنكار استعماله فيها مجازا شائعا. قال الزبيدي : وقد أنكر ابن الأنباري تسمية الخمر إثما ، وجعله من المجاز ، وأطال في ردّ كونه حقيقة (٢). قلت : وهو كذلك بالنظر إلى أصل اللغة.

وأنكره ابن العربي رأسا قال : «لا حجة فيما أنشده الأخفش ؛ لأنه لو قال : شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك ، ولم يوجب أن يكون الذنب أو الوزر اسما من أسماء الخمر ، كذلك الإثم. قال : والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة ، وبطريق الأدلّة في المعاني».

لكن الفارق أن العرب استعملت «الإثم» في الخمر وتعارف استعماله في عرفهم ، حتى خصّ به على أثر الشياع. أما «الذنب» و «الوزر» فلم يتعارف استعمالهما في ذلك ، ولو تعارف لكان كذلك.

قال القرطبي ـ في ردّه ـ : أنّه مرويّ عن الحسن ، وذكره الجوهري مستشهدا بما أنشده الأخفش ، وهكذا أنشده الهروي في غريبيه ، على أن الخمر : الإثم .. قال : فلا يبعد أن يكون «الإثم» يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة ، فلا

__________________

(١) لسان العرب لابن منظور ، ج ١٢ ، ص ٧.

(٢) تاج العروس بشرح القاموس ، ج ٨ ، ص ١٧٩.

٥٠٦

تناقض (١).

السادس ـ قتل المؤمن متعمّدا

قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٢).

هذه الآية دلّت على أن قاتل المؤمن مخلّد في النار ، ولا يخلّد في النار إلّا الكافر الذي يموت على كفره ؛ لأن الإيمان مهما كان فإنه يستوجب المثوبة ، ولا بدّ أن تكون في نهاية المطاف ، على ما أسلفنا (٣).

كما أنها صرّحت بأن الله قد غضب عليه ولعنه ، ولا يلعن الله المؤمن إطلاقا ، كما في الحديث عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام (٤).

ومن ثمّ وقعت أسئلة كثيرة من أصحاب الأئمّة بشأن الآية الكريمة :

روى الكليني بإسناده إلى سماعة بن مهران ، سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الآية ، فقال : «من قتل مؤمنا على دينه فذلك المتعمّد الذي قال الله عزوجل : وأعدّ له عذابا عظيما». قال : فالرجل يقع بينه وبين الرجل شيء فيضربه بسيفه فيقتله؟ قال : «ليس ذلك المتعمّد الذي قال الله عزوجل ...».

وهكذا أسئلة أخرى من عبد الله بن بكير وعبد الله بن سنان ، وغيرهما بهذا

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٢٠١.

(٢) النساء / ٩٣.

(٣) في الجزء الثالث من التمهيد ، ص ٤٠٨ ـ ٤٠٩ والجزء الثاني ، بحث المنسوخات رقم ٥٢ / ٢١ ، ص ٣٣٩.

(٤) في حديث طويل رواه الكليني في الكافي الشريف ، ج ٢ ، ص ٣١. والوسائل ، ج ١٩ ، ص ١٠ رقم ٢.

٥٠٧

الشأن (١).

فقد بيّن الإمام عليه‌السلام أن من يقتل مؤمنا لإيمانه ، إنما عمد إلى محاربة الله ورسوله وابتغاء الفساد في الأرض ، وليس عمله لغرض شخصيّ يرتبط بذاته ، إنما هو إرادة محق الإيمان من على وجه الأرض. ولا شكّ أنه كافر محارب لله ورسوله ، ومخلّد في النار ـ إن مات على عقيدة الكفر ـ وغضب الله عليه ، ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما.

وهكذا سار مفسرو الشيعة على هدى الأئمة في تفسير الآية (٢).

أمّا سائر المفسرين ففسّروه بقتل العمد الموجب للدية (٣) ، ولم يبيّنوا وجه الخلود في النار ، والغضب واللعنة من الله.

السابع ـ الطلاق الثلاث

ممّا وقع الخلاف بين الفقهاء قديما ولا يزال هي مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، فقد ذهب فقهاء الإمامية إلى أنها طلاق واحد لعدم فصل الرجوع بينهنّ. أمّا باقي الفقهاء فأقرّوها ثلاثا وكانت بائنة.

وقد عدّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ذلك مخالفا للكتاب والسنّة ، قال تعالى :

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ٧ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦. وراجع : تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٢٦٧ رقم ٢٣٦.

(٢) راجع : التبيان للطوسي ، ج ٣ ، ص ٢٩٥. ومجمع البيان للطبرسي ، ج ٣ ، ص ٩٣. والصافي للكاشاني ، ج ١ ، ص ٣٨٢. والميزان للطباطبائي ، ج ٥ ، ص ٤٢. وكنز الدقائق للمشهدي ، ج ٢ ، ص ٥٧٦. والعياشي ج ١ ، ص ٢٦٧.

(٣) راجع : الرازي ، ج ١٠ ، ص ٢٣٧. والقرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٢٩. وابن كثير ، ج ١ ، ص ٥٣٦. والمنار ، ج ٥ ، ص ٣٣٩.

٥٠٨

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)(١) ، وقال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ـ إلى قوله ـ (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)(٢).

فقد روى عبد الله بن جعفر بإسناده إلى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أن رجلا قال له : إنّي طلّقت امرأتي ثلاثا في مجلس؟ قال : ليس بشيء ، ثم قال : أما تقرأ كتاب الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) كلّما خالف كتاب الله والسنّة فهو يردّ إلى كتاب الله والسنّة (٣).

وبإسناده إلى إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : طلّق عبد الله بن عمر امرأته ثلاثا ، فجعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدة ، وردّه إلى الكتاب والسنّة (٤).

قال الشيخ : معنى قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أن يطلّقها وهي طاهر من غير جماع ، ويستوفى باقي الشروط (٥) ، أي يكون الطلاق في حالة تمكّنها أن تعتدّ عدّتها ..

فمعنى (لِعِدَّتِهِنَّ) : لقبل عدّتهن ، وهكذا قرئ أيضا. قال الشيخ : ولا خلاف أنه أراد ذلك ـ أي تفسيرا وتوضيحا للآية ـ وإن لم تصح القراءة به (٦).

وفي سنن البيهقي عن ابن عمر : قرأ النبيّ ـ ص ـ «في قبل عدتهن» ، وفي

__________________

(١) الطلاق / ١.

(٢) البقرة / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٣) قرب الإسناد للحميري ، ص ٣٠. الوسائل ، ج ١٥ ، ص ٣١٧ رقم ٢٥.

(٤) قرب الإسناد ، ص ٦٠. والوسائل رقم ٢٦.

(٥) تفسير التبيان ، ج ١٠ ، ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٦) كتاب الخلاف ، ج ٢ ، ص ٢٢٤ كتاب الطلاق.

٥٠٩

رواية : «لقبل عدتهنّ» (١).

وفي شواذّ ابن خالويه : فطلقوهن في قبل عدتهن عن النبيّ وابن عباس ومجاهد (٢).

قال الطبرسي : إنه تفسير للقراءة المشهورة : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي عند عدتهنّ ، ومثله قوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) أي عند وقتها (٣).

فقال الزمخشري : فطلقوهن مستقبلات لعدتهنّ ، كقولك : أتيته ليلة بقيت من الشهر ، أي مستقبلا لها. وفي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في قبل عدتهنّ» (٤).

قال الرازي : اللام ـ هنا ـ بمنزلة «في» ، نظير قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)(٥). والآية بهذا المعنى ؛ لأن المعنى فطلقوهن في عدتهنّ ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهنّ (٦).

قال الزمخشري : اللام في (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) هي اللام في قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي)(٧) ، وقولك : جئته لوقت كذا. والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أول الحشر. ومعنى «أوّل الحشر» : أن هذا أول حشرهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قطّ ، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب

__________________

(١) السنن الكبرى ، ج ٧ ، ص ٣٢٧.

(٢) الشواذ لابن خالويه ، ص ١٥٨.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٤) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٥٥٢.

(٥) الحشر / ٢.

(٦) التفسير الكبير ، ج ٣٠ ، ص ٣٠.

(٧) الفجر / ٢٤.

٥١٠

إلى الشام ، أو هذا أول حشرهم (١).

قال ابن المنير ـ في الهامش ـ : كأنّه يريد أنها اللام التي تصحب التاريخ ، كقولك : كتبت لعام كذا وشهر كذا.

إذن فمعنى الآية الكريمة : فطلقوهنّ لمبدأ عدّتهنّ ، أي في زمان يمكن بدء العدّة منه.

والطلاق ينقسم ـ في الشريعة ـ إلى طلاق سنّة وطلاق بدعة. والأوّل ما كان مجتمعا للشرائط ، ففي المدخول بها : أن تكون في طهر غير مواقع فيه ، فتطلّق تطليقة ثم تترك حتى تنقضي عدّتها ، ثم يعقد عليها وتطلّق ثانية على نفس الشرائط ، وهكذا في الثالثة. وهذا من أحسن طلاق السنّة.

ويجوز أن يراجعها زوجها في عدّتها ويطأها ثم يطلّقها ، أو يطلّقها بعد الرجوع من غير وطء. وهذا من الطلاق العدّي ، كل هذا من الطلاق السّنّي الجائز بالاتفاق. ويقابله الطلاق البدعي ، وهو الطلاق غير المستجمع للشرائط.

قال الشيخ : الطلاق المحرّم (البدعي) هو أن يطلّق مدخولا بها ، غير غائب عنها غيبة مخصوصة ، في حال الحيض ، أو في طهر جامعها فيه ، فإنه لا يقع عندنا (الإماميّة) والعقد ثابت بحاله. وقال جميع الفقهاء : إنه يقع وإن كان محظورا ، ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي.

وقال ـ أيضا ـ : إذا طلّقها ثلاثا بلفظ واحد كان مبدعا ، وقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا ، وفيهم من قال : لا يقع شيء أصلا. وقال الشافعي : المستحب أن يطلّقها طلقة ، فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثا في طهر لم يجامعها

__________________

(١) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٤٩٩.

٥١١

فيه ، دفعة أو متفرّقة ، كان ذلك مباحا غير محظور ، ووقع ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم : إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثا ، دفعة واحدة أو متفرّقة ، فعل محرّما وعصى وأثم. وفي الفقهاء من قال بالحرمة إلّا أنه يقع ، وهم أبو حنيفة وأصحابه ومالك (١).

والخلاصة أن الشافعي وأحمد لا يريان ذلك طلاق بدعة ، فيجيزان الطلاق الثلاث بلفظ واحد وإن كان الثاني والثالث لغير عدّة ، فإنّه جائز ونافذ أيضا.

أمّا أبو حنيفة ومالك فيريانه بدعة وإثما ، لكنه يقع نافذا (٢).

وعلى أيّ تقدير ، فالمذاهب الأربعة متّفقة على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد. قال الجزيري : فإذا طلّق الرجل زوجته ثلاثا دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنت طالق ثلاثا ، لزمه ما نطق به من العدد ، في المذاهب الأربعة ، وهو رأي الجمهور (٣).

وهذا من جملة الموارد التي خالف الفقهاء صريح الكتاب ، لزعم أنه وردت السنّة به ، إمّا تأويلا لنص الآية أو نسخا لها فيما زعموا. حاشا فقهاء الإمامية ، لم يخالفوا الكتاب في شيء ، كما هو عملوا بالسّنّة الصحيحة الواردة عن طرق أهل

__________________

(١) راجع : الخلاف ، ج ٢ ، ص ٢٢٤ م ٢. وص ٢٢٦ م ٣.

(٢) راجع : صحيح النسائي ، ج ٦ ، ص ١١٦ الهامش.

(٣) الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ٤ ، ص ٣٤١.

لكن في كتاب مسائل الإمام أحمد بن حنبل الذي جمعه أبو داود السجستاني صاحب السنن (ص ١٦٩) : أن أبا داود قال : سمعت أحمد ، سئل عن الرجل يطلّق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة ، فلم ير ذلك ، لكنه في موضع آخر (ص ١٧٣) في البكر تطلّق ثلاثا ، قال : هي ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

٥١٢

البيت عليهم‌السلام.

وقد أصرّ أئمة أهل البيت على أن مثل هذا الطلاق (ثلاثا بلفظ واحد) مخالف لصريح الكتاب ، وما كان مخالفا للكتاب فهو باطل يجب ضربه عرض الجدار.

إذ قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) يشمل الطلاق الثاني والطلاق الثالث ، لم يقعا للعدّة ؛ حيث كانت العدة عدة للطلقة الأولى فحسب.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام لابن أشيم : «إذا طلّق الرجل امرأته على غير طهر ولغير عدة كما قال الله عزوجل ، ثلاثا أو واحدة ، فليس طلاقه بطلاق. وإذا طلّق الرجل امرأته ثلاثا وهي على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين فقد وقعت واحدة وبطلت الثنتان. وإذا طلّق الرجل امرأته ثلاثا على العدّة كما أمر الله عزوجل فقد بانت منه ولا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره» (١).

إذن فالطلقة الثانية وكذا الثالثة ، لم تقع للعدّة حسبما ذكره الله تعالى في كتابه ، ومن ثمّ وقع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، موضع إنكار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجرأة ، على مخالفة صريح الكتاب :

أخرج النسائي من طريق مخرمة عن أبيه بكير بن الأشجّ ، قال : سمعت محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ، فقام غضبان ، ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ، ألا أقتله؟ (٢)

وذكر الشارح المراد به قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ـ إلى قوله ـ (وَلا تَتَّخِذُوا

__________________

(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ، ج ١٥ ، ص ٣١٩ رقم ٢٨.

(٢) سنن النسائي ، ج ٦ ، ص ١١٦ وراجع : ابن جزم ، المحلى ، ج ١٠ ، ص ١٦٧.

٥١٣

آياتِ اللهِ هُزُواً)(١) ، فإن معناه : التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع ، والإرسال مرة واحدة. ولم يرد بالمرتين التثنية ، ومثله قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(٢) أي كرّة بعد كرّة ، لا كرّتين اثنتين. ومعنى قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ)(٣) تخيير لهم ـ بعد أن علّمهم كيف يطلّقون ـ بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة ـ وهو الرجوع إليها ـ وبين أن يسرّحوهنّ السراح الجميل الذي علّمهم. والحكمة في التفريق ما يشير إليه قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي قد يقلب الله تعالى قلب الزوج بعد الطلاق ، من بغضها إلى محبّتها (٤).

وهكذا روى أصحاب السنن : أن ركانة طلّق امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها وندم ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر ندمه وحزنه الشديد على ذلك ، فسأله رسول الله : كيف طلّقتها ثلاثا؟ قال : في مجلس واحد! فقال رسول الله : إنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ، فراجعها.

وفي حديث ابن عباس : أن عبد يزيد طلّق زوجته وتزوّج بأخرى ، فأتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكت إليه. فقال النبيّ لعبد يزيد : راجعها ، فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله. قال : قد علمت ، راجعها ، وتلا : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)(٥).

قال أبو داود : أنّ ركانة طلّق امرأته البتّة (أي الثلاث البائن) فجعلها

__________________

(١) البقرة / ٢٢٩ ـ ٢٣١.

(٢) الملك / ٤.

(٣) البقرة / ٢٢٩.

(٤) هامش النسائي ، ج ٦ ، ص ١١٦ ، الطّلاق / ١.

(٥) سنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٣٣٩.

٥١٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدة.

ومعنى ذلك : أنّ الثلاث بلفظ واحد ـ من غير مراجعة بينهن ـ تكون الواحدة منهن للعدّة ، دون مجموع الثلاث.

فتلاوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية تلميح إلى عدم وقوع الثلاث جميعا للعدّة سوى واحدة ، ومن ثم كانت رجعية وليست بائنة.

ومن غريب الأمر أن جمهور الفقهاء ، مع علمهم بأن الثلاث بلفظ واحد مخالف للكتاب والسنّة. أمّا الكتاب فلما عرفت ، وأمّا السنّة فلما رواه مسلم في الصحيح بإسناده إلى ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم : فأمضاه عليهم (١).

نرى الفقهاء مع علمهم بذلك ، فإنهم تبعوا سنّة عمر ، وتركوا صريح الكتاب وسنّة الرسول والصحابة المرضيّين.

يقول الجزيري : إنّ الأئمّة سلموا جميعا بأن الحال في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كذلك ، ولم يطعن أحد منهم في حديث مسلم. وكل ما احتجّوا به : أنّ عمل عمر وموافقة الأكثرين له مبنيّ على أن الحكم كان مؤقّتا ، فنسخه عمر بحديث لم يذكره لنا ، والدليل على ذلك الإجماع. قال : ولكن الواقع أنه لم يوجد إجماع ، فقد خالفهم كثير من المسلمين. وممّا لا شكّ فيه أنّ ابن عباس من المجتهدين المعوّل عليهم في الدّين ، فتقليده جائز ، ولا يجب تقليد عمر فيما رآه ... قال : ولعلّه كان

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٣.

٥١٥

تحذيرا للناس من إيقاع الطلاق على وجه مغاير للسنّة ، فإن السنّة أن تطلّق المرأة في أوقات مختلفة ، فإذا تجرّأ أحد على تطليقها دفعة واحدة فقد خالف السنّة ، وجزاؤه أن يعامل بقوله زجرا له (١).

وناقش ابن حزم الأندلسي فيما أخرجه النسائي عن طريق مخرمة ، عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشجّ ، أنه سمع محمود بن لبيد ... الخ بأن خبر محمود مرسل لا حجة فيه ، وأن مخرمة لم يسمع من أبيه شيئا.

وكذا ناقش فيما أخرجه مسلم ، عن طريق محمد بن رافع ، بإسناده إلى ابن عباس ، بجهالة ابن رافع هذا (٢).

أما محمود بن لبيد فزعموا أنه لم تصحّ له رؤية ولا سماع من النبيّ ؛ لأنّه كان طفلا لم يبلغ الحلم يومذاك.

لكن ذكر الواقدي وغيره : أنه مات سنة ست وتسعين ، وهو ابن تسع وتسعين سنة ، قال ابن حجر : على هذا يكون له يوم مات النبيّ ثلاث عشرة سنة ، وهذا يقوي قول من أثبت الصحبة ، وهو قول البخاري. ومن ثمّ قال ابن عبد البرّ : قول البخاري أولى ، يعني في إثبات الصحبة ، وهو الذي روى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرع يوم مات سعد بن معاذ حتّى تقطّعت نعالنا. قال الترمذي : رأى النبيّ وهو غلام صغير (٣).

قلت : لا يقلّ هذا عن ابن عباس الذي كان يوم مات النبيّ ابن ثلاث عشرة سنة

__________________

(١) الفقه على المذاهب ، ج ٤ ، ص ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٢) المحلّى ، ج ١٠ ، ص ١٦٨.

(٣) تهذيب التهذيب ، ج ١٠ ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

٥١٦

أيضا.

أما عدم سماع مخرمة من أبيه فليس يضرّه ، بعد أن كان يروي من كتاب أبيه. قال أبو طالب : سألت أحمد عنه ، قال : ثقة ولم يسمع من أبيه إنما يروي من كتاب أبيه. وقال مالك : حدثني مخرمة بن بكير وكان رجلا صالحا. قال أبو حاتم : سألت إسماعيل بن أبي أويس ، قلت : هذا الذي يقول مالك بن أنس : حدّثني الثقة ، من هو؟ قال : مخرمة بن بكير بن الأشجّ. وقال الميموني عن أحمد : أخذ مالك كتاب مخرمة فنظر فيه ، فكلّ شيء يقول فيه : بلغني عن سليمان بن يسار ، فهو من كتاب مخرمة ، يعني عن أبيه عن سليمان (١).

وأما المناقشة في إسناد مسلم بجهالة ابن رافع ، ولا حجة في مجهول!

فيدفعها أن مسلما رواه من طريق إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع ، جميعا عن عبد الرزّاق.

أمّا محمد بن رافع فقد وثّقه الأئمّة كلمة واحدة. قال البخاري : حدّثنا محمد ابن رافع بن سابور ، وكان من خيار عباد الله. وقال النسائي : حدّثنا محمد بن رافع الثقة المأمون. وقال أبو زرعة : شيخ صدوق. وقال الحاكم : هو شيخ عصره بخراسان في الصدق والرحلة (٢).

وهكذا إسحاق بن إبراهيم بن مخلّد المعروف بابن راهويه المروزي ، هو أحد الأئمّة المرموقين بخراسان ممّن قلّ نظيره. قال أبو زرعة : ما رؤي أحفظ من إسحاق. وقال أحمد : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثله. قال : لا أعرف له بالعراق

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١٠ ، ص ٧٠.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٦١.

٥١٧

نظيرا (١).

فقد صحّ قول الجزيري : لم يطعن أحد في حديث مسلم ؛ حيث كان طعن ابن حزم موهونا إلى حدّ بعيد.

وبعد ، فممّا يبعث على الاعتزاز ذلك موقف فقهاء الإمامية جنبا إلى جنب ، من صراحة الكتاب والصحيح من سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وإن خالفهم الجمهور. وهذا من بركات تعاليم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الثابتين على صلب الشريعة والحافظين لناموس الدين ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

الثامن ـ حديث المتعة

قال تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(٢).

أ ـ متعة النساء

وقع الخلاف في هذه الآية الكريمة ، هل هي منسوخة الحكم ، وما ناسخها ، هل هو الكتاب أم السنّة الشريفة؟

ذهب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام إلى أنها محكمة لا يزال حكمها ثابتا في الشريعة ، ليس لها ناسخ لا في الكتاب ولا في السنّة ، وإليه ذهب جملة الأصحاب والتابعين.

وخالفهم فقهاء سائر المذاهب ، نظرا لمنع عمر ذلك ، وكان يشدّد عليه ، كما

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١ ، ص ٢١٧ و ٢١٨.

(٢) النساء / ٢٤.

٥١٨

افترضوا له دلائل من الكتاب والسنّة ، لم تثبت عند أئمة النقد والتمحيص ..

قال ابن كثير : وقد استدلّ بعموم هذه الآية على نكاح المتعة. ولا شكّ أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك ... وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن أحمد. وكان ابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والسدّي يقرءون (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) ـ إلى أجل مسمى ـ (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ـ قراءة على سبيل التفسير ـ وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة.

قال : ولكن الجمهور على خلاف ذلك (١).

وقال ابن قيّم الجوزي : الناس في هذا (حديث المتعة) طائفتان : طائفة تقول : إن عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها ، وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح ، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه عن جده ، وقد تكلم فيه ابن معين. ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه ، وكونه أصلا من أصول الإسلام ، ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به. قالوا : ولو صحّ حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود ، حتى يروى عنه : أنهم فعلوها ، ويحتج بالآية. وأيضا لو صحّ لم يقل عمر : إنها كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها ، بل كان يقول : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّمها ونهى عنها. قالوا : ولو صحّ لم تفعل على عهد الصديق وهو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٤٧٤.

٥١٩

عهد خلافة النبوّة حقّا. قال : والطائفة الثانية رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث علي عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم متعة النساء ، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولو لم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر. قال : وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها (١).

وذهب القرطبي ـ من المفسرين ـ إلى أن الآية ليست بشأن المتعة ، وإنما هي بشأن النكاح التام. قال : ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة ؛ لأن النبيّ ـ ص ـ نهى عن نكاح المتعة وحرّمه ؛ ولأنّ الله تعالى قال : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بوليّ وشاهدين ، ونكاح المتعة ليس كذلك.

قال : وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، ونسختها آية ميراث الأزواج ؛ إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في القرآن ، وذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ)(٢) ، وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين.

ونسب إلى ابن مسعود أنه قال : المتعة منسوخة نسختها الطّلاق والعدة والميراث.

وقال بعضهم : إنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرّمت عدة مرات. قال ابن

__________________

(١) زاد المعاد لابن قيم ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) المؤمنون / ٥ ـ ٦.

٥٢٠